انوار الفقاهه: كتاب التجاره، المكاسب المحرمه

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي، ناصر، - 1305

عنوان و نام پديدآور : انوار الفقاهه: كتاب التجاره، المكاسب المحرمه/ مكارم شيرازي

مشخصات نشر : [تهران]: هدف، 1415ق. = 1373.

مشخصات ظاهري : ص 653

شابك : 7700ريال

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

عنوان ديگر : كتاب التجاره: المكاسب المحرمه

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

موضوع : كسب و كار حرام

موضوع : معاملات (فقه)

رده بندي كنگره : BP183/5/م7الف83 1373

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 75-5891

كلمة المؤلّف يحسن التنبيه علي امور في هذه المقدّمة:

1- الفقه الإسلامي كافل لجميع الأحكام التي ترتبط بحياة الإنسان بنحو من الأنحاء، ارتباطه مع اللّه، ارتباطه مع الناس، ارتباطه مع عالم الخلقة و الطبيعة، ارتباطه مع نفسه، فعلي هذا لا يخلو شي ء من أعمال الإنسان صغيرها و كبيرها، حتّي نيّاته و أفكاره عن حكم فقهي.

و هذه الدائرة الوسيعة جدّا للفقه الإسلامي تكشف عن عظمته من جانب، و عن صعوبته و عمقه و المشاكل و المعضلات التي تواجه الفقهاء و المجتهدين من جانب آخر، و إليه يشير ما ذكره شيخنا الأعظم- قدّس سرّه الشريف- في بعض كلماته: «الاجتهاد الذي هو أشدّ من طول الجهاد … »!

فعلي من يقصد ورود هذا الميدان التهيّؤ للجهاد الواسع، و صرف وقته و جميع قواه الجسمانية و الروحانية في هذا السبيل، مع تحمّل مرارة العيش و المشاقّ في هذا السبيل، و من الواضح أنّ ثمرته أيضا عظيمة، و طافحة بالعنايات الإلهية و التأييدات الربّانية.

2- إنّما تدوم عظمة الفقه الإسلامي و يتقدّم و ينمو في ضوء فتح باب الاجتهاد علي جميع العلماء الأعلام، و عدم حصره بجمع خاص من المتقدّمين، كما تدلّ عليه جميع الأدلّة الواردة في الكتاب و السنّة الناظرة إلي هذا المعني، فليس فيها أي أثر من مقولة حصر الاجتهاد

و استنباط الأحكام عن أدلّتها في طائفة خاصّة، أو فئة معيّنة.

و معه يقدر العلماء الكبار المتضلّعون في الفقه علي الغور في مسائله، و كشف النقاب عن حقائقه، و الوصول إلي دقائق لم يصل إليها المتقدّمون منهم- جزاهم اللّه عن الإسلام خير الجزاء- و يتقدّم هذا العلم بمرور الزمان كتقدّم سائر العلوم الإسلامية و غيرها.

و لذا نري الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الفقه علي أنفسهم، و حصروه في أئمّتهم الأربعة، و منعوا الباقين أن يحوموا حول هذا الحمي، إنّهم لم يقدروا علي التقدّم في هذا العلم إن لم نقل أنّه مال عندهم إلي الغروب و الافول، بينما نري الفقهاء الذين اقتدوا بضياء أنوار

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 6

أهل بيت النبي عليهم السّلام ازدهر الفقه عندهم قرنا بعد قرن و عصرا بعد عصر، حتّي بلغ الكثير من غاياته و أثمرت أغصانه، و طلعت أنواره، و لكن بحمد اللّه و منّه، يري في الطائفة الاولي أيضا في هذه الأعصار حركة نحو التجاوب مع فقهاء أهل البيت عليهم السّلام لفتح باب الاجتهاد بمصراعيه، و لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا!

و من الجدير بالذكر أنّ فقهاء أهل البيت عليهم السّلام لم يقنعوا بفتح باب الاجتهاد فقط، بل اتّفقوا في ضوء إرشادات الأئمّة المعصومين عليهم السّلام علي عدم جواز تقليد العوام للفقهاء الماضين ابتداء، و فرضوا عليهم وجوب التقليد عن العلماء الأحياء فقط، فكان ذلك عاملا لحياة الفقه و حركته إلي الإمام عندهم، مع ظهور آفاق جديدة في جميع شئونه و مسائله.

3- لا شكّ في أنّا نواجه اليوم مسائل كثيرة مستحدثة في أبواب المعاملات و العبادات لا بدّ من الجواب عنها، لأنّ الإسلام دين خالد و أحكامه خالدة إلي

الأبد، و قد أكمل اللّه لنا دينه و أتمّ علينا نعمته، إذن فلا شي ء من هذه الأسئلة يبقي بلا جواب، بل وردت أحكامها في الاصول الكليّة و القواعد العامّة في الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، و في ضوء الاهتداء بهذه الأنوار الإلهيّة (لا سيّما الكتاب و السنّة) نكشف النقاب عنها، أ لم تسمع ما ورد في خطبة حجّة الوداع عن النبي صلّي اللّه عليه و آله «أيّها الناس ما من شي ء يقربكم إلي الجنّة و يباعدكم عن النار إلّا و قد أمرتكم به و ما شي ء يقربكم إلي النار و يباعدكم عن الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» بل قد وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أنّه: «ما من شي ء تحتاج إليه الامّة إلي يوم القيامة إلّا و قد ورد فيه نصّ حتّي ارش الخدش!»

و لذا فالمجتهدين و الفقهاء ليس لهم صلاحية تشريع حكم من الأحكام، و وضع قانون من القوانين، و إنّما وظيفتهم استنباط أحكام المسائل المستحدثة عن مداركها الدينية و استخراجها من منابعها الشرعية، فلا نري موضوعا من الموضوعات ممّا لا نصّ فيه حتّي تصل النوبة إلي الاجتهاد بمعناه الخاصّ (أي تشريع حكم فيه بالقياس أو الاستحسان أو غيرهما) بل كلّها واردة في النصوص الخاصّة أو الأدلّة العامّة و القوانين الكليّة.

4- ممّا يعجب الناظر في الفقه في بدء الأمر أنّ الجوامع الإنسانية تتبدّل و تتحوّل كلّ يوم مع أنّ اصول الأحكام الإسلامية ثابتة لا تتغيّر، و حلال محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة، و مع ذلك تنطبق هذه الاصول الثابتة الخالدة علي تلك

أنوار الفقاهة -

كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 7

الحاجات المتغيّرة دائما!

و ليس ذلك إلّا من جهة عموم تلك الاصول و شمولها و جامعيّتها، كيف و قد صدرت من ناحية الخالق الحكيم العالم بعواقب الامور، الخبير بحاجات نوع الإنسان علي مرّ الأيّام و الدهور، كما أنّ القوانين الطبيعية الإلهيّة ثابتة طول آلاف، بل ملايين سنة و لكن الإنسان مع ذلك يستخرج ما يحتاج إليه في حياته المتغيّرة في كلّ عصر و زمان من تلك القوانين الثابتة.

5- إنّ فقهائنا الأعلام- قدّس اللّه أسرارهم- و إن ألّفوا مئات بل آلاف من الكتب في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلي الدّيات، و من العبادات إلي المعاملات، إلّا أنّ هذا لا يعني بلوغ الفقه إلي غايته و وصوله إلي نهايته و عدم الحاجة إلي تأليف جديد في هذا العلم، فكم ترك الأوّل للآخر، و كم بلغ المتأخّر إلي ما لم يصل إليه المتقدّم، و لكلّ إنسان حظّه من العلم، فإنّه ليس مقصورا علي قوم خاص، فلا يغرنّك وسوسة بعض القاصرين في ترك الجدّ و الاجتهاد في كلّ مسألة من مسائله، حتّي ما يعدّ من الواضحات المشهورات، فقد تأتي بالغوص في هذه البحار من الجواهر الثمينة و الدرر القيّمة ما لم يأتي به الأوائل!

و بهذا القصد و الامنية بدأنا في هذا الكتاب- أعني كتاب المكاسب من أنوار الفقاهة- و إن كتبت في هذا الباب كتبا كثيرة جدّا، عسي اللّه أن يجري علي قلمي ما ينفع به هذه الامّة و يفتح لها بعض الأبواب المغلقة، فإنّ ليس هذا علي اللّه بعزيز و سوف تري في هذا الكتاب بحمد اللّه أبحاثا جديدة في مسائل مهمّة من البيوع و غيرها.

اللهمّ اجعله لنا ذخرا و كرامة و مزيدا و

الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرّفة- الحوزة العلمية ناصر مكارم الشيرازي شعبان المعظم/ 1415

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 9

كتاب التجارة

المكاسب المحرّمة:

اشارة

قبل الشروع في البحث نقدّم امورا، و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية.

الأوّل: اعمال الانسان

تنقسم أعمال الإنسان إلي ثلاثة أقسام:

ما يتكفّل ما بينه و بين ربّه- و هي العبادات.

و ما يكون بينه و بين غيره- و هي المعاملات بالمعني الأعم.

و ما يكون بينه و بين نفسه- و هي الراجعة إلي الأخلاق و تهذيب النفوس.

و قد يذكر هنا قسم رابع و هو ما يكون بينه و بين ما يحيط به من منابع الحياة.

و لكن تفكيك هذه الامور من ناحية لا ينافي وجود ارتباط بينها من ناحية اخري.

فالعبادات و إن كانت علاقة بين العبد و ربّه، و لكنّها لا تنفكّ غالبا ممّا يرتبط بغيره من اخوانه في الدين، كالحجّ الذي هو عزّ للإسلام و المسلمين، و صلاة الجمعة و الجماعة التي هي مبدأ قوّتهم و شوكتهم، كما أنّ الأخلاق الحسنة لها ارتباط باللّه تعالي، و توجب القرب إليه، و في نفس الوقت لها جنبة اجتماعية يدور عليها حسن نظام المجتمع البشري و صياغة التفاعل الاجتماعي بين أفراده.

الثّاني: اقسام الفقه

و من ناحية اخري يقسّمون الفقه إلي ثلاثة أقسام:

«العبادات»، و «المعاملات بالمعني الأعمّ»، و «السياسات».

فالاولي: تعرّف بما تعتبر فيها قصد القربة، و الغرض منها العبودية و التقرّب إلي اللّه تعالي

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 10

شأنه.

و الثّانية: ما يتعلّق بحقوق الناس في المجتمع و الاسرة.

الثّالثة: ما يتعلّق بأمر الحكومة و وظائفها، و يدخل في هذا القسم الحدود و الدّيات و القضاء و الجهاد و أمثال ذلك.

و المعاملات بنفسها تنقسم إلي أقسام كثيرة لا حاصر لها عقلا، فالحقوق الفردية و الاجتماعية و ما يتعلّق بنظام الاسرة كثيرة لا تندرج تحت حاصر، بل قد يتجدّد بعض الحقوق و ما يرتبط بها بمرور الزمان و إختلاف الأعصار.

و ذكر المحقّق رحمه اللّه في «الشرائع» و كذا المحقّق

العاملي رحمه اللّه في «مفتاح الكرامة» للفقه أقساما أربعة:

العبادات (في عشرة كتب) و العقود (في خمسة عشرة) و الإيقاعات (في إحدي عشرة) و الأحكام (في اثنتي عشرة) فالمجموع ثمانية و أربعين كتابا.

و من المعلوم أنّ المعاملات بالمعني الأخصّ ليست ممّا أسّسها الشارع المقدّس، كما أنّ سائر المعاملات الداخلة في المعني الأعمّ و ما فيها من الحقوق كذلك، و هكذا كثير من السياسات.

نعم، العبادات ممّا أسّسها الشارع المقدّس، و أمّا في غيرها فحكمه يرجع إلي التهذيب و الهداية و الإصلاح و نفي الضارّ و تأييد النافع، و بالجملة عمل الشارع فيها هو الحذف تارة، و التوسعة اخري.

ففي مثال نظام الإرث قد ينفي الإسلام شيئا منه كنفي ارث العصبة، و قد يثبت شيئا.

كإرث الإمام عليه السّلام (لو لم نقل بأنّ إرث من لا وارث له من ناحية الحكومة كان ساريا قبل الإسلام).

و كون موقف الشارع المقدّس في المعاملات موقفا إمضائيا، و موقف حذف و إصلاح، هو الحجر الأساس لهذا البحث، و المفتاح لحلّ كثير من مشاكله، فكلّما كان رائجا بين العقلاء و أهل العرف و لم ينه عنه الشارع أمضاه بسكوته و تقريره.

و إن شئت قلت: إنّ الشارع أمر في أبواب العبادات بالتوقف حتّي يأتي منه البيان؛ عموما و خصوصا.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 11

و أمّا في المعاملات بالمعني الأخصّ و الأعمّ، فكان الناس يستمرّون علي ما هم عليه إلّا أن يمنعهم الشرع.

و الظاهر أنّ كثرة الأسئلة و الرّوايات في مباحث العبادات و قلّتها في أبواب المعاملات نشأت من هذا الموقف.

الثّالث: من أين نشأ البيع و الشراء بين الناس؟

لا يسعنا بيان تاريخ معيّن لهذا الأمر، و الثابت إنّه أمر يعود إلي أزمنة غابرة، ماضية جدّا، من بدء معرفة الإنسان بشخصه.

فإذا تملّك شخص

أشياء من طريق الحيازة و غيرها، و كانت أكثر من حاجته، و تملّك آخر شيئا آخر كذلك، و احتاج كلّ إلي ما في يد الآخر، أعطاه ممّا في يده في مقابل أخذ ما في يد الآخر- و من هنا ظهر البيع و الشراء- و السعر في ذلك الزمان كان يدور مدار امور مختلفة أهمّها العرض و الحاجة.

و ممّا ساعد علي استحكام هذا الأمر و استمراره، أنّ الإنسان فهم بسرعة أنّ إنتاج أمتعة مختلفة من طريق الحيازة أو الزراعة أو الصنعة (و لو كانت ساذجة جدّا) مشكل جدّا، أمّا النوع الواحد أو أنواع قليلة سهل يسير، لا سيّما فيما يحتاج إلي الخبروية و المهارة، فإنّ الإنسان لا يتيسّر له المهارة و الحذاقة في امور كثيرة، و لذا اشتغل كلّ فرد بإنتاج نوع واحد أو أنواع قليلة ممّا يزيد علي حاجاته غالبا.

و من هنا اتّسع أمر المعاملات و الإجارات و ما شابهها، و يظهر بأدني دقّة إنّه لا يدور رحي حياة البشر بدونها و لو يوما ما، و كلّما كثرت الروابط و العلاقات الاجتماعية و تطوّرت الأجيال و الامم ازدادت أنواع المعاملات و أقسامها، بين ما كانت في أوّل الأمر معاملات بسيطة و ساذجة كما لا يخفي.

الرّابع: الحثّ علي التّجارة

ذكر في الحدائق «1» مقدّمات للبحث: منها الحثّ علي التجارة، و روي روايات عديدة

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 12

ذكرها الوسائل و غيرها في المجلّد الثاني عشر، في أبواب مقدّمات التجارة، في أوّل الكتاب ممّا يدلّ علي الاستحباب المؤكّد في أمر التجارة و غيرها من الامور الإنتاجية و ذمّ تاركها.

و إليك هذه الرّوايات:

1- عن أبي خالد الكوفي رفعه إلي أبي جعفر عليه السّلام قال

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال» «1».

2- و عن عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل قال لأقعدنّ في بيتي و لأصلّينّ و لأصومنّ و لأعبدنّ ربّي فأمّا رزقي فسيأتيني، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم!» «2».

3- و عن عمر بن يزيد قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أ رأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أ كان يسقط عليه شي ء من السماء؟!» «3».

4- و عن أيّوب أخي أديم بيّاع الهروي قال: كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ أقبل علاء بن كامل فجلس قدّام أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: ادع اللّه أن يرزقني في دعة، قال: «لا أدعو لك، اطلب كما أمرك اللّه عزّ و جلّ!» «4».

5- و عن سليمان بن معلّي بن خنيس عن أبيه قال: سأل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل و أنا عنده، فقيل أصابته الحاجة. فقال: فما يصنع اليوم؟ قيل في البيت يعبد ربّه، قال عليه السّلام: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه للذي يقوته أشدّ عبادة منه» «5».

6- و عن أبي حمزة عن أبي جعفر: قال: «من طلب الدنيا استعفافا عن الناس و سعيا علي أهله و تعطّفا علي جاره لقي اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و وجهه مثل القمر ليلة البدر» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 11 باب 4 من أبواب مقدّمات التجارة ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 14، الباب 5، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 13،

ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 10، الباب 4، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 14، الباب 3، ح 3.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 11، الباب 4، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 13

7- و عن علي بن الغراب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ملعون من ألقي كلّه علي الناس» «1».

8- و عن الفضل بن أبي قرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أوحي اللّه تعالي إلي داود عليه السّلام: إنّك نعم العبد لو لا إنّك تأكل من بيت المال و لا تعمل بيدك شيئا، قال: فبكي داود عليه السّلام أربعين صباحا فأوحي اللّه إلي الحديد: أن لن لعبدي داود فألان اللّه عزّ و جلّ له الحديد و كان يعمل في كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا و استغني عن بيت المال» «2».

9- و عن المعلّي بن خنيس قال: رآني أبو عبد اللّه عليه السّلام و قد تأخّرت عن السوق فقال:

«أغد إلي عزّك» «3».

10- و عن روح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة» «4».

11- و عن عبد المؤمن الأنصاري عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة و العشر الباقي في الجلود» «5» يعني (جلود الغنم).

12- و عن الحسين بن زيد عن أبيه زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة و

الجزء الباقي في السابيا، يعني الغنم» «6».

13- و عن محمّد الزعفراني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من طلب التجارة استغني عن الناس» قلت: و إن كان معيلا؟ قال عليه السّلام: «و إن كان معيلا! إنّ تسعة أعشار الرزق في التجارة» «7».

14- و عن علي بن عقبة قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لمولي له: «يا عبد اللّه احفظ عزّك»، قال و ما عزّي جعلت فداك؟ قال: «غدوّك إلي سوقك و إكرامك نفسك». و قال لآخر مولي له:

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 18، الباب 6، ح 10.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 22، الباب 9، من أبواب مقدّمات التجارة، حديث 3.

(3). المصدر السابق، ج 12، ص 3، أبواب مقدّمات التجارة، ح 2 (و في رواية اخري فسّر العزّ بالسوق ص 4، ح 10).

(4). المصدر السابق، ج 12، ص 3، أبواب مقدّمات التجارة، ح 3.

(5). المصدر السابق، ح 4 و 5.

(6). المصدر السابق.

(7). وسائل الشيعة، ج 12، ص 4، أبواب مقدّمات التجارة، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 14

«ما لي أراك تركت غدوّك إلي عزّك؟» قال: جنازة أردت أن أحضرها. قال عليه السّلام: «فلا تدع الرواح إلي عزّك» «1».

15- عن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أي شي ء علي الرجل في طلب الرزق؟ فقال:

«إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك» «2».

16- و عن الطيّار قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام «أي شي ء تعالج؟» - أي شي ء تصنع- قلت:

ما أنا في شي ء قال: «فخذ بيتا و اكنس فناه و رشّه و ابسط فيه بساطا فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما عليك» قال: فقدمت الكوفة ففعلت فرزقت «3».

17- و

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: في حجّة الوداع: «إلّا إنّ الروح الأمين نفث في روعي إنّه لا تموت نفس حتّي تستكمل رزقها، فاتّقوا اللّه و اجملوا في الطلب، و لا يحملنّكم استبطاء شي ء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فإنّ اللّه تبارك و تعالي قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقي اللّه و صبر آتاه اللّه برزقه من حلّه، و من هتك حجاب الستر و عجّل فأخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة» «4».

18- و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «نعم العون علي تقوي اللّه الغني» «5».

19- و عن عمرو بن جميع قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال، يكفّ به وجهه، و يقضي به دينه، يصل به رحمه» «6».

20- و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نعم العون علي الآخرة الدنيا» «7».

21- و عن علي الأحمسي عن رجل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «نعم العون الدنيا علي

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 5، الباب 1، ح 13.

(2). المصدر السابق، ص 34، الباب 15، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 34، الباب 2، ح 2.

(4). المصدر السابق، ص 27، الباب 12، ح 1.

(5). المصدر السابق، ص 16، الباب 6، ح 1.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 19، الباب 7، ح 1.

(7). المصدر السابق، ص 16، الباب 6، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب

التجارة (لمكارم)، ص: 15

طلب الآخرة» «1».

22- و روي في الفقيه مرسلا قال: قال الصادق عليه السّلام: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته و لا آخرته لدنياه» «2».

23- قال روي عن العالم عليه السّلام أنّه قال «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا» «3».

و يستفاد من هذه الرّوايات أنّ الأصل في التجارات و سائر المكاسب و الإنتاجات كون أبوابها مفتوحة لجميع الناس، و دور الحكومة الإسلامية يتلخّص في مراقبة المعاملات الاقتصادية لضمان عدم إجحاف الناس و تعدّي بعضهم علي بعض، فليس أصل التمركز الاقتصادي مقبولا في الإسلام، و لا يمكن سلب الحرية عن الناس في ذلك فانّه مخالف لما يظهر من جميع الأدلّة الشرعيّة قطعا.

الخامس: اخبار الحثّ تنافي ما دلّ علي وجوب تحصيل العلم

ذكر في الحدائق «4» في مقدّمات مباحث البيع إشكالا حاصله: إنّ أخبار الحثّ علي الكسب و طلب الرزق و ذمّ تاركه حتّي ورد «لعن من ألقي كلّه علي الناس» تنافي ما دلّ علي وجوب تحصيل العلم، و قد رأينا المشايخ العظام يعملون بالتأنّي و يشتغلون بالدراسة و التأليف و نشر أحكام الدين، فكيف طريق الجمع بينهما؟

ثمّ ذكر طريقين للجمع بينهما: أوّلهما استثناء الثاني من الأوّل (مع أنّ النسبة بينهما عموم من وجه) ثمّ استدلّ له أو أيّده بما رواه الشهيد الثاني في منية المريد عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه تعالي قد تكفّل لطالب العلم برزقه خاصّة عمّا ضمنه لغيره» «5» و ذكر عقيبه ما يحثّ علي

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 17، الباب 6، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 49، الباب 28، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 49، الباب 28، ح 2.

(4). الحدائق، ج 18، ص 9.

(5). منية المريد، ص 46- 47، طبعة النجف.

أنوار

الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 16

التوكّل علي اللّه و تفويض الأمر إليه في مهمّات الامور (انتهي).

ثمّ استدلّ عليه أيضا بما يدلّ علي أنّ «طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال فانّ المال مقسوم مضمون قد قسمه عادل و ضمنه و سيفي به، و العلم مخزون عند اللّه و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه» «1».

و قال: إنّه صريح في المدّعي، ثمّ نقل بعض حالات الأكابر من علماء «البحرين» في بدء أمرهم، و شدّة الأمر عليهم حتّي كان بعض يمضي إلي الصحراء وقت الربيع، و يأكل من حشيش الأرض ما يسدّ به جوعه!

و أمّا الطريق الثاني: هو التفصيل، و حاصله القول بالتعارض بين الواجب العيني من طلب العلم، و بين الواجب من طلب الرزق، و الظاهر تقديم الثاني لأنّ في تركه القاء النفس في التهلكة، و اخري بتعارض الواجب العيني من العلم مع المستحبّ من الرزق، فيقدّم الأوّل بلا إشكال، و قد يقال بتعارض الواجب العيني من طلب الرزق مع الواجب الكفائي من طلب العلم، و لا ريب في تقديم الأوّل هنا أيضا، هذا إذا لم يمكن الجمع بين الأمرين (انتهي كلامه قدّس سرّه) «2».

و لكن في كلامه مواقع للنظر:

1- ما دلّ علي التوكّل علي اللّه إنّما هو من الأحكام الأخلاقية، فلا تنافي الأحكام الواجبة، مع إنّه أعمّ من المقصود.

2- كذلك ما دلّ علي تكفّل اللّه برزق طالبي العلم، بل قد يناقض ذلك ما حكاه عن بعض أكابر عصره في أكله من حشيش الأرض! و الإنصاف أنّ ذلك للحثّ علي تحصيل العلم إجمالا من غير النظر إلي موارد وجوب «تحصيل الرزق» وجوبا عينيا.

3- قد يجب طلب الرزق مع عدم وقوع النفس في التهلكة، كما إذا

وقع عياله في عسر شديد، فلا يمكن تقديم الثاني علي الأوّل بهذه الجهة دائما.

4- ليس الأمر من قبيل تعارض الخبرين حتّي تلاحظ نسبة الأعمّ و الأخصّ و شبهها، بل لا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب التزاحم لأنّها من هذا القبيل.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 1، ص 30، ح 4.

(2). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 9- 16.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 17

و التحقيق أن يقال: إنّ تحصيل العلم إذا كان من الواجب العيني أو الكفائي الذي لا يتصدّي له من به الكفاية كان أهمّ في نظر الشارع المقدّس من تحصيل الرزق الواجب- و ذلك إذا كان قوام أمر المسلمين و حفظ الدين و سنّة خير المرسلين و الأئمّة الطاهرين منوطا به، أو يتوقّف أمر دين نفسه عليه، و بدونه يخطأ الصراط المستقيم- اللّهمّ إلّا إذا وقع هذا الشخص في التهلكة و لم يكن هناك بيت المال يدرّ عليه.

نعم لعلّ العلم ببعض المسائل الفقهية غير المهمّة ليس في هذا الحدّ، فحينئذ يمكن تقديم طلب الرزق عليه، و بالجملة لا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ في كلّ باب لا الحكم العامّ، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا- فانّ قياس فعل الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام بل و بعض السلف الصالح علي العلماء في أعصارنا و ما أشبهه قياس مع الفارق، لعدم حاجة المعصومين إلي تحصيل العلم بمثل ما نحتاج إليه، و عدم حاجة علماء السلف بمقدار ما نحتاج إليه اليوم كما لا يخفي، فانّ العلوم قد وسّعت نطاقها و قد قال شيخنا الأنصاري قدّس سرّه: «الاجتهاد في عصرنا أشدّ من طول الجهاد»، و لا يختصّ ذلك بعلماء الدين، بل العلماء من سائر العلوم مثلهم من هذه الجهة، فلا

يمكنهم الاشتغال بطلب الرزق عند اشتغالهم بطلب العلم غالبا، فلا تغترّ إذا بكلمات بعض الجهلة في عصرنا من إشكالهم علي علماء الدين بأنّهم لما ذا لا يشتغلون بأمر الرزق؟

و ثالثا: ما قد يتوهّم من أنّ ذلك مصداق إلقاء كلّهم علي الناس واضح البطلان، فإنّ أمر معاش الناس متوقّف علي نظام المجتمع و الأمن و الأمان، و هما لا يحصلان إلّا بتهذيب النفوس و في ضوء الإيمان، و من المعلوم أنّ علماء الدين هم الذين يتصدّون لهذا الأمر، فعملهم لا ينحصر في إحياء أمر المعاد، بل يكون إحياء لمعاش الناس و نظم مجتمعهم أيضا.

السّادس: أقسام ما يكتسب به

ذكر في الحدائق و الشرائع تقسيم ما يكتسب به إلي: محرّم و مكروه و مباح، و لكن العلّامة رحمه اللّه في القواعد قسّم المتاجر بالأقسام الخمسة، فالتقسيم الأوّل باعتبار المحلّ، و الثاني باعتبار الفعل القائم به، و لكن حيث يوجد في أقسامه ما يكون من قبيل المحلّ

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 18

احتمل في مفتاح الكرامة كون المراد بالتجارة أعمّ من الاكتساب و محلّه «1».

و ذكر الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك ما حاصله: إنّ التقسيم الخماسي يصحّ باعتبار الاكتساب، و الثلاثي باعتبار العين و المنفعة، فإنّ الوجوب و الندب لا يرد عليهما من حيث إنّهما عين خاصّة و منفعة، بل بسبب أمر عارضي و هو فعل المكلّف «2» و لكن ذكر في المفتاح بعد أن نقل هذا التوجيه عن الشهيد و صاحب الرياض أنّ فيه نظرا ظاهرا، لأنّ العين لا تتّصف بالحرمة و الكراهة و الإباحة أيضا بذاتها، بل باعتبار الفعل القائم بها، و أورد عليه ثانيا بأنّ الأذان في نفسه ليس حراما، و لكن الاكتساب به محرّم. انتهي «3».

و

في الجواهر بعد الإشارة إلي ما عرفت قال: إنّ اقتصار المصنّف علي الثلاثة هنا باعتبار تعلّقها بالأعيان بالذات و لو من حيث فعل المكلّف، ضرورة ثبوت الأعيان التي يحرم التكسّب بها ذاتا و كذلك الكراهة و الإباحة، بخلاف الوجوب و الندب فإنّا لا نعرف من الأعيان ما يجب التكسّب به كذلك، أو يستحبّ، و ثبوت وجوب التكسّب في نفسه أعمّ من أن يكون بالعين المخصوصة «4».

ثمّ أورد عليه أوّلا بعدم اقتصار المصنّف فيما سيأتي من بيان الأقسام علي ذلك، بل ذكر ما يكون الحرمة بسبب قيام فعل المكلّف المحرّم، فإنّ بيع السلاح لأعداء الدين ليس ممّا يحرم التكسّب به ذاتا، (بل بالعرض).

و ثانيا: إنّ التكسّب مستحبّ في بعض الأعيان بالخصوص، كالغنم الذي جعل جزء من البركة فيها، اللهمّ إلّا أن يقال بأنّ البركة فيها لا في كسبها (انتهي) «5».

هذه كلمات القوم و الذي يحقّ أن يقال في المسألة: إنّ حرمة البيع علي أقسام: فإنّها قد تنشأ من حرمة العين، و حرمتها باعتبار حرمة منافعها المعتدّ بها، كحرمة بيع الخمر و الصليب و الأوثان، و «أخري» من حرمتها في ظرف خاصّ كحرمة بيع السلاح لأعداء

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 4.

(2). المسالك، ج 1، ص 164، (كتاب التجارة).

(3). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 4.

(4). الجواهر، ج 22، ص 7.

(5). الجواهر، ج 22، ص 7، (مع التلخيص).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 19

الدين، فإنّ منافعها و إن لم تكن محرّمة دائما، إلّا إنّه بالنسبة إليهم- لا سيّما عند قيام الحرب بينهم و بين المسلمين- محرّمة.

و «ثالثة» أن يكون نفس الاكتساب محرّما، من دون أن تكون العين كذلك، كأخذ الاجرة علي الأذان و القضاء و أمثالها.

و يأتي

هذا التقسيم في «المكروه» و بيع الأكفان من قبيل الأخير أيضا، فشمول المقسم للجميع لا يمكن إلّا أن يكون التقسيم أعمّ من أن يكون بلحاظ العين و الاكتساب، و حينئذ لا مانع من ورود الواجب و المستحبّ فيها، كالمكاسب التي هي قوام نظام المجتمع أو سبب كماله، ففي الأوّل تكون واجبة، و في الثاني مستحبّة.

اللّهمّ إلّا أن يقال إنّه واجب بالعرض و بعنوان ثانوي، لا بالعنوان الأوّلي، و لكن نقول: بيع السلاح لأعداء الدين أيضا كذلك، و هكذا بيع العنب ممّن يعمله خمرا علي القول به، و كذا معاونة الظلمة، و لذا استدلّوا لحرمتها بأنّها إعانة علي الإثم التي هي من العناوين الثانوية.

و بالجملة ملاحظة جميع ما ذكروه في أبواب المكاسب أقوي شاهد علي كون البحث عامّا.

هذا و العجب من شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه إنّه مثّل في بحثه القصير في المسألة للمكاسب المستحبّة بالزراعة و الرعي «1» مع أنّ الظاهر أنّ نفس عملهما مستحبّ مع قطع النظر عن المعاملة بهما، و للواجب بالصناعات الواجبة كفاية و هي أيضا كذلك.

نعم قد يقال: إنّ الاكتساب و التعامل بها أيضا ممّا يقوم به نظام المجتمع. و هو غير بعيد.

السابع: معني الحرمة في المكاسب المحرّمة

ما المراد بالحرمة في المكاسب المحرّمة؟ هل هي حرمة تكليفية، أو وضعيّة، أو كلاهما؟

و هذه المسألة من الامور التي لا بدّ بيانها قبل الورود في مباحث المكاسب المحرّمة.

فمن باع أو اشتري خمرا فمضافا إلي كون بيعه أو شرائه باطلا يحرم أكل ثمنه بلا

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة ص 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 20

إشكال، و هل يكون بيعه أيضا حراما تكليفيا نفسيا، أم لا؟

ظاهر كلمات القوم التسالم عليه، و لعلّه من جهة ظهور النواهي الواردة فيها في التحريم

التكليفي، أو من جهة الإجماع، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

و الكلام بعد في موضوع الحرمة، و فيه احتمالات:

1- كونه نفس الإنشاء الجدّي (فهو حرام علي القول بها) كما اختاره في المكاسب المحرّمة بعض أكابر العصر.

2- النقل و الانتقال بقصد الأثر المحرّم- كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه-.

3- إنشاء النقل بقصد ترتّب أثر المعاملة، أعني التسليم و التسلّم، فلو خلا عن هذا القصد فمجرّد الإنشاء لا يتّصف بالحرمة، كما عن المحقّق الايرواني قدّس سرّه في حاشيته «1».

4- إنشاؤه بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه.

5- إنشاؤه مع ترتيب آثاره عليه بالتسليم و التسلّم.

أمّا الأوّل فحرمته بعيد جدّا إذا خلا عن قصد ترتّب الأثر، لانصراف النصوص و الفتاوي منه، اللّهمّ إلّا أن يقال لا يكون الإنشاء جدّيا بدون قصد ترتيب الآثار، كما ورد في حقّ من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق، و لكنّه محل للكلام «2».

و أمّا الثاني: فقد أورد عليه في «مصباح الفقاهة» بأنّ التقييد بذلك خلاف إطلاق أدلّة التحريم، و دعوي انصرافها إليه ممنوع «3».

هذا و الإنصاف أنّ دعوي الإطلاق بدون أي قيد بعيد جدّا عن افهام العرف، لأنّهم لا يرون لمجرّد الإنشاء المجرّد عن كلّ أثر أو قصد للأثر، قيمة.

توضيح ذلك أنّه قد يتوهّم أنّ أسّ الأساس في البيع هو الإنشاء و الاعتبار، و إنّ النقل أو الانتقال الخارجيين من آثاره و فروعه، و علي هذا الأساس جعلوا البيع بالصيغة من المسلّمات، و البيع المعاطاتي محلا للكلام و الإيراد، مع أنّ الناظر فيما تعارف بين العرف

______________________________

(1). حاشية الإيرواني علي المكاسب، ص 3.

(2). وسائل الشيعة، ج 13، ص 86، الباب 5، من أبواب الدين و القرض، ح 2.

(3). مصباح

الفقاهة، ج 1، ص 29.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 21

و العقلاء يري أنّ الأمر بالعكس، و أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة، و البيع بالصيغة نشأ بعدها، و لا سيّما مع ملاحظة كيفية بدء البيع و الشراء و تاريخ تشريعهما بين العقلاء، فحقيقة البيع و الشراء هو الإعطاء الخارجي بقصد النقل و الانتقال.

و أمّا الصورة الإنشائية منه فهي فرع له نشأت فيما بعد، كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه في أبواب المعاطاة.

و يؤيّد ما ذكرنا انّ رحي المعاملات غير الخطيرة جدّا تدور علي المعاطاة، فحينئذ يشكل فهم العموم من إطلاقات أدلّة الحرمة لمجرّد الإنشاء و ليس هذا ادّعاء جزافيا كما توهّم.

و قد يورد إشكال الإطلاق بعينه علي الوجوه الاخري، و إنّ إطلاق الأدلّة ينفي جميع هذه القيود، و لكن الجواب ما عرفت من الانصراف، و لكن يبقي الكلام في أنّ أي واحد من هذه القيود يعتبر في موضوع الحرام، بعد نفي حرمة مطلق الإنشاء.

و هذا يدور مدار مقدار انصراف الإطلاقات، فإنّ بعض هذه القيود أخصّ من بعض، فانّ التسليم و التسلّم لا ينفكّان عادة عن قصد ترتيب الأثر المحرّم، كما لا ينفكّان عن قصد ترتّب أثر المعاملة أيضا.

و الاحتمال الخامس أقوي من الجميع، و إن لم نر من صرّح به، لا سيّما بملاحظة ما ذكرنا في حقيقة البيع عند أهل العرف.

هذا كلّه إذا قلنا بأنّ الحرمة النفسية التكليفية في المعاملات المحرّمة معلومة مقطوعة، و أمّا لو شككنا فيه، و قلنا أنّ الحرمة هنا أمر مقدّمي، و لا ظهور للأدلّة في أزيد من ذلك، فتسقط جميع الوجوه، و يرجع الأمر إلي التحريم المقدّمي.

و توضيح ذلك: إنّ الرّوايات الدالّة علي حرمة المكاسب المحرّمة علي طوائف:

الاولي:

إنّ المصرّح به في كثير من روايات التحريم في المكاسب المحرّمة هو «حرمة الثمن».

مثل ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول فقال عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة منها

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 22

اجور الفواجر، و ثمن الخمر، و النبيذ، و المسكر، و الربا بعد البيّنة، فأمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم جلّ اسمه و برسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «1».

و ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام إذا شارط، و أجر الزانية، و ثمن الخمر … » «2».

و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن» «3».

و ما رواه سماعة عن الصادق عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة: منها كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر» «4».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «5».

و ممّا رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت … » «6».

و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام

عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «7».

و ما رواه عمّار بن مروان عن الصادق عليه السّلام قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها اجور القضاة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 61، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 62، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 62، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 63، ح 6.

(5). المصدر السابق، ص 63، ح 7.

(6). المصدر السابق، ص 63، ح 8.

(7). وسائل الشيعة، ج 12، ص 63، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 23

و اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ المسكر و الربا بعد البيّنة … » «1».

و ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «2».

و في حكمه روايات الربا، فانّها أيضا تدلّ علي حرمة الثمن مثل ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم ربا «عند اللّه» أشدّ من سبعين زنية كلّها بذات محرم» «3».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم ربا أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنية كلّها بذات محرم مثل العمّة و الخالة» «4».

و ما رواه سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «درهم واحد ربا أعظم

من عشرين زنية كلّها بذات محرم» «5».

إلي غير ذلك ممّا ورد في حكم بيع الكلاب المحرّمة و أنّ ثمنها سحت «6».

و من الواضح عدم دلالة هذه الطائفة علي حرمة نفس البيع تكليفا، و غاية ما يستفاد منها حرمة الثمن و بطلان البيع و عدم جواز ترتيب الآثار الشرعية عليه.

الثّانية: ما دلّ علي حرمة البيع المفضي إلي تسليم المثمن و الثمن، و هي أيضا كثيرة جدّا.

منها ما ورد في باب بيع السلاح لأعداء الدين فانّه أيضا كالصريح في ذلك، مثل ما رواه محمّد بن قيس عن الصادق عليه السّلام قال: سألته عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل، أبيعهما السلاح؟ فقال: «بعهما ما يكنهما الدرع و الخفّين و نحو هذا» «7».

و ما رواه السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له إنّي أبيع السلاح. قال: فقال: «لا تبعه في فتنة» «8».

و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام (في وصيّة

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 64، ح 12.

(2). المصدر السابق، ص 126، الباب 40، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 422، الباب 1، من أبواب الربا ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 423، ح 5.

(5). المصدر السابق، ص 424، ح 6.

(6). المصدر السابق، ص 83، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به.

(7). المصدر السابق، ص 70، الباب 8، ح 3.

(8). وسائل الشيعة، ج 12، ص 70، الباب 8، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 24

النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام) قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الامّة عشرة: القتّات «إلي أن قال» و بائع السلاح من أهل الحرب» «1».

و ظاهر جميع ذلك

حرمة البيع بما له من الآثار التي منها تسليم المثمّن و هو السلاح لأعداء الدين.

و منها ما دلّ علي جواز بيع المشتبه بالميتة ممّن يستحلّ الميتة دون غيره، مثل ما رواه الحلبي قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «2».

و ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكي منها فيعزله و يعزل الميتة ثمّ أنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة و يأكل ثمنه فانّه لا بأس به» «3».

و ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

و من الواضح أنّ هذه الطائفة أيضا لا دلالة لها علي الحرمة التكليفية بنفس البيع، بل الحرام البيع مع ترتيب آثاره، بل لعلّه داخل في عنوان الإعانة علي الإثم الذي هو محرّم نفسي، فالبيع مقدّمة لتسليم المثمّن الذي يكون إعانة علي الإثم.

الثّالثة: ما دلّ علي المفاسد الحاصلة من المكاسب المحرّم التي هي ظاهرة فيما إذا وقع التسليم و التسلّم، كالرّوايات الواردة في الربا الدالّة علي مفاسد جمّة فيها منها:

1- ترك التجارات.

2- المنع من اصطناع المعروف و ترك القرض.

______________________________

(1). المصدر السابق، ص 71، الباب 8، ح 7.

(2). المصدر السابق، ص 67، الباب 7، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 68، ح 2.

(4). المصدر السابق، ص 68، ح 3.

(5). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة

- كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 25

3- فساد الأموال و الأكل بالباطل.

4- الظلم و غير ذلك «1».

فإنّ ذلك أيضا يدلّ علي حرمة البيع بما له من الآثار لا مجرّد إنشائه.

و ما جاء في تحف العقول من ترتّب المفاسد علي البيع الحرام «2».

و عدم دلالة هذه الطائفة علي تحريم مجرّد الإنشاء أو مع القصد فقط واضح.

الرابعة: ما ليس فيها شي ء من ذلك و أشباهه، بل أمر مطلق دالّ علي حرمة البيع الصادق علي الإنشاء بقصد الجدّ أو مع بعض ما عرفت من القيود، و ذلك مثل ما ورد في بيع بعض الأعيان النجسة كقوله عليه السّلام: حرام بيعها و ثمنها «3».

و مثل النهي عن شراء المصحف في رواية عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشتري فإذا اشتريت فقل: إنّما أشتري منك الورق و ما فيه من الأديم … » «4».

إلي غير ذلك من أشباهه و هو قليل بالنسبة إلي غيره، و كذلك مثل قوله تعالي وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «5» (أي بيع الربا بجميع أشكاله).

و هذه الطائفة هي التي يمكن الأخذ بإطلاقها و القول بحرمة مجرّد إنشاء البيع حرمة تكليفية، و لكن دعوي انصراف إطلاقها إلي ما ذكر في غيرها قريبة جدّا، فإذا لا يبقي دليل علي حرمة البيع تكليفيا نفسيا، نعم هو حرام من باب المقدّمة بناء علي حرمة مقدّمة الحرام مطلقا، أو إذا كانت موصلة «فتدبّر جيّدا».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، أبواب الربا، الباب 1.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، أبواب ما يكتسب به، الباب 2.

(3). المصدر السابق، ص 126، الباب 40، ح 2.

(4). المصدر السابق، ص 114، الباب 31، ح 1.

(5). سورة البقرة،

الآية 275.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 27

أقسام المكاسب المحرّمة

اشارة

الأوّل- بيع الأعيان النجسة

الثّاني- بيع الأوثان و هياكل العبادة

الثالث و الرابع- بيع آلات القمار و اللهو

الخامس- بيع أواني الذهب و الفضّة

السادس- الدراهم المغشوشة

السّابع- بيع الشي ء لغاية محرّمة (كبيع العنب ليعمل خمرا)

الثّامن- بيع ما فيه تقوية للكفر و الضلال و الفساد

التاسع- بيع ما لا منفعة فيه

العاشر- الأعمال المحرّمة التي قد يكتسب بها

الحادي عشر- الأفعال الواجبة ممّا يحرم التكسّب به

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 29

الأوّل- بيع الأعيان النجسة

اشارة

و قد فصّله الشيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في مسائل سبع: حرمة بيع الأبوال و العذرة و الدم و المني و الميتة و الكلب و الخمر «1».

ثمّ أنّه عقد مسألة للمتنجّسات أيضا، فصارت ثمان مسائل «2»، و الحال أنّها (الأعيان النجسة) ترجع إلي عنوان واحد، و دليله واحد غالبا، فلذا ذكرها في الشرائع و الحدائق و غيرهما تحت عنوان واحد «3».

و علي كلّ حال، فالظاهر أنّ المسألة علي إجمالها إجماعيّة بين الأصحاب و إن وقع الخلاف في بعض الجزئيات أو المستثنيات.

قال العلّامة رحمه اللّه في «التذكرة»: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، فلو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا «4».

و ادّعي الإجماع في بعض المواضع الاخر من التذكرة علي حرمة بيع الكلب العقور و السرجين النجس «5».

و في الخلاف إجماع الفرقة علي تحريم بيع الخمر و السرجين النجس و الخنزير و الكلاب ما عدي كلب الصيد «6».

______________________________

(1). المكاسب، المحرّمة، ص 3.

(2). المكاسب، المحرّمة، ص 6.

(3). الحدائق، ج 18، ص 71، و الشرائع: كتاب التجارة الفصل الأوّل.

(4). التذكرة، ج 1، ص 464.

(5). التذكرة، ج 1، ص 464.

(6). الخلاف، ج 2، ص 80- 81- 82.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 30

و عن السيّد في الانتصار

و ابن إدريس في السرائر و الشيخ في المبسوط دعوي الإجماع في بعض مصاديق النجاسات (من دون التصريح بغيرها) و الظاهر أنّ كلام الجميع واحد.

و علي كلّ حال يدلّ علي ذلك- مضافا إلي قاعدة التحريم (أنّ اللّه إذا حرّم منافع شي ء حرّم معاملته) المستفادة من العقل و النقل- النصوص الكثيرة الواردة في موارد خاصّة و عامّة:

أمّا القاعدة فالإنصاف إنّها موافقة للعقل، فإنّ البيع لا يصحّ إلّا فيما يكون مالا، و مالية الشي ء باعتبار منافعه المعتدة بها، فهل تكون الحشرات المؤذية و الجيف العفنة و ما أشبهها عندهم مالا؟! كلّا لعدم نفع عقلائي فيها، بل وجود النفع أيضا غير كاف إلّا إذا انضمّ إليه عزّة الوجود، فالهواء و الماء في ساحل البحر لا مالية لهما و لا يصحّ بيع شي ء منهما لعدم وجود قوام البيع فيهما، و هو المالية المتوقّفة علي عزّة الوجود و ان توقّف عليهما حياة الإنسان و غيره، و من هنا يظهر أنّه يمكن أن يكون شي ء مالا في زمان دون زمان كالثلج في الشتاء و الصيف، و في مكان دون مكان، كالماء علي الشاطئ و في المفازة، و بالنسبة إلي قوم دون قوم و هكذا، و في كلّ مورد له حكمه، و المنافع النادرة أو المعتدة بها الشخصية لا تعدّ ملاكا له.

ثمّ إنّه قد يكون شي ء مالا عند العقلاء لحليّة منافعه عندهم، و لا يكون مالا عند الشرع لحرمة منافعه، كالخمر، فحينئذ لا يترتّب عليه شي ء من أحكام المال في الشرع كالبيع و غيره، فلو أتلفه متلف لا يكون ضامنا، و لو اقترضه مقترض لا يكون مديونا، و لو أوصي به لا تكون وصيّته نافذة.

و يدلّ علي هذه القاعدة و إمضائها من

ناحية الشارع المقدّس ما ورد في روايات مختلفة صرّحت بهذه القاعدة العقلائية:

منها: ما ورد في رواية تحف العقول (التي مرّت الإشارة إليها قريبا).

و فيها فقرات أربعة (الولايات و التجارات و الإجارات و الصناعات) تدلّ كلّها علي المقصود، و لكن الرواية مرسلة و كتاب «تحف العقول عن آل الرسول» كلّه كذلك، و الحسن بن علي بن شعبة و إن كان جليل القدر من قدماء الأصحاب، إلّا إنّه يستفاد من بعض القرائن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 31

إنّه كان من علماء القرن الرابع (فإنّه روي عن محمّد بن همام الذي مات سنة 332) و بينه و بين الصادق عليه السّلام أكثر من مائتي سنة، و لكن تلوح علائم الصدق من محتويات كتابه، و أمّا تفرّده بذكر هذا الحديث- مع إنّه أجمع أحاديث الباب و من البعيد اختصاص ذكره من ناحية الإمام عليه السّلام بر أو خاص- فهو عجيب في الجملة، و الرواية و ان كانت ضعيفة السند، و لكن لها شأن من الشأن.

و منها: الرواية المعروفة عن ابن عبّاس عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه» «1».

و قد رواها الشيخ في الخلاف في المسألة 308 من البيوع في بيع المسوخ «2».

و أوردها العلّامة و ابن إدريس رحمهما اللّه و غيرهما في كتبهم كما حكي عنهم.

و قد حكي هذا الحديث عن مسند أحمد «3» و عن سنن البيهقي «4»، و لكنّه نقل هكذا قال:

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، إنّ اللّه إذا حرّم علي قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه» (بزيادة الأكل)، و في غيرهما من

مجامع أحاديثهم.

و لكن في موضع آخر من مسند أحمد نقل الرواية بدون ذكر الأكل «5». و قد عرفت كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف بدون ذكره، و هكذا كثير من فقهاء العامّة و الخاصّة، نعم في المستدرك رواه عن العوالي مع ذكر الأكل «6»، و لكن هذه الزيادة علي فرض وجودها غير مضرّة بالمقصود، لإمكان إلغاء الخصوصية عنها، و المسألة واضحة بعد ما عرفت أنّها موافقة للقاعدة.

و منها: ما في فقه الرضا عليه السّلام: «اعلم يرحمك اللّه إنّ كلّ مأمور به ممّا هو منّ علي العباد، و قوام لهم في امورهم، من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون، فهذا كلّه حلال بيعه و شرائه و هبته و عاريته.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 100، ص 55.

(2). الخلاف، الطبعة ح ة، ج 2، ص 81.

(3). مسند أحمد، ج 1، ص 247 و 293.

(4). سنن البيهقي، ج 6، ص 13.

(5). مسند احمد، ج 11، ص 332.

(6). المستدرك، ج 2، ص 427.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 32

و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهي عنه، من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد، و مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك، فحرام ضارّ للجسم و فساد للنفس» «1».

و منها: ما رواه القاضي نعمان المصري في كتابه «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الحلال من البيوع كلّما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و

مباح لهم الانتفاع به، و ما كان محرّما أصله منهي عنه لم يجز بيعه و لا شرائه» «2».

و هي ظاهرة الدلالة علي العموم، و لكنّها أيضا رواية مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها بخصوصها.

و القاضي «نعمان» مؤلّف «دعائم الإسلام» يعرف بأبي حنيفة الشيعي، و قد يقال أبو حنيفة المغربي، و لعلّه كان من أهل المغرب، كان مالكيا ثمّ استبصر و صار إماميّا، كان من أكابر علماء عصره عالما بفتاوي فقهاء الإسلام قاضيا بمصر، و مات هناك سنة 363.

و له كتب في الانتصار لمذهب أهل البيت، منها كتاب «دعائم الإسلام»، و عدم قبول روايته من حيث الإرسال لا ينافي جلالة مقامه.

هذا و لكن لا يبعد جواز الاعتماد علي مجموع هذه الأحاديث لتعاضدها مع بعضها، و شهرتها بين العامّة و الخاصّة، و قد ذكرنا في الاصول أنّ المعيار في القبول هو وثاقة الرواية من أي طريق حصلت، لا وثاقة خصوص الراوي.

و قد يستدلّ علي ذلك مضافا إلي ما ذكر- كما في الجواهر- «3» بالإطلاقات الناهية عن هذه الأعيان كقوله تعالي: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ … - إلي قوله- فَاجْتَنِبُوهُ «4» و قوله تعالي:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «5» فتشمل البيع أيضا، و لكن لا يبعد انصراف كلّ منها إلي الأثر المناسب

______________________________

(1). فقه الرضا، نقلا عن مستدرك الوسائل، ج 2، ص 425، الباب 2، ح 1، من أبواب ما يكتسب به، و الحدائق، ج 18، ص 71.

(2). دعائم الإسلام نقلا عن مستدرك الوسائل، ج 2، ص 426، الباب 2، ح 2، من أبواب ما يكتسب به.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 11.

(4). سورة المائدة، الآية 90.

(5). سورة المدثر، الآية 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 33

المعروف كما حقّق في الاصول،

و كذلك الاستدلال بقوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ … «1»

هذا و لكن الروايات الخاصّة كثيرة جدّا، و هي و إن وردت في بعض الأعيان النجسة، و لكن لحن بعضها يشعر بالعموم، و مع قطع النظر عنه يمكن اصطياد العموم منها، و إليك نماذج منها:

1- ما ورد في اهداء رجل من ثقيف راويتين من خمر إلي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و أمره باهراقهما و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «2».

2- ما ورد في تحريم ثمن الخمر و مهر البغي أو شبههما مثل ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «3».

3- ما ورد عمّار بن مروان قال سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول، فقال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر و الربا بعد البيّنة … » «4».

4- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام إذا شارط و أجر الزانية و ثمن الخمر … » «5».

5- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي … » «6».

6- ما رواه سماعة قال قال عليه السّلام: «السحت أنواع كثيرة منها كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر» «7».

7- ما

رواه محمّد بن علي بن الحسين عليه السّلام قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت، و ثمن

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 3.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 164، الباب 55، من أبواب ما يكتسب به، ح 10، و بهذا المضمون ح 6، ص 160، من هذا الباب.

(3). المصدر السابق، ص 63، الباب 5، ح 7.

(4). المصدر السابق، ص 61، ح 1.

(5). المصدر السابق، ص 62، ح 2.

(6). المصدر السابق، ص 62، ح 5.

(7). المصدر السابق، ص 63، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 34

الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت و أجر الكاهن سحت و ثمن الميتة سحت … » «1».

8- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية … » «2».

9- ما رواه عمّار بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة منها ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة و منها اجور القضاة و اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ المسكر و الربا بعد البيّنة … » «3».

10- ما ورد عن طرق الجمهور: عن جابر بن عبد اللّه إنّه سمع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام» فقيل:

يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أ رأيت شحوم الميتة

فإنّه يطلي بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، ثمّ قال صلّي اللّه عليه و آله و سلم عند ذلك: قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه عزّ و جلّ لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه، ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه «4»» و روي ذيله عن بعض طرقنا «5».

11- ما ورد في باب الميتة و إنّها إذا اختلطت بالمذكّي فلا يجوز بيعها إلّا ممّن يستحلّ الميتة مثل: ما رواه الحلبي قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «6».

12- ما رواه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر، و كان يدرك الذكي منها فيعزله، و يعزل الميتة، ثمّ إنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال عليه السّلام: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة، و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 63، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 63، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 64، ح 12.

(4). صحيح البخاري، ج 3، ص 110، باب بيع الميتة و الأصنام و صحيح مسلم، ج 3، ص 1207، ح 71، من كتاب المساقاة.

(5). عوالي اللئالي، ج 1، ص 233، رقم ح 133.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 67، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(7). المصدر السابق، ص 68، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 35

13- ما دلّ علي عدم جواز بيع العجين من الماء النجس أو الدهن الذي مات فيه فأرة إنّه لا يبيعه من مسلم مثل ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «1».

14- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم» «2».

و هي و إن وردت في باب المتنجّس إلّا إنّه يعلم منه حكم النجس العين أيضا بطريق أولي.

15- ما ورد في باب تحريم بيع الكلاب إلّا كلاب خاصّة، و هي كثيرة مثل ما رواه أبو عبد اللّه العامري قال سألت أبي عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس» «3».

16- ما رواه الحسن بن علي القاساني عن الرضا عليه السّلام في حديث قال: «و ثمن الكلب سحت» «4».

17- ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت … » «5».

18- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من أكل السحت ثمن الخمر، و نهي عن ثمن الكلب «6».

19- ما رواه أبو بصير قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن كلب الصيد قال: «لا بأس بثمنه و الآخر لا يحلّ ثمنه» «7».

20- ما روي بهذا الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 67، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 69، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 83، الباب 14، ح 1.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 3.

(6). المصدر السابق، ح

4.

(7). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 36

«ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «1».

21- ما رواه الوليد العماري قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس» «2».

22- ما رواه الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه السّلام قال: سمعته يقول: «ثمن الكلب سحت و السحت (الساحت) في النار» «3».

23- ما ورد في باب تحريم بيع العذرة بالخصوص مثل: ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «4».

و ما رواه سماعة بن مهران قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: «إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها و ثمنها … » «5».

24- ما ورد في تحريم بيع الخمر أيضا ممّا ليس فيه ما يشعر بالتعليل مثل: ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و بائعها، و مشتريها، و ساقيها، و آكل ثمنها، و شاربها، و حاملها، و المحوّلة إليه» «6».

25- ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه 6 في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بايعها، و مشتريها، و آكل ثمنها» «7».

26- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام (في حديث المناهي): «إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي أن يشتري الخمر و أن

يسقي الخمر و قال: «لعن اللّه الخمر، و غارسها، و عاصرها، و شاربها، و ساقيها، و بائعها، و مشتريها، و آكل ثمنها، و حاملها، و المحمولة إليه» «8».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 83، الباب 14، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 84، ح 8.

(4). المصدر السابق، ص 126، الباب 40، ح 1.

(5). المصدر السابق، ح 2.

(6). المصدر السابق، ص 164، الباب 55، ح 3.

(7). المصدر السابق، ص 165، ح 4.

(8). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 37

و يستفاد من الروايات الأخيرة أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قد لعن فيها عشر طوائف، و إن اختلفت الروايات في ذكر هذه العشرة، ففي بعضها «العاصر» و «المعتصر» شخصان (و كأنّ أحدهما يعصر و الآخر يعاونه و يمسك الظرف و الإناء) و في بعضها «الخمر» بنفسها ملعونة، و في بعضها الآخر عدّ «الغارس» و «الحارس» شخصين، و الأمر سهل بعد كون جميعهم ملعونين.

27- ما ورد في باب تحريم بيع الفقاع مثل: ما رواه سليمان بن جعفر عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: قلت له: ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال: «خمر مجهول، يا سليمان! فلا تشربه أما يا سليمان لو كان الحكم لي و الدار لي لجلدت شاربه و لقتلت بائعه!» «1».

28- ما ورد في باب تحريم بيع الخنزير مثل: ما رواه ابن أبي نجران عن بعض أصحابنا عن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين هل يبيع خمره و خنازيره و يقضي دينه؟ قال: «لا» «2».

29- ما رواه يونس في مجوسي باع خمرا أو خنازير

إلي أجل مسمّي ثمّ أسلم قبل أن يحلّ المال قال: «له دراهمه … » «3».

و لا يخفي إنّه لشدّة وضوح حرمة بيع الخنزير لم ينعقد في مضمار الأحاديث لذلك باب خاصّ مع أنّه أشدّ مفسدة من بيع الميتة، و لذا لم يجز بحال من الأحوال بخلافها.

فتلخّص من جميع ذلك حرمة بيع الأعيان النجسة بعنوان أصلي كلّي، و يدلّ عليه القاعدة العامّة التي عرفتها مع روايات متواترة إجمالا واردة في موارد مختلفة.

حكم المتنجّس:

بقي الكلام في حكم المتنجّس، و المشهور بين الأصحاب حرمة بيعه، ما عدي الدهن، كما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن ظاهر السبزواري في الكفاية المناقشة في هذا الحكم، و استجوده في الحدائق (بعد نقل كلامه) «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 166، الباب 56، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 167، الباب 57، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). الحدائق، ج 18، ص 84.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 38

و يظهر من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه ذلك أيضا «1» و قد خالف فيه بعض المعاصرين إذا كانت له منفعة محلّلة مقصودة.

و عن العامّة أيضا الحرمة علي المشهور بينهم: فعن المالكية لا يصحّ بيع المتنجّس الذي لا يمكن تطهيره، و ما يمكن تطهيره فيجوز مع الإعلان.

و عن الحنابلة لا يصحّ بيع الدهن المتنجّس، أمّا المتنجّس الذي يمكن تطهيره فانّه يصحّ بيعه، و لكن جوّز أبو حنيفة بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل «2».

و الذي يمكن الاستدلال به لمختار المشهور قبل كلّ شي ء هو قاعدة التحريم المستفادة من قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه … » «3» كما عرفت شرحها، و الإجماع المدّعي في

كلام بعضهم، مضافا إلي رواية تحف العقول حيث عدّ في التجارات المحرّمة «أو شي ء من وجوه النجس فذلك كلّه حرام محرّم» بناء علي كون هذا العنوان في الأخبار عاما يشمل الأعيان النجسة و المتنجّسات.

و لكن أورد عليه بأنّه ظاهر في العناوين النجسة ذاتا، فالدهن المتنجّس ليس من وجوه النجس، و ليس ببعيد بملاحظة كلمة «الوجوه».

و يمكن الاستدلال أيضا بما ورد في بيع العجين النجس ممّن يستحلّ الميتة مثل: ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال:

«يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

و لا يبعد اختصاص النهي عن البيع في هذه الرواية بما إذا لم يكن هناك من يستحلّ الميتة، فحينئذ لا تنافي ما مرّ من جواز بيعه ممّن يستحلّها.

و ما دلّ علي حرمة بيع الدهن المتنجّس من مسلم مثل: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 8.

(2). الفقه علي المذاهب الأربعة، ج 2، ص 231، و ص 232.

(3). بحار الأنوار، ج 100، ص 55.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 68، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(5). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 39

موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة، قال: «لا تدهن به و لا تبع من مسلم» «1».

و لكن يعارضه ما دلّ علي جوازه مثل: ما دلّ علي جواز بيعه مع الإعلان ليستصبح به «2».

و العمدة ما عرفت من قاعدة التحريم، لعدم دليل يدلّ علي العدول عنها، فإذا

لم تكن له منفعة محلّلة مقصودة لم يجز بيعه و ان كان له منفعة كذلك، جاز لما عرفت، و به يجمع بين أخبار الباب، فتأمّل.

أقسام المتنجّس:

1- منها ما لا يقبل التطهير لا ظاهرا و لا باطنا كالمائعات المتنجّسة غير الماء و القول بتطهيرها بالاستهلاك اعتراف بعدم قبولها للتطهير مع بقاء عينها، و كذا الصابون و الصبغ و الدهن علي الأقوي.

2- ما يقبل ظاهره التطهير كالقير النجس و الفلزات النجسة عند ذوبها.

3- ما يقبل التطهير ظاهرا و باطنا كالألبسة و غيرها.

و لا شكّ في جواز بيع القسم الثالث مع الإعلام، و القول بشمول إطلاقات عدم الجواز في الفتاوي و النصوص له كما تري.

و أمّا القسم الثاني: فإن كان له منفعة معتد بها ممّا لا تشترط فيها الطهارة كالأمثلة المذكورة فهو أيضا جائز، لعدم شمول الأدلّة السابقة له قطعا، نعم قد يكون إطلاق الفتاوي ظاهرا في عدم الجواز، و لكن ليس حجّة علي فرض قبوله.

و أمّا القسم الأوّل فهو أيضا علي أقسام:

منها ما تكون منفعته الغالبة غير مشروطة بالطهارة كالصابون و الصبغ.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 69، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، الباب 6، ح 3 و 4 و 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 40

و منها ما تكون منفعته الغالبة مشروطة بها كالمائعات المضافة المشروبة كعصير الفواكه.

و منها ما تكون منافعه المشتركة بين المشروطة و غيرها كبعض الأدهان التي تستعمل في التدهين و غيره، و يستفاد منه في الأكل أيضا.

و الإنصاف، جواز بيع الأوّل و الأخير لما عرفت من الأدلّة السابقة، و لعدم حجيّة الشهرة، مع إنّها مشكوكة بالنسبة إليها، و لا تشملها إطلاقات الأدلّة السابقة كما هو

ظاهر.

تحريم بيع الأعيان النجسة:
اشارة

و هي أمور:

الأوّل: هل يحرم بيع العذرة

الأعيان النجسة إذا كانت لها منافع معتدّ بها هل يجوز بيعها؟ كالعذرة للتسميد، و الدم للمرضي و المجروحين، و دهن الميتة لبعض الانتفاعات؟ لا تخلو كلمات الفقهاء هنا من تشويش، فنقول و منه سبحانه التوفيق: أمّا بالنسبة إلي العذرة ففيها أقوال، المشهور عدم الجواز مطلقا، قال الشيخ في الخلاف: سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه، و قال أبو حنيفة:

يجوز بيع السراجين، و قال الشافعي: لا يجوز بيعها. و لم يفصّلا، دليلنا علي جواز ذلك إنّه طاهر عندنا، و من منع منه فإنّما منع لنجاسته- ثمّ استدلّ بالسيرة الجارية في جميع الأمصار و الأعصار- ثمّ قال: أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة، و روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم إنّه قال:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه». و هذا محرّم بالإجماع، فيجب أن يكون بيعه محرّما «1».

و ظاهره مخالفة بعض الأصحاب في المأكول لحمه لنجاسته عنده.

هذا و المحكي عن المفيد و سلّار عدم جواز بيع الأبوال و الأرواث كلّها (و لو من مأكول اللحم الطاهر) إلّا بول الإبل «2».

و القول الثالث ما يظهر من الأردبيلي و المحقّق الخراساني قدّس سرّهما من الميل إلي الجواز إذا

______________________________

(1). الخلاف، ج 2، ص 82، المسألة 310.

(2). كما جاء في جواهر الكلام، ج 22، ص 19.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 41

كان لها نفع حتّي في النجس منه، و حكي عن الفيض قدّس سرّه أيضا «1».

و لا ينبغي الشكّ في أنّ مقتضي الأصل هو الجواز، لما عرفت من القاعدة فيما له نفع محلّل، و الانتفاع بالعذرة في التسميد معمول و معروف في كثير من البلاد، إلّا أن يمنع منه مانع، و هو أمّا

الإجماع المدّعي في كلام الشيخ رحمه اللّه في الخلاف، و في كلام غيره كالعلّامة رحمه اللّه في التذكرة، و هو كما تري في مثل هذه المباحث، أو يمنع عنه الرّوايات الخاصّة، و هي ثلاث روايات:

1- ما رواه يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن العذرة من السحت» «2» و هو دليل علي الحرمة، و لكن سندها ضعيف لعلي بن مسكين، اللهمّ إلّا أن يقال بانجباره بعمل الأصحاب، فتأمّل.

2- ما رواه محمّد بن مضارب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال عليه السّلام: «لا بأس ببيع العذرة» «3».

و هو أيضا ضعيف بمحمّد بن مضارب.

3- ما رواه سماعة بن مهران قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها». و قال عليه السّلام: «لا بأس ببيع العذرة» «4».

و فيه نظر من حيث دلالته و من حيث سنده، فإن كان السند كما ذكره في الوسائل عن صفوان عن مسمع عن أبي مسمع فلا يخلو عن شي ء، و لكن الوسائل نقله عن التهذيب، و في نسخة التهذيب عن مسمع بن أبي مسمع، و قد وثّقوه.

و أمّا رواية صفوان و هو من أصحاب الإجماع فلا أثر لها، لما ذكرنا مرارا من أنّ كون الرجل من أصحاب الإجماع دليل علي وثاقة نفسه بالإجماع، و لا أثر له لمن بعده.

و أمّا الدلالة فصدرها دليل علي الحرمة و ذيلها دليل علي الجواز، و قد ذكر للجمع بينهما عدّة أقوال:

منها: حمل المنع علي التقيّة لكونه مذهب أكثر العامّة- لكن قد عرفت أنّ كلماتهم في

______________________________

(1). كما جاء في جواهر الكلام، ج 22، ص 19.

(2). وسائل الشيعة، المجلّد

12، الصفحة 126، الباب 40، من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 42

ذلك مختلفة- و ذهب أبو حنيفة إلي الجواز.

منها: حمل خبر الحرمة علي عذرة الإنسان، و الثاني علي البهائم (و الظاهر أنّ مراده الفرق بين الطاهر و النجس و لكنّه جمع تبرّعي) كما هو الظاهر.

و منها: الفرق بين البلاد التي تعارف الانتفاع بها و ما لم يتعارف (نقل عن العلّامة المجلسي قدّس سرّه) و هو أيضا كذلك، أي جمع تبرّعي.

و منها: الحمل علي الكراهة- كما عن السبزواري- و هو الموافق لما جرت عليه سيرتهم في أبواب الفقه فيما إذا ورد النهي، ثمّ ورد الجواز، و إن ضعفه في الجواهر هنا، و كذلك صاحب الحدائق «1».

و لكن التعبير بالسحت يبعده. و استعمال السحت في بعض موارد الكراهة لا يمنع ظهوره القوي عند الخلو عن القرينة في الحرمة.

و منها: حمل النهي علي الحرمة الوضعية، و الجواز علي عدم الحرمة التكليفية، كما عليه بعض أعاظم العصر «2»، و هو عجيب جدّا، فإن الذي يقع الابتلاء به عادة هو الحرمة الوضعيّة، أعني صحّة البيع و فساده، و كيف يمكن أن يكون جوابه عليه السّلام عن شي ء قلّما يقع في ذهن أحد في أمثال المقام، و هو الحرمة التكليفية المجرّدة عن الوضعية؟ و العجب أنّه جعله أحسن جمع مع أنّه لو سلم كان تبرّعيا أيضا.

و إذا لم يصحّ الجمع الدلالي تصل النوبة إلي المرجّحات، و حيث أنّ الحكمين مذكوران في موثّقة سماعة يقع الكلام في أنّها روايتان جمعهما في النقل هو، أو من تأخّر عنه، أو رواية واحدة؟ فإن كانت رواية واحدة لا يمكن إجراء

المرجّحات بالنسبة إلي فقراتها، و احتمال جواز إجراء المرجّحات في أجزاء خبر واحد واضح الفساد، لانصراف قوله: يأتي عنكم خبران متعارضان، أو شبه ذلك في الخبرين المستقلّين، لا في جملات خبر واحد كما هو ظاهر، و حينئذ يسقط ما رواه سماعة بتعارض الصدر و الذيل، و يبقي ما رواه يعقوب و محمّد بن مضارب، و هما و إن كانا ضعيفين إلّا أنّ رواية الحرمة منجبرة بالشهرة، دون رواية

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 74، و جواهر الكلام، ج 22، ص 19.

(2). المكاسب المحرّمة، للإمام الخميني قدّس سرّه، ج 1، ص 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 43

الجواز، فتبقي الاولي سليمة عن المعارض.

و أمّا إن قلنا أنّهما روايتان جمعا في نقل واحد فتصل النوبة إلي أعمال المرجّحات، و من المعلوم أنّ الشهرة و توافق الحرمة، و لكن في مقابلها مخالفة العامّة، التي توافق رواية الجواز و توجب ترجيحها، اللّهمّ إلّا أن يقال: موافقة أبي حنيفة للجواز الذي اشتهرت فتاواه في إجراء صدور الرواية، يمنع عن الأخذ بهذا المرجّح، و ليس ببعيد.

و الإنصاف إنّ تعدّد الرواية أقوي في النظر، فانّه من البعيد صدور الرواية من المعصوم بهذه العبارة المشتملة علي التناقض الظاهر الذي لا يفهم المستمع منه شيئا يركن إليه.

و يؤيّده تكرار قوله: «و قال»، و كذا ذكر اسم الظاهر (العذرة) في الفقرة الثانية بدل الضمير.

و يتحصّل من جميع ذلك أنّ القول بالحرمة هنا بالخصوص بملاحظة الأدلّة الخاصّة إن لم يكن أقوي فلا أقل من إنّه أحوط، و إن كان مقتضي العمومات الجواز.

ثمّ إنّ العذرة ظاهرة في عذرة الإنسان كما صرّح به أهل اللغة.

قال في لسان العرب: العذرة و العاذر: الغائط الذي هو السلح، و في حديث

ابن عمر، أنّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان، ثمّ قال: العذرة فناء الدار، و في حديث علي عليه السّلام إنّه عاتب قوما فقال: ما لكم لا تنظّفون عذراتكم، أي أفنيتكم، و قيل:

العذرة أصلها فناء الدار، و إنّما سمّيت عذرات الناس بهذا لأنّها كانت تلقي بالأفنية، فكنّي عنها باسم الفناء، كما كنّي بالغائط، «و هي الأرض المطمئنة» عنها «1» انتهي محلّ الحاجة منه.

و من هنا يعلم أنّ حمل بعض الروايات علي عذرة غير الإنسان بعيد جدّا.

و ممّا ذكرنا لا يبقي وجه لما حكي عن المفيد و سلّار من عدم جواز بيع الأرواث و الأبوال كلّها «2» بل ما يترتّب عليها نفع معتدّ به يجوز بيعه إن كان طاهرا، و إن كان نجسا أيضا، ما عدا عذرة الإنسان المنصوص عليها بالخصوص.

______________________________

(1). لسان العرب، ج 4، ص 544، مادّة «عذر»، ط- ح ة- بيروت- ج 9، ص 108.

(2). وسائل الشيعة، ج 17، ص 87، الباب 59، من أبواب الأطعمة المباحة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 44

بقي هنا شي ء، و هو أنّ الأرواث و الأبوال الطاهرة لا مانع من بيعها إذا كانت لها منفعة محلّلة معتدّ بها، و هي في الأرواث ظاهرة، أمّا في الأبوال خفية، و الاستشفاء ببعض الأبوال في بعض الأزمنة كما يظهر من عدّة روايات غير كاف بالنسبة إلي زماننا هذا الذي لا يعدّ ذلك من منافعها.

الثّاني: الدم

المشهور حرمة بيع الدم النجس، بل ادّعي الإجماع عليها، و القول بحرمتها مشهورة بين العامّة أيضا. بالعمومات السابقة الدالّة علي حرمة بيع مطلق النجس التي قد عرفت الكلام فيها.

و غاية ما يمكن أن يستدلّ عليه بعد الآية الشريفة بعض الروايات الخاصّة الواردة من

طرقنا و طرق العامّة:

أمّا الأوّل: فهو قوله تعالي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «1» و لكن من الواضح أنّ النهي إنّما هو عن أكلها لا غير، و أمّا البيع و شبهه فهو خارج عن مفاد الآية.

أمّا الثاني: فهو ما رواه أبو يحيي الواسطي رفعه قال: مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بالقصّابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال و النخاع و الخصي و القضيب (الحديث) «2».

و سند الحديث ضعيف بالرفع، و بجهالة أبي يحيي، و الظاهر أنّه «سهيل بن زياد» كان ممّن لقي أبا محمّد العسكري عليه السّلام و أنّه كان من شيوخ الأصحاب المتكلّمين، و لكن لم يصرّح بوثاقته أحد فيما نعلم، بل صرّح بعض أرباب الرجال بأنّ حديثه قد يعرف و قد ينكر.

و لكن يمكن انجبار ضعفه بعمل المشهور، و ما قد يقال إنّه لا ينجبر بذلك لفساده فممنوع صغري و كبري، أمّا الكبري فلما ذكرنا في محلّه من أنّ المعيار في حجيّة خبر الواحد هو الوثوق بالرواية، سواء حصل من ناحية الراوي، أو من نواحي اخر، و القول بأنّ المعيار

______________________________

(1). المائدة، الآية 3؛ و البقرة، الآية 173.

(2). وسائل الشيعة، ج 16، ص 359، الباب 31، من أبواب ما يحرم من الذبيحة ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 45

خصوص وثوق الراوي نظرا إلي ما أرجع فيه إلي الثقات، مدفوع ببناء العقلاء الذي هو الأصل في المسألة كما لا يخفي علي من راجعهم، و تفصيل الكلام في محلّه.

أمّا الصغري فهي مفاد مرفوعة الواسطي و ليس ممّا لم يفت به المشهور، فإنّ تحريم السبعة معروف و مشهور بينهم.

و أمّا

الإشكال علي دلالة الرواية بما أفاده العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «1» و تبعه غيره، بأنّ الظاهر حرمة البيع للأكل، و لا شكّ في تحريمه، من حيث أنّ قصد المنفعة المحرّمة موجب لحرمة البيع بل بطلانه، فيمكن الجواب عنه أوّلا: بأنّ القصد المذكور كما عرفت لا يوجب فساد البيع، و ثانيا: قد لا يكون هذا القصد موجودا، بل يشتريه لمنافع اخر.

و من طريق العامّة ما رواه البيهقي في سننه، عن عون بن جحيفة قال: إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن ثمن الدم «2»، و لكن الكلام في سند الحديث.

و المهمّ في المقام أمر آخر، و هو أنّ الدم في سابق الأزمنة لم تكن له منفعة محلّلة معتدّ بها، و كانت عمدة منافعه الأكل المحرّم، إمّا الصبغ أو التسميد الذي اشير إليه في كلمات غير واحد، فالظاهر أنّهما كانا من المنافع النادرة، فالحكم بتحريم بيعه يوافق القواعد و الروايات ناظرة إليه.

أمّا في زماننا هذا فقد تغيّر هذا الموضوع، حيث يوجد في دم الإنسان منفعة عظيمة لإنقاذ الجرحي و المرضي الذين يحتاجون إلي الدم النقي، و هذه منفعة معتدّ بها، فهل يمكن الحكم بتحريم بيعه بحسب الأدلّة التي مرّت عليك؟ الظاهر عدمه، لأنّ رواية الواسطي و شبهها ناظرة إلي الدماء التي لم تكن لها منفعة غير الأكل المحرّم، و أمّا القواعد فقد عرفت دلالتها علي الجواز في مثل هذا، و حال الإجماع أيضا معلوم، و النجاسة لا موضوعية لها.

ثمّ أنّه يبقي الكلام في الدم الطاهر المتخلّف في الذبيحة الذي يحرم أكله، و الظاهر حرمة بيعه أيضا لما عرفت من عدم المنفعة المحلّلة، و لكن المقدار القليل منه المتعارف وجوده في اللحم لا

يضرّ شيئا، بل لو استهلك في الطعام جاز أكله أيضا.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 4.

(2). سنن البيهقي، ج 6، ص 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 46

الثالث: الميتة

و قد تكون لها منافع كثيرة غير الأكل، فإن كانت محرّمة أيضا لم يبق للكلام في حرمة بيعها مجال، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و أمّا إن كانت لها منافع محلّلة أمكن القول بحليّة بيعها، و لنا مجال للبحث منها:

فاللازم أوّلا البحث عن حكم منافعها غير الأكل.

فنقول و من اللّه نستمدّ التوفيق و الهداية:

قد تكون للميتة منافع معتدّ بها كفوائد جلدها لصنع الألبسة و الخيام و الأمتعة المختلفة، و منافع أدهانها، بل و لطعام الحيوانات و غير ذلك ممّا هو كثير، فهل يجوز الانتفاع بهذه منها، أم لا؟

المشهور بين الأصحاب بل المحكي عن علماء العامّة حرمة ذلك، و لكن خالف فيه شاذّ منها، و قال بجواز التصرّف فيها مطلقا، أو خصوص بعض موارده كالاستصباح بدهن الميتة.

قال ابن إدريس في السرائر: «الإجماع منعقد علي تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ» «1».

و من الواضح أنّ الأصل في ذلك كلّه هو الجواز، و لكن هناك طائفة من الروايات تدلّ علي الحرمة، و هي:

1- ما رواه علي بن أبي مغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الميتة ينتفع منها بشي ء؟ فقال:

لا. قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه مرّ بشاة ميتة فقال: «ما كان علي أهل هذا الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها»، فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم، و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها، فتركوها حتّي ماتت، فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه

و آله و سلم: «ما كان علي أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا باهابها أي تذكي» «2»، و هذه الرواية كالصريح في عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة و غيرها.

2- ما رواه الفتح بن يزيد عن ن أبي الحسن عليه السّلام: «لا ينتفع في الميتة بإهاب و لا عصب» «3».

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 79.

(2). وسائل الشيعة، ج 16، ص 368، الباب 34، من أبواب الأطعمة و الأشربة، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 47

3- و ما رواه أبو مريم: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: السخلة التي مرّ بها رسول اللّه و هي ميتة، فقال: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا باهابها، قال فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّه: «ما كان علي أهلها لو انتفعوا بإهابها» «1».

4- ما رواه سماعة قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا» «2».

5- و عنه أيضا قال سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الغرا. فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة» «3».

6- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها» «4».

7- و ما رواه قاسم الصيقل قال: كتبت إلي الرضا عليه السّلام أنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاصلّي فيها؟ فكتب إليّ: «اتّخذ

ثوبا لصلاتك … » «5».

8- ما رواه الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم فقال:

«لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثمّ قال: إنّ في كتاب علي 7 أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به» «6».

الطائفة الثانية و هي التي تدلّ علي الجواز مطلقا أو في الجملة:

1- ما رواه الحسن بن علي قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال عليه السّلام: «هي حرام» قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب، و هو حرام» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 368، الباب 34، من أبواب الأطعمة و الأشربة، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 369، ح 6.

(5). المصدر السابق، ج 2، ص 1050، الباب 34، من أبواب النجاسات، ح 4.

(6). المصدر السابق، ج 16، ص 295، الباب 30، من أبواب الذبائح، ح 1.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 47

(7). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 48

(و لا يخفي أنّ ذيل الحديث حكم إرشادي إلي أنّ استعمالها في الاستصباح قد يوجب سراية نجاستها إلي الأشياء الاخر فيقع الإنسان في حرج، و إلّا فلا مانع من الاستصباح بها).

2- ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب جامع البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع

من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟

قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» «1».

3- ما رواه الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جلد شاة ميتة يدبغ فيصبّ فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضّأ. قال: نعم. و قال: «يدبغ فينتفع به و لا يصلّي فيه» «2».

(و لا يخفي أنّ هذه الرواية لا دلالة لها علي الجواز إلّا علي مذهب العامّة حيث انّهم يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغة، و هذا مخالف لما أجمع عليه علمائنا).

4- ما رواه سماعة قال سألته عن جلد الميتة المملوح و هو الكيمخت فرخّص فيه و قال:

«إن لم تمسّه فهو أفضل» «3».

5- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ علي بن الحسين عليه السّلام كان يبعث إلي العراق فيؤتي ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقي القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فقال: «إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة و يزعمون أنّ دباغه ذكاته» «4».

6- ما رواه أبو القاسم الصيقل و ولده قال: كتبوا إلي الرجل: جعلنا اللّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها، و نحن مضطرّون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شرائطها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلي جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 296، الباب 30، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 369، الباب 34، ح 7.

(3). المصدر السابق،

ص 369، ح 8.

(4). المصدر السابق، ج 2، ص 1080، الباب 61، من أبواب النجاسات، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 49

فكتب عليه السّلام: «اجعل ثوبا للصلاة … » «1».

هذا و لكن يمكن الإشكال في دلالة الأخيرة مضافا إلي ضعف سندها بأنّها ناظرة إلي حال الاضطرار و ليس ببعيد.

و في التي قبلها بأنّها مخصوصة بما يؤخذ من سوق المسلمين الذي يحلّ لبسه حتّي في الصلاة، و لكنّه عليه السّلام احتاط احتياطا مستحبّا في حال الصلاة فقط، أمّا في غيرها فقد تركه لعدم لزومه، و الفرق بين الحالتين حسن حتّي بالنسبة إلي الإمام عليه السّلام.

نعم ما قد يتراءي من بعض الجهلة من التجنّب عن المحرّمات في صلاتهم أو حجّهم لا في غيرهما لا يناسب شأن المتديّن بالدين، فكيف بالأئمّة الهداة المهديين؟ و أين هذا من الاحتياطات المستحبّة.

و كون الإمام عليه السّلام عالما بالواقع لا ينافي ذلك أيضا، لأنّهم مأمورون بالعمل علي طبق الظواهر، و ما يعلمونه بالأسباب العادية في أعمالهم كما قرّر في محلّه، و به أجبنا عن كثير ممّا يورد علي مسألة علم الإمام عليه السّلام و آثاره في أحوالهم و أعمالهم (فتدبّر جيّدا).

و أمّا رواية الحسين بن زرارة فهي خارجة عمّا نحن بصدده، لأنّها ناظرة إلي طهارة جلد الميتة بالدباغة التي كانت فتوي كثير من العامّة و لا ربط لها بما نحن فيه.

و أمّا رواية الوشاء (الحسن بن علي) فيمكن حمل تلويث اليد و الثوب علي الحكمة لحكم تحريم الاستصباح، و لا أقل من احتماله، فتسقط عن الظهور.

فلم تبق إلّا روايتا البزنطي و سماعة.

أمّا الاولي ففيها عند جواب السؤال عن أليات الغنم المقطوعة قوله: نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها

و لا يبيعها، و أمّا الثانية ففيها الترخيص باستعمال جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت.

و لعلّ إطلاق الترخيص الظاهر في عدم وجوب الاجتناب عنه مع الرطوبة دليل علي أنّها كالجلد المدبوغ الذي كانوا يقولون بطهارته، فالمملوح كالمدبوغ.

قال في منتهي الارب: «كيمخت نوع من الجلود تدبغ باسلوب خاصّ».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 125، الباب 38، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 50

فلم يبق إلّا رواية البزنطي الدالّة علي جواز الاستصباح بما يقطع من أليات الغنم، و من المعلوم أنّها لا تقاوم ما دلّ علي الحرمة من جهات شتّي:

أوّلا: فلأنّها معرض عنها، فليست بحجّة في نفسها.

و ثانيا: إنّ أدلّة الحرمة أشهر رواية و فتوي، و إن أبيت إلّا عن حجيّتها و إمكان الأخذ بها، فلا أقل من أنّها أخصّ منها، فتخصّص بها، فلا يبقي مجال لنا في غير موردها، و لنعم ما قاله ابن إدريس بعد إيراد خبر البزنطي: «إنّه لا يلتفت إلي هذا الحديث فانّه من نوادر الأخبار، و الإجماع منعقد علي تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ» «1».

و قد يتوهّم إمكان الجمع بينهما بطرق اخري:

1- الجمع بالحمل علي الكراهة كما يظهر من بعض أعاظم العصر «2». و فيه إنّ هذا الجمع و إن كان معمولا بينهم في الفقه بين دليل المنع و دليل الترخيص، إلّا أنّ لسان دليل المنع هنا يأبي عنه، للاستنكار الشديد الوارد في قضية سودة بنت زمعة، و لو كان ذلك جائزا لما أنكره عليهم كذلك، و يؤيّده إعراض الأصحاب عن هذا الجمع هنا مع قولهم به في غير المقام.

2- حمل الروايات علي صورة التلويث، و أنت خبير بأنّ التلويث

في جميع موارده قهري، مضافا إلي أنّه ليس أمرا محرّما، و قد صرّح في رواية أبي القاسم الصيقل بالتلويث.

3- حمل روايات المجوّزة علي التقيّة.

و فيه أنّك عرفت ذهاب مشهور علماء العامّة إلي الحرمة.

4- حمل الأخبار المجوّزة علي ما لا تحلّه الحياة كالأصواف و الإنفحة و غيرها.

و فيه إنّه مخالف لصريح بعض الأخبار المجوّزة كما عرفت، للتصريح فيها بالجلود و الأليات.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي حكم بيعها، و من الواضح أنّ الانتفاع بها إذا كان حراما (كما

______________________________

(1). الحدائق الناضرة، ج 18، ص 79.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 69.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 51

هو الأقوي) لم يبق وجه لجواز بيعها، فإنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، بل لو قلنا بجواز الانتفاع بها كانت حرمة بيعها قويّة أيضا، للروايات المصرّحة بحرمة بيعها مثل ما يلي:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «1».

2- ما رواه حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر الزانية، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن» «2».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال: «لا، و لو لبسها فلا يصلّ فيها» «3».

4- ما رواه البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام

قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها» «4».

و قد صرّح فيها بحرمة البيع حتّي مع جواز بعض الانتفاعات إلي غير ذلك.

بقي هنا امور:

الأوّل: مقتضي القاعدة عدم جواز بيع المشتبهين بالميتة بعد قبول حرمة التصرّف في كلّ منهما، نظرا إلي تنجّز العلم الإجمالي.

و ما يظهر من بعضهم جواز التصرّف و أكل واحد منهما تخييرا عدول عمّا حقّق في محلّه من تأثير العلم الإجمالي «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 62، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 63، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 9.

(3). المصدر السابق، 65، ح 17.

(4). المصدر السابق، ج 16، ص 296، الباب 30، من أبواب الذبائح، ح 4.

(5). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 5، (حكاه عن بعض).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 52

و كذلك ما قد يقال من جواز قصد المذكّي منهما فإنّه حلال واقعا و له مالية «1». ممنوع بأنّ حرمته العرضية بمقتضي الحكم الظاهري تسقطه عن المالية قطعا، فلا يبذل بإزائه المال، و إذا حرّم اللّه شيئا حرّم ثمنه، و هكذا ما أفاده بعض محقّقي العصر من أنّ أدلّة الحرمة لو كانت النصوص و الإجماعات فلا شبهة في أنّهما لا يستحلّان صورة الاختلاط، لأنّه لا يصدق بيع الميتة علي ذلك مع قصد المذكّي «2»، لجريان ما ذكره في جميع موارد العلم الإجمالي، و لا يلتزم به، بل الظاهر إنّها تشمل الميتة الواقعية، و بضميمة حكم العقل و الشرع بوجوب الاحتياط يسري الحكم إلي المذكّي أيضا، و

لا سيّما أنّ المقام من المقامات التي تجري بعض الاصول النافية، أي أصالة عدم التذكية في كلا الطرفين.

و كذلك ما قيل من أنّ بيعهما من شخصين خال عن المحذور، فإنّه بالنسبة إلي كلّ منهما من قبيل الخروج عن محلّ الابتلاء «3».

و ذلك لأنّ كلّا منهما محلّ ابتلاء المشتري في كثير من الأوقات، سلّمنا، و لكن حرمة انتفاع البائع عنهما كاف في المنع عن البيع، فتأمّل.

و بالجملة لا يمكن تصحيح المسألة بشي ء من هذه، بل العمدة هنا ورود غير واحدة من الروايات المعتبرة الدالّة علي جواز بيع المشتبهين من خصوص من يستحلّ الميتة، و حكي عن المشهور الفتوي به:

منها: ما رواه الحلبي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه» «4».

و منها: ما رواه هو عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكي منها فيعزله، و يعزل الميتة، ثمّ أنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال: «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة، و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس» «5».

و مثله ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام «6».

______________________________

(1). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 5، (حكاه عن بعض).

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 72.

(3). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 72.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 67، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(5). المصدر السابق، ص 68، ح 2.

(6). المصدر السابق، ذيل ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 53

و هذه الروايات الثلاث كما تري ظاهرة الدلالة علي جواز البيع ممّن يستحلّه من

غير تفصيل.

و ذكر في «مفتاح الكرامة» بعد نقل هذا القول من النهاية و الوسيلة و الجامع و عن جمع آخر و بعد نقل الخبرين الأوّلين ما نصّه:

«فالخبران لمكان اعتبارهما و عمل جماعة بهما لا بدّ من تأويلهما، و ليس هو إلّا ما ذكره المحقّق و المصنّف قدّس سرّهما من الوجهين (و مراده من الوجهين ما ذكره المحقّق رحمه اللّه من قصد المذكّي، و العلّامة رحمه اللّه في المختلف من أنّه ليس بيعا بل استنقاذا لمال الكافر).

ثمّ قال: و بالغ المحقّق الأردبيلي و الفاضل الخراساني قدّس سرّهما فمالا إلي الإباحة، و لم يوجبا الاجتناب (انتهي موضع الحاجة) «1».

أقول: إن كان الخبران (بل الأخبار الثلاثة) معتبرة و عمل بها جمع من الأصحاب، فلما ذا لا نعمل بهما، و لما ذا نحملهما علي خلاف ظاهرهما من قصد المذكّي أو الاستنقاذ؟

بل يؤيّدها ما رواه الحفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «2».

و ما رواه عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم» «3».

و ما رواه زكريا بن آدم قال سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة … » «4».

نعم هو مخالف للقواعد، و لكن لا نأبي عن مخالفتها لها بعد ورود الدليل الخاص.

مضافا إلي أنّ كون الكفّار مكلّفين بالفروع بمجرّده، لا ينفع في المقام، ما لم ينضمّ إليه مسألة الإعانة

علي الإثم، و لكن كون المقام من قبيل الإعانة، أوّل الكلام، و إن كانت الكبري أعني حرمة الإعانة مسلّمة، بعد كون جميع ما يأكلونه و يشربونه حراما بناء علي نجاستهم،

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 20.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 68، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(3). المصدر السابق، ص 69، ح 5.

(4). المصدر السابق، ج 2، ص 1056، الباب 38، من أبواب النجاسات، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 54

و كون جميع ذبائحهم كذلك، و من الواضح انّهم ينتفعون دائما بما يكون ميتة عندنا، و من المعلوم جواز إعطائهم الماء و غيره من الغذاء و بيعها لهم، بل و بيع الحيوان الحي منهم … مع العلم بوصول النجاسة إليه من قبلهم قبل تناوله، أو عند ذبحه، و إن كان بين ما نحن فيه و بينه فرقا، من أنّ الحرمة في هذا المثال تنشأ من ناحية أنفسهم و بعد إعطائهم.

و لكن في مسألة اللحم غير المذكّي تنشأ الحرمة من ناحية البائع، و لكنّه مقرّب للمقصود.

و علي كلّ حال، لا يمكننا رفع اليد عن الروايات الكثيرة الدالّة علي المقصود المعمول بها بين الأصحاب، مع عدم مانع صريح عنها.

نعم ورد في حديث عن علي عليه السّلام: «أنّه يرمي بهما جميعا إلي الكلاب» «1» و لكنّه لا يقاوم ما ذكر، و يمكن حمله علي مورد لا يوجد أهل الذمّة أو حمله علي الكراهة.

ثمّ إنّ المبيع هنا هو المذكّي أو هما؟ ظاهر ضمير المفرد المذكّر هو الأوّل، و لكن لحن الحديث ناظر إلي جنس الحيوان، الأعمّ من المذكّي و غيره.

و من هنا يمكن التعدّي عنه إلي بيع سائر المحرّمات كالسمك الذي لا فلس

فيه، و ما يسمّي عندنا ب «خاويار» بناء علي حرمته كما هو المشهور، و غير ذلك من الأعيان النجسة، ما عدي الخمر و شبهها ممّا يعلم عدم جوازه علي كلّ حال.

فإنّ ظاهر الروايات عدم اختصاص الحكم بمورده، و إنّه ناشئ من استحلالهم لذلك، و لكن لا يخلو عن إشكال.

نعم يمكن دعوي أولوية ما عدا الميتة ممّا ذكرنا بالنسبة إليه، و لكن هذا مبني علي ما عرفت من كون المبيع كليهما لا المذكّي فقط، و المسألة محتاجة إلي مزيد تأمّل.

بقي هنا شي ء و هو أنّ الحكم هل يجري في المعلوم من الميتة فيحلّ بيعها ممّن يستحلّها؟

يمكن القول به، بناء علي رجوع الضمير إليهما، و لكنّه مشكل لعدم إمكان التعدّي بعد ظهور روايات الحرمة في عدم جوازه.

و لو قيل أنّ مرجع الضمير هو المذكّي فالأمر واضح.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 73، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 55

الثاني- في حكم أجزاء الميتة ممّا لا نفس له سائلة- لا إشكال في جواز بيعها، و قد ادّعي فيه الشهرة، بل عدم ظهور الخلاف فيه بيننا، و إن كان قد يظهر من شاذّ من العامّة عدم جوازه. هذا إذا كان له منفعة محلّلة مقصودة مثل كثير من الأسماك التي يرغب فيها لدهنها، أو للأدوية المأخوذة عنها، أو التسميد أو إطعام الطيور بها كما تداول كثير من ذلك في عصرنا، أو صنع غذاء مخصوص من مسحوق عظمها.

و الدليل عليه القاعدة التي مرّت عليك مرارا، و العمومات الدالّة علي صحّة البيع، المنصرفة إلي ما هو معمول لدي العقلاء، و أهل العرف، و قصور أدلّة المنع عنها للتصريح في كثير منها بالشاة أو السخلة أو الجلود أو الفراء أو غير

ذلك ممّا هو ظاهر في الميتة النجسة و ليس فيها ما يدلّ علي العموم، و لو كان، فهو منصرف إلي ما ذكر كما هو ظاهر.

الثالث- الأجزاء التي لا تحلّها الحياة لا إشكال في جواز بيعها لطهارتها و لعدم صدق الميتة عليها، كالشعر و الوبر و شبههما، و إن كان لنا كلام في بعض ما يعدها المشهور ممّا لا حياة فيه، كالعظام، لأنّ فيها حياة بلا ريب، و كذا السنّ و بعض القرن و بعض الظلف فانّ جميع ذلك ممّا يتألّم الحيوان بقطعها، و في العظام يكون هذا الألم شديدا بحيث يؤدّي كسر طفيف فيها لألم كثير، و يطلب تمام الكلام من محلّه.

الرّابع: المني

حرمة بيع المني و فساده ممّا لا خلاف فيه إجمالا بين العلماء، حتّي أنّ المحكي عن مشهور المخالفين ذلك، إنّما الكلام في تفاصيله.

فنقول: له ثلاث حالات: إذا وقع خارج الرحم، و إذا وقع فيه، و إذا كان في أصلاب الفحول.

أمّا بحسب القواعد فلا إشكال في فساد الأوّل، لعدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة، و المنافع النادرة لا أثر لها.

و ما قد يقال من عدم لزوم المالية في البيع من عجائب الكلام، لعدم صدق البيع عليه لا عرفا و لا شرعا.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 56

أمّا الثاني- أي ما وقع فيه- فهو أيضا كذلك، و العمدة فيه أنّه كالتالف و لا يعدّ كالبذر، لأنّ الولد تابع للأمّ في الحيوانات عرفا، و لا يؤخذ بنظر الاعتبار مالك الفحل الذي كان منه المني، و لذا لا يعامل مع الحيوانات التي تتولّد من الإناث معاملة مجهول المالك إذا لم يعرف صاحب المني، و لا يعدّ ملكا له إذا عرف صاحبه، و هذا ممّا استقرّت عليه

سيرة العقلاء من أهل العرف و الشرع.

و لعلّ الفرق بينه و بين البذر أنّ البذر أمر محسوس قابل لأن يعرف صاحبه، و أمّا النطفة التي صارت مبدء للتولّد غالبا فحالها غير معلوم في الحيوانات، و انتفاع النطفة من الامّ أكثر من انتفاع البذر من الأرض من جهة التغذية و غيرها ممّا أوجب هذا التفاوت في نظر العرف.

و أمّا ما ذكر من الأدلّة علي بطلان بيعه، كالنجاسة، و الجهل بالمقدار، و عدم القدرة علي التسليم، فلا اعتبار بها.

أمّا النجاسة فقد عرفت عدم موضوعيتها، و أمّا المعلومية و القدرة علي التسليم ففي كلّ شي ء بحسبه.

بقي الكلام في الثالث و هو ما في أصلاب الفحول، و هو المسمّي بالعسيب من مادّة «العسب» فانّه يطلق علي «الضراب» و علي مائه كما في اللغة، ففي صحّة بيعه خلاف بينهم.

قال الشيخ في الخلاف: إجارة الفحل للضراب مكروه، و ليس بمحظور و عقد الإجارة عليه غير فاسدة، و قال مالك: يجوز و لم يكره، و قال أبو حنيفة و الشافعي: إنّ الإجارة فاسدة، و الاجرة محظورة، دليلنا أنّ الأصل الإباحة فمن ادّعي الحظر، و المنع فعليه الدلالة، فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم «1».

و قال أيضا: بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه، و كذلك مني ما لا يؤكل لحمه.

و للشافعي فيه وجهان، دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّها تتضمّن ذكر البيض، فأمّا المني فإنّه نجس عندنا و ما كان نجسا لا يجوز بيعه و لا أكله بلا خلاف «2».

و لكن قال في التذكرة: «يحرم بيع عسيب الفحل و هو نطفته لأنّه غير متقوّم و لا معلوم و لا

______________________________

(1). الخلاف، ج 2، ص 73، المسألة

269، من البيوع.

(2). المصدر السابق، المسلة 270.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 57

مقدور عليه، و لا نعلم فيه خلافا» انتهي «1».

هذا و لكن ظاهر كلام الشيخ الفرق بين إجارة الفحل للضراب و بين بيع المني، و الثاني لا يجوز لنجاسته، و الأوّل جائز لعدم النهي عنه، و لعلّ الأوّل إكراء للمقدّمات و الاجتماع، و أمّا المني فهو تبع.

هذا و لكن لا إشكال فيه من ناحية القواعد، سواء الإجارة للضراب أو بيع المني الموجود في أصلاب الفحول، بعد كونه ممّا له منفعة محلّلة مقصودة. و عدم منع النجاسة عن صحّة البيع، و كون المعلومية و القدرة و تسليم كلّ شي ء بحسبه، و هي هاهنا حاصلة.

هذا من ناحية القواعد، امّا من ناحية النصوص الخاصّة فهنا روايات تدلّ علي الجواز منها:

1- ما رواه حنّان بن سدير قال: دخلنا علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا فرقد الحجّام إلي أن قال: فقال له: جعلني اللّه فداك أنّ لي تيسا أكريه فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه، فإنّه لك حلال، و الناس يكرهونه»، قال حنّان قلت: لأي شي ء يكرهونه و هو حلال؟ قال:

«لتعيير الناس بعضهم بعضا» «2».

و المراد بالتيس الذكر من المعز (ذو الشعر من الغنم).

2- ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) قال قلت له أجر التيوس، قال: «إن كانت العرب لتعاير به و لا بأس» «3».

و هاتان الروايتان مع قوّة الثانية من حيث السند و عمل الأصحاب بهما دليلان علي الجواز.

و لكن يعارضها روايات اخر، ظاهرها الحرمة، مثل:

1- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين (الصدوق رحمه اللّه) قال: نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم

عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب «4».

______________________________

(1). التذكرة، ج 1، ص 468.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 77، الباب 12، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 58

2- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عليه السّلام في حديث: «إنّ رسول اللّه نهي عن خصال تسعة: عن مهر البغي و عن عسيب الدابّة يعني كسب الفحل … » «1».

(و فيها النهي عن لبس بعض أنواع الثياب التي لا إشكال في كراهتها و إن كان أكثر ما فيها المحرّمات).

و الحديثان ضعيفان من جهة السند، و في منابع كتب حديث العامّة نقل هذا النهي (النهي عن عسيب الفحل) عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم.

3- و ما رواه في الجعفريات عن علي عليه السّلام قال: «من السحت: ثمن الميتة، و ثمن اللقاح، و مهر البغي، و كسب الحجّام … و عسب الفحل … » «2».

و لو فرض صحّة سند الحديث لم يمكن العمل به، لأنّ فيها أشياء كثيرة لا يمكن القول بحرمتها، منها ثمن اللقاح بناء علي كونه لقاح النخيل حتّي لا يلزم التكرار، و الهدية يلتمس أكثر منها، و جلود السباع، و جلود الميتة قبل أن يدبغ، و أجر صاحب السجن، و أجر الحاسب بين القوم …

و الجمع بين الروايات يقتضي الحمل علي الكراهة، لما فيها من القرائن، مضافا إلي ضعف الطائفة الثانية بلا إشكال.

ثمّ إنّ الحرمة و الكراهة هل هي في ثمن المني، أو أجر الضراب، أو كليهما؟ كلّ محتمل و لكن ترك الاستفصال في روايات الباب دليل علي جواز كون المني جزءا

علي الأقل، و قد ذكرنا في مباحث الإجارة أنّ تمليك مثل هذه الامور التبعية أو الضمنية في أبواب الإجارات كثيرة لا تنافي حقيقة الإجارة، كإجارة البستان، المشتملة علي تمليك ثمرتها، و إجارة الحيوان مع الانتفاع بلبنها، و المرضعة للإرضاع إلي غير ذلك.

بقي هنا شي ء، و هو إنّه كما يجوز اجرة الضراب أو بيع ما في أصلاب الفحول من الحيوان، هل يجوز ذلك في الإنسان أيضا؟

لا إشكال في أنّه متوقف علي وجود موارد المباح و الحلال هنا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 65، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 13.

(2). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 69، الباب 5، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 59

و تفصيل الكلام فيه إنّه لا ينبغي الشكّ في عدم جواز تلقيح المرأة بنطفة أجنبي لما يستفاد من مذاق الشارع من المنع من تداخل المياه، بل الحكمة في حرمة الزنا هي هذه، و إن لم تكن علّة يدور الحكم مداره وجودا و عدما.

و إن شئت قلت: هل تكون المقدّمات- أي الزنا- من أشدّ المحرّمات، و لكن ذا المقدّمة (انتقال الماء) و هو الأصل جائز؟ و أي فقيه يتفوّه بهذا الحكم؟

و يدلّ علي ذلك أو يؤيّده- مضافا إلي ما ذكر- ما ورد فيما عنونه صاحب الوسائل بعنوان باب تحريم الإنزال في فرج المرأة المحرّمة و وجوب العزل في الزنا منها:

1- ما رواه علي بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجلا أقرّ نطفته «نطفة عقاب» في رحم يحرم عليه» «1».

2- ما رواه علي بن الحسين قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لن يعمل ابن آدم عملا أعظم

عند اللّه عزّ و جلّ من رجل قتل نبيّا أو إماما، أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراما» «2».

و هاتان الروايتان تدلّان علي المطلوب بإطلاقهما من حيث استقرار الماء في الرحم بأي سبب كان، و حينئذ إذا لقّح امرأته بنطفة غيره عالما عامدا لم يجر أحكام الولد علي من يتولّد منها (الأحكام التي تتوقّف علي النكاح المحلّل) كما هو ظاهر.

نعم يجوز تلقيح الزوجة من ماء زوجها إذا لم يستلزم محرّما بأن كان بمعالجة الزوج نفسه، أو بطريق آخر لا يستلزم ذلك، و بذل المال حينئذ في مقابلة ممّا لا يخالف شيئا من القواعد و لا دليل علي فساده و بطلانه.

نعم لا شكّ في استفادة الكراهة الثابتة في ضراب الفحل بالنسبة إليه بطريق أولي.

فيجوز للطبيب المعالج أخذ الاجرة علي فعله إذا لم يرتكب محرّما، أو اقتضت الضرورة ذلك، أو فعل محرّما مقارنا له و نفس العمل كان حلالا، بل و يجوز للزوج أيضا ذلك علي أن يكون الماء تبعا أو جزءا، و قد يقال أنّ الروايات التالية تنافي ما ذكر:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، ص 239، الباب 4، من أبواب النكاح المحرّم، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 60

1- ما رواه محمّد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر و أبا عبد اللّه عليهما السّلام يقولان بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السّلام إذ أقبل قوم فقالوا يا أبا محمّد! أردنا أمير المؤمنين عليه السّلام قال و ما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأل عن مسألة قال: و ما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها فلمّا قام منها قامت بحموتها فوقعت

علي جارية بكر فساحقتها، فوقعت النطفة فيها، فحملت، فما تقول في هذا؟ فقال الحسن عليه السّلام: «معضلة و أبو الحسن لها، و أقول فان أصبت فمن اللّه، و من أمير المؤمنين، و إن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا اخطئ إن شاء اللّه: يعمد إلي المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أوّل وهلة لأنّ الولد لا يخرج منها حتّي تشقّ فتذهب عذرتها، ثمّ ترجم المرأة لأنّها محصنة، و ينتظر بالجارية حتّي تضع ما في بطنها و يردّ الولد إلي أبيه صاحب النطفة ثمّ تجلد الجارية الحدّ»، قال:

فانصرف القوم من عند الحسن عليه السّلام. فلقوا أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: ما قلتم لأبي محمّد؟ و ما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو أنّني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر ممّا قال ابني! «1».

و بهذا المضمون الروايات 2 و 3 و 4 و 5 من نفس الباب.

و وجه تنافي هذه الرّوايات مع ما ذكرنا من أنّ إلحاق الولد دليل علي جواز نقل النطفة، و فيه إشكال واضح فانّ إلحاق الولد بصاحب النطفة ناشئ عن عدم فعله أمرا محرّما و كان الولد بالنسبة إليه كولد الشبهة.

نعم لو كان صاحب النطفة هو الذي نقل النطفة أو بإذن منه لم يلحق، لأنّه كالعاهر، مضافا إلي أنّ بعض فقرات الرواية غير معمول بها عند الأكثر، و هو الرجم بالمساحقة، و لكن التفكيك بين الفقرات معمول بينهم.

الخامس: بيع الكلب
اشارة

الكلب علي قسمين: الهراش و غير الهراش، و الثاني علي أقسام، و المراد بالهراش هنا هو الكلب الذي لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة، و إن كان الهراش لغة بمعني سيئ الخلق أو

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 426، الباب 3، من أبواب حدّ السحق

و القيادة، ح 1- 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 61

العقور، و لكن النصوص و الفتاوي الآتية شاهدة علي ما ذكرنا.

أمّا الأوّل فبيعه حرام بالإجماع المدّعي في كلمات كثير من الأصحاب، و عن الشافعية و المالكية و الحنبلية حرّمته أيضا، أمّا عن الحنفية و بعض المالكية الجواز، أو الجواز مع الكراهة.

و الدليل عليه مضافا إلي ما ذكر روايات كثيرة: ما بين مطلق محمول علي خصوص الهراش بقرينة ما يأتي، و مقيّد دالّ علي المطلوب فلا تصل النوبة إلي البحث عن إسنادها و الكلام فيها صحّة و فسادا. أضف إلي ذلك أنّها لا منفعة لها محلّلة، فلا يجوز بيعها بمقتضي القاعدة التي عرفتها غير مرّة.

إنّما الكلام في غير الهراش، و هو علي قسمين.

«صيود» و «غير صيود». أمّا الأوّل فلا كلام بين الأصحاب في جواز بيعها، و ادّعي غير واحد منهم الإجماع عليه، و لم ينقل خلاف فيه إلّا عن ابن أبي عقيل، و إليه ذهب أكثر الجمهور كما عرفت.

و يدلّ علي الجواز روايات كثيرة واردة في الباب 14 من أبواب ما يكتسب به و هي:

ما رواه أبو عبد اللّه العامري قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال: «سحت و أمّا الصيود فلا بأس» «1».

و ما رواه محمّد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، ثمّ قال: و لا بأس بثمن الهرّ» «2».

و ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن كلب الصيد. قال: «لا بأس بثمنه و الآخر لا يحلّ ثمنه» «3».

و ما رواه أبو بصير أيضا عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 83، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 62

و ما رواه الوليد العماري قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد فقال:

«سحت و أمّا الصيود فلا بأس» «1».

و ما رواه الشيخ في (المبسوط) يجوز بيع كلب الصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الحائط مثل ذلك «2».

و ما يظهر من عبارات بعضهم من قصر الجواز علي السلوقي، كالشيخ في النهاية فهو غير مخالف لما ذكرنا، لعدم ورود التصريح بالسلوقي في شي ء من رواياتنا، فالمراد به مطلق الصيود، لأنّ «السلوق» كانت قرية في اليمن أكثر كلابها معلّمة، فنسب الصيود إليها، كما صرّح به غير واحد من الأكابر «3».

و الانصراف إليه كما تري بعد كثرة الكلاب المعلّمة في غيرها، مضافا إلي أنّ القاعدة التي عرفتها غير مرّة عامّة لما ينتفع به، و بالجملة أمر هذا القسم أظهر من أن يحتاج إلي مزيد بحث.

إنّما البحث و الكلام في أقسام اخر ممّا ينتفع بها من كلب الماشية و البستان و الزرع و حراسة البيوت، قد نشأت في عصرنا كلاب معلّمة اخري لشتّي الامور التي تكثر الحاجة إليها، منها كلاب البوليس، و كلاب كشف الأجساد تحت الإنقاض أو اكتشاف المخدّرات، و كلاب حراسة الأولاد، أو المستخدمة لاشتراء بعض الأشياء، أو غير ذلك، و لكن مورد الكلام بين الأصحاب

هو خصوص الكلاب الثلاثة و إن كان الحكم عامّا باعتقادنا.

و المشهور من الشيخ و من تأخّر عنه الجواز، و لكن كلام الشيخ نفسه متهافت، ففي بعض كتبه كالنهاية «4» منع من جواز بيعها، و في الخلاف جوّز في باب الإجارة و منع في باب البيع «5»، و في المبسوط بعد ذكر جواز بيع الكلب المعلّم للصيد قال: «و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 83، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 7.

(2). المصدر السابق، ص 84، ح 9.

(3). لسان العرب، ج 10، مادّة سلق.

(4). النهاية، ص 364، (باب المكاسب المحظورة … ).

(5). الخلاف، ج 2، ص 216، كتاب الإجارة، المسألة 43؛ كتاب البيع، ص 80، المسألة 302.

(6). المبسوط، ج 2، ص 166، كتاب البيع البيوع.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 63

و لكن عن غير واحد من قدماء الأصحاب عدم جواز بيعها، و إليه ذهب بعض من تأخّر، أو بعض المعاصرين، إنّما الكلام في الدليل علي ذلك لعدم كون الأقوال هنا و لو بلغت مبلغ الإجماع بكاف، كيف و لم تبلغ أكثر من الشهرة؟!

ادلّة المجوّزين:

و العمدة في أدلّة المجوّزين امور:

الأوّل: و هو الأصل في هذا الباب إنّ القاعدة تقضي صحّة بيع هذه الكلاب كلّها، لوجود المنافع المحلّلة فيها، لأنّهم متّفقون في جواز الانتفاع بها، و حينئذ لا يبقي مانع من جهة القواعد في صحّتها.

و لكن الكلام في أنّه هل قام علي خلاف هذا الأصل دليل، أم لا؟ غاية ما يمكن أن يقال إنّ مفهوم غير واحد ممّا ورد في جواز البيع في الكلب الصيود أنّ غيره ممنوع مطلقا، هراشا كان أم غير هراش.

منها ما رواه في

الصحيح محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» «1»، فإنّه عامّ بمنطوقه لما ذكر أجمع. و بهذا المضمون الأحاديث 1، 5، 6، 7 من الباب 14 و قد مضي ذكرها (إلّا أنّ الحديث رقم 5 بناء علي أنّ المراد بالآخر جميع أنواع الكلب غير الصيود، و الحديث رقم 6 و ان كان بمضمون الحديث رقم 5 إلّا أنّها رواية اخري نقلت عن رسول اللّه، بل هي أصرح، لأنّ فيها: ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت).

هذا غاية ما يمكن الاستدلال به علي الحرمة، إلّا أن يحمل غير الصيود علي الهراش، و هو تقييد بلا دليل، فان كان دليل المجوّزين هذا فهو ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

الثّاني: ما ورد في أبواب الدّيات- و لعلّه العمدة في الباب- من ثبوت الدّية في الصيود و الماشية و كلب الزرع و كلب الأهل و غير ذلك.

و من الجدير بالذكر إنّه جعل فيها الصيود و غيره في عرض واحد، و ورد الحكم فيها بلسان واحد، ممّا يدلّ علي كونها مشتركة في الأحكام.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 82، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 64

و هذه الروايات و إن اختلفت مضامينها و لكنّها معمول بها عند الأصحاب، و قد أفتوا بها في أبواب الدّيات، و ذكروا في حلّ اختلافها ما يطلع عليه من راجعها، (أوردها صاحب الوسائل قدّس سرّه في الباب 19 من أبواب ديات النفس) و إليك شطر منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دية الكلب السلوقي أربعون درهما، جعل ذلك له رسول اللّه صلّي

اللّه عليه و آله و سلم، و دية كلب الغنم كبش، و دية كلب الزرع جريب من برّ، و دية كلب الأهل قفيز من تراب لأهل» «1».

2- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيمن قتل كلب الصيد قال: «يقوّمه و كذلك البازي و كذلك كلب الغنم و كذلك كلب الحائط» «2».

و هذا دليل علي أنّ لكلّ منها مالية، و إذا كان كذلك فيجوز بيعها، و لكن المشهور كما حكي عنهم لم يعملوا بهذه الرواية، أي الرواية الثانية، بل أفتوا بمضمون الرواية الاولي، ففي كلب الصيود أربعون درهما، و في كلب الغنم كبش أو عشرون درهما (كما في الرواية الآتية) بعنوان الدّية.

3- ما رواه ابن فضّال عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دية كلب الصيد أربعون درهما، و دية كلب الماشية عشرون درهما، و دية الكلب الذي ليس للصيد و لا للماشية زنبيل من تراب علي القاتل أن يعطي و علي صاحبه أن يقبل» «3».

و ليس المقام مقام البحث عن خصوصياتها، و لكن الدّية هنا ليست إلّا خسارة قيمتها عيّنها الشارع تعبّدا في مقدار معيّن، و العجب ممّن قال بأنّ ثبوت الدّية لها في الشريعة لا يدلّ علي ملكيتها، فضلا عن جواز المعاوضة عليها، كما في دية الحرّ، بل لعلّه كاشف عن عدم ملكيتها، و إلّا لكان الثابت نقص القيمة، أو تخيير المالك بينه و بين الدّية كما في العبد و الأمة «4».

و فيه أوّلا: إنّ احترام الكلاب ليس إلّا لماليتها و لا يقاس بالحرّ و غيره.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 19، ص 167، الباب 19، من أبواب ديات النفس، ح 2.

(2). المصدر السابق،

ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 4.

(4). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 98.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 65

و ثانيا: إنّها دلّت علي الدّية في الصيود و غيرها علي نحو واحد و في سياق واحد، مع أنّ الصيود له مالية بلا إشكال.

و ثالثا: يمكن الجمع بين ما ورد فيها من التقييم و غيرها ممّا ورد في الدّية بالحمل علي التخيير، لو صحّت اسنادها، كما في العبد و الأمة.

و الإنصاف أنّ ظهورها في مالية هذه الكلاب ممّا لا ينكر، و الظاهر أنّ المشهور أيضا فهموا الحكم من هذه و أفتوا بها، و إلّا فظهور إطلاق حرمة البيع لا يمكن إنكاره.

الثالث: مرسلة الشيخ في المبسوط ممّا استدلّ بها غير واحد منهم حيث قال: و الكلاب علي ضربين أحدهما لا يجوز بيعه بحال و الآخر يجوز ذلك فيه، فما يجوز بيعه ما كان معلّما للصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك «1».

لكن أورد علي دلالته بأنّ هذه العبارة لم تكن في كلام المعصوم قطعا، و يمكن أن يجاب عنه بأنّه من قبيل النقل بالمعني، و هو غير قادح لا سيّما من مثل الشيخ قدّس سرّه.

نعم انجباره بعمل الأصحاب لا يخلو عن شبهة، لاحتمال استناد المشهور في الجواز إلي ما عرفت من أخبار الدّيات، نعم هو مؤيّد للمدّعي علي كلّ حال.

الرّابع: لا شكّ في جواز إجارة هذه الأنواع من الكلاب، و إذا أضفت إليه الملازمة بين جواز الإجارة و صحّة البيع كان دليلا علي المطلوب، و الإنصاف أنّه لا يتجاوز عن التأييد أيضا.

لا لأنّ الملازمة منقوضة بصحّة إجارة الحرّة و أمّ الولد- مع عدم جواز بيعهما، فإنّه قياس مع الفارق، لأنّ الكلام في إجارة الأعيان، لا الأشخاص،

و لأنّ أمّ الولد فيها مانع خاصّ مذكور في بابه، بل لأنّ الدليل علي الملازمة غير ثابت و ان كان مظنونا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الأحسن في بدء النظر بملاحظة الروايات الخاصّة الواردة في البيع عدم الجواز في غير كلب الصيد، و لكن نقل الجواز عن الأصحاب حتّي حكاه في المفتاح من 24 كتابا، مع دعوي الإجماع من بعضهم «2» و ما دلّ علي وجوب الدّية فيها، و غير

______________________________

(1). المبسوط، ج 2، ص 166، و أوردها صاحب الوسائل، في ج 12، ص 84، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 9.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 28، كتاب المتاجر.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 66

ذلك، و عدم كون هذه الامور تعبّدية في الغالب، و كون المنافع في غير الصيود أكثر، لأنّ الحاجة إلي كلب الماشية و الحارث و مثلهما أكثر جدّا، كلّ ذلك يصلح دليلا علي الجواز، و لا أقل من أنّه يوجب الوثوق بصدور رواية المبسوط، و كفي بذلك دليلا، هذا، و لكن مع ذلك الأولي عدم ترك الاحتياط.

بقي هنا امور:

1- إلحاق الكلاب المعلّمة في عصرنا بكلب الصيود غير بعيد، بل لعلّ الأمر فيها أسهل، لعدم وجودها في تلك الأعصار فلا تشمله روايات المنع، فيرجع إلي العمومات «فتدبّر».

2- هل المراد بالصيود ما يصيد بشخصه فعلا بأن يكون معلّما، أو بشخصه بالقوّة، كالجرو، أو بنوعه كنوع خاص من الكلاب القابلة للتعليم و إن لم يكن بشخصه قابلا؟

الظاهر انتفاء الأخير لعدم شمول ظاهر الإطلاقات له، إنّما الكلام في الأوّلين، و ظاهر تعبيرات الروايات مختلفة، بعضها ظاهرة في الفعلية كقوله «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» «1» بناء علي حمله علي الفعلية، و لكن

في بعضها الحكم بعنوان الصيود «2» أو كلب الصيد «3».

و هذا عام ظاهرا، و لكن لا يخلو عن إشكال، و لعلّه ظاهر في الملكة القريبة من الفعل، فلو لم يكن معلّما بالفعل يشكل بيعه.

3- يجوز هبة هذه الكلاب و لو معوّضة، و لو قلنا بحرمة بيعها، و كذا إجارتها أو إعطاء شي ء لرفع اليد عنها، حتّي يحوزها، نعم بالنسبة إلي الصلح الذي فائدته فائدة البيع أو يكون بيعا في محلّ البيع مشكل، و الدليل علي ما عرفت ظاهر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 83، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 67

السادس و السابع: الخمر و الخنزير
اشارة

لا يجوز بيعهما بالإجماع حتّي لدي أهل السنّة، و قد وردت روايات كثيرة في حرمة بيعهما و إليك بعض منها:

أمّا في مورد الخمر فمنها:

1- ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام فقال: « … و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر … » «1».

2- ما رواه سماعة عنه عليه السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة … و ثمن الخمر» «2».

3- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة … و ثمن الخمر» «3».

4- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثمن الخمر … من السحت» «4».

5- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: « … و ثمن الخمر سحت» «5».

6- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن

محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت … و ثمن الخمر» «6».

7- ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: « … و السحت أنواع كثيرة … و ثمن الخمر و النبيذ المسكر» «7».

8- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصر خمرا، ثمّ باعه. قال: لا يصلح ثمنه … و قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «8».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 61، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 62، ح 6. و مثله في ص 62، الباب 5، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 7.

(5). المصدر السابق، ح 8.

(6). المصدر السابق، ح 9.

(7). المصدر السابق، ص 64، ح 12.

(8). المصدر السابق، ص 164، الباب 55، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 68

9- ما رواه زيد بن علي عن آبائه عليهم السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة إليه» «1».

10- ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه في الخمر عشرة غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها» «2».

11- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه (في حديث المناهي) إنّ

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي أن يشتري الخمر و أن يسقي الخمر و قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه» «3».

12- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن ثمن الخمر قال: «أهدي إلي رسول اللّه راوية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع فلمّا أن مرّ بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم من خلفه: يا صاحب الراوية إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّت في الصعيد، فقال: ثمن الخمر … من السحت» «4». و ما رواه جرّاح المدائني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل السحت ثمن الخمر … » «5».

و أمّا «الخنزير» فتدلّ عليها أيضا روايات كثيرة:

1- ما رواه بعض أصحابنا عن الرضا عليه السّلام قال سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين، هل يبيع خمره و خنازيره و يقضي دينه؟ قال: «لا» «6».

2- و في مضمرة يونس في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلي أجل مسمّي ثمّ أسلم قبل أن يحلّ المال، قال: «له دراهمه»، و قال: أسلم رجل و له خمر أو خنازير ثمّ مات و هي في ملكه و عليه دين قال: «يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره و خنازيره و يقضي دينه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 164، الباب 55، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 165، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 165، ح 5.

(4). المصدر السابق، ح 6.

(5). المصدر السابق، ص

166، ح 7.

(6). المصدر السابق، ص 167، الباب 57، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 69

و ليس له أن يبيعه و هو حي و لا يمسكه» «1».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمرا أو خنزيرا إلي أجل، فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحلّ له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنّما له الثمن فلا بأس أن يأخذه» «2».

و لكن يعارضها روايات كثيرة دالّة علي جواز أخذ ثمن الخمر و الخنزير و أنّه يحلّ لآخذه و إن كان حراما لبائعه مثل:

1- ما رواه منصور قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: لي علي رجل ذمّي دراهم فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحلّ لي أخذها؟ فقال: «إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك» «3».

2- و ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في رجل كان له علي رجل دراهم فباع خمرا و خنازير و هو ينظر، فقضاه. فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال و أمّا للبائع فحرام» «4».

3- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا و خنزيرا ثمّ يقضي منها. قال: «لا بأس أو قال: خذها» «5».

4- و ما رواه محمّد بن يحيي الخثعمي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا فقال: «فلا بأس به، ليس عليك من ذلك شي ء» «6».

5- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يكون له علي الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا و خنازير

يأخذ ثمنه قال: «لا بأس» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 167، الباب 57، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 172، الباب 61، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 171، الباب 60، ح 1.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 3.

(6). المصدر السابق، ح 4.

(7). المصدر السابق، ص 172، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 70

و قد ذكر في وجه الجمع بينها وجوه:

1- الحمل علي ذمّيين- كما في الوسائل «1».

2- الحمل علي المنفعة المحلّلة كالخنزير لتربية الدواب، فقد يقال إنّه لو أنس الخيل به زاد سمنها و طاب حالها! و الخمر للتخليل!

3- و ربّما يتوهّم حمل المانعة علي التكليفي و المجوّزة علي الوضعي.

و الأخير لا شكّ في بطلانه لذكر الخمر فيها، و قد صرّح في روايات كثيرة بفساد بيع الخمر و حرمة ثمنها.

و الثاني أيضا بعيد، لإطلاق روايات الباب كما يأتي أيضا شرحه.

و أمّا الأوّل فهو غير بعيد، و لكن لا يساعده (2/ 60) للتصريح فيها بأنّه حرام للبائع، و ينافي تكليف الكفّار بالفروع أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال لهذه القاعدة بعض الاستثناءات «فتدبّر».

و يمكن طرحها أيضا، و بالجملة لا يمكن رفع اليد عمّا اشتهر رواية و فتوي، بل بلغ حدّ الإجماع من حرمتها وضعا و فساد بيعها بمثل هذه الامور.

بقي هنا امور:
الأمر الأوّل: بيع الخمر أو الخنزير؟

هل يجوز بيع الخمر أو الخنزير بقصد منافعهما المحلّلة كالتخليل في الخمر و تربية الدواب في الخنزير كما قد يقال؟

أمّا الثاني فالظاهر أنّه من المنافع النادرة، و أمّا الأوّل فهو و إن كان غير نادر، لأنّ الخلّ- كما يقول أهله- لا يكون إلّا من طريق الخمر، فالعنب دائما يتخمّر أوّلا ثمّ يتخلّل، و لكن ظاهر روايات التحريم عدم جواز بيعها، و كذا الخنزير مطلقا

و إن كان ظاهر كثير من روايات باب 31 من الأشربة المحرّمة «2» بل و صريحها جواز التخليل، و لذا أمر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 171، الباب 60، في ذيل ح رقم 2.

(2). المصدر السابق، ج 17، ص 296، طبع بيروت.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 71

باهراق ما اهدي إليه من راويتين من الخمر من رجل من ثقيف، و هي صحيحة محمّد بن مسلم و غيرها «1».

و القول بأنّ ذلك كان من احتمال شرب المشتري أو غير ذلك، مخالف لظاهره، فالظاهر عدم جواز بيعهما علي حال.

نعم قد يتوهّم الجواز ممّا ورد في رواية جميل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يكون لي علي الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا. فقال: «خذها ثمّ أفسدها». قال عليّ: «و اجعلها خلّا» «2».

و لكنّه توهّم فاسد، فإنّ غايته- مضافا إلي ضعف سنده، لأنّ فيه علي بن حديد- جواز الأخذ بقصد التخليل وفاء عن الدين، اللهمّ إلّا أن يقال: إذا جاز أخذه وفاء جاز شراؤه أيضا بهذا القصد، و هو باطل، لعدم الدلالة فيه علي هذا المعني بوجه.

و أمّا التوجيهان اللذان ذكرهما شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في مكاسبه من أخذها مجانا و تخليلها لصاحبها، ثمّ أخذها وفاء عن الدين، أو أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها لنفسه «3» فهما مخالفان لظاهر الرواية، اللهمّ إلّا أن يقال يجوز ذلك في مقام الجمع بينه و بين غيره من الأدلّة المانعة عن البيع و الشراء.

الأمر الثاني: في بيع الكحول (الكل)

هل يجوز بيع الكحول الذي يستفاد منه في الطبّ و كثير من الصناعات، أم لا؟ و هل هو نجس بناء علي نجاسة الخمر كما هو المشهور؟

أمّا

الثاني فهو فرع كونه مسكرا مائعا بالأصالة، و كون كلّ مسكر مائع كذلك نجسا.

أمّا الكبري فهو المشهور، و أمّا الصغري ففيه أنّه ليس من المسكر ظاهرا، بل هو من السموم القاتلة، نعم إذا رقّقت بإضافة الماء إليها قد يمكن شربها، و لكن هذا المقدار لا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 164، الباب 55، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 17، ص 297، طبع بيروت، الباب 31، من أبواب الأشربة المحرّمة ح 6.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 6، المسألة السابعة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 72

يخرجها عن عنوان السمّ فعلا و لا يدخلها تحت عنوان المسكر في هذا الحال.

و أمّا الأوّل فهو جائز بلا إشكال بعد عدم صدق عنوان الخمر و المسكر عليه، و قد نهي عن بيع الخمر بل و المسكر. نعم لو قلنا بأنّه مسكر أمكن دخوله فيما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول فقال: « … و السحت أنواع كثيرة منها اجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر … » «1».

حيث عطف المسكر علي النبيذ، و لكن المحكي عن بعض النسخ كون المسكر وصفا للنبيذ، و هو الظاهر، لأنّ النبيذ علي قسمين: مسكر و غير مسكر و هو:

ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: « … و السحت أنواع كثيرة … و ثمن الخمر و النبيذ المسكر … » «2».

نعم إذا كان وصفا أمكن الأخذ به فإنّه في مقام التعليل كرواية (12/ 5) فتأمّل.

و علي كلّ حال فالأمر في بيعها سهل كطهارتها علي الأقوي.

الأمر الثّالث: حكم المواد المخدرة

المواد المخدّرة الاخري إذا كانت جامدة كما هو الغالب، فهل يلحق بيعها

ببيع الخمر و إن لم تكن نجسة، بل و لا تستعمل كشراب، بل يتدخن بها أو تستعمل علي سبيل التزريق و الغرز، أم لا؟

و هنا امور:

أوّلها: لا شكّ في حرمة استعمالها، فإنّ فيها سكرا، و السكر له مراتب و أشكال قد يكون موجبا لاختلال الحواس جدّا و عدم القدرة علي حفظ التعادل مع نشاط كاذب، و قد يكون أخفّ منه و لا يوجب بعض هذه الامور، و لكن الظاهر أنّ في جميع المخدرات نوع من السكر، و لا أقل من جواز الأخذ بالملاك، فيحرم استعمالها، نعم قد يشكّ في بعض مصاديقها

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 61، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 64، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 73

من ناحية صدق السكر، أو يعلم بعدمه كالمواد الأفيونية، فلو قلنا بحرمتها فمن ناحية كونها موجبة للفساد و أنواع الضرر و ليس ببعيد، و قد ورد في روايات الباب التاسع عشر من الأشربة المحرّمة أنّ كلّ مسكر حرام مثل:

1- ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» «1».

2- و ما رواه علي بن يقطين عن أبي إبراهيم عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يحرّم الخمر لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها فما فعل فعل الخمر فهو خمر» «2».

3- و ما رواه محمّد بن عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام لم حرّم اللّه الخمر فقال: «حرّمها لفعلها و فسادها» «3».

4- و ما رواه أبو الجارود قال:

سألت أبا جعفر عليه السّلام عن النبيذ أخمر هو؟ فقال: «ما زاد علي الترك جودة فهو خمر» «4».

و دلالتها بلفظها أو ملاكها ظاهر.

ثانيها: لا ينبغي الشكّ في عدم دخولها تحت عنوان الخمر، فإنّ المتبادر منها ما يكون مائعا بالأصالة متّخذا من العنب، و علي فرض التعميم يشمل ما يتّخذ من غيره من الشراب أيضا، و أمّا هذه المواد الجامدة غير المشروبة فيبعد دخولها فيها جدّا، و لكن هذا لا يمنع عن حرمتها لما مرّ.

ثالثها: علي ما ذكرنا من حرمة استعمالها لا شكّ في حرمة بيعها، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، اللهمّ إلّا أن تكون لها منافع اخر معتدّة بها في الأدوية و شبهها، فحينئذ يجوز بيعها بعنوانها، إلّا أن تكون مظنّة للعون علي الفساد من ناحية المشتري و غيره، فلا يجوز من هذه الجهة، و إلّا فهي بعنوانها الأوّلي جائز البيع كما هو كذلك في بعض المواد الأفيونية التي تتّخذ منها الأدوية.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 273، الباب 19، من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 1، طبع بيروت.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 274، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 74

الأمر الرابع: الانتفاع بجلد الخنزير و سائر اجزائه

هل يجوز الانتفاع بجلد الخنزير أو شعره أو سائر أجزائه؟ و علي فرض الجواز هل يجوز بيعه لذلك؟

ظاهر غير واحد من القدماء و المتأخّرين جواز الانتفاع، و يمكن الاستدلال عليه بما ورد في أبواب المياه ممّا يدلّ علي ذلك، مثل:

1- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس» «1».

و السؤال و إن

كان عن الوضوء، و لكن فيه إمضاء الانتفاع ضمنا، و لا يهمّنا أنّ الوضوء بالماء انتفاع بالحبل، أم لا. كما أتعب بعض الأعلام نفسه في ذلك و لم يأت بما يروي الغليل «2» بل مدار الاستدلال إمضاء الانتفاع عن الحبل المتّخذ منه، و لكن حيث تدلّ هذه الرواية علي طهارة الماء القليل و لو لاقي النجس يشكل الاعتماد عليه، و إن كان هناك توجيهات لعدم نجاسة الماء أو عدم ملاقاته، و لكنّه بعيد جدّا «3».

2- ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلا و يستقي به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ فقال: «لا بأس» «4».

و هذه الرواية كسابقتها مضمونا و لا يبعد أن تكونا رواية واحدة.

3- ما رواه زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا و يستقي به الماء، قال: «لا بأس به».

4- و مثله ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا «5» و ظاهره الاستناد إلي الإمام عليه السّلام.

و يستفاد من مجموع هذه الروايات علي إختلاف مضامينها جواز الانتفاع بجلد الخنزير و شعره.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 1، ص 125، الباب 14، من أبواب الماء المطلق، ح 2.

(2). المكاسب المحرّمة، للإمام الخميني، ج 1، ص 77.

(3). و هذه التوجيهات نقلها الوسائل في ذيل ح السابق (2/ 14).

(4). وسائل الشيعة، ج 1، ص 126، الباب 14، من أبواب الماء المطلق، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 129، ح 16.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 75

إن قلت: جلد الخنزير من الميتة. قلنا: الانتفاع به مستثني بهذا، أو إنّ الميتة ما مات حتف أنفه لا ما لم يذكّ كما حرّرناه

في محلّه.

أضف إلي ذلك ما ورد في الباب 58 من أبواب ما يكتسب به مثل:

1- ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّ رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير قال: «إذا فرغ فليغسل يده» «1».

و السؤال فيه و إن كان ظاهرا عن طهارته و نجاسته، و لكن يعلم المقصود من فحواه.

2- و ما رواه بردّ الإسكاف قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال:

«خذ منه فاغسله بالماء حتّي يذهب ثلث الماء و يبقي ثلثاه، ثمّ اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به و إن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به، و اغسل يدك إذ مسسته عند كلّ صلاة»، قلت: و وضوء؟ قال: «لا اغسل يدك كما تمسّ الكلب» «2».

3- و ما رواه بردّ الإسكاف أيضا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام إنّي رجل خرّاز و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به، قال: «خذ منه و بره فاجعلها في فخارة، ثمّ أوقد تحتها حتّي يذهب دسمها ثمّ اعمل به» «3».

4- و ما رواه برد الإسكاف أيضا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّي و في يده منه شي ء. فقال: «لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شي ء، فقال: خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه» «4».

و لعلّ هذه الروايات الثلاثة واحدة و ان نقلت بعبارات مختلفة.

ثمّ إنّه إذا حلّ شي ء من جهة منافعه حلّ ثمنه.

و من المعلوم أنّ أدلّة حرمة بيع الخنزير لا

تشمل هذه الأجزاء لا سيّما مع كون المقصود منه اللحم و كون هذه الامور تبعا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 167، الباب 58، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 168، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 76

الأمر الخامس: في حكم العصير العنبي إذا غلي

قد ذكرنا في أبواب الطهارة و النجاسة أنّ غليان العصير كأنّه لفظ مشترك مستعمل في معنيين مختلفين جدّا:

1- الغليان بنفسه، و هو النشيش الذي يكون مقدّمة للتخمير و الإسكار.

2- الغليان الحاصل بالنار الذي ليس كذلك، و ما أبعد بين النوعين من الغليان من حيث الواقع و الأثر.

و بالتعبير العصري أنّ الأوّل من قبيل التغييرات الكيمياوية، و الثاني من قبيل التغييرات الفيزيائية، ففي الأوّل تتبدّل ماهية العصير بشي ء آخر، و في الثاني لا يتغيّر إلّا ظاهره، بل قد لا يتغيّر ظاهره أيضا، فقد قال أهل الفنّ إنّ المواد الحلوة تنجذب بالمواد المخمّرية، و هي خليات حيّة، فتوجب التحليل فيها، فتنقلب إلي المواد الكحولية، و غاز الكربن، و هذا الغاز هو الذي يوجب النشيش، و هو المسمّي بغليان الخمر، و في هذا الحال يتغيّر طعمه، و كما ورد في كلماتهم في الباب «يشتدّ» و كذا تتغيّر رائحته، و هذا يوجب حرمته و نجاسته، لأنّه مسكر مائع.

و في روايات الباب 3 من الأشربة المحرّمة تجد شاهد صدق لنجاسة الخمر و كما هو المشهور و المعروف، و إليك شطر من هذه الروايات:

1- ما رواه محمّد بن عاصم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا بأس بشرب العصير ستّة أيّام». قال ابن أبي عمير معناه ما لم يغل «1».

2- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: سألته عن شرب العصير قال:

«تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه» قلت: أي شي ء الغليان؟ قال: «القلب» «2».

3- و ما رواه ذريح قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إذا نشّ العصير أو غلا حرم» «3».

و قد ثبت عندهم أنّ المواد الحلوة لا تنقلب بالكحول إلّا إذا كان فيه كمية وافرة من

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 229، الباب 3، من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 2، (و في هامشه: يعني بنفسه لا بالنار بقرينة ذكر ستّة أيّام).

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 77

«الماء» و لذا لا ينقلب العصير خمرا بعد الثلثين.

و أمّا الثاني، أي الغليان بالنار فانّه لا يوجب أي تغيير كيمياوي، و قد ذكرنا في محلّه من كتاب الطهارة إنّه لا يوجب إلّا الحرمة لا النجاسة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي حكم بيعه، سواء قلنا بحرمته أو بنجاسته أيضا، و قلّما تعرّض له الأكابر كما اعترف به بعض المحقّقين فالمسألة غير محرّرة في كلمات القدماء، و ذكر العلّامة الأنصاري قدّس سرّه إنّه لم يخالف فيه صريحا إلّا في مفتاح الكرامة «1» «2».

و حاصل ما استدلّ به لحرمة بيعها بعد الغليان امور:

أوّلها: نجاستها و قد عرفت غير مرّة أنّ مجرّد النجاسة (علي القول به هنا) لا يوجب فساد البيع إذا كانت له منافع محلّلة اخري كما في المقام و هو ذهاب ثلثيه ثمّ شربه.

ثانيها: حرمتها و عدم ماليتها شرعا، فلا يجوز بذل المال بازائها، و فيه إنّها مال معيوب كما صرّح به شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه «3» و يظهر من غيره.

و لذا لا يضمن من غلاه إلّا ارش العيب، بل قد

لا يكون هذا عيبا بل حسنا إذا ذهب مقدار من مائه و قربت الطهارة فلا ارش، و إن فعل حراما للتصرّف في مال غيره بغير إذنه، و قياسه علي الخمر المغصوبة القابلة للتخليل قياس مع الفارق، و إن ذكره في جامع المقاصد «4».

و علي كلّ حال فهذا دليل علي الصحّة، لأنّ المالية و المنفعة المعتدّة بها ثابتة فيها فيصحّ بيعه.

ثالثها: روايات عديدة منها:

1- ما رواه أبو كهمس قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير، لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة، و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي، قال عليه السّلام: «لا بأس به، و إن غلا فلا يحلّ بيعه» ثمّ قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا» «5».

______________________________

(1). المكاسب، ص 8، المسألة 3.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 18.

(3). المكاسب، ص 8، المسألة 3.

(4). جامع المقاصد، نقلا عن المكاسب، ص 8، المسألة 3.

(5). وسائل الشيعة، ج 12، ص 169، الباب 59، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 78

و لعلّ ظاهر غليانه بنفسه بقرينة إسناد الفعل إلي العصير نفسه، و بقرينة ذيله الدالّ علي أنّ الكلام في التخمير، و لكن سند الرواية ضعيف بأبي كهمس، و مضمونها أيضا منكر، لأنّ بيع العنب ممّن يعمله خمرا لو فرض جوازه يبعد صدوره من الإمام عليه السّلام جدّا.

2- و ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال عليه السّلام: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس» «1».

فانّ قوله «و هو حلال» دليل

علي عدم جواز بيعه إذا كان حراما.

و فيه: إنّ الظاهر أنّ المراد منه الحرمة للخمرية، و لا نظر له إلي حالة الغليان بالنار جدّا، هذا مضافا إلي ضعف سندها بعلي بن أبي حمزة.

و ما رواه في سؤاله من قوله «ليطبخه» كأنّه إشارة إلي ما يطبخ من العصير للشراب، و يسمّي بالفارسية (مي پخته و باده) و إلّا الطبخ للشيرج ممّا لا إشكال به، و لا يحتاج إلي السؤال، أضف إلي ذلك إنّه حكي عن بعض نسخ التهذيب و الكافي «فهو حلال» بدل «و هو حلال» فيكون كالصريح في كون الجواب عمّا لا يكون خمرا أو يكون خمرا.

3- و ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن «الطلا»، فقال: «إن طبخ حتّي يذهب منه اثنان و يبقي واحد فهو حلال، و ما كان دون ذلك فليس فيه خير» «2».

4- و ما رواه محمّد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّي يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟ فقال عليه السّلام: «إذا تغيّر عن حاله و غلا فلا خير فيه حتّي يذهب ثلثاه و يبقي ثلثه» «3».

و طريق الاستدلال بهما واحد، و هو نفي الخير فيهما عن العصير المغلي.

و فيه- مضافا إلي ضعف الأوّل بعلي بن أبي حمزة، و الثاني بالإرسال- إنّ نفي الخير ظاهر في عدم إمكان الانتفاع به قبل ذهاب الثلثين بالشرب، و أوضح شاهد علي ذلك

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 169، الباب 59، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). وسائل الشيعة، ج 17، ص 226، الباب 2، من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7.

أنوار

الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 79

السؤال عن الحليّة في الأوّل (أ هو حلال) و عن الشرب في الثاني (أ يشربه صاحبه) فلا خير فيه من حيث الشرب، فشي ء من هذه لا يكون دليلا علي حرمة البيع، فالظاهر جواز بيعه، نعم بيعه ممّن يستحلّ شربه قبل ذهاب الثلثين لا يخلو من إشكال، و لكنّه أمر آخر لا دخل له بما نحن بصدده.

الامر السادس: حكم بيع المتنجّسات
اشارة

المشهور أنّ المتنجّسات إذا لم تقبل التطهير لا يجوز بيعها و إن قبلت التطهير جاز، هذا و لكن هنا تفصيل، حاصله: إنّ المتنجّس علي أنحاء:

1- ما لا يقبل التطهير مع توقف منافعه المعتدّ بها عليه، كالمائعات المضافة المشروبة.

2- ما لا يقبل ذلك، و لكن بعض منافعها المعتدّ بها غير متوقّفة علي الطهارة، كالدهن المتنجّس الذي يمكن الانتفاع به للتطهير و الاستصباح و الصابون و غيرها.

3- ما يقبل التطهير سواء كانت منافعه متوقفة علي الطهارة كالفواكه و شبهها و ما لا يتوقّف كالفرش و المراكب و غيرها.

أمّا الأوّل: فيدلّ علي عدم صحّة بيعها الأصل السابق، و أنّه لا مالية له شرعا يقابل بالمال، أضف إلي ذلك الروايات الواردة في الزيت و السمن و العسل التي مات فيه جرذ، أو شبه ذلك، و إليك شطر منها، و هي روايات أوردها في الوسائل في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به و أبواب النجاسات:

1- ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل؟ فقال: «أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به» «1».

2- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت

فيه فإن كان جامدا فالقها و ما يليها، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به و الزيت مثل ذلك» «2».

3- و ما رواه أبو بصير قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 66، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 80

فتموت فيه. فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها، و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائبا فاسرج به و اعلمهم إذا بعته» «1».

4- و ما رواه معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2».

5- و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان و أنا حاضر، عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال:

«أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له، فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا، و أمّا السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامدا» «3».

و دلالة هذه الأحاديث المتظافرة علي المقصود من وجهين:

من أنّه أمر بطرح الجرذ و ما حوله من السمن و العسل.

و من أنّه أمر ببيع الزيت للاستصباح، فلو لم تكن له هذه المنفعة الغالبة لم يجز بيعه.

6- و ما رواه زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة

خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله». قلت: فانّه قطر فيه الدم. قال: «الدم تأكله النار إن شاء اللّه … » «4».

و ما ورد في العجين النجس من أنّه يدفن و لا يباع، أو يباع ممّن يستحلّ الميتة ظاهر في عدم جواز بيعه من مسلم مثل:

7- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يدفن و لا يباع» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 66، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). وسائل الشيعة، ج 2، ص 1056، الباب 38، من أبواب النجاسات، ح 8.

(5). وسائل الشيعة، ج 12، ص 68، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 81

8- و ما رواه الحفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «1».

إلي غير ذلك من الروايات.

أمّا الثّاني: فجوازه ممّا لا ينبغي الكلام فيه، و يدلّ عليه مضافا إلي أنّه مقتضي القاعدة الروايات الكثيرة السابقة (الباب 5 من أبواب ما يكتسب به) و كذا الروايات الواردة (في الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرّمة) فإنّها تدلّ علي جواز الانتفاع بها لبعض المنافع كالاستصباح أو التدهين.

و الغاء الخصوصية منها أمر ممكن جدّا، بالإضافة إلي أنّ ما تحلّ منافعه يحلّ ثمنه، و بهذا يتمّ المطلوب.

و يدلّ عليه أيضا الروايات الخاصّة (3 و 4 و 5 في الباب 6 من أبواب ما

يكتسب به التي مرّ ذكرها آنفا) و كلّها أو جلّها ضعاف من حيث السند، و لكنّها متظافرة مع عمل الأصحاب بها حتّي ادّعي الشيخ في الخلاف الإجماع في مسألة الدهن «2».

و الظاهر الغاء الخصوصية من موردها، و بالجملة أصل المسألة ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في الخصوصيات الآتية إن شاء اللّه.

أمّا الثالث فهو أظهر و أوضح، و تبيّن لك دلائله في باب العصير العنبي إذا غلا.

بقي هنا امور:
الأوّل: هل يجب قصد المنفعة المحلّلة عند البيع أو الشراء، أم لا؟

و قد عنونه القوم في خصوص بيع الأدهان، و الاولي تعميم البحث لعموم أكثر أدلّته.

و الكلام فيه تارة بحسب القواعد، و اخري بحسب بعض ما مرّ من الروايات الخاصّة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 68، الباب 7، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). الخلاف، ج 2، ص 83، المسألة 312.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 82

أمّا الأوّل فقد يقال بالجواز مطلقا من دون أي شرط (اختاره العلّامة الخوئي قدّس سرّه) «1».

و اخري باعتبار القصد أو الشرط، و القائلون به علي مذاهب و العمدة ما يلي:

1- كفاية قصد المتبايعين للاستصباح كما في الخلاف «2».

2- كفاية قصد المنفعة المحلّلة إلّا إذا كانت شائعة، كما اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «3».

3- لزوم اشتراط ذلك علي المشتري كما عن السرائر «4».

4- و قد يقال إنّ المنفعة المحلّلة إذا كانت غير نادرة كالاستصباح في الأدهان توجب ماليتها من غير حاجة إلي قصدها، نعم إذا كانت نادرة لا يجوز بيعها إلّا بقصدها، لأنّ الشارع جعل لها المالية باعتبارها بعد أن لم تكن، فإذا لم نقصد تلك المنفعة لم تندرج تحت عنوان المال، فأكل المال بإزائها أكل له بالباطل «5».

أقول: و قد عرفت أنّ الأولي أن نتكلّم عنه لا بعنوان خصوص الدهن، بل

بعنوان جميع الأعيان المتنجّسة، و الحقّ بحسب القواعد هنا تفصيل آخر و هو أن يقال: إنّ الأعيان المتنجّسة علي أقسام:

1- قسم لها منافع محلّلة لا تقصر عن منافعها المحرّمة كبعض الأدهان التي يكون أكلها و الاستصباح بها سواء، فهذا يجوز بيعه بلا اشتراط و لا قصد خاصّ لعدم دليل علي وجوب القصد فيه.

2- ما لا يكون له منفعة محلّلة معتدّ لها، كالمرق المتنجّس الذي لا يمكن إطعام الحيوانات منه كثيرا، و قلنا بعدم جواز إطعامه للصبي، و هذا لا يجوز بيعه، و لا يتصوّر إعطاء المالية له من قبل الشارع بعد أن لم تكن له منفعة محلّلة معتدّ بها.

إن قلت: كما يجوز إسقاط مالية بعض الأشياء من لدن الشارع الحكيم جاز له إعطائها لبعضها الآخر.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 111.

(2). الخلاف، ج 2، ص 83، المسألة 312.

(3). المكاسب، للشيخ الأنصاري، ص 9.

(4). المكاسب، للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 9.

(5). انظر مصباح الفقاهة، ج 1، ص 111.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 83

قلت: هذا غير صحيح، لأنّ تحريم المنافع المعتدّ بها يجعلها كالعدم فلا تكون له منفعة، و لكن جواز بعض المنافع النادرة لا يجعلها غالبة، لأنّ الحليّة شي ء، و الغلبة شي ء آخر، فالفرق بين المسألتين غير خفي علي من تدبّر و دقّق النظر، فلا تحصل المالية بمجرّد تحليل المنافع النادرة.

3- قد يكون لشي ء مراتب من المالية، فالدهن المأخوذ من الزبد باعتبار حليّة أكله له مالية عالية، و باعتبار حليّة الاسراج به أو صنع الصابون له مالية ذاتية، فبالأوّل يبذل بازائه مال كثير، و بالنسبة إلي الثاني لا يبذل له إلّا القليل، فلو فسد بحيث لا يصلح إلّا للإسراج به، فلو بيع بعنوان إنّه

دهن مأكول كان أكل المال بازائه أكلا بالباطل، فليس القصد و الاشتراط بنفسه شيئا، بل المعيار علي أخذ العوض في مقابله بعنوان أنّه مأكول أو غير مأكول، و حينئذ لا يخلو بيعه عن الإشكال إذا جعل الثمن بعنوان أنّه مأكول، فتأمّل.

أمّا من الجهة الثانية فقد ورد في روايتين ما قد يستفاد منه الاشتراط، أو لزوم القصد و هما:

ما رواه معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «1».

و ما رواه عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان و أنا حاضر عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا، و أمّا السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به و العسل كذلك إن كان جامدا» «2».

و الرواية الثانية ضعيفة لمحمّد بن خالد الطيالسي، و لكن سند الأوّل لا بأس به.

هذا و قد يجاب عنهما بأنّ الإسراج فيهما من قبيل الغاية، لا من قبيل الشرط، فإنّه أمر بالتبيين للمشتري و جعل ذلك نتيجة له، فاللازم هو التبيين، و أمّا الإسراج فهو عمل يتفرّع عليه إذا علمه المسلم.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 66، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 67، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 84

و يمكن أن يكون ناظرا إلي ما ذكرنا، و هو

أن يعامل معه معاملة دهن السراج و تكون ماليته بهذا العنوان، فلا يكون دليلا علي وجوب الإشراط.

الثاني: هل يجب إعلام المشتري بذلك؟

و علي فرض الوجوب هل هو واجب نفسي أو شرطي؟

الظاهر أنّ المشهور بين المتأخّرين هو الوجوب، و قال في الحدائق بأنّ الظاهر من قواعد الأصحاب هو صحّة البيع، و إن أثم بالمخالفة لأمر الشارع، و يتخيّر المشتري بعد العلم، ثمّ نقل عن المسالك الإشكال في الجواز.

و العجب أنّه مال في آخر كلامه إلي عدم الوجوب مع تصريحه بدلالة غير واحد من الأخبار عليه، لظهور بعض الأخبار الواردة في أبواب الطهارة بكراهة الأخبار (في مثل عارية الثوب و شبهه) و أعجب منه تأييده بما ذهب إليه من أنّ الطهارة و النجاسة ليستا أمرين واقعيين، بل تابعان لعلم الشخص و عدمه «1» مع وضوح الروايات في المقام، مضافا إلي أنّ الحقّ كونهما أمرين عرفيين قبل أن يكونا شرعيين، و إن كان الشارع تصرّف فيهما من بعض الجهات، أ ليست القذارة أمرا مشهودا في الخارج يدركه كلّ أحد، و لا يتّبع علمنا و جهلنا و إن تصرّف في بعض مصاديقها الشارع المقدّس، و ليت شعري لما ذا بعدت أذهانهم عمّا تلقّاه العرف الساذج من متون الآيات و الروايات في هذه الامور؟ و تمام الكلام في محلّه.

و كيف كان، الكلام قد يكون من ناحية القواعد، و اخري من ناحية النصوص الخاصّة، و لنقدّم الكلام في الثاني لاختصاره و اختصاصه بالدهن و إن كان إلغاء الخصوصية منه ممكنا، ثمّ نتكلّم فيه بعد تمام المسألة بعنوان مستقل.

فنقول: هناك روايات عديدة دالّة علي وجوب الإعلام (منها الرواية 4/ 6 و 5/ 6 اللتان مرّت عليك حديثا) و منها:

ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد

اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه. فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائبا فاسرج به و اعلمهم إذا بعته» «2».

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 90- 92، (الفائدة الرابعة).

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 66، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 85

ففي الرواية الاولي قال الإمام عليه السّلام: «أعلمهم إذا بعته» و في الثانية «بيّنه لمن اشتراه» و في الثالثة «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له» و دلالتها علي أصل الوجوب ظاهرة.

قد يقال: إنّ الظاهر هنا هو الوجوب النفسي لا الشرطي، مع أنّ الأوامر و النواهي في هذه الأبواب إرشاد إلي الصحّة و الفساد غالبا، و منه يظهر ضعف كلام من قال أنّ الأمر ظاهر في الوجوب النفسي إلّا بقرينة، فإنّ ذلك و ان كان محقّا في أبواب الأوامر من الاصول، إلّا إنّه انقلب هذا الظهور في أبواب المعاملات، و كذلك في أبواب الاجزاء و الشرائط للعبادات انقلب الظهور إلي الوجوب الشرطي كما ذكر في محلّه.

و هناك دليل آخر لهم، و هو أنّ قوله «لمن اشتراه» بصيغة الماضي دليل علي كون الإعلام بعد البيع، و لكن من الواضح أنّه ليس المراد لزوم كونه بعده بحيث لو كان قبله لم يجز، بل المراد من هذا التعبير هو المشتري، و لذا صرّح في رواية قرب الاسناد: «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج» الظاهر في كون الإعلام قبله.

الإنصاف أنّه إن قلنا بوجوب قصد المتبايعين للمنفعة المباحة أو لزوم اشتراطه في البيع، لا يبقي كلام من هذه الجهة، لملازمته للإعلام، و كذا لو

قلنا بأنّ المالية لا بدّ أن تكون بعنوان المنفعة المباحة قلّت أو كثرت (كما هو المختار) فانّه أيضا لا ينفكّ عن الإعلام.

و أمّا إذا قلنا بعدم اعتبار شي ء من ذلك فيمكن أن يقال ظاهر الأدلّة، الوجوب الشرطي، إلّا أن يقال ظهور الأمر في هذه المقامات في الوجوب الشرطي إنّما هو إذا كان بصدد بيان أركان البيع، لا ما إذا كان شيئا في جنبه كما في المقام، لا سيّما مع أنّه عليه السّلام بيّن الغاية من الإعلام، فهو طريق إليها، فحينئذ الأقوي هو الوجوب النفسي فقط.

الثّالث: هل يشترط أن يكون الإسراج تحت السماء؟

المشهور بين الأصحاب اعتبار ذلك، (و لكن المحكي عن المشهور بين العامّة جوازه مطلقا في غير المسجد) و استدلّ بعضهم له ببعض الامور الواهية من لزوم تنجيس السقف مع وضوح بطلانه، و لو وجب كان تعبّدا.

و لكن ذكر الشيخ في الخلاف ما هذا لفظه:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 86

لا يجوز بيع الزيت النجس، لمن يستصبح به تحت السماء، و قال أبو حنيفة يجوز بيعه مطلقا، و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال … و روي أبو علي بن أبي هريرة في الإفصاح أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أذن في الاستصباح بالزيت النجس … «1».

و العمدة فيه مرسلة الشيخ في المبسوط حيث قال: روي أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف «2» مع تأييدها بعمل المشهور حتّي ادّعي الإجماع عليه.

و لعلّ هذا المقدار كاف في غير المقام، و لكن هنا مشكل، لخلو روايات الباب مع كثرتها و ورودها مورد العمل، و من البعيد وجوبه مع إهمال ذكرها في جميع هذه الروايات البالغة حدّ الاستفاضة.

هذا و يظهر من عبارة الشيخ في المبسوط أمران:

«الأول»

عدم ظهور هذه الرواية في الحرمة و «الثاني» عدم وضوحها في المولوية حيث قال بعد ما عرفت: «و هذا يدلّ علي أنّ دخانه نجس، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه … و قال آخرون الأقوي أنّه ليس بنجس».

و مع هذا كيف يمكن الفتوي برواية لا سند و لا متن لها في مقابل تلك الروايات الكثيرة المطلقة؟!

قاعدة حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع:

ذكر شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بمناسبة مسألة وجوب إعلام المشتري بنجاسة الدهن هذه القاعدة علي وجه عام، و حيث أنّها من أهمّ ما يبتلي به، فلا بأس ببسط الكلام فيه.

و الأولي قبل كلّ شي ء ذكر الأقسام في المسألة، فنقول:

ذكر الشيخ رحمه اللّه تعالي في المقام ما حاصله: إنّ هنا امورا أربعة:

______________________________

(1). الخلاف، ج 2، ص 83، المسألة 312.

(2). نقلا عن المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه ص 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 87

أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره علي المحرّم، و لا شكّ في حرمته.

ثانيها: أن يكون فعله سببا، كمن قدّم إلي غير طعاما محرّما فأكله بنفسه، و الأقوي فيه أيضا التحريم، لأنّ استناد الفعل إلي السبب هنا أقوي (من المباشر لجهله).

ثالثها: أن يكون شرطا لصدور الحرام، ثمّ قسّمه إلي قسمين: ما يكون من قبيل إيجاد الداعي إلي المعصية، لحصول الرغبة فيها أو العناد الموجب لها، ثمّ قال: و الظاهر حرمة القسمين.

رابعها: ما يكون من قبيل عدم المانع، و هو تارة يكون مع الحرمة الفعلية في حقّ الفاعل و يدخل في أدلّة النهي عن المنكر.

و اخري مع عدمها، و استشكل في وجوب الردع هنا، إلّا إذا علم من الخارج بوجوب دفع هذا المنكر كيفما كان كإراقة الدم

المحرّم ممّن هو جاهل به، و كذلك الأعراض و الأموال المهمّة، نعم بالنسبة إلي الجهل بالحكم يجب الإعلام من باب إرشاد الأهل (انتهي ملخّصا) «1».

و كأن فيه الخلط بين محلّ الكلام و ما هو خارج عنه، فإنّ ظاهر كلامه قدّس سرّه أنّ الأقسام الثلاثة الاولي أعمّ من صورة العلم و الجهل أو مختصّة بصورة العلم، و هو كما تري.

و الأحسن أن يقال: تارة يفرض علم المباشر بالحكم و الموضوع و اخري جهله، و الأوّل خارج عن قاعدة الغرور، و الثاني- أعني الجاهل- قد يكون في الحكم، و اخري في الموضوع، و ثالثة في كليهما.

و من الواضح خروج غير الجهل بالموضوع من محلّ الكلام، لعدم الشكّ في وجوب إعلام الجاهل بالحكم لآية النفر و غيرها من الأدلّة الدالّة علي وجوب إرشاد الجاهل.

إنّما المناسب لعنوان القاعدة، و لمبحث بيع الدهن المتنجّس و وجوب إعلام المشتري هو خصوص الجهل بالموضوع، كمن قدّم طعاما حراما لغيره، أو ثوبا نجسا له، أو عقد له امرأة محرّمة عليه و أمثال ذلك.

______________________________

(1). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 9- 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 88

إذا عرفت محلّ البحث فاعلم أنّه يتصوّر علي أنحاء:

1- أن يكون من قبيل الإجبار و الإلزام له بشي ء محرّم لا يعلمه، كإجباره علي شرب مائع هو جاهل بخمريته.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 88

2- أن يكون من قبيل التسبيب المصطلح في الفقه، كمن قدّم طعاما مغصوبا إلي ضيف له، و كذلك تقديم شي ء حرام يعلم أنّه سيصرفه

في الأكل.

3- أن يكون من قبيل إعطاء شي ء له منافع مختلفة، و لكن منفعته الغالبة محرّمة، كإعطاء دهن نجس يكون معدّا للأكل غالبا، و كذلك ما تكون له منفعتان متساويتان.

4- أن يكون من قبيل إعطاء ما يكون منفعته النادرة محرّمة كدهن السراج الذي يستفاد منه في الطعام نادرا.

5- أن يكون من قبيل عدم إيجاد المانع مع كون الموضوع حراما لا يعلمه.

و الكلام فيها تارة من ناحية القواعد و الاصول العامّة، و اخري من ناحية الأدلّة الخاصّة.

أمّا الأوّل: فقد يقال فيها بالحرمة نظرا إلي شمول أدلّة المحرّمات لها من حيث عنوان التسبيب (و لا أقل في بعض الصور).

و فيه إشكال ظاهر، فانّ قوله «لا تشرب الخمر» و أمثاله ظاهر في عدم شربه بالمباشرة، و لا دلالة له علي حرمة سقي غيره و لو ثبت بدليل آخر.

و الثاني: بأدلّة وجوب إرشاد الجاهل، و لكن عرفت أنّها ناظرة إلي الأحكام فقط.

و الثالث: بما علم من الشرع من أنّ الأحكام تدور مدار المصالح و المفاسد الواقعيين، و أنّ أكل الحرام و شربه من القبيح الواقعي. و لذا يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشكّ، و حينئذ يكون إعطاء النجس للجاهل إغراء بالقبيح، و هو قبيح (هذا ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه).

و أضاف إليه في «مصباح الفقاهة» بأنّ الأحكام الواقعية ليست مقيّدة بعلم المكلّفين، و إلّا لزم التصويب المحال أو الباطل «1».

و فيه أوّلا: إنّ التصويب إنّما هو فيما إذا كان العلم بالحكم دخيلا فيه، و لكن محلّ الكلام

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 118.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 89

كما عرفت إنّما هو العلم بالموضوع، أعني العلم بعنوان النجاسة لا بحكمها.

و ثانيا: إنّ موضوعات الأحكام مختلفة، بعضها

غير مقيّدة بالعلم، كحرمة ما لا يؤكل في لباس المصلّي، و بعضها مقيّدة بالعلم، كحرمة لبس النجس في الصلاة، فلذا يعاد في الأوّل في حال السهو دون الثاني بعد ظهور الحال.

و بالجملة احتمال دخل العلم بالموضوع في ملاك الحرمة واقعا في بعض الموارد ممكن جدّا.

و ثالثا: كونه من الإغراء بالقبيح أوّل الكلام.

و يمكن الاستدلال له بارتكاز المتشرّعة المأخوذ من الشارع قطعا، فإنّه يقتضي حرمة إعطاء الخمر للجاهل به، و كذا الميتة و لحم الخنزير، و لكن المسلم منه هو بعض المحرّمات المؤكّدة كالخمر، و أمّا بالنسبة إلي مثل إعارة الثوب النجس و شبهها غير معلوم.

فلا يبقي مجال إلّا للقول بالتفصيل بين ما علم من مذاق الشرع حرمته علي كلّ حال و بكلّ صورة، و ما لم يعلم، و لعلّ هذا الارتكاز متّخذ من الأدلّة الآتية، فانتظر.

أمّا الثّاني: من ناحية الأدلّة الخاصّة، و قد استدلّ بروايات قد يفهم منها العموم منها:

1- ما ورد في أبواب الجماعة عن علي عليه السّلام: «إنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلّا كانت عليه و لا ينقص من صلاتهم» «1».

و مثله ما في تحف العقول «2» و بمضمونه في الوسائل «3» بل فيه: كان عليه مثل أوزارهم- إلي غير ذلك ممّا في معناه.

و فيه: مضافا إلي أن اسناد بعضها غير نقيّة، أنّها أجنبية، عمّا نحن فيه، بل هو دليل علي

______________________________

(1). بحار الأنوار: ج 18، ص 63، (و لكن لم نعثر علي هذا ح في البحار و لكن عثرنا عليه هو:

عن علي عليه السّلام قال من صلّي بالناس هو جنب أعاد هو و الناس صلاتهم. (بحار الأنوار، ج 88، ص 67، ح 19).

و قريب منه ما رواه في

الوسائل ما هذا لفظه:

عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أ يضمن الإمام صلاة الفريضة؟ فانّ هؤلاء يزعمون أنّه يضمن، فقال:

لا يضمن، أي شي ء يضمن؟ إلّا أن يصلّي بهم جنبا أو علي غير طهر. (وسائل الشيعة، ج 5، ص 434، الباب 36، من أبواب صلاة الجماعة، ح 6، (و منه قريب منه ما في المستدرك، ج 1، ص 494، الباب 32، من أبواب صلاة الجماعة، ح 2).

(2). تحف العقول، ص 41.

(3). وسائل الشيعة، ج 5، ص 434، الباب 36، من أبواب الجماعة، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 90

تحمّل الإمام بعض الامور (و لا أقل من القراءة) عن المأمومين و لا شكّ في صحّة صلاتهم و عدم الوزر عليهم إذا جهلوا بالحال، و لكن الإمام ضامن لنقص صلاتهم، و كذا ما دلّ علي ضمانه إذا صلّي بهم جنبا.

2- ما دلّ علي حرمة الإفتاء بغير علم و هي كثيرة «1».

و فيه: أنّ خروجها ممّا نحن فيه أظهر من غيره، لأنّها في الإغراء بالجهل في الشبهات الحكمية، و أين هو ممّا نحن بصدده؟

3- ما دلّ علي كراهة إطعام البهيمة الأطعمة و الأشربة المحرّمة مثل: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن البهيمة البقرة و غيرها تسقي أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أ يكره ذلك؟ قال: نعم يكره ذلك» «2».

و فيه إشكال ظاهر، لأنّ كراهة ذلك لا تدلّ علي الحرمة في الإنسان، اللهمّ إلّا أن يكون المراد من الكراهة الحرمة، و هو غير ثابت.

4- ما دلّ علي حرمة سقي الشراب للطفل و الكافر، مثل:

ما رواه أبو الربيع الشامي قال: سئل أبو عبد

اللّه عليه السّلام عن الخمر. فقال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه عزّ و جلّ بعثني رحمة للعالمين، و لأمحق المعازف و المزامير و امور الجاهلية و الأوثان، و قال: أقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلّا سقيته مثل ما يشرب منها من الحميم، معذّبا أو مغفورا له، و لا يسقيها عبد لي صبيا صغيرا أو مملوكا إلّا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّبا أو مغفورا له» «3».

(و بهذا المضمون الأحاديث رقم 2 و 3 و 6 من الباب نفسه).

و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال باسناده عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «و من شرب الخمر سقاه اللّه من السمّ الأساود و من سمّ العقارب … و من سقاها يهوديا أو نصرانيا أو صابيا أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، الباب 4، من أبواب صفات القاضي، ص 9.

(2). وسائل الشيعة، ج 17، ص 247، الباب 10، من أبواب الأشربة المحرّمة، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 245، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 247، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 91

و فيه إنّه يمكن أن تكون للخمر خصوصية ليست في غيرها كما هو كذلك، و لذا صرّح في الكافر في غيرها بخلافه.

5- ما دلّ علي جواز بيع المشتبهين بالميتة للكافر، و قد مرّ ذكره، و يستفاد منه بالمفهوم عدم جوازه لغيره، و دلالتها علي المقصود لا بأس بها، و لكن هل يستفاد منها العموم؟!

6- ما دلّ علي وجوب اهراق المرق المتنجّس مثل:

ما رواه السكوني عن أبي

عبد اللّه عليه السّلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة، فقال: «يهراق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل» «1».

7- ما دلّ علي وجوب إعلام نجاسة الدهن مثل:

ما مرّ من رواية معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2».

و ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله سعيد الأعرج السمّان عن الزيت … تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا … » «3».

8- ما دلّ علي عدم جواز بيع العجين النجس إلّا ممّن يستحلّ الميتة مثل:

ما رواه حفص البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟

قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة» «4».

و تحصّل من جميع ذلك أنّ الأعيان النجسة أو المتنجّسات أو المحرّمات لا يجوز إطعامها للغير، أو غير ذلك من أشباهه إشكال، نعم في المأكولات لا يبعد التحريم و إن كان الأحوط في الجميع هو ذلك.

نعم ذكر صاحب الحدائق في بعض كلماته في مسألة بيع الدهن النجس: أنّ هذه الأخبار

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 376، الباب 44، من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ج 12، ص 66، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 68، الباب 7، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 92

المانعة معارضة بما دلّ علي جواز إعارة الثوب الذي لا يصلّي فيه

لمن يصلّي فيه «1» مثل:

ما رواه عبد اللّه بن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّي فيه و هو لا يصلّي فيه، قال: «لا يعلمه»، قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد» «2».

و ما دلّ علي عدم وجوب الإعلام بالنجاسة في ثوب الغير مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال سألته عن الرجل يري في ثوب أخيه دما و هو يصلّي. قال: «لا يؤذنه حتّي ينصرف» «3».

و لكن الإنصاف إنّ شيئا منهما لا يعارض ما مرّ، لما عرفت من أنّ الطهارة شرط علمي لا واقعي في الصلاة.

هذا و لو قلنا بالحرمة فهو فيما كان هو السبب في ذلك، أو سلّطه عليه من غير إعلام مع كون منفعته الغالبة الانتفاع به فيما لا يجوز، و لكن في مورد المنافع النادرة، أو فيما لا يكون سببا بل يقدر علي المنع، فلا دليل علي وجوب الإعلام، بعد عدم شمول أدلّة النهي عن المنكر لما ليس فعليّا، إلّا في موارد خاصّة يعلم من مذاق الشرع لزوم المنع منه و إن كان الفاعل جاهلا، كالدماء.

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 91.

(2). وسائل الشيعة، ج 2، ص 1069، الباب 47، من أبواب النجاسات، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 93

الثّاني- بيع الأوثان و هياكل العبادة

و ليعلم أنّ التعبير بالأوثان و أشباهها أولي، لأنّ الهياكل جمع هيكل، بمعني بيت للنصاري فيه صورة مريم، أو صورة مريم و عيسي، أو مطلق بيوت الأصنام، و الأصل فيه البناء المرتفع، و لكن يطلق علي امور اخر منها موضع في صدر الكنيسة يقرّب فيه القربان أو بيتهم الذي فيه، و منها مطلق الصورة و الشخص و

التمثال، و منها الحيوان الضخم أو الشجر الذي طال (هكذا ذكره أرباب اللغة) «1».

و علي كلّ حال، لا ريب في حرمة بيع الأوثان، لإجماع علماء الإسلام عليه كما حكي، و عمدة ما يدلّ عليه أمران:

الأوّل: قاعدة التحريم، بما قد عرفت لها من الدليل، فإنّ المفروض أنّه ليس لهذه الأوثان و الأصنام منفعة غير محرّمة، فحرام بيعها لعدم المالية لها في الشرع.

الثاني: ما دلّ علي حرمة بيع الخشب ليعمل صليبا مثل:

ما رواه ابن اذينة قال كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط. فقال: «لا بأس به»، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبا قال: «لا» «2».

و الرواية معتبرة من حيث السند و ظاهرة من حيث الدلالة.

و ما رواه عمر بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا» «3».

______________________________

(1). لسان العرب و غيره.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 127، الباب 41، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 94

(و هي أيضا معتبرة الاسناد بناء علي كون الراوي «عمر بن حريث» «عمرو بن حريز» كما هو الظاهر).

و هاتان الروايتان و ان كانتا ناظرتين إلي مسألة اخري، و لكنّه يستفاد المطلوب منهما بطريق أولي، بل النهي عن بيع الخشب أو التوت (الشجرة التي لها ثمرة بيضاء و حمراء لذيذة) إنّما هو لذلك.

و قد استدلّ بامور اخري لا تدلّ علي المطلوب، إمّا لضعف دلالتها، أو إسنادها، و هي ما يلي:

1- قوله تعالي: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ «1».

2- و قوله تعالي: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ … «2».

و الظاهر

أنّ المراد منهما الاجتناب عن عبادتها، فلا تدلّان علي المقصود.

3- ما عن دعائم الإسلام … إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن بيع الأحرار … و الأصنام … «3»

و لكن سندها ضعيف.

4- رواية تحف العقول، و يدلّ علي المقصود ثلاث فقرات منها، لأنّ بيع الأصنام يدخل تحت عنوان «ما يجي ء منه الفساد» تارة، و «الصنائع المحرّمة التي منها الصلبان و الأصنام» ثانيا، و «عمل التصاوير و الأصنام» ثالثا- و لكن الاستدلال بها أيضا ضعيف لضعف سندها أيضا «4».

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: قد يكون للشي ء منافع متعدّدة غالبة، منها كونها للعبادة، و لكن لا يكون غيرها من المنافع النادرة، أو تكون العبادة نادرا كالصور المجسّمة اليوم فهل يحرم بيعها؟

أمّا إن كان استخدامها للعبادة نادرا، فلا إشكال في الجواز من هذه الجهة، و لو أشكل فيها

______________________________

(1). سورة الحجّ، الآية 30.

(2). سورة المائدة، الآية 90.

(3). مستدرك الوسائل، المجلّد 13، الصفحة 71، الباب 5، من أبواب ما يكسب به، الحديث 5.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 54، الباب 2، من أبواب ما يكتسب به، ح 1، نقله عن تحف العقول.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 95

من جهة حرمة اقتناء المجسّمة لو قلنا بها.

و أمّا الصورة المشتركة بين الصليب مثلا و بعض الأدوات، أو بين الصنم و ما يلعب به الصبيان، و كان كلّ منهما غالبا، فالظاهر أنّ الأمر فيه يدور مدار قصد عنوانه.

الأمر الثاني: هل يجوز بيع الأصنام و شبهها باعتبار مادّتها إذا كان له مادّة كذلك، مطلقا أو إذا شرط كسرها، و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، كما حكي عن التذكرة و الكفاية و الحدائق و صاحب الرياض «1» أو إذا باعه

ثمّ كسره قبل الإقباض، و الحقّ أنّه لبيعه صورا:

1- ما إذا باع بعنوان الصنم و لكن الداعي له مادّته.

2- ما إذا بيع بعنوان الخشب مطلقا.

3- ما إذا باعه كذلك مع كسره.

4- ما إذا باعه مع شرط كسره و كان المشتري ممّن يوثق بديانته.

و الظاهر أنّ الحكم تابع لعنوان المعاملة بحسب قصد المتعاملين و ظاهر فعلهم، فلو كان بعنوان بيع الخشب لم يكن به بأس، و إن كان بيع الصنم ففيه إشكال ظاهر.

و أمّا الاشتراط و غير ذلك، فليس دخيلا في البيع، بل الظاهر أنّه من جهة عدم الإعانة علي الإثم، كمن يبيع الكحول الطبي و لكن يجعل فيه بعض السموم بحيث لا يقدر المشتري علي شربه.

هذا و يمكن أن تكون المسألة بنحو عام، و هو ما يحرم بيعه بهيئة خاصّة كالأصنام و آلات القمار و آلات اللهو و هو علي أقسام:

قسم ليس لمادّته أي منفعة، كآلات القمار المصنوعة من الورق، و الأصنام المعمولة من الخزف و بعض الأحجار الصغيرة، فلا تكون لموادّها قيمة.

و قسم تكون قيمتها بسبب موادّها بحيث لا يكون صورتها مزيدة لقيمتها كما إذا كانت من الذهب أحيانا.

و قسم تكون لهما القيمة.

ففي الأوّل لا يأتي التفصيل السابق، بل ماليتها إنّما هو لصورتها، فبيعها باطل.

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 201.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 96

و أمّا الثاني، فهو تابع لقصد العنوان.

و أمّا الثالث، فإنّ قصد المالية بكلا العنوانين فهو باطل، و إن قصد المادّة فقط، و كان ظاهر عنوان البيع بيع المادّة فقط، فهو صحيح.

و قد يتوهّم أن يكون من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، و لكنّه فاسد، لعدم كون الصورة بنفسها ممّا يملك بدون المادّة عرفا، كما هو

ظاهر.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 97

الثالث و الرابع- بيع آلات القمار و اللهو

أجمع الفقهاء (ظاهرا) علي حرمة بيع آلات القمار و اللهو، و يدلّ عليه- مضافا إلي ما ذكر- ما عرفت من قاعدة التحريم أوّلا، و بعض النصوص الخاصّة ثانيا، و إليك شطر منها:

1- منها ما رواه ابن إدريس في آخر (السرائر) نقلا من كتاب جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها كفر، و اللعب بها شرك … و من جلس علي اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من النار، و كان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة، و إيّاك و مجالسة اللاهي و المغرور بلعبها فإنّها من المجالس التي باء أهلها بسخط من اللّه يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم» «1».

و اشتمالها علي نجاسة يدمن مسحها محمولة علي المبالغة.

2- و منها ما رواه علي بن إبراهيم (في تفسيره) عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالي: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب «إلي أن قال» و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كانت تعبدها المشركون، و أمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تتقسّم لها المشركون من العرب في الجاهلية، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه محرّم، و هو رجس من عمل الشيطان، و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» «2».

3- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12،

ص 241، الباب 103، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 239، الباب 102، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 98

«نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن اللعب بالنرد و الشطرنج و الكوبة و العرطبة و هي الطنبور و العود و نهي عن بيع النرد» «1».

و ثالثا: أضف إلي ذلك الإنكار الشديد الوارد في الروايات علي الناظر فيها و المقلب لها، فكيف باللاعب بها مثل:

1- ما رواه سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «المطلع في الشطرنج كالمطلع في النار» «2».

و ما رواه ابن رئاب قال: دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: جعلت فداك ما تقول في الشطرنج؟ فقال: «المقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير». قال: فقلت ما علي من قلّب لحم الخنزير؟ قال: «يغسل يده» «3».

و غير ذلك ممّا يستفاد منها حرمة البيع و الشراء بالأولوية، و يؤيّده حديث تحف العقول «4». و بالجملة أصل المسألة ممّا لا ريب فيه، و كذا آلات اللهو، و يدلّ علي حرمة بيعها أيضا قاعدة التحريم «أوّلا»، و بعض الروايات الخاصّة «ثانيا» و إن كانت ضعاف الاسناد، و لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب، كرواية تحف العقول السابقة.

و ما رواه أبو الفتوح في تفسيره عن أبي امامة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: « … إنّ آلات المزامير شرائها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام» «5».

و ثانيا: الروايات الدالّة بنحو مؤكّد علي حرمة اللعب بها بحيث يستفاد منها حرمة البيع لما عرفت «6».

يبقي هنا امور:

1- في معني «القمار» و «اللهو» و سيأتي الكلام فيهما إن شاء اللّه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة،

ج 12، ص 242، الباب 104، ح 6.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 241، الباب 103، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 54، الباب 2، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(5). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 219، الباب 79، من أبواب ما يكتسب به، ح 16.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 232، الباب 100، من أبواب ما يكتسب به.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 99

2- إذا كانت هناك آلات مشتركة بين القمار و غيره، و كانت كلتا المنفعتين غالبتين و لا تختصّ بالقمار أو باللهو، كبعض الآلات التي يستفاد منها في اللهو و في الحروب (بناء علي كون ما يضرب في الحروب من الطبول و غيرها من الآلات المشتركة كما هو ظاهر) أو ما يسمّي بالسنج الذي يستفاد منه فيهما بل و في غيرهما، فلا ينبغي الإشكال في جواز بيعها بذاك العنوان، بأن يكون عنوان المالية هو المنفعة المحلّلة لا مجرّد الداعي إليه.

و كذا لو شاع الانتفاع بالبيض و الجوز في القمار، فلا يمنع عن صحّة بيعهما، بل لا يعدّان من آلات القمار.

و مثلها العبد المغني أو الساحر أو المقامر و نحوه، فإن بيع بهذا العنوان فلا شكّ في بطلان بيعه، و لو بيع بعنوان أنّه عبد غير ملاحظ فيه عنوان الغناء و غيره في المالية و البيع، فلا شكّ في صحّته.

3- لو كان لموادها قيمة، فقد عرفت الكلام فيه، و أنّه علي أقسام، و أنّه يجوز بيعها بعنوان المواد، و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، و كذا إذا كسره قبل الإقباض.

و بالجملة لا شكّ في بقاء مالية المواد علي الملك، و لا

تخرج عنه بالصورة التي يرفع الشارع احترامها، و لم يدخلها في الملك، بل أوجب علي المكلّفين إتلافها بلا ضمان كما ذكره في الجواهر «1».

فصحّة البيع لا تدور مدار القصد، بل و لا ملاحظة الغاية، إنّما تدور مدار العنوان بأنّه يعدّ البيع بيع الخشب، نعم لو علم بانتفاع المشتري منه في المحرّم فهو داخل في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا من بعض الجهات، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه، و كذلك لا يمكن تفكيك حكم المادّة و الصورة بجعله من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك كما أشرنا إليه آنفا، لعدم كون الصورة مستقلّة في المالية.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 27- 26.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 101

الخامس- بيع أواني الذهب و الفضّة

هذه المسألة متوقّفة علي ما عنونه القوم في أواخر أبواب الطهارة في الباب المعنون لأحكام الأواني.

فان قلنا بحرمة جميع منافعها الغالبة كالأكل و الشرب و التزيين و الاقتناء فلا شكّ في دخولها في قاعدة التحريم التي عرفتها مرارا، و إلّا لم يكن وجه لتحريمها.

و توضيح ذلك إنّه قد يكون الكلام في بيعها بما لها من الصورة، و اخري في بيعها بمادّتها فقط.

أمّا الاولي: فإمّا أن يقال بحرمة الأكل و الشرب فيها فقط، أو مع إضافة التصرّفات كجعلها ظرفا للدهن الذي يدهن به و الغالية و العطور، أو مع إضافة التزيين بها أيضا، ففي هذه الصور الثلاث يجوز بيعها، لكون مسألة الاقتناء حلالا (إذا كان من المنافع الغالبة فيها كما هو كذلك كثيرا، فإنّ كثيرا من الناس يرون ذلك طريقا لحفظ أموالهم أو لجمعها أو يلتذّون من وجودها أو النظر إليها أو غير ذلك من القيم الواهية و غير العقلائية).

أمّا إذا قلنا بحرمة

الأربع، فالبيع باطل قطعا و إن لم يرد به نصّ خاصّ، و لكن يعلم منها بالقاعدة السابقة.

و تفصيل هذه الصغري في محلّها، و قد قلنا برعاية الاحتياط في جميع ذلك في محلّه.

أمّا الثاني: فيأتي فيه ما تقدّم في غيره من آلات القمار و اللهو و الأصنام من جواز بيعها بعنوان مرادها، أمّا مطلقا، أو مع كون المشتري ممّن يوثق بديانته، أو مع كسرها قبل الإقباض.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 103

السادس- الدراهم المغشوشة

قد يقال بحرمة بيعها، و لكن ذلك يحتاج إلي تفصيل، و هو أنّ الدراهم المغشوشة علي أنحاء:

1- قد يكون الغشّ ببعض الخليط، كأن يكون نصفه أو ثلثه فضّة مثلا.

2- قد يكون الغشّ بكونه من جنس غير جنسه مطلقا و إن كان بهيئة الفضّة.

3- قد يكون الغشّ بهيئتها و سكّتها و إن كانت مادّتها سليمة خالصة.

4- و قد يكون تمام ماليتها بسكّتها مع كونها مغشوشة كالفلوس التي لا قيمة لمادّتها تقريبا.

أمّا حكم المعاملة مع هذه الأقسام، فإن قلنا بحرمة الانتفاع بها مطلقا، نظرا إلي أنّها سبب للفساد، فلا بدّ من إفنائها، لأنّ رواجها يوجب الاختلال في أمر المعاملات، لا سيّما إذا كان كثيرا، و نظرا إلي غير واحد من الروايات الخاصّة الدالّة علي حرمة المعاملة بها، و هي:

1- ما رواه المفضّل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فألقي بين يديه دراهم، فألقي إليّ درهما منها فقال: ايش هذا؟ فقلت: ستوق! قال: و ما الستوق؟ فقلت:

طبقتين فضّة و طبقة من نحاس، و طبقة من فضّة، فقال: «اكسرها فانّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه» «1».

2- ما رواه جعفر بن عيسي قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام: ما تقول

جعلت فداك في الدراهم التي أعلم أنّها لا تجوز بين المسلمين إلّا بوضيعة تصير إلي من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به، و إنّما آخذه علي أنّه جيّد، أ يجوز لي أن آخذه و أخرجه من يدي علي حدّ ما صار

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 473، الباب 10، من أبواب الصرف، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 104

إلي من قبلهم؟ فكتب: «لا يحلّ ذلك»، و كتبت إليه، جعلت فداك هل يجوز إن وصلت إليّ ردّه علي صاحبه من غير معرفته به، أو إبداله منه و هو لا يدري أنّي أبدله منه، أو أردّه عليه؟

فكتب: «لا يجوز» «1».

3- و ما رواه فضل أبي العبّاس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم المحمول عليها.

فقال: «إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا» «2».

4- ما رواه حريز بن عبد اللّه قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه قوم من أهل سجستان فسألوه عن الدراهم المحمول عليها. فقال: «لا بأس، إذا كان جواز المصر» «3».

إلي غير ذلك ممّا في هذا المعني كلّها تدلّ علي عدم جواز الانتفاع بالمغشوش.

5- ما رواه موسي بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلي دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «القه في البالوعة حتّي لا يباع شي ء فيه غشّ» «4».

و الظاهر أنّه لم يكن لمادّته قيمة (و لكن السند ضعيف).

و يستفاد من مجموعها حرمة الانتفاع بها، و إطلاقها يقتضي الحرمة و لو بإعطائها للظالم لانتقالها منه إلي غيره، بل ظاهر الأخير عدم التزيين بها

(فتأمّل).

و بالجملة فساد بيعها فيما إذا لم يكن التزيين بها أمرا غالبا معلوما لا ينبغي الشكّ فيه، و كون حرمة الانتفاع تكليفية لا ينافي المقصود بعد كون المالية تدور مدارها وجودا و عدما.

هذا كلّه إذا لم يصحّ بيعها مطلقا، أمّا إذا كان فيها خليط فيجوز بيعها بين الناس مع الإعلام، فانّ الدراهم مختلفة من حيث الخليط كما دلّ عليه غير واحد من الروايات الواردة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 474، الباب 10، من أبواب الصرف، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 474، ح 9.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 474، الباب 10، من أبواب الصرف، ج 10.

(4). المصدر السابق، ص 209، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 5، (و لكن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه سمّي الراوي ب «موسي بن بكير الأبكر» (المكاسب، ص 15).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 105

في الباب 10 من أبواب الصرف، و هو المسمّي بالدرهم المحمول (و هو ما يعبّر عنه بالفارسية ب «باردار» أي له خليط من غير الفضّة).

فحينئذ لا بدّ من الإعلام، و لو كان له ظاهر و لم يعلمه فهو من التدليس، و يكون للمشتري خيار التدليس أو خيار العيب لو عدّ معيوبا.

و إذا وقعت المعاملة علي القسم الأوّل جهلا فهناك صور:

1- فإمّا أن يكون البيع كليّا، فاللازم الإبدال.

2- و إن كان شخصيّا و عدّ الدرهم من المعيوب، فخيار العيب فيه ثابت.

3- و إن كان شيئا مباينا، فهو باطل، كمن باع فرسا فظهر بغلا، و باع كتاب لغة فظهر كتاب تفسير.

تتمّة في حرمة بيع مطلق آلات الفساد:

تقدّم في باب آلات القمار و اللهو و الأصنام أنّه يحرم بيع غيرها من آلات الفساد أيضا علي أنواعها، و هي كثيرة:

«منها» الأواني التي تختصّ

بطبخ الخمر و صنعها و الأقداح التي لا يستفاد منها في غيره.

و «منها» أشرطة الكاسيت و الأفلام المفسدة التي لا يمكن الانتفاع بصورتها و مادّتها في غير الحرام، لو كان لمادّتها منافع محلّلة و باعها بقصدها و لم يكن المشتري مظنّة للانتفاع بها منفعة فاسدة محرّمة، جاز.

و «منها» الأدوية التي لا ينتفع بها في غير التخمير، و كذا ما لا فائدة له إلّا في صنع المواد المخدّرة.

و «منها» الأجهزة التي ينتفع منها في التجسس علي أحوال الناس و لا فائدة لها غالبا غير ذلك، فلو كانت لها فائدة غالبة اخري جاز بيعها.

و «منها» الصور المغرية و المفسدة التي تثير الشباب و غيرهم و تدفعهم إلي هتك الأعراض، و ارتكاب المحرّمات و القبائح، و كذا الصحف و المجلات الفاسدة لمحتواها أو صورها، و إن لم تدخل في عنوان كتب الضلال التي يأتي البحث عنها.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 106

و «منها» الأسلحة الكيمياوية و ما أشبهها ممّا لا يجوز الانتفاع منها بحال، و جميعها مشتركة فيما يلي:

1- لو لم تكن لها منافع محلّلة غالبة لم تكن مالية، بل يجوز إبطالها و إفنائها إذا لم تكن لمادّتها قيمة، بل يجب ذلك من باب النهي عن المنكر و قلع مادّة الفساد.

2- إذا كان لمادّتها قيمة يجوز محو صورتها، لعدم المالية لصورتها، رضي صاحبها أو لم يرض، بل يجب ذلك لما عرفت.

3- يجوز بيعها بعنوان المادّة المحلّلة لمن ليس مظنّة للفساد و الإفساد.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 107

السّابع- بيع الشي ء لغاية محرّمة

اشارة

(كبيع العنب ليعمل خمرا) قد لا يكون الشي ء كآلات اللهو و الفساد ممّا غلب عليها الفساد، بل تكون له «غايات محلّلة و محرّمة»، و لكن يبيعه لغاية محرّمة،

و هو علي أقسام:

1- تارة يكون عنوان المعاملة أو شرطها ذلك، كمن يبيع العنب ليعمل خمرا، أو الخشب ليصنع صنما، أو يوجر البيت و الدكّان لأمر محرّم.

لا يقال: أي داع لمسلم أو لغيره علي خصوص ذلك، بل لا يريد هو إلّا أخذ العوض كيفما كان؟

قلت: الداعي قد يحصل علي ذلك، كأن يحرز البائع الغاية من عملية الشراء كيلا يكون منازعة في المستقبل من هذه الجهة، أو تكون الإجارة الكذائية أقلّ مضرّة للدار أو الدكّان، أو تكون اجرته بهذا العنوان أكثر، و كذا قيمة العنب، أو لا يكون مؤمنا ورعا، بل يريد الإفساد بين الناس لأغراض فاسدة شي ء.

2- و اخري يبيعه أو يؤاجره مع كون داعيه ذلك من غير أن يكون شرطا أو عنوانا في المعاملة، بأن يكون البيع أو الإجارة مطلقة.

3- و ثالثة لا يكون من قصده ذلك أبدا، و لكن يعلم أنّ داعي المشتري في الحال ذلك، أو يتجدّد الداعي له بعده، و إن لم يكن الآن كذلك.

4- أن يعلم أنّه يصرفه في الحرام و إن لم يكن داعيه ذلك من البيع، كمن يبيع العنب ممّن يعمله خمرا، و هو لا يريد إلّا بيع عنبه من غير قصد الحرام.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 108

5- هذا كلّه إذا كان المحرّم تمام الغرض، و لكن قد يكون جزأه مثل بيع المغنية بأكثر من ثمن غيرها لقصد الانتفاع بغنائها.

6- ما يكون نفس العمل المستأجر عليه حراما، كمعاونة الظلمة، و صنع الخمر، و الزنا …

فهذه ستّة أقسام و لكلّ قسم حكمه الخاصّ:

أمّا القسم الأوّل: فلا كلام بينهم في حرمته، و ادّعي في الجواهر «1» و غيره الإجماع عليه، و نقل في الحدائق عن المنتهي إنّه موضع

وفاق «2».

و استدلّ له شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه تارة بكونه إعانة علي الإثم، و اخري بأنّه أكل للمال بالباطل «3»، و ثالثة بما رواه صابر قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيها الخمر … قال: «حرام أجره» «4».

و لكن سند هذه الرواية لا يخلو عن ضعف ب «صابر» إلّا أن يقال إنّها منجبرة بعمل الأصحاب.

هذا و قد يستشكل علي الدليل الأوّل تارة بأنّ حرمة الإعانة علي إطلاقها غير ثابتة، و اخري بأنّ الحرمة تكليفية، فلا توجب فسادا في المعاملات.

أمّا الأوّل فسيأتي في محلّه، و أمّا الثاني فيمكن أن يجاب بأنّه داخل في قاعدة التحريم، و أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه. إلّا أن يقال لا يأخذ الثمن علي المعاونة، بل علي العنب، و لكن يمكن أن يقال بعدم اعتناء العرف بهذا التفكيك، بل يصدق أخذ الثمن علي ما هو مصداق العون.

و علي الثاني بأنّ المال لا يقع في مقابل هذا الشرط، بل في مقابل الأصل.

و فيه: إنّ قيمته قد تكون حينئذ أكثر، مضافا إلي صدق هذا العنوان عرفا لعدم الاعتناء بهذه التدقيقات عندهم.

و علي الثّالث بمعارضته لما رواه: ابن اذينة قال: كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 30.

(2). الحدائق، ج 18، ص 202.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 16، المسألة الاولي.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 125، الباب 39، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 109

الرجل يؤاجر سفينته و دابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير قال: «لا بأس» «1».

و هذه الرواية بالإضافة إلي صحّة سندها أقوي من رواية جابر.

و لكن

الإنصاف أنّها ليست نصّا فيما نحن فيه، هذا أوّلا، و ثانيا: حرمة الإجارة مقطوعة عندهم. و ثالثا: بأنّ إعراض الأصحاب عنها كاف في سقوطها.

و هذا الحكم ممّا لا ينبغي التأمّل فيه، و يؤيّده ما يستفاد من مذاق الشارع و المسائل الآتية أيضا.

أمّا القسم الثّاني: فالظاهر أنّه يجري فيه جميع ما تقدّم عدا كونه أكلا للمال بالباطل، لأنّ القصد و الداعي للباطل بعد عدم كون البيع مشروطا أو معنونا بهذا العنوان، بل كان البيع بعنوان بيع العنب مثلا من دون أي عنوان آخر لا يجعل البيع و أكل ثمنه باطلا.

أمّا الإعانة فيه حاصلة، و رواية جابر السابقة شاملة لها.

أمّا الصورة الثّالثة و الرابعة: ففيها خلاف بينهم (ذكروهما تحت عنوان بيع العنب ممّن يعمله خمرا) و لكن قد عرفت أنّه لا فرق بينها و بين سائر ما يكون له منافع محلّلة و محرّمة يبيعها المالك أو يؤجرها ممّن يصرفه في الحرام.

و تفصيل الكلام فيه: إنّه حكي عن العلّامة رحمه اللّه في المختلف، و الشهيد الثاني قدّس سرّه في المسالك حرمته، و عن ابن إدريس رحمه اللّه جواز ذلك «2» و مال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه أيضا إلي حرمته (كما حكاه في الحدائق) «3».

و فصّل الشيخ الأعظم قدّس سرّه في المكاسب بين قصد البائع للحرام و عدمه، و لكن صورة القصد داخلة في الصورة السابقة، فهو في الواقع قائل بالجواز «4».

و الكلام في هذه المسألة المهمّة التي تعمّ بها البلوي تارة من حيث القواعد، و اخري من حيث الأخبار الخاصّة.

أمّا الأوّل فقد يستدلّ علي الحرمة بأدلّة تحريم الإعانة علي الإثم، و أدلّة النهي عن المنكر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 126، الباب 39، من أبواب ما يكتسب به،

ح 2.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 171.

(3). الحدائق، ج 18، ص 202.

(4). المكاسب المحرّمة، ص 16، المسألة الثالثة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 110

و أمّا الاولي فيحتاج إلي تحقيق مفاد الإعانة و معناها «أوّلا»، ثمّ نتكلّم في حكمها «ثانيا».

الإعانة و أركانها:

قبل الخوض في هذا البحث لا بدّ من ذكر مقدّمة و هي:

المشهور تقسيم العناوين إلي قسمين: 1- «عناوين قصدية» لا تحصل إلّا بالقصد، كالتعظيم و الإهانة، 2- «عناوين غير قصدية» كالضرب و الزنا و قتل النفس و أمثال ذلك.

و لكن لا بدّ أن يعلم أنّ القصد في العناوين القصدية قد يكون قهريا لا يمكن عدمه، فمن سبّ غيره في مجمع من الناس فقد أهانه، و لا ينفكّ عن هذا قصدها، كما أنّ القصد في العناوين الغير قصدية دائما قهري، فمن يضرب غيره بالسياط لا يمكنه عدم قصده، و سيأتي أنّ حكم الإعانة- لو قلنا بأنّها من العناوين القصدية- أيضا في كثير من مصاديقها كذلك، فمن أعطي سوطا لظالم عند إرادته ضرب المظلوم فقد أعانه، و لا ينفك ذلك عن هذا القصد حتّي لو أراد فصله عنه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأقوال هنا كثيرة:

1- ما عن الأكثر من أنّ الإعانة هي إيجاد مقدّمة من مقدّمات فعل الغير، مع العلم بكونها مقدّمته، و لو لم يقصد حصول الفعل من غيره.

2- ما عن المحقّق الثاني رحمه اللّه أنّ الإعانة هي ذلك مع قصد الفعل من الغير كمن يعطي العنب ليعمل خمرا «1».

3- ما عن بعض آخر من اعتبار وجود الفعل المعان عليه خارجا، مضافا إلي ما ذكر.

4- المدار علي وقوع الفعل المعان عليه في الخارج و عدمه كما اختاره بعض أكابر العصر «2».

______________________________

(1). جامع المقاصد، ج 4،

ص 18، من ج المطبوع حديثا.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 176.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 111

5- لا يعتبر شي ء خاصّ فيها، بل المدار في كلّ مقام علي الصدق العرفي و المقامات مختلفة.

6- قد يفرّق بين المقدّمات القريبة و البعيدة، فتصدق في الاولي دون الثانية.

7- و قد يفرّق بين المقدّمة التي فائدتها منحصرة عرفا في المعان عليه، كإعطاء العصا إلي الضارب عند إرادة الضرب، و بين ما ليس كذلك، كبيع العنب ممّن يعمله خمرا (كما ذكره الشيخ في بعض كلماته) «1».

8- و يمكن الفرق بين ما فيه القصد فهو حرام قطعا، و ما ليس فيه فهو يدور مدار الصدق عرفا. فهذه احتمالات ثمانية في تفسير معني «الإعانة».

أمّا القول بأنّه يدور مدار الصدق عرفا، فهو في الواقع فرار عن تعيين الضابطة، لأنّ للعرف في هذه الامور ضوابط لا بدّ من استخراجها و لا تكون بغير ضابطة و الحقّ في المقام يظهر بعد ذكر امور:

الأوّل- إنّ الإعانة من العناوين القصدية، و لكن قد يحصل القصد قهرا كما عرفت آنفا، فمن أعطي العصا إلي الظالم عند إرادة الظلم يعدّ معينا لظلمه، و قصده قهري، و الظاهر أنّ بيع العنب ممّن يعلم أنّه يصنعه خمرا أيضا كذلك، فلا ينفك عن قصد الإعانة، و القصد فيه قهري.

الثّاني- لا بدّ في صدق عنوان الإعانة أن يكون مقدّمة قريبة، فمن أعطي عنبا لغيره يعلم أنّه يزرع حبّاته ثمّ يأخذ عنبها فيبيعها ممّن يعمله خمرا، يشكل صدق الإعانة عليه لا سيّما إذا كثرت الوسائط.

الثّالث- إذا لم يتحقّق المعان عليه لم يكن هنا إلّا تجرّيا، لعدم تحقّق إثم حتّي يكون فعله إعانة عليه، كما هو ظاهر.

الرّابع- إذا لم يكن بصدد إيجاد مقدّمة

لفعل غيره، لكن حصل من فعله ما ينتفع به في مقصده، كالتاجر الذي يتّجر، و لكن الظالم العشّار يأخذ منه العشور و يصرفه في المظالم، فهو لا يفعل شيئا إلّا لنفسه، و لكن الظالم ينتفع بفعله بعد ذلك، و هذا بخلاف ما إذا باعه العنب و جعله تحت يده.

______________________________

(1). المكاسب للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 17.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 112

و المعتبر في صدق الإعانة هذه الامور الأربعة: القصد، و جعل مقدّمة تحت اختيار غيره، و كونها قريبة، و وقوع المعان عليه.

و الدليل علي اعتبار الأوّل ليس من ناحية كون الإعانة أمرا قصديا، بل من جهة ظهور نسبة كلّ فعل اختياري إلي فاعله أنّه صدر بقصده، و أمّا اعتبار المقدّمية فهو واضح لا ريب فيه، و أمّا كونها قريبة فلصحّة سلب هذا العنوان عن المقدّمات البعيدة، و إلّا لزم العلم الإجمالي بحرمة بعض أفعالنا دائما، لكونها بالواسطة إعانة لبعض المظالم فتأمّل.

و كذلك فيما لو لم يقع المعان عليه، فيكون عدم صدق عنوان الإعانة من الواضحات.

و ما في كلام بعض الأكابر من عدم اعتبار القصد، لاستعماله كثيرا فيما ليس فيه قصد مثل قوله تعالي: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلٰاةِ «1» و أنّ المراد بالصبر هو الصوم «2»، و قوله: «من أكل الطين فمات فقد أعان علي نفسه» «3»، و قوله «من تبسّم في وجه مبدع فقد أعان علي هدم الإسلام» «4» و قول القائل «سرت في الماء و أعانني علي السير»، و أشباه ذلك من الروايات و العبارات العرفية، ممنوع.

و الإنصاف أنّ شيئا من ذلك لا يدلّ علي مقصوده …

أمّا الاستعانة بالصبر و الصلاة فهي أمر مطلوب، أي استمدّوا منهما علي حلّ مشاكلكم، لا

أنّ كلّ صلاة بنفسها تكون عونا من دون قصد إلي هذا العنوان، و لذلك ورد في الحديث في ذيل هذه الآية أنّ عليا عليه السّلام إذا ورد عليه أمر مهمّ توضّأ و صلّي ركعتين «5»، أي كان من نيّته هناك الاستمداد منها لحلّ مشاكله.

أمّا صدق الإعانة في أكل الطين فإنّما هو بعد العلم بهذا الحديث و محتواه كما إذا قال:

هذا صديقي فمن أكرمه فقد أكرمني- أي بعد علمكم بذلك- و مثله الوعيد بالعذاب لفعل

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 45 (عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ، وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ … قال: «الصبر الصيام … » (تفسير البرهان، ج 1، ص 94، ح 3).

(2). تفسير البرهان، الجلد 1، ص 94، ح 3.

(3). الكافي، ج 6، ص 266.

(4). مستدرك الوسائل، ج 12، ص 32، الباب 37، من أبواب الأمر بالمعروف، ح 12، (من الطبع ح).

(5). متن ح: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان علي عليه السّلام إذا أهاله شي ء فزيح، قام إلي الصلاة ثمّ تلا هذه الآية وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلٰاةِ» (تفسير البرهان، ج 1، ص 94، ح 2).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 113

بعض المحرّمات في مقام بيان حكمه.

و أمّا التبسّم في وجوه المبدعين مع العلم بكونه كذلك و كون التبسّم تقوية لهم، فهو لا ينفكّ عن قصد الإعانة علي هدم الإسلام، فالقصد فيه أيضا قهري.

أمّا إسناد الإعانة إلي الماء و الريح، فهو مجاز، لعدم قصده لهما، و لكن الكلام فيما إذا أسند إلي عاقل … و كذا أشباهه، و استعماله في غير ما ذكرنا أحيانا لا ينافي كونه مجازا.

و العجب من بعض الأفاضل حيث صرّح بصدق عنوان

الإعانة في التاجر الذي يؤخذ منه العشور مع أنّ عدم عدّه من المعين للظلمة بمكان من الوضوح، فتلخّص من جميع ذلك حدود هذا العنوان و ضابطته و الحمد للّه.

حرمة الإعانة علي الإثم:

هذا كلّه بحسب «الصغري»، أمّا «الكبري» فالمعروف بل المدّعي عليه الإجماع حرمة الإعانة علي الإثم، و العمدة فيها بعد دعوي الإجماع قوله تعالي: تَعٰاوَنُوا عَلَي الْبِرِّ وَ التَّقْويٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «1» و الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المعني بما سيأتي الإشارة إليها.

و لكن خالف فيه بعض أعاظم المعاصرين و قال بجوازه إلّا في موردين: مورد صدق التسبيب، و مورد الإعانة للظلمة فقط، لورود روايات خاصّة فيهما «2» و لا وجه لما ذكره بعد صدقه عرفا في هذين الموردين و غيرهما.

و حاصل كلامه: إنّ التعاون هو صدور فعل عن جمع بحيث يكون صادرا من جميعهم كبناء المسجد و غيره، و من المعلوم عدم صدقه علي صدور الفعل من بعض، و المقدّمات من الآخر.

و فيه: إنّه لا يعتبر في صدق التعاون مباشرة بلا واسطة، فإذا اجتمع جمع لبناء مسجد،

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 2.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 180.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 114

فرسم الخريطة واحد، و هيّأ المواد الإنشائية آخر، و تبرّع بالنقود ثالث، و قام ببنائه البنّاء و هو شخص واحد، فلا شكّ في صدق تعاونهم علي بناء المسجد، بل كثير من موارد التعاون كذلك.

هذا مضافا إلي إمكان الغاء الخصوصية من هذه الناحية، فلا وجه للإشكال في الحكم صغري و كبري.

و يمكن الاستدلال لحرمة الإعانة علي الحرام- مضافا إلي ما ذكر- بما دلّ علي وجوب النهي عن المنكر كما ذكره العلّامة الأنصاري تبعا للمحقّق الأردبيلي قدّس سرّهما، فقال الأوّل

منهما بأن دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع إليه فيجب، ثمّ استشهد بما رواه علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني اميّة فقال لي: استأذن لي علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذنت له «عليه» فأذن له، فلمّا أن دخل سلّم و جلس، ثمّ قال: جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«لو لا أنّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب و يجبي لهم الفي ء، و يقاتل عنهم، و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم قال … » «1».

و أورد عليه من وجهين:

1- إنّ دفع المنكر لا دليل علي وجوبه، إنّما الواجب الرفع، و لا يمكن قياس أحدهما علي الآخر، و القدر المتيقّن منه الثابت بالعقل و النقل هو وجوب الدفع في الامور المهمّة كالأعراض و النفوس.

2- الرواية ضعيفة (بإبراهيم بن إسحاق) و مخصوصة بإعانة الظلمة لا تشمل غيرها.

هذا و الإنصاف أنّه لا فرق بين «الدفع» و «الرفع» لإلغاء الخصوصية قطعا بعد كون الملاك واضحا شرعا و عرفا، فانّ ما ورد من قوله «بهما تقام الفرائض، تأمن المذاهب، و تحلّ المكاسب»، و غيرها لا يختلف فيه الدفع و الرفع.

علي أنّ النهي كثيرا ما يكون من قبيل الدفع، كما إذا جلس جمع لشرب الخمر و لم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 144، الباب 47، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 115

يشربوا بعد، فنهاهم عن ذلك بعض أهل الإيمان، أو افتتح بعض

دكانا لبيع الخمر و لم يبع بعد، فنهاه المؤمنون، و بالجملة الجمود في هذه الامور بعيد عن مذاق أهل العرف الذين يرجع إليهم في تشخيص الموضوعات، بل قد يقال: إنّ النهي عن المنكر دائما من قبيل الدفع لأنّه يتحقّق عادة بالنسبة إلي الأعمال الآتية، و أمّا الماضي فقد مضي و انصرم، و لا معني للنهي عنه فتأمّل.

أضف إلي ذلك أنّ الرواية مشتملة علي استدلال عقلي يجري في غير موردها أيضا.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه قد يقال: إنّ وجوب ذلك يختصّ بما إذا علم بتركه الحرام لو ترك بيع العنب له مثلا. أمّا إذا علم ببيع غيره له فلا، لعدم حصول الغرض، فلا يقاس ذلك بما إذا ترك ظلم شخص، فظلمه آخر، لأنّ الظلم من كلّ أحد حرام، و لكن الردع لا يحصل إلّا بفعل المجموع من حيث المجموع، كحمل المصدوم إلي المستشفي مثلا بفعل الجميع و لا يفيد فعل واحد منهم.

هذا و لكن يمكن دفعه بأن جعل كلّ عنب خمرا حرام برأسه، كما أنّ شرب كلّ فرد من أفرادها حرام كذلك، نعم لو كان الردع عن مصداق واحد لا يحصل إلّا بفعل جماعة- كان الأمر كما ذكره، فتدبّر فإنّه دقيق، فالحرمة بحسب القواعد مسلّمة.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلي روايات الباب أعني خصوص بيع العنب، فنقول و من اللّه التوفيق: أنّها علي طائفتين:

الطائفة الاولي:

ما دلّ علي جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا، و هي روايات منها:

1- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس» «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة،

ج 12، ص 169، الباب 59، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 116

2- و ما رواه محمّد الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراما، فقال: «لا بأس به، تبيعه حلالا ليجعله عليه السّلام حراما، فأبعده اللّه و أسحقه» «1».

3- و ما رواه عمر بن اذينة قال: كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له كرم، أ يبيع العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال: «إنّما باعه حلالا في الأبان الذي يحلّ شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه» «2».

4- و ما رواه أبو كهمس، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير، فقال: لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به و إن غلا فلا يحلّ بيعه، ثمّ قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا» «3».

5- و ما رواه أبو المعزا قال: سأل يعقوب الأحمر أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر فقال: إنّه كان لي أخ و هلك و ترك في حجري يتيما، و لي أخ يلي ضيعة لنا و هو يبيع العصير ممّن يصنعه خمرا و يؤاجر الأرض و بالطعام «إلي أن قال»: فقال: «أمّا بيع العصير ممّن يصنعه خمرا فلا بأس خذ نصيب اليتيم منه» «4».

6- و ما رواه رفاعة بن موسي قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمّره. قال: «حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شرابا خبيثا» «5».

7- و ما رواه الحلبي عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا.

فقال: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلا أحبّ إليّ، و لا أري بالأوّل بأسا» «6».

8- و ما رواه يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل و أنا حاضر قال: إنّ لي الكرم قال: «تبيعه عنبا»، قال: فانّه يشتريه من يجعله خمرا قال: «فبعه إذا عصيرا». قال:

فإنّه يشتريه منّي عصيرا فيجعله خمرا في قربتي قال: «بعته حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه»، و ثمّ سكت هنيئة ثمّ قال: «لا تذرن ثمنه عليه حتّي يصير خمرا فتكون تأخذ ثمن الخمر» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 169، الباب 59، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ح 6.

(4). المصدر السابق، ص 170، ح 7.

(5). المصدر السابق، ح 8.

(6). المصدر السابق، ح 9.

(7). المصدر السابق، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 117

9- و ما رواه ابن اذينة قال: كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته و دابته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال: «لا بأس» «1».

10- و ما رواه محمّد بن أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن. فقال: «لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيرا فلا يباع إلّا بالنقد» «2».

و الرواية الأخيرة و ان كان فيها تفصيل إلّا أنّه يستفاد منها المقصود، فانّها ناظرة إلي أنّه يمكن أن يجعله خمرا فيعطي ثمنك منها فخذ ثمن العصير نقدا (كما يظهر ذلك من بعض الروايات السابقة).

هذا و دلالتها

واضحة، و بعض أسنادها صحيحة مع تظافرها.

و لكنّ فيها مع قطع النظر عمّا يعارضها بعض الإشكالات:

1- ورد في رواية أبي كهمس قوله «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم إنّه يصنعه خمرا» «3».

و في رواية رفاعة «ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شرابا خبيثا»؟!

و كلاهما يدلّان علي استمرار ذلك منه عليه السّلام و هذا بعيد جدّا من أمر أئمّة الدين ولاة المسلمين و القدوة في جميع الأمر للخلق أجمعين و إن كان جائزا لسائر الناس، و الأوّل و ان كان ضعيفا بأبي كهمس، و لكن الثانية صحيحة.

2- قد ورد في أمر الخمر من التشديد ما لا يخفي، حيث لعن عشر طوائف فيها غارسها و حارسها و … فكيف جعل أمر البيع فيها بهذه السهولة و لو لم يكن البيع بهدف التخمير، و لكن العلم حاصل بأنّه يجعل العنب أو العصير خمرا حتّي قد عرفت في بعضها أنّه يجعله خمرا في نفس القربة التي يأخذ العصير فيها (10/ 59).

3- إذا كان المشتري ممّن يكون عمله محرّما دائما أو غالبا فكيف يحلّ أخذ الثمن منه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 126، الباب 39، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 59، ح 1.

(3). «هو ذا» أمّا كلمة واحدة بمعني أنّ ما ذكر هو الذي نحن نعمله أو مركّب من كلمتين.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 118

الذي يعلم أو يغلب علي الظنّ أنّه حرام (و الاعتماد علي اليد هنا مشكل كما أشرنا في محلّه)؟ و كيف يأخذ الإمام عليه السّلام هذا الثمن المعلوم حرمته أو المشكوك جدّا؟

الطائفة الثّانية:

ما يدلّ علي حرمة المقدّمات هنا (و منه بيع العنب ممّن يعمله خمرا) و هي روايات:

1- ما رواه صابر قال: سألت أبا عبد

اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال:

«حرام أجره» «1».

2- و ما رواه ابن اذينة قال: كتبت إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب، فباعه ممّن يتّخذه برابط، فقال: «لا بأس به»، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا قال:

«لا» «2».

3- ما رواه عمر بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع للصليب و الصنم؟ قال: «لا» «3».

4- و ما دلّ علي حرمة بيع السلاح لأهل الحرب «4».

5- و ما دلّ علي ذمّ الخمر و كلّ من تلبّس بشي ء من أعمالها «5».

بحيث يشمل ما نحن فيه بطريق أولي.

و أمّا طريق الجمع بين الطائفتين فقد ذكر في الحدائق له وجوها:

1- الجمع بينهما بحمل أخبار المنع علي الكراهة، و أسنده إلي الأصحاب، ثمّ نفاه بأنّ ظواهر الأخبار لا تساعده «6».

و هو كذلك، لاستمرار فعل الأئمّة عليهم السّلام بظاهره هذه الأخبار عليه، و من البعيد استمرار عملهم علي الكراهة، و اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه و قال: الأولي حمل أخبار المانعة علي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 125، الباب 39، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 127، الباب 41، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). المصدر السابق، ص 69، الباب 8، من أبواب ما يكتسب (أحاديث الباب).

(5). المصدر السابق، ص 164، الباب 55.

(6). الحدائق، ج 18، ص 206.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 119

الكراهة، لشهادة غير واحد من الأخبار بذلك كما أفتي به جماعة انتهي «1» و قد عرفت ما فيه.

2- ما حكاه في الحدائق أيضا عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه من حمل الأخبار المجوّزة علي ما إذا علم

بأنّه ممّن يصنع الخمر، لا أنّه يصنع خصوص هذا العنب خمرا، بل قال لا نعلم فتوي المجوّز بذلك «2»! و اختاره السيّد في حاشيته علي المكاسب «3».

و فيه: إنّه لا يساعده ظواهرها، لأنّ بيع العنب ممّن يجعله خمرا ظاهر في أنّه يجعل نفس هذا العنب، بل في بعضها أنّه يجعل نفس العصير في القربة خمرا.

3- ما اختاره هو من حمل المانعة علي ما وقع فيه الاشتراط في العقد علي البيع لتلك الغاية المحرّمة، و حلّية ما سوي ذلك (بدون كراهة).

و لكن هذا المعني أيضا عجيب، أوّلا: لبعد الاشتراط لعدم الداعي إليه (فإنّ الداعي علي الاشتراط في الإجارة موجود، و لكن في البيع قلّما يتّفق، و إن كان ممكنا و لكنّه بعيد).

ثانيا: كيف يجوز أن يتفوّه بجواز ذلك حتّي بلا كراهة مع شدّة أمر الخمر و أشباهها؟

و هناك جمع رابع اختاره بعض أكابر أهل العصر، و هو التفكيك بين الموارد بحرمة بيع الخشب للصنم، و جواز بيع العنب، و لا منافاة بينهما.

و فيه: إنّه هل يمكن التفكيك بين الإجارة و البيع؟ مضافا إلي ما عرفت من أنّ الحكم ظاهرا من باب واحد كما فهمه الأصحاب غالبا أو جميعا.

و من ذلك كلّه يظهر أنّه يصل الأمر إلي التعارض، و حينئذ الموافق لعمومات كتاب اللّه و الاصول الثابتة من الشريفة هو المنع.

و القول بأنّ الأخبار المجوّزة موافقة لعمومات حلّية البيع كما تري، بعد ما عرفت من أنّ هناك عمومات مقدّمة عليها، و هو عموم حرمة الإعانة علي الإثم و شبهه.

هذا و يمكن أن يقال: مع قطع النظر عن التعارض لا بدّ من إرجاع علم الأخبار المجوّزة إلي أهلها لو لم يمكن حملها علي الضرورة و شبهها، لما فيه

من المخالفة للأصول المعتضدة

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 17.

(2). الحدائق، ج 18، ص 205.

(3). حاشية المكاسب، للسيّد اليزدي، ص 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 120

بالعقل، و كيف يتصوّر إقدام الإمام عليه السّلام علي مثل هذا الأمر مستمرّا من غير حزازة مع أنّه لو أقدم بعض ضعفاء الإيمان في عصرنا ذلك أنكروا عليه، هذا مضافا إلي أنّه من البعيد جدّا أنّ المدينة كانت في تلك الأزمنة مركزا للخمّارين حتّي لم يجدوا من يشتري عنبهم و تمرهم غير الخمّارين؟!

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: هو أنّ بعض الأكابر ذكر هنا امورا ضعيفة استدلّ بها علي ما ذهب إليه من عدم حرمة الإعانة علي الإثم، نذكر منها أمرين:

1- لو حرّمت الإعانة مطلقا، لزم عدم جواز سقي الكافر أصلا لنجاسة الماء بملاقاة بدنهم (فشربه حرام بالنسبة له بعد كونه نجسا لأنّهم مأمورون بالفروع).

و فيه مضافا إلي عدم نجاسة الكفّار علي الأقوي، أنّها أمر حاصل علي كلّ حال، و الأمر بسقيهم أهمّ من ترك شربهم حتّي يموتوا (غير المعاندين و أهل الحرب منهم).

2- قيام السيرة في التجارات و المعاملات و إقامة الأندية و المجالس، مع أنّه يرتكب فيها محرّمات بالعلم الإجمالي، فقد يتقوّي بها علي معصية اللّه فتكون إعانة عليها «1».

و فيه أنّ ذلك مقدّمات بعيدة، أو ليست من قبيل إعطاء المقدّمة بيد الغير أصلا، و إنّما ينتفع بها هو بسوء اختياره، و الفرق واضح.

الأمر الثّاني: ذكر العلّامة الأنصاري قدّس سرّه إنّ فعل ما هو بشرط الحرام الصادر عن الغير علي وجوه، ثمّ ذكر خمسة وجوه:

1- ما يقع بقصد التوصّل إلي الحرام.

2- ما يقع لا بقصد حصول المقدّمة و لا ذي المقدّمة كفعل التاجر.

3- ما قصد فيه المقدّمة دون ذي المقدّمة

(لا من قبل البائع و لا المشتري).

4- ما قصد فيه المقدّمة من قبل البائع، و المشتري قصد ذا المقدّمة أيضا و كان ترك بيعه له علّة تامّة لتركه.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 183.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 121

5- ما لا يكون علّة تامّة لتركه.

و حكم بالحرمة في الأوّل و الرابع، و بالحلّية في البواقي.

و يردّ عليه: «أوّلا»: إنّ المعيار صدق الإعانة و عدمها، و هو حاصل بالوجدان في جميع الصور إذا انتهي إلي الحرام و تحقّق التخمير مثلا، إلّا الصورة الثانية لعدم صدور مثله للحرام منه، و عدم إقدامه علي ذلك.

و ثانيا: إنّ القصد في كثير من الموارد قهري حاصل كما عرفت مرارا.

و ثالثا: إنّ ترك هذا الفعل علّة تامّة لترك الحرام دائما بالنسبة إلي هذا المصداق بعينه و ان كان نادرا علي مصداق آخر، مضافا إلي أنّ الفرق بين العلّة التامّة و غيرها لا يكون إلّا في أدلّة النهي عن المنكر، أمّا إذا كان الدليل هو الإعانة علي الإثم، فلا فرق فيه من هذه الجهة (فتأمّل فانّه دقيق).

الصورة الخامسة: ما إذا كان الحرام جزءا أو صفة كبيع الأمة المغنية، أو العبد الماهر في القمار، أو ما كان آلة مشتركة كآلة ينتفع منها في الحلال و الحرام معا و يقصدهما جميعا، كظرف يشرب فيه الماء و الخمر، و جهاز تسجيل يستفاد منه في التجسّس و غيره، ففيه صور:

1- ما يكون عنوان البيع و ملاك المالية فيه هو الحرام، كالجارية المغنية بهذا العنوان.

2- ما يكون عنوانه نفس بيع الجارية، و لكن التغنّي داع مثلا.

3- ما لا يلاحظ فيه المنفعة أصلا (و لكن قد يكون إعانة و قد لا يكون).

4- ما يكون عنوان المبيع

الجارية المغنية، و لكن بما أنّه صفة كمال تذكر الجنّة مثلا (و هذا المنفعة تارة تكون غالبة و اخري نادرة).

ففي الواقع هنا ستّ صور …

و الكلام تارة بحسب القواعد، و اخري بحسب الأدلّة الخاصّة.

أمّا بحسب القواعد:

فنقول: أمّا الصورة الاولي، فهي من قبيل أكل المال بالباطل قطعا، و ذلك لأنّه ليس له

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 122

منافع محلّلة، و التفكيك بين الصفة و الموصوف غير صحيح عرفا و شرعا، و ليس من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك، كما هو ظاهر، لكن قد يقال هنا بالصحّة فيه أيضا لأمرين:

1- إنّ هذا الوصف لا يقابل بالمال، و إن كان بذل المال بملاحظة وجوده.

2- لو سلّم أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن، و لكن ليس مجرّد الوصف محرّما، إنّما المحرّم الفعل الخارجي- كما ورد في الحديث أنّ قدرة الإنسان علي المحرّمات ربّما تجعله أعلي من الملائكة إذا تركها، و فيه مواقع للنظر.

أمّا أوّلا: فلأنّ الكلام في أنّ المالية بلحاظ المنفعة المحرّمة منتفية عند الشارع، فلا يجوز بذل المال بهذا اللحاظ.

أ رأيت إن كانت منافعه كلّها محرّمة، فهل كان له مالية؟

و ثانيا: كون العمل الخارجي حراما دون مجرّد الوصف مسلّم، و لكن الكلام في أنّ الشارع لا يري لهذا الوصف تأثيرا في المالية، مع أنّ المتبايعين جعلاه ملاكا لها.

و ثالثا: العجب من قوله أخيرا بأنّ وجود القدرة علي المحرّمات ربّما يوجب كون الإنسان أعلي قيمة و مقاما علي الملائكة، فانّه شبيه بالمغالطة، فانّه يكون أعلي بملاحظة تركها، و هذا بملاحظة فعلها.

فهنا ينتفع منه في طريق الحرام، و هناك يعارض و يقابل بالصبر و الاستقامة.

و أمّا الصور الاخري، فلا دليل علي حرمتها إلّا إذا كانت المنفعة

المحلّلة نادرة أو كانت إعانة للمشتري علي الحرام، هذا بحسب القواعد.

أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة فيدلّ علي حرمة بيعها روايات كثيرة منها.

1- ما رواه إسحاق بن يعقوب في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري بخطّ صاحب الزمان عليه السّلام: «أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه و ثبّتك من أمر المنكرين لي «إلي أن قال»: و أمّا ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلّا لما تاب و طهر، و ثمن المغنية حرام» «1».

و هذه الرواية ضعيفة لمحمّد بن عصام.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 86، الباب 16، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 123

2- و ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهنّ أربعة عشر الف دينار و قد جعل لك ثلثها.

فقال: «لا حاجة لي فيها إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت» «1».

3- و ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصي إسحاق بن عمر بجوار له مغنيات أن تبيعهنّ و يحمل ثمنهنّ إلي أبي الحسن عليه السّلام قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة الف درهم، و حملت الثمن إليه، فقلت له: إنّ مولي لك يقال له إسحاق بن عمر أوصي عند وفاته ببيع جوار له مغنيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهنّ، و هذا الثمن ثلاثمائة الف درهم. فقال: «لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهم سحت» «2».

و يحتمل أن تكون هذه الرواية و سابقتها واحدة بالإضافة إلي إرسالهما.

4- و ما رواه الحسن بن علي الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه

السّلام عن شراء المغنية قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن كلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النار» «3».

و هذه الرواية أيضا ضعيفة بسهل بن زياد (بناء علي ضعفه).

5- و ما رواه سعيد بن محمّد الطاهري عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: «شرائهن و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر استماعهنّ نفاق» «4».

و الرواية ضعيفة بالطاهري.

6- ما رواه أبو امامة عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «لا تبتاعوا المغنيات و لا تشترهنّ …

و ثمنهنّ حرام» «5».

و لو فرض ضعف إسناد جميعها ففي تظافرها و عمل المشهور بها كفاية.

نعم قد يعارض بمرسلة الصدوق رحمه اللّه تارة و هي:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 87، الباب 16، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 88، ح 6.

(4). المصدر السابق، ح 7.

(5). السنن الكبري للبيهقي، ج 6، ص 14، باب ما جاء في بيع المغنيات.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 124

ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: سأل رجل علي بن الحسين عليه السّلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليس بغناء، فأمّا الغناء فمحظور» «1».

و اخري برواية الدينوري، و هي:

ما رواه عبد اللّه بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في النصرانية أشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال: «اشتر و بع؟» قلت: فأنكح. فسكت عن ذلك قليلا ثمّ نظر إليّ و قال شبه الاخفاء: «هي لك حلال»، قال:

قلت جعلت فداك فأشتري المغنية أو الجارية تحسن أن تغني اريد بها الرزق لا سوي ذلك قال: «اشتر و بع» «2».

و لكنّه واضح الضعف، أمّا الاولي فضعيفة سندا و دلالة، لأنّ السؤال فيها عن شراء جارية لها صوت و هي غير المغنية، و أمّا الثانية فضعيفة أيضا للدينوري، مضافا إلي تقديم الطائفة الاولي بعمل المشهور و موافقتها للقواعد.

بقي الكلام في حكم سائر الصور من بيع ماله منافع محلّلة و محرّمة و الحكم الوضعي في الجميع، فلنعد إلي الصور الستّة السابقة و نري حالها فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية):

أمّا الصورة الاولي: و هي ما إذا كان عنوان المعاملة محرّما كإجارة البيت لبيع الخمر أو صنعته أو اشتراط ذلك فيه و بذل المال بإزائه، فالظاهر أنّها محرّمة، و مضافا إلي الحرمة التكليفية تكون باطلة لكونها أكلا للمال بالباطل، و دعوي عدم وقوع الثمن بازاء الشرط- في صورة الاشتراط- قد عرفت الجواب عنها، لأنّه مؤثّر في ازدياد قيمة العين، مع أنّ المفروض سقوط هذه الفائدة شرعا و عدم الاعتناء بها.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة و الرابعة (أعني ما إذا كان الداعي هو الحرام، أو علم ذلك من المشتري، أو يعلم بأنّه يصرفه في الحرام) فكلّها حرام أيضا من باب الإعانة، و لكن لا دليل علي بطلان المعاملة حينئذ، لأنّ الإعانة علي الإثم حرام تكليفا لا تؤثّر في فساد المعاملة،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 86، الباب 16، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 125

و لا يوجب كون أكل المال فيها أكلا بالباطل.

نعم، بعض فقرات رواية تحف العقول مثل قوله «أمّا وجوه الحرام من

البيع … » إلي قوله «أو باب يوهن به الحقّ» «1» يمكن أن تكون دليلا للبطلان.

هذا و لكن مضافا إلي ضعف سندها قد يكون فيها ما يدلّ علي خلاف ذلك، مثل قوله عليه السّلام: «و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة تصرف في الحرام».

و أمّا الخامسة و هي التي وقع العمل المحرّم في متن العقد و عنوانا في البيع فهي أيضا باطلة بلا ريب و لا إشكال، لعين ما عرفت من أنّها أكل المال بالباطل و لقاعدة التحريم.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 56، الباب 2، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 127

الثّامن- بيع ما فيه تقوية للكفر و الضلال و الفساد

اشارة

عنونه الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) ببيع السلاح لأعداء الدين، و قد ذكروا فيه أقوالا، و لكن الإنصاف إمكان تعميم البحث لكلّ ما يكون له شأنية قريبة و مظنّة لفساد عظيم أو لمطلق الفساد بين الناس أو بين المسلمين.

فلنذكر ما ذكروه تحت عنوان بيع السلاح لأعداء الدين، ثمّ نتكلّم إن شاء اللّه في إمكان تعميم البحث، فنقول و منه تعالي التوفيق و الهداية:

المشهور حرمة بيع السلاح لأعداء الدين، بل لم ينقل فيه خلاف، و هل هو مطلق شامل لحال الحرب، و الهدنة، و الصلح، كما عن حواشي الشهيد «1» أو في خصوص حال الحرب، كما اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه «2»؟

و هل يختصّ ذلك بما إذا قصد البائع المعونة كما عن بعض أو يعمّ؟

و هل يختصّ بالسلاح، أو يشمل غير أيضا؟ هناك أقوال كثيرة لا يهمّنا نقل جميعها.

و العمدة من بينها ما عرفت، ثمّ إنّ هذه المسألة قد يتكلّم فيها بحسب روايات الباب، و اخري بحسب مقتضي القاعدة.

و حاصل الكلام فيها من ناحية الروايات:

انّ هناك

طوائف من الروايات.

الطائفة الاولي ما دلّ علي النهي مطلقا مثل:

1- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن حمل

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 19.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 128

المسلمين إلي المشركين التجارة. قال: «إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس» «1».

و هذه الرواية صحيحة سندا.

2- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي كفر باللّه العظيم من هذه الامّة عشرة.. إلي أن قال: و بائع السلاح من أهل الحرب» «2».

و الحديث مشتمل علي عدّة مجاهيل، و قوله «بائع السلاح من أهل الحرب» أعمّ من كونهم في حال الحرب كما لا يخفي.

«الطائفة الثانية» ما دلّ علي التفصيل بين حال الحرب و غيره مثل:

3- ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلنا علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له حكم السراج: ما تقول فيمن يحمل إلي الشام السروج و أداتها؟ فقال: «لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم، أنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج و السلاح» «3».

و هي ضعيفة بالحضرمي ظاهرا.

4- و ما رواه أبو سارة عن هند السراج قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلحك اللّه إنّي كنت أحمل السلاح إلي أهل الشام فأبيعه منهم (فيهم)، فلمّا عرّفني اللّه هذا الأمر ضقت بذلك، و قلت لا أحمل إلي أعداء اللّه، فقال لي: «احمل إليهم و بعهم، فإنّ اللّه

يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم يعني الروم، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلي عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك» «4».

و هذه الرواية أيضا ضعيفة بأبي سارة.

5- و ما رواه السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح. قال: فقال: «لا تبعه في فتنة» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 70، الباب 8، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 71، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 69، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 69، ح 2.

(5). المصدر السابق، ص 70، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 129

و فيه سند الرواية أيضا إشكال «1».

و هناك رواية واحدة مطلقة دالّة علي الجواز مطلقا و هي:

6- ما رواه أبو القاسم الصيقل قال: كتبت إليه، إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟ «فكتب لا بأس به» «2». و هذا الحديث ضعيف ب «الصيقل».

و أمّا ما رواه محمّد بن قيس (الحديث 3/ 8) فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّه ورد في طائفتين من أهل الباطل، و لعلّه لا يشمل ما نحن بصدده.

ثمّ أنّه هل يجوز الجمع بينها بحمل المطلقات علي المقيّدات كما هو ظاهر كلام العلّامة الأنصاري قدّس سرّه، أم لا؟ «3» و لعلّه ظاهر الشهيد أيضا.

و ما قد يقال من أنّ المطلّقات ناظرة إلي الكفّار، و الروايات المفصّلة مخصوصة بالمسلمين، فلو كانوا يقفون في مواجهة الأئمّة و الشيعة فلا يجوز البيع لهم، و إلّا يجوز، مضافا إلي أنّ تمكين المشركين أو الكفّار من السلاح غير جائز، لاستقلال العقل بقبح تقويتهم، مضافا إلي أنّه نقض للغرض من قوله تعالي وَ أَعِدُّوا لَهُمْ

مَا اسْتَطَعْتُمْ … «4».

ففيه: إنّ قوله عليه السّلام: «أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه» في رواية الحضرمي (1/ 8) و قوله: لا تبعه في فتنة (4/ 8)، كلّها دليل علي عدم الفرق بين الكفّار و غيرهم، هذا أوّلا.

و أمّا ثانيا، فلأنّه قد لا يكون من ناحية بعض الكفّار خطر علي المسلمين أصلا، بل قد يكون بعضهم خطرا علي الأعداء فقط، فدعوي استقلال العقل علي إطلاقه بعيد جدّا، و أمّا ثالثا، فلأنّ «الإعداد لهم» لا يدلّ علي عدم جواز البيع لهم في الصورة التي أشرنا إليها، بل قد يكون بيعها لهم نحو «اعداد المسلمين» في مقابل الكفّار.

فما لم يكن فيه خطر قريب أو كالقريب لا دليل علي الحرمة، و الجمع الذي عرفت صحيح.

و الحاصل، إنّ الأمر يدور مدار تقويتهم ضدّ الحقّ و عدمه.

______________________________

(1). لما نقل في الكافي و التهذيب عن السراد عن رجل.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المكاسب المحرّمة، للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 19.

(4). سورة الأنفال، الآية 60.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 130

بقي هنا أمران:

1- هل يختصّ الحكم بالسلاح، أو يعمّ كلّ ما يتقوّي به الأعداء؟ الذي اختاره الشيخ في النهاية، و ظاهر السرائر، و العلّامة في أكثر كتبه، و الشهيدان و المحقّق الثاني، و شيخنا الأنصاري قدّس سرّه هو الاختصاص بالأوّل «1».

خلافا لبعض حواشي الشهيد قدّس سرّه علي القواعد فيما حكي عنه.

استدلّ للعموم بأنّ معني السلاح أعمّ لغة، هذا أوّلا، و قوله «يستعينون به علينا» في رواية هند السراج (2/ 8) ثانيا، و فحوي رواية الحكم السراج الدالّة علي النهي عن بيع السرج (1/ 8) ثالثا، و رواية تحف العقول (باب ما يوهن به الحقّ) (1/ 2) رابعا، و كونه نقضا لغرضه

تعالي في قوله تعالي وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ خامسا، و كونه تقوية لهم، و هو حرام سادسا.. و في جميعها نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ كون السلاح عاما و إن كان يشهد به بعض كلمات أهل اللغة حيث فسّروه بآلات الحرب مطلقا و لكن الظاهر من كلام بعض آخر مثل الراغب في «المفردات» و غيره حيث فسّر السلاح بكلّ ما يقاتل به، و قد وقع في كتاب اللّه في مقابل «الحذر» و هو المجن» و «الترس» و غيرهما من أشباههما ممّا يكون للحفظ لا للحرب و الضرب قال تعالي: فقد وقع وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ «2» السلاح فيه مقابل الحذر.

و أمّا الثاني: فلأنّه لا يزيد عن الاشعار مع ضعف سنده.

أمّا الثالث: فلأنّ السروج وقعت في مقابل الأسلحة، و هو دليل علي عدم شمولها لها، نعم الرواية دليل علي المنع لو صحّت أسنادها، و لكنّها ليست كذلك.

و أمّا الرابع: فلضعف سنده.

و أمّا الخامس: فلأنّه أخصّ من المدّعي.

و أمّا السادس: فلخروجه عن الاستدلال بالأدلّة الخاصّة، و سيأتي الكلام فيها.

2- هل يمكن التعدّي عن أعداء اللّه إلي غيرهم من أهل المعصية كقطّاع الطريق؟ ظاهر

______________________________

(1). علي ما نقله شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في مكاسبه، ص 19.

(2). سورة النساء، الآية 102.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 131

النصوص خروجها منه، فلا يجوز الاستدلال لها عليه، نعم قد يستند إلي بعض فقرات رواية تحف العقول من «وهن الحقّ» أو «شي ء فيه وجه من وجوه الفساد» و قد عرفت حال الرواية مرارا.

هذا كلّه إذا اريد البحث في نطاق الأحاديث الخاصّة.

تقوية أعداء الدين بنحو عامّ:

و أمّا من ناحية القواعد فيمكن أن يقال: كلّما كان مثل بيع السلاح لأعداء الدين، أو المعاملات الخطيرة معهم التي توجب قدرتهم،

و تزيد في شوكتهم، بل و جعل الصنائع المهمّة تحت اختيارهم، أو تعليمهم علوما توجب غلبتهم علي المسلمين أو غير ذلك، فهذه كلّها حرام إذا كانت علّة قريبة، أو بعيدة لمزيد شوكتهم، و خيف منهم علي المسلمين، و الدليل عليه هو صدق الإعانة علي الإثم في كثير من مواردها، و القصد هنا قهري كما عرفت، علي أنّ عدم العلم هنا غير كاف بعد كون الظنّ و الخوف في هذه المقامات طريقا عقلائيا، بل لو لم يصدق عليه عنوان الإعانة، و النهي عن المنكر، و لكن كان مخالفا لمسألة وجوب حفظ حوزة الإسلام، و كيان المسلمين الذي نحن مأمورون بحفظه بالضرورة من سلطتهم علي المسلمين فهو مخالف لحقيقة الحفظ و الرعاية.

بل قد يعدّ ذلك خيانة للمسلمين، و لذا كان إفشاء بعض أسرارهم إلي أعدائهم في غزوة الأحزاب، سببا لغضب النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و المسلمين علي عامله، حتّي تاب توبته المعروفة، و كيف يكون تزويدهم بالسلاح و غيره أقلّ من هذا؟ بل قد يكون داخلا تحت عنوان الفساد في الأرض، و إشاعة الفحشاء إذا كان من الامور التي تؤدّي إلي تقوية الفسّاق بالقوّة و جذب نفوس البسطاء و الغافلين إليهم.

نعم هنا صور اخري لا دليل علي حرمتها:

1- إذا كان الأمر بالعكس، أي كان بيعهم السلاح أو امورا اخر سببا لسيطرتهم علي بعض شعب الشرك و النفاق، التي يخاف منها علي الإسلام و المسلمين، كما في جمع من

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 132

المؤلّفة قلوبهم و إن كانوا غير مسلمين (بناء علي تفسير المؤلّفة قلوبهم بذلك) و يظهر من ذلك من قوله عليه السّلام في رواية هند السراج: «إنّ اللّه عزّ و

جلّ يدفع به عدوّنا و عدوّكم يعني الروم».

2- أن لا يكون لبيع السلاح و غيره أثرا في قوّتهم، لكونه من الامور البسيطة التي لا تتفاوت بها القدرة و القوّة من حيث الكميّة أو الكيفية، و هذا لا دليل علي حرمته أيضا كما لا يخفي.

3- أن يكون موجبا لقوّتهم من جهة، و ضعفهم من جهة اخري، و يكون الضعف أقوي و أرجح كما إذا لزم ضعفهم من الناحية الاقتصادية أكثر ممّا يوجب قوّتهم من الناحية العسكرية، بحيث يكون بالمآل موجبا لهزيمتهم، و هذا أيضا جائز، بل قد يكون واجبا، و لكن يحتاج تمييزه إلي لطف قريحة.

4- أن يكون موجبا لجلبهم و جذبهم إلي الإسلام، كما إذا كانت المعاملة معهم، و إعطاؤهم بعض الأشياء مجّانا سببا لذلك، و هو أيضا جائز.

5- أن يكون السلاح و غيره ممّا خرج عن عنوان السلاح العسكري المعمول، و صار من الأشياء العتيقة، كالترس و السيف في عصرنا، و هذا أيضا جائز لانصراف الأدلّة عنه.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ روايات الباب لا تتجاوز هذه القاعدة الكليّة، بل تذكر بعض مصاديقها، فحينئذ يكون البحث أوسع و أشمل.

بقي هنا امور:

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 132

أوّلها: ذكر في «تحرير الوسيلة» تعميم الحكم للفرق المعادية للفرقة المحقّة من المسلمين، بل و قطّاع الطريق، و التعدّي أيضا من بيع السلاح إلي بيع غيره لهم كالزاد و الراحلة المحمولة، ممّا يكون سببا لتقويتهم. انتهي «1».

و هو جيّد، بل لا بدّ من تعميم الحكم من البيع إلي الإجارة و الهبة،

بل النكاح معهم، بل

______________________________

(1). تحرير الوسيلة، للإمام الخميني، ج 1، ص 496، المسألة 11، من المسائل المكاسب المحرّمة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 133

تعليمهم الصنائع و غيرها، لاشتراك الجميع فيما عرفت من المعيار للمسألة، لعموم الأدلّة، و اقتصار الأصحاب تبعا لروايات الباب علي بعض المصاديق لا يمنعنا عن القول بعموم البحث بعد عموم الدليل.

ثانيها: ذكر في «التحرير» أيضا أنّ الأمر في تشخيص ذلك (أي مصالح الإسلام و المسلمين في حال الهدنة) موكول إلي والي المسلمين و ليس لغيره الاستبداد بذلك.

انتهي «1».

و ما أفاده إن كان بالنسبة إلي الامور المهمّة التي ترتبط بأمر الولاية و الحكومة فهو حسن، و أمّا إن كان مطلقا فهو ممنوع، لمنافاته لظاهر أخبار الباب، حيث جعل تمييز ذلك بيد المسلمين إجمالا، و مخالف لأدلّة الولاية، فإنّها لا تشتمل إلّا الامور العامّة لا الجزئية الخاصّة كما لا يخفي.

ثالثها: هل الحرمة هنا تكليفية فقط، أو يتعقّبها الفساد أيضا؟ الظاهر هو الأوّل، لأنّ الحرمة هنا من باب العناوين الثانوية، و إلّا فليس في المعاملة فساد بالذات، و ليس السلاح و شبهه كالخمر و الخنزير و آلات القمار، و ليس في روايات الباب ما يدلّ علي فساد البيع، و كونه علي حدّ الشرك أو الكفر- كما ورد فيها- لا يدلّ علي أزيد ممّا ذكرنا، و بعبارة اخري:

النهي مطلق تعلّق بعنوان خارج لا عنوان البيع.

نعم، هنا تفصيل لبعض الأعلام ذكره في غير المقام، و حاصله: إنّ البيع لو كان بعنوان المعاطاة كان الأمر كما ذكر، و أمّا إن كان بيعا بالصيغة، فحينئذ يقع التعارض بين أدلّة حرمة الإعانة و شبهها، و أدلّة لزوم الوفاء بالعقد (و لا يبعد ترجيح الأوّل، و حينئذ يحكم بالفسخ).

أقول: يرد

عليه أوّلا: إنّه في فرض المعاطاة أيضا يجب أخذه منه، و رده لو أمكن، لأنّ بقائه تحت يده كابتدائه محرم بلا تفاوت بين أنواع البيع. و ثانيا: إذا كان البيع بالصيغة فلا محالة ينتقل إليه المال، و يجوز منعه من البضاعة لا بعنوان عدم الوفاء، بل بعنوان دفع المنكر و شبهه، و هذا العنوان حاكم علي أدلّة وجوب الوفاء بالعقد، كما يجوز أخذ ملكه إذا كان سلاحا معدّا لحرب المسلمين و أشباهه، و بالجملة لا يتفاوت الحال في صحّة العقد و فساده

______________________________

(1). تحرير الوسيلة، للإمام الخميني، ج 1، ص 496، المسألة 11، من المسائل المكاسب المحرّمة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 134

بين الصورتين، فالعقد في كليهما صحيح و ثمنه ليس سحتا، و إن كان عمله حراما، و المسألة تحتاج إلي مزيد بحث و تأمّل فتأمّل.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 135

التاسع- بيع ما لا منفعة فيه

و من المكاسب المحرّمة «بيع ما لا منفعة فيه مقصودة محلّلة»، و المراد من الحرمة هنا الفساد قطعا، بل هذا الشرط بشرائط صحّة البيع أشبه من المكاسب المحرّمة كما ذكره بعض الأعلام.

و قد ادّعي الإجماع علي فساد «بيع ما لا نفع فيه منفعة محلّلة مقصودة» و عن جمع من فقهاء العامّة كذلك، و مثّلوا لها بالحشرات و العقارب و كثير من حيوان الوحش «1».

و لكن جوّز بعض العامّة جواز بيعها إذا كان ينتفع بها، فإن كان مراده منفعة عامّة فلا كلام، و إن كان منفعة نادرة كان من الأقوال المخالفة، و قد ذهب بعض أعلام العصر أيضا إلي جواز ذلك.

و العمدة ملاحظة الدليل هنا، فنقول (و منه جلّ و علا التوفيق و الهداية): غاية ما يمكن الاستدلال له امور:

1- الإجماع، و قد

اعتمد عليه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته.

و من المعلوم أنّ الإجماع لا يمكن الاعتماد عليه في أمثال المقام ممّا احتفّ بامور يمكن اعتماد المجمعين عليها.

2- عدم كونها مالا، فلا يجوز المعاوضة عليها- توضيحه: إنّ حقيقة المالية هي كون الشي ء بحيث يبذل بازائه أشياء اخر يعتدّ بها.

و الأصل في ذلك أنّ الأشياء الموجودة في عالم الطبيعة، قد لا ينتفع منها الإنسان بمنفعة أبدا، أو تكون منافعها قليلة نادرة لا يتوجّه إليها عامّة الناس، و قد يتوجّه إليها، و علي الثاني

______________________________

(1). و المناقشة في بعض الأمثلة ليس من دأب أهل العلم بعد كون المراد معلوما.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 136

تارة يوجد منها كميّة كبيرة كالماء علي الشاطئ، و اخري ليست كذلك، و في الصورة الثانية ينتزع منها عنوان المالية، لأنّ سائر الناس يبذلون بازائها مالا لينتفعوا بها، و من هنا نشأت المالية في المجتمع الإنساني، و من بعدها الملكية، و من الواضح أنّ النفع النادر لا يكون معيارا للحكم عندهم في هذه المقامات.

و الشاهد عليه أنّه إذا أتلفه إنسان لا يرونه ضامنا لشي ء من المال و ان كان محلّ رغبته بشخصه، و يحتاج إليه لبعض مقاصده و يبذل بعض أمواله ليتسلّط عليه و يكون تحت يده.

و كذلك لا يعدّ عندهم غنيّا بذلك، و لا يحسب في الإرث، نعم لو كان له حقّ الاختصاص بحسب ملاكات عقلائية جري عليه حكمه. و من العجب إنكار هذه الامور من ناحية بعضهم مع أنّها من الواضحات، فالماء علي الشاطئ و الحصاة في الوادي ليست مالا و إن تعلّق بعض الناس بشي ء منها بالخصوص. ثمّ إنّ المعاوضات- لا عنوان البيع فقط- تدور مدار المالية، و بدونها لا تعدّ

القوانين العقلائية لها معني، فلا تدور مالية الماء علي طريقة العقلاء مدار رغبات الأشخاص و الآحاد، بل المدار في الجميع هو علاقة النوع، فقد تكون رغبة شخص في شي ء خاص أكثر من غيره بمراتب، بينما لا يكون عند سائر الناس كذلك، و أحكام الضمانات و سهام الإرث و غيرها كلّها تدور علي هذا المدار لا ذاك.

و حينئذ لا يبقي مجال بأن يقال: إنّ عدم شمول عنوان البيع له لا يمنع اندراجه تحت عنوان مطلق المعاوضة عن تراض، كما أنّ المراجعة إلي أهل اللغة في إثبات عدم لزوم عنوان المال في البيع لا طائل تحته.

أمّا أوّلا: فلأنّ فهم معني البيع أظهر من أن يحتاج إلي مراجعة اللغويين، فهو لفظ لا يزال يدور علي ألسنتنا، أو ألسنة أهل اللغة و كتبهم التي بأيدينا ليلا و نهارا، و لا شكّ أنّه لا معني للبيع إذا لم يكن هناك مال.

و أمّا ثانيا: فلأنّ عنوان المعاوضة أيضا كذلك لا معني له بدون عنوان المال، و لا يري العقلاء قيمة لمعاوضة شخصية تدور مدار رغبات نادرة خاصّة، و لذا لا يرون له ضمان، و لا اندراج في الإرث من حيث القيمة كما عرفت آنفا.

و قد جعل بعض الأعلام في مكاسبه المدار علي «العرض» و «الطلب» حتّي لو نشأ عن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 137

عوامل سياسية، و لكنّه غفل عن أنّه تابع للطلب النوعي لا الشخصي، كما في المنافع النادرة.

نعم لا يعدّ بذل المال في مقابل هذه الامور من قبيل السفاهة إذا كان هناك غرض شخصي قائم به، كما إذا كانت هناك قطعة ثوب خلق بقيت من أجداده، فالبيع و أشباهه يدور مدار المالية بحسب العرف و العقلاء الذي أمضاه

الشرع، و أمّا السفاهة و شبهها فتدور مدار الأغراض الشخصية.

و الفرق بينهما أنّ الأوّل من الاعتبارات العقلائية التي تدور مدار النوع عندهم، و الثاني أمر تكويني أو شبه تكويني يدور مدار رغبات الأشخاص، فمن احتاج إلي حشرة خاصّة مثلا لنجاة مريضه من الموت فبذل بإزائها آلافا لا يعدّ سفيها، و لكن ليس لبيعه هذا قيمة عند العقلاء إذا لم تكن تلك المنفعة غالبة، كما أنّه لا يعدّ مالا، و لو أتلفه متلف لا يضمنه، و إن أثم بفعله ذلك، و أضرّ بأخيه، و منعه من حقّ اختصاصه به، فما يظهر من بعض الأعلام في مكاسبه من دوران الأمر مدار خروج المعاملة عن السفه كما تري.

3- أنّه من قبيل أكل المال بالباطل، و أي باطل عند أهل العرف أوضح من هذا.

و لكن قد يورد عليه بأنّ الآية الشريفة ناظرة إلي أسباب الملك، لا شرائط العوضين.

و بعبارة اخري: أنّها ناظرة إلي ما كان من قبيل رضي المتعاملين في مقابل القهر و الغصب و الرشوة و الغشّ و غيرها من طرق السيطرة علي مال الغير بالباطل، و يؤيّده قوله تعالي: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «1» لمكان «الباء» في قوله «بالباطل».

و فيه: إنّ كون هذه الامور من الباطل ممّا لا ريب فيه، و لكن لا دليل هنا علي الحصر فيها، و آية سورة البقرة لا تنفي ما سواها، و كون الباء للسببية أيضا غير مانع من العموم، فمن أكل مال الغير في مقابل الخمر و آلات القمار فقد أكل بسبب باطل، و كذلك في مقابل الحشرات و الأشياء التي لا مالية لها عند

العقلاء، فتأمّل.

و بالجملة المسألة عقلائية قبل أن تكون شرعية، و إنّما أمضاها الشرع، و حيث أنّها باطلة عند العقلاء من أهل العرف، فهي باطلة شرعا و منهي عنها.

______________________________

(1). سورة البقرة: الآية 188.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 138

بقي هنا امور:

الأوّل: إنّه قد يكون شي ء ممّا لا نفع فيه في زمان أو مكان، بينما يكون فيه نفع في محلّ أو زمان آخر، و لعلّه من هذا الباب جواز بيع «الهرّة» الذي ورد في بعض الروايات مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم و عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت». ثمّ قال: «و لا بأس بثمن الهرّ» «1».

و ما ورد في النهي عن بيع القرد و شرائه مثل:

ما رواه مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن القرد أن يشتري و أن يباع» «2».

و كذا ما دلّ علي جواز بيع الفهود و سباع الطير مثل:

ما رواه عيص بن قاسم: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفهود و سباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: «نعم» «3».

فلو صاد الهرّة في زمان لا ينتفع بها، و كان القرد بالعكس انعكس الحكم، كما هو ظاهر، و من هذا القبيل بيع كثير من أنواع الحيّات التي تؤخذ منها السموم في مراكز صنع الأدوية و أنواع الترياق، و كذا كثير من الحشرات أو العقاقير و النباتات و الأعشاب، و كذا بعض المعادن التي تستخرج منها اليوم موادا مفيدة جدّا لم تكن في السابق كالأورانيوم و شبهه.

و بالجملة، الأمر يدور مدار المنفعة النوعية، و لو بعنوان الدواء و شبهه، و هذا يختلف

بإختلاف الأعصار و الأمكنة، و منه يظهر الجواب عن كلام بعض الأعاظم في مسألة القرد و الهرّة «4».

الثّاني: إذا شكّ في بعض مصاديقه لاختلاف الأحوال فيه، فهل الأصل فيها الصحّة أو الفساد؟

ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه جواز الرجوع في مقام الشكّ إلي أدلّة التجارة و نحوها

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 83، الباب 14، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 123، الباب 37، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 123، ح 1.

(4). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 195.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 139

إذا كان له نفع ما و شكّ في أنّها من الغالبة أو النادرة «1».

و ذهب بعض الأعلام إلي جواز بيعها و لو مع العلم بعدم صدق المال عليه لجواز الرجوع إلي أدلّة البيع «2».

و الإنصاف عدم صحّة شي ء من ذلك، بل الأقوي الفساد فيه للشكّ في شمول أدلّة المعوّضات له بعد الشكّ في كونه مالا أم لا، فالاستدلال بالعمومات هنا كالاستدلال بالعام في الشبهات المصداقية.

الثّالث: إذا كان عدم مالية شي ء لقلّته كحبّة من حنطة، لا لخسّته، و هكذا الحال في سائر الأجزاء اليسيرة، و حينئذ لا شكّ في دخوله في «الملك» بل الملك مؤلّف من هذه الأشياء الصغيرة غالبا، و حينئذ لو غصبه غاصب و أتلفه فإن كان قيميا، فلا كلام لعدم القيمة له، و أمّا لو كان مثليا فهل يجب فيه المثل؟

قد يقال: نعم، و إلّا لزم عدم الغرامة إذا أتلف صبرة تدريجا، اللهمّ إلّا أن يقال: يلزم فيه ما يلزم في القيمي، فتأمّل.

و قد يقال بالنفي، كما عن التذكرة، و هو الحقّ، لأنّ المفروض عدم كونه مالا، و الغرامة إنّما هي في الأموال، نعم هو

فاسق بفعله، و إمّا إذا أتلف صبرة تدريجا عدّ المجموع مالا، و كان فعلا واحدا، كما هو ظاهر، فهو ضامن للكل بما هو كلّ، لا بما هو مركّب من أجزاء مالية، فانّ المدار في هذه الامور علي العرفيات.

و قيل بالضمان مطلقا و لو كان قيميا كما يظهر من بعض الأكابر «3» استنادا علي السيرة القطعية، فعلي هذا لو لم يكن مثليّا و المفروض إنّه ليس له قيمة يبقي مشغول الذمّة إلي يوم القيامة كالمفلس.

و لكنّه عجيب، لأنّ اعتبار الضمان هنا لغو إذا لم يمكن الخروج منه، و الفرق بين المفلس و بين المقام ظاهر، فإنّه ممكن الأداء ذاتا إن كان المفلس لا يقدر عليه في زمان خاصّ،

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 20.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 195.

(3). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 196.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 140

و مورد الكلام غير ممكن الأداء ذاتا.

الرّابع- لا ينبغي الشكّ في ثبوت حقّ الاختصاص في الأشياء التي لها منافع نادرة لأدلّة الحيازة، و يمكن المصالحة علي رفع اليد عنها بشي ء قليل أو كثير، و لا يعدّ من أكل المال بالباطل إذا كان عقلائيا.

الخامس- ذكر بعض الأعلام في بعض كلماته تقسيم ما لا نفع فيه إلي ثلاثة أقسام:

«قسم» لا منفعة فيه عاجلا و لا آجلا، و يكون في نفس المعاملة غرض عقلائي نوعي أو شخصي، و «قسم» لا منفعة فيه مطلقا، لكن كان للمشتري فيه غرض عقلائي نوعي أو شخصي في شرائه، كما لو هجمت الهوام المؤذية علي بستان فتعلّق غرض المالك بشراء جثثها بثمن غال مقدّمة لدفعها.

و «قسم» له منفعة لا يعتدّ بها العقلاء.

ثمّ صرّح بصحّة القسم الثاني و بعض فروض القسم الثالث، و هو ما

كان له دواع عقلائية شخصية و ان لم تكن نوعية.

و أنت خبير بعد ما عرفت بعدم صحّة القسم الثاني أيضا، لأنّ البيع و سائر المعوّضات فرع المالية العقلائية، و المفروض أنّه لا مالية فيها، و قوله أنّ المالية فرع «العرض و الطلب» و هو هنا موجود، ممنوع، لأنّ الطلب غير موجود في نفس الهوام، و إنّما هو ذريعة لإعدامها، و لو كان مالا كان إفنائها حراما، فليس هو في الواقع بيعا، بل اجرة للعمل، سمّيت بيعا تسامحا كما هو ظاهر، هذا مضافا إلي أنّ مدار المالية هو الطلب النوعي لا الشخصي، و كذلك الفرض الثالث التي لا تعدّ المنفعة غالبة في عرف العقلاء، لما عرفت أنّ الدواعي الشخصية لا تكون ميزانا للمالية عندهم.

السّادس: قد يستدلّ لما ذكرنا من عدم الاعتناء بالمنافع النادرة بما روي عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في اليهود، قال صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها و إنّ اللّه إذا حرّم علي قوم أكل شي ء حرّم ثمنه» «1».

رواة تارة في عوالي اللئالي، و اخري في دعائم الإسلام، و مثلهما رواية تحف العقول،

______________________________

(1). المستدرك، ج 13، ص 73، الباب 6، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 141

لأنّه ذكر في تفسير وجوه الحرام، من التجارات أمثلة كثيرة لها منافع نادرة قطعا فلم يعتدّ بها، مثل لحوم السباع أو الطير أو جلودها أو الخمر أو الأشياء النجسة، و كذلك ما ورد في وجوه الحرام من الصناعات كصنع الأشربة المحرّمة و البرابط و المزامير و غيرها، فإنّه جميع ذلك قد يكون لها منافع نادرة كالتداوي بدهن

السباع و لو بدلكها و التدهين بها، أو إطعام لحومها جوارح الطير و الكلاب المملوكة و الحيوانات الموجودة في «بستان الوحوش» و غيرها، و لكن مع ذلك عدّ هذا كالعدم، و جعل هذه الامور ممّا يجي ء منها الفساد محضا.

و الإنصاف إنّها دلائل ظاهرة علي المقصود لو صحّت اسنادها أو قلنا بتظافرها أو جبرها بعمل الأصحاب، و لا يعتني باحتمال حرمة جميع منافع الشحوم علي اليهود، بل الظاهر حرمة أكلها أو المنافع الغالبة لها، لهذا قال بعده «إنّ اللّه إذا حرّم علي قوم أكل شي ء حرّم ثمنه».

السّابع- لا إشكال في أنّ الحرمة هنا مستلزمة للفساد لما عرفت فيها من الأدلّة السابقة الآنفة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 143

العاشر- الأعمال المحرّمة التي قد يكتسب بها

اشارة

و قد ذكر الأصحاب تحت هذا العنوان امورا محرّمة كثيرة لم يذكروها في موضع آخر من الفقه، بعضها يكتسب به، و بعضها ليس كذلك، فقد ذكر منها في الحدائق أقلّ من العشرين «1» و أنهاها في الجواهر بما يقرب من العشرين «2» و العلّامة الأنصاري قدّس سرّه بما يقرب من ثلاثين «3» و رتّبها علي حروف التهجّي. و بعض المتأخّرين أضافوا إليها بعض الامور الاخر، و هي في حدّ نفسها مباحث قيّمة و فيها فوائد جمّة، و إن كان بعضها خارجا عن المعاملات، فإنّ «الكذب» و «التشبيب بالمرأة الأجنبية» و «تزيين الرجل و المرأة بما يحرم عليهما» ليست امورا يكتسب بها، لا كلّا و لا جزءا لشي ء يكتسب به، نعم قد تكون مقدّمة و ذريعة لبعض المكاسب، أو من المقارنات لها، و هذا لا دخل له بما نحن بصدده، لكن كثير منها من الامور التي قد يكتسب بها، مثل مئونة الظلمة، و تدليس الماشطة، و القمار، و

الغناء، و عمل المجسّمة، و التنجيم، و الشعبدة، و القيادة، و قد يكون جزءا لعمل كالغشّ، و مدح من لا يستحقّ المدح و شبهها، فلا بأس بالاقتداء بهم (رضوان اللّه تعالي عليهم أجمعين) و سرد هذه المباحث أجمع، لأنّها من أشدّ ما يبتلي به، بل لا بدّ من تعميم بعضها و بسطه و إلحاق ما فيه الحاجة اليوم إليها.

و ليعلم أنّ هذه الأبحاث كلّها أبحاث صغروية لبحث المعاملات، خلافا لغالب المباحث الآتية في البيع، فإنّها كبروية كما لا يخفي.

فنقول، و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية:

______________________________

(1). الحدائق، المجلّد 18، الصفحة 98.

(2). الجواهر، ج 22، ص 41- 115.

(3). المكاسب المحرّمة، ابتداء من الصفحة 21.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 144

1- تدليس الماشطة

و قد تعرّض له الأصحاب في كثير من كتبهم، بل ادّعي علي حرمته الإجماع في غير واحد منها كالرياض «1» و غيره «2» هنا، و سيأتي أنّ الأدلّة العامّة في المسألة لا تختصّ بها، بل يشمل كلّ مورد كان البناء علي التدليس فيه، حتّي في مثل الألبسة و المراكب و الدور و السجّاد و غيرها، بأن يعمل في الحيوان أو اللباس أو الدار الذي يراد شراؤه شي ء يوجب الغشّ علي المشتري.

ثمّ اعلم أنّ الكلام فيه تارة من ناحية القواعد العامّة، و اخري من ناحية الأدلّة الخاصّة، و الكلام في الأوّل تارة في الصغري، و اخري في الكبري.

أمّا الكبري، فالظاهر أنّ كلّ غشّ يوجب تفويت حقّ من مسلم (كما إذا كان في مقام النكاح أو البيع أو الإجارة) فهو حرام، لما سيأتي من أدلّة حرمته عقلا و شرعا، و أنّ المسلم لا يغشّ، بل ادّعي تواتر الروايات من طرقنا و طرق أهل السنّة علي ذلك، نعم

إذا لم يوجب تفويت حقّ كإظهار الإنسان لباسه، أو داره، أو مركبه أحسن ممّا هي في الواقع من دون إرادة بيع أو إجارة أو نحوهما، فلا مانع منه أصلا.

و أمّا الصغري فقد يقال إنّه ليس في عمل الماشطة غشّ، بل الغشّ يتحصّل ممّن يعرض المغشوشة للنكاح و البيع، و حالها كحال من يصنع السبحة و يرائي بها في العبادة و الأذكار.

و فيه: إنّ إطلاقات الغشّ يشملها إذا كان فعلها بهذا القصد، و أين هي من صانع السبحة المشتركة بين الحلال و الحرام، نعم لو لم يكن عملها بقصد إعداد المقدّمات في مقام يراد الغشّ لم يكن به بأس.

أضف إلي ذلك أنّه قد يكون من الإعانة علي الإثم الذي قد عرفت حرمته، كما عرفت أنّ القصد في هذه المقامات قهري.

و علي هذا فعمل الماشطة بما هو كذلك ليس بحرام إذا لم يكن في مقام الغشّ، و إلّا فهو حرام للغشّ و للإعانة علي الإثم، فهي شريكة للمعرض لها للتزويج و البيع، و لذا استدلّ في

______________________________

(1). الرياض، ج 1، ص 504، من كتاب التجارة.

(2). الجواهر، ج 22، ص 113، من كتاب التجارة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 145

الجواهر علي حرمتها بالإجماع و أدلّة الغشّ «1» و لا يصغي إلي إنّه ليس الفعل فعلها، لما عرفت، و أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة فهناك طوائف من الروايات:

الاولي: ما يدلّ علي جواز نفس عملها مثل:

1- ما رواه سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر عليه السّلام عن القرامل التي تصنعها النساء في رءوسهن يصلنه بشعورهنّ. فقال: «لا بأس علي المرأة بما تزيّنت به لزوجها». قال: فقلت بلغنا أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة

فقال عليه السّلام: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم الواصلة التي تزني في شبابها، فلمّا كبرت قادت النساء إلي الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة» «2».

2- ما رواه علي بن جعفر إنّه سأل أخاه موسي بن جعفر عليه السّلام عن المرأة التي تحفّ الشعر من وجهها. قال: «لا بأس» «3».

الثّانية: ما دلّ علي الجواز و النهي عن بعض الامور، مثل استعمال الخرقة في تجلّي الوجه، أو وصل الشعور، أو المشارطة مثل:

3- ما رواه ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخلت ماشطة علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه، فأنتهي عنه، فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق، فانّه يذهب بماء الوجه، و لا تصلي الشعر بالشعر» «4».

4- و ما رواه القاسم بن محمّد عن علي عليه السّلام قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك، و قد دخلها ضيق، قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر» «5».

5- و ما رواه يحيي بن مهران عن عبد اللّه بن الحسن قال: سألته عن القرامل؟ قال: و ما

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 113.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 94، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به ح 3.

(3). المصدر السابق، ص 95، ح 8.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 94، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 146

القرامل؟

قلت: صوف تجعلها النساء في رءوسهنّ، قال: «إذا كان صوفا فلا بأس، و إن كان شعر فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة» «1».

6- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط، و قبلت ما تعطي، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة» «2».

7- و ما رواه محمّد بن مسلم في حديث أمّ حبيب الخافضة قال: و كانت لأمّ حبيب اخت يقال لها أمّ عطيّة، و كانت مقنية، يعني ماشطة، فلمّا انصرفت أمّ حبيب إلي اختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فأقبلت أمّ عطيّة إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم فأخبرته بما قالت لها اختها، فقال لها: «ادني منّي يا أمّ عطيّة! إذا أنت قنيت الجارية لا تغسلي وجهها بالخرقة فانّ الخرقة تشرب ماء الوجه» «3».

الثّالثة: ما دلّ علي حرمة خصوص بعض التزيينات من دون دلالة علي جواز غيرها و عدمه مثل:

8- ما رواه علي بن غراب عن جعفر بن محمّد عن آبائه قال: «لعن رسول اللّه 6 النامصة و المنتمصة و الواشرة و المؤتشرة و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة» «4» قال الصدوق رحمه اللّه (محمّد بن علي بن الحسين) قال علي بن الغراب: النامصة: التي تنتف الشعر، و المنتمصة التي يفعل ذلك بها و الواشرة: التي تشرّ أسنان المرأة و تفلجها و تحدّدها و المؤتشرة: التي يفعل ذلك بها، و الواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و المستوصلة: التي يفعل ذلك بها. و الواشمة: التي تشم

وشما في يد المرأة و في شي ء من بدنها و هو أن تغرز بدنها أو ظهر كفّها أو شيئا من بدنها بابرة حتّي تؤثّر فيه ثمّ تحشو بالكحل أو بالنورة فتخضر. و المستوشمة: التي يفعل ذلك بها «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 94، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 95، ح 6.

(3). المصدر السابق، ص 93، ح 1.

(4). نفس المصدر، الصفحة 95، الحديث 7.

(5). وسائل الشيعة، ج 12، ص 95، ذيل ح 7/ 19، من أبواب ما يكتسب به.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 147

هذا بناء علي قبول تفصيل «علي بن غراب» مع كون اللعن دليلا علي الحرمة كما هو الظاهر، و إن كان معناه اللغوي و بعض موارد استعماله أعمّ كما لا يخفي مثل: لعن اللّه من أكل زاده وحده «1».

هذا و طريق الجمع بينها بحمل المطلق علي المقيّد، فينتج جواز عمل الماشطة من دون أن تجلّي الوجه بالخرقة، أو توصل الشعر بالشعر، أو تستعمل الوشم، أو وشر أسنان المرأة (أي نشرها بالمنشار و فلجها) و نمص شعرها، أي نتفها.

و لكن من هذه الامور ما لا شكّ في جوازها ظاهرا إذا كان لزوجها أو لأهلها، لأنّها زينة كالوشم و وشر الإنسان إلّا إذا كان بعنوان التدليس.

و منها، ما هو مكروه علي الظاهر، كتجلّي الوجه بالخرقة لذهاب ماء الوجه، بل يمكن أن يكون إرشادا إلي ما ذكر، أعني ذهاب صفاء الوجه، من دون كراهة، و كذا المشارطة بناء علي ما ذكره غير واحد من أنّ ما يعطي للمشارطة و شبهها لا ينقص غالبا عن اجرة المثل، و قلّما يتداول المشارطة معهم أو يري ذلك منافيا للمروّة، و

لكن بعد العمل قد لا يقبلون إلّا بأضعاف المبلغ لشدّة حرصهم و سوء قضائهم، فلهذا أمرن بعدم المشارطة لكونها دليلا علي الخسّة، أو موجبة للأخذ حياء، ثمّ قبول ما يعطي تحرّزا عن سوء المطالبة.

و منها: ما هو محلّ للكلام، و هو وصل الشعر بالشعر كما سيأتي إن شاء اللّه.

و علي كلّ حال لا دليل فيها علي الحرمة لو خلت عن ذلك كلّه.

و ينبغي هنا ذكر امور:

الأمر الأوّل: هل يجوز للمرأة وصل شعرها بشعر غيرها لا في مقام الخطبة و شبهها ممّا يكون تدليسا أحيانا، بل للتزيين السائغ للزوج و أهلها؟

ظاهر غير واحد من الروايات النهي عن ذلك، إذا كان بشعر غيرها، و هذه الرّوايات علي أصناف، بعضها تدلّ علي الجواز مطلقا مثل:

______________________________

(1). الفقيه، ج 2، ص 78، باب كراهة الوحدة في السفر، ح 3، بنقل عوالي اللئالي، ج 4، ص 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 148

1- ما رواه عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون عن رسول اللّه لعن الواصلة و الموصولة، قال: فقال: «نعم». قلت: التي تمتشط و تجعل في الشعر القرامل، قال: فقال لي: «ليس بهذا بأس». قلت: فما الواصلة و الموصولة؟ قال: «الفاجرة و القوّادة» «1».

2- و ما رواه أبو بصير قال: سألته عن قصّة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها و عن الحفّ و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك، قال: «لا بأس بذلك كلّه» «2».

3- و ما مرّ من رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سئل عن القرامل التي تضعها النساء في رءوسهنّ يصلنه بشعورهنّ. فقال: «لا بأس علي المرأة بما تزيّنت به لزوجها»، قال: فقلت: بلغنا أنّ رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة. فقال: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم الواصلة و الموصولة التي تزني في شبابها، فلمّا كبرت قادت النساء إلي الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة» «3».

و هي و إن كانت مطلقة، و لكن ظاهرها جواز وصل الشعر بشعر غيره، و إلّا فمن البعيد كون سؤال الراوي عن مثل الصوف و شعر المعز، فتأمّل.

و بعضها تدلّ علي النهي الظاهر في الحرمة مثل:

4- ما مرّ من رواية ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخلت ماشطة علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت: يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «افعلي فإذا أمشطت فلا تجلي الوجه بالخرق فإنّه يذهب بماء الوجه و لا تصلي الشعور بالشعر» «4».

5- و ما رواه علي قال سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 14، ص 136، الباب 101، من أبواب مقدّمات النكاح، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 135، ح 2.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 94، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 149

6- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «لا بأس بكسب الماشطة ما

لم تشارط، و قبلت ما تعطي، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة» «1».

7- و ما رواه علي بن غراب عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام: «لعن رسول اللّه 6 النامصة و المنتمصة و الواشرة و المؤتشرة و الواصلة و المستوصلة و الواشمة و المستوشمة» «2».

بناء علي تفسيره بشخصه (كما مرّ آنفا).

و جمع منها يدلّ علي الكراهة مثل:

8- ما رواه عبد اللّه بن الحسن قال: سألته عن القرامل قال: و ما القرامل قلت: صوف تجعله النساء في رءوسهنّ قال: «إذا كان صوفا فلا بأس و إن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة» «3».

و دلالتها علي الكراهة بقرينة قوله: لا خير فيه.

9- و ما رواه ثابت بن سعيد قال سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء تجعل في رءوسهنّ القرامل قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها» «4».

10- و ما رواه سليمان بن خالد قال قلت له: المرأة تجعل في رأسها القرامل، قال:

«يصلح له الصوف و ما كان من شعر المرأة نفسها و كره أن يوصل شعر المرأة من شعر بشعر غيرها، فان وصلت شعرها بصوف أو شعر نفسها فلا بأس به» «5».

بل ما ورد فيه العطف علي النهي عن الغسل بالخرقة بقرينة اتّحاد السياق أيضا ظاهر فيما ذكرنا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 95، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). وسائل الشيعة، ج 14، ص 135،

الباب 101، من أبواب مقدّمات النكاح، ح 1.

(5). المصدر السابق، ص 136، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 150

و الحاصل أنّ الأحاديث في كلّ طائفة متظافرة و ان كان كلّها أو جلّها ضعافا بحسب السند، و هذا المقدار يكفي في الاعتماد علي اسنادها، و طريق الجمع ظاهر، و هو الحمل علي الكراهة، فلا مجال للحكم بالحرمة إلّا أن يحمل النهي علي خصوص موارد التدليس، هذا و ما قد يتوهّم أنّ لمس شعر الأجنبية و النظر إليه غير جائز ممنوع، لأنّ المعلوم حرمة النظر إليه أو لمسه إذا كان جزءا من بدنها، أمّا إذا انفصل فقد تبدّل الموضوع بموضوع آخر كما هو واضح، و لا مجال للاستصحاب أيضا، لذلك، و ان فرضنا حجيّته في الشبهات الحكمية.

الثّاني: قال الشيخ الأعظم قدّس سرّه: إنّ التدليس بما ذكرنا إنّما يحصل بمجرّد رغبة الخاطب أو المشتري و إن علما أنّ هذا البياض و الصفاء ليس واقعيا، بل حدث بواسطة هذه الامور، فلا يقال أنّها ليست بتدليس لعدم خفاء أثرها. ثمّ رتّب علي ما أفاده عدّ لبس المرأة الثياب الملوّنة الموجبة لظهور بياض البدن منه. انتهي «1».

و أنت خبير أوّلا: بأنّ لفظ «التدليس» و إن لم يرد في روايات الباب إلّا أنّه بمعني كتمان العيب، و هو غير موجود هنا، و لكن قد عرفت أنّ العمدة هي عنوان «الغشّ»، و فسّره أهل اللغة بإظهار خلاف ما أضمره، و «الخدعة» و ما هو غير خالص أو مخالف للنصح.

و الظاهر اعتبار جهل المغشوش به، في مقابل التبيين، مثل ما في رواية الحلبي قال: لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّي يبيّنه «2». و قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم

في رواية سعد الإسكاف: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّا للمسلمين» «3». كما سيأتي إن شاء اللّه في أحكام الغشّ، فلو علم المشتري بحقيقة الحال لم يشمله.

و ثانيا: إنّه مخالف للسيرة المستمرّة، لأنّا لا نجد أحدا ممّن يخطب من النساء لا تلبس في تلك الحالة ثيابا حسنة جميلة، بل تلبس ما يرغب فيها، بل تتزيّن كثيرا بأنواع الزينة ممّا يعلمها الخاطب و المشتري، و لو قلنا بكون ذلك كلّه تدليسا لم يستقرّ حجر علي حجر (و بيع

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 22.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 420، الباب 9، من أبواب أحكام العيوب، ح 2.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 209، الباب 68، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 151

الأشياء في ظروف جميلة مع عرضها جيّدا معمول بين جميع العقلاء من غير نكر، فليس هذا كلّه تدليسا و غشّا ما لم يكن من باب كتمان الواقع).

الثّالث: قد عرفت أنّ البحث هنا لا يختصّ بخصوص عمل المشاطة، بل يعمّ كلّ تدليس يوجب تضييع حقّ، سواء في البيع أو الإجارة أو النكاح و غيرها لعموم الأدلّة.

الرّابع: هل يجوز الوشم لما قد يكون فيه من اضرار و إيذاء للكبير فضلا عن الصغير؟

و الإنصاف أنّ الضرر اليسير الذي يتحمّل عادة، كالمشاق الموجودة في كثير من المشاغل، لا دليل علي حرمته، نعم إذا كان ضررا كثيرا، أو انتهي إلي نقص عضو أو شبه ذلك، فانّ ذلك لا يجوز بحكم العقل و النقل، و منه يعلم حكم و شم الصغار، فانّه جائز إذا كان فيه زينة تعدّ من مصالحهم، و كان الضرر يسيرا، نظير ثقب اذان الصغيرة

و شبهه.

2- التزيين

تزيين الرجل بما يحرم عليه و تشبّه كلّ من الرجل و المرأة بالآخر، أمّا تزيينه بمثل الحرير و الذهب ممّا يحرم علي الرجال، فقد تمّ بحثه في أبحاث لباس المصلّي، و هل المدار علي «اللبس» أو «التزيين» أو المدار علي «صدق الأمرين»؟ فيه كلام يأتي في محلّه، و تظهر الثمرة فيما إذا لبسه مخفيا أو تزيّن به من دون لبس، كما إذا ألقاه علي عاتقه إذا قلنا بأنّه لا يصدق عليه اللبس.

و أمّا «تشبّه الرجال بالنساء و بالعكس» فبيان حكمه يحتاج إلي ذكر أخبار الباب، ثمّ بيان موضوعه، و أنّ المراد منها التشبيه في أي شي ء؟ و هل المراد منه في اللباس أو الزينة أو مطلقا، أو المراد منه اللواط و المساحقة؟

فنقول و منه تبارك و تعالي نسأل التوفيق و الهداية.

هناك عدّة روايات تدلّ علي حرمة التشبيه علي الإطلاق:

1- مثل ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له … و المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال … » «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 211، الباب 87، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 152

و لكن في سنده عمرو بن شمر.

2- و ما رواه زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السّلام إنّه رأي رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم، فقال له: اخرج من مسجد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم يا لعنة رسول اللّه! ثمّ قال عليه السّلام:

سمعت رسول اللّه يقول: «لعن

اللّه المتشبّهين من الرجال بالنساء و المتشبّهات من النساء بالرجال» «1».

و في سنده الحسين بن علوان، و فيه إشكال معروف.

3- و ما رواه زيد بن علي عن علي عليه السّلام قال: كنت مع رسول اللّه جالسا في المسجد حتّي أتاه رجل به تأنيث، فسلّم عليه فردّ عليه السلام، ثمّ أكبّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم إلي الأرض يسترجع، ثمّ قال: «مثل هؤلاء في أمّتي؟ إنّه لم يكن مثل هؤلاء في أمّة إلّا عذّبت قبل الساعة!» «2».

و في سنده ما في الحديث السابق.

4- ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام في الرجل يجرّ ثيابه؟

قال: «إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء» «3».

5- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء و ينهي المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها «4».

6- ما رواه يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام أو أبا إبراهيم عليه السّلام … قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه المتشبّهات بالرجال من النساء و لعن اللّه المتشبّهين من الرجال بالنساء» «5».

7- و ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال، و هم المخنّثون و اللاتي ينكحن بعضهنّ بعضا» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 211، الباب 87، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 212، ح 4.

(3). وسائل الشيعة، ج 3، ص

354، الباب 13، من أبواب أحكام الملابس، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 355، ح 2.

(5). وسائل الشيعة، ج 14، ص 262، الباب 24، من أبواب النكاح المحرّم و ما يناسبه، ح 5.

(6). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 153

و هناك روايات اخر لا تخلوا أسنادها عن الإشكال رواها المستدرك مثل:

8- ما رواه في الجعفريات عطاء عن أبي هريرة قال: لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم مخنّثين الرجال المتشبّهين بالنساء و المترجّلات من النساء المتشبّهين بالرجال «1».

9- و ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي امامة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوج و لا يتسرّي لئلّا يولد له، و الرجل يتشبّه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة تتشبّه بالرجال و قد خلقها اللّه انثي» «2».

10- و ما رواه الحضرمي قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لعن اللّه و أمّنت الملائكة علي رجل تأنّث و امرأة تذكّرت» «3».

11- و ما رواه محمّد بن حمران عن الصادق عليه السّلام … قيل يا بن رسول اللّه متي يخرج قائمكم؟ قال: «إذا تشبّه الرجال بالنساء، و النساء بالرجال، و اكتفي الرجال بالرجال، و النساء بالنساء!» «4».

12- و ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس: إنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعن المخنّثين من الرجال، و المترجّلات من النساء و قال أخرجوهم من بيوتكم، و أخرجوا فلانا و فلانا يعني المخنّثين «5».

و في معناه روايات اخر في نفس ذاك الباب عن البخاري

و مسلم و غيرهما.

هذه عمدة روايات الباب، و ليعلم أنّ المخنّث كما يستفاد من غير واحد من كتب اللغة (مثل المقاييس و منتهي الأرب و غيرهما) هو من كان فيه لين و تكسّر مثل النساء، و يظهر من موارد استعماله أنّه قد يكون بمعني «الملوط» أيضا.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ «التشبيه» الوارد فيها يتصوّر علي أنحاء:

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 202، الباب 70، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ج 14، ص 354، الباب 20، من أبواب النكاح المحرّم، ح 7.

(5). السنن الكبري للبيهقي، ج 8، ص 224، كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي للمخنثين.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 154

1- التشبّه في الصفات مثل اللين في الكلام و الحركات، كما يدلّ عليه عنوان «المخنّث» الوارد في الروايتين السابقين برقم 8 و 12.

2- التشبّه في التزيين، و لعلّ ما دلّ علي ورود جلّ به تأنيث في مسجده صلّي اللّه عليه و آله و سلم من هذا القبيل حيث نقلناه تحت رقم 2 و 3، و يحتملان المعني الأوّل.

و قد روي البيهقي في سننه في آخر الباب المذكور عن أبي هريرة أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قد أتي بمخنّث قد خضّب يديه و رجليه بالحناء، فقال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: ما بال هذا؟ فقيل يا رسول اللّه:

يتشبّه بالنساء، فأمر به فنفي إلي النقيع. قالوا يا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم ألا تقتله؟ قال: «إنّي نهيت عن قتل المصلّين» «1».

و يحتمل بعض المعاني الآتية أيضا.

3- التشبّه بمعني «المساحقة» و «اللواط»، و

يدلّ عليه كثير من الروايات السابقة، مثل الرواية الثالثة و الحادية عشرة، و ما دلّ علي نفيهم و إخراجهم و ما سألوا عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أن يقتلهم.

4- التشبّه في اللباس، و لعلّ «الترجّل» و «التأنيث» إشارة إليه (فتأمّل).

5- التشبّه في كلّ شي ء حتّي في الحرف و الأعمال، و من الواضح عدم حرمة الأخير.

و الذي يحصل من مجموع أحاديث الباب أن تشبه الرجال بالنساء و بالعكس من ناحية السحق و اللواط حرام بلا كلام، و كذا تشبّه كلّ واحد بالآخر فيما يكون من معدّات هذا المعني، و في طريقه من صفات المخنّثين، كتزيين كلّ منهما بزينة الآخر- كما تداول اليوم في بين بعض المجتمعات الكافرة، بل و ضعاف الإيمان المقلّدين لهم في هذه الأعمال القبيحة و المفاسد الخلقية في مجتمع المسلمين- و لا يبعد أيضا حرمته للإشارات الواردة في روايات الباب و كونه مقدّمة للحرام.

أمّا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر من دون ذلك كما هو المعمول في المسرحيات مثلا، أو لبعض الضرورات و المقاصد الاخر، فلا دليل علي حرمته، و كذا التشبيه في سائر الامور كخدمة البيت أو بعض الحرف.

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 8، ص 224.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 155

بقي هنا أمران:

1- إنّ من الواضح إختلاف العرف و العادة بحسب الأزمنة في ذلك اختلافا فاحشا، و كلّ يتّبع حكمه، سواء في ذلك الألبسة المختصّة لو قلنا بحرمتها، و إن كان قد عرفت الإشكال في إطلاقه، و كذا ما هو من التزيينات، فربّ لباس أو زينة تكون للرجال في عرف أو في زمان، و الحال أنّها تكون للنساء في عرف أو زمان آخر.

2- ذكر الشيخ الأعظم تبعا لصاحب الجواهر

قدّس سرّهما أن الخنثي يجب عليه ترك التزيين المختصين، للعلم الإجمالي، و لكن زاد الشيخ الأعظم قدّس سرّه قوله: و يشكل بناء علي كون مدرك الحكم حرمة التشبّه بأنّ الظاهر عن التشبّه صورة علم المتشبّه «1».

أقول: «أوّلا»: العلم الإجمالي في الخنثي المشكل وارد حتّي في بعض المحرّمات المخصوصة بالرجال كحرمة التزيّن بالذهب و لبس الحرير، لأنّه و ان لم يكن هناك حرام في هذا المورد في النساء، و لكن يدور الأمر بين تمام الواجبات و المحرّمات الخاصّة بالرجال من جانب، و الخاصّة بالنساء من جانب آخر، إلّا أنّ الزام الاحتياط عليه مشكل جدّا و بعيد من مذاقّ الشارع المقدّس، مع حصول العسر الشديد عليه في بعض الموارد قطعا، و لا يبعد الرجوع هنا إلي أدلّة القرعة لعمومها و شمولها له، و ليس هنا أخفّ إشكالا من الغنم الموطوءة في قطيع الغنم المفتي بها عند الأصحاب بعد ورود النصّ فيه. و ثانيا: الخنثي قد لا يكون ظاهرها بطبيعة الحال شبيها بالرجال و لا بالنساء، و حينئذ لا يبعد صدق التشبّه في حقّه بكلّ منهما لو دخلت في زيّهما، نعم لو كان ظاهرها شبيها بأحد الجنسين لا يصدق عليه إلّا التشبّه بالجنس الآخر الذي قد يكون في الواقع منه، و حينئذ يشكل صدق عنوان التشبّه في حقّه، فتأمّل جيّدا.

3- التشبيب

المذكور في كلمات غير واحد من المحقّقين حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، للشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 22.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 156

المحترمة، و فسّره بعضهم بأنّه عبارة: عن ذكر محاسنها و إظهار شدّة حبّه لها بالشعر.

و الكلام فيه يتمّ بذكر امور:

1- لم نر هذا العنوان في شي ء من النصوص، و لا في معقد

إجماع، و لذا استدلّ لحرمته بعناوين اخر قد تنطبق عليه كما سيأتي إن شاء اللّه، و لا يهمّنا البحث عن معناها بالدقّة و أنّه هل يعتبر فيه عنوان الشعر، أو ما يوجب التهييج و الإغراء بالحرام، أو كون المرأة محرّمة عليه أو غير ذلك؟

و الظاهر أنّه مأخوذ من مادّة الشباب، لأنّ ذلك من فعلهم «فتدبّر».

2- إنّ التشبيب أو ذكر محاسن المرأة علي أقسام:

تارة: يكون بالنسبة إلي امرأة خيالية، و اخري: مبهمة من جميع الجهات و ان لم تكن موهومة في الواقع، كما في بعض تغزّلات الشعراء، بل لا يوجد الغزل غالبا إلّا مشتملا عليه.

و ثالثة: يكون بمن تحلّ عليه.

و رابعة: بامرأة معروفة عند القائل و السامع، و هي محرم علي القائل دون السامع.

و خامسة: بامرأة محرمة عليه و علي السامع (من النساء المؤمنات العفيفات).

و سادسة: بالنسبة إلي غير المؤمنات، كأهل الكتاب من الذمّيين، أو من أهل الحرب.

و سابعة: يكون التشبيب بالغلام.

و من الواضح أنّها مختلفة جدّا في قبال الأدلّة التي استدلّوا بها لحرمته كما سيأتي.

3- لا دليل علي حرمته بنفس عنوان التشبيب، و إنّما استدلّوا له بعناوين ثانوية اخري تنطبق عليه أحيانا، و هي كثيرة:

الفضح، و الهتك، و الإيذاء، و الانتقاص، و إغراء الفسّاق بها، و كونه من اللهو و الباطل، و إشاعة الفحشاء، لتهييج القوي الشهوية التي يعلم من أدلّة الشرع حرمته، و لذا حرّمت الخلوة بالأجنبية و الخضوع بالقول و الضرب بالأرجل ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.

و منافاته للعفاف المعتبر في العدالة، و كونه مقدّمة للحرام، و غير ذلك.

و هذه «العناوين العشرة» مضافا إلي أنّ النسبة بينها و بين التشبيب عموم من وجه غالبا، (لأنّ التشبيب قد لا توجب هتكا، أو إيذاء، أو

إغراء، أو تهييجا للقوي الشهوية أو غير

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 157

ذلك) يستشكل في حرمة بعضها بحسب الكبري، كحرمة اللهو علي الإطلاق كما سيأتي في محلّه إن شاء اللّه، و أنّه لا دليل علي هذه الكليّة.

و كذا علي كون الامور المنافية للعفاف مطلقا حراما و إن لم تندرج تحت أحد العناوين المحرّمة.

فالأولي أن يقال: إنّ التشبيب بذاته و مع قطع النظر عن العناوين الطارية ليس محرّما، نعم قد يكون مصداقا لبعض العناوين المحرّمة، و ذلك بالنسبة إلي المرأة المؤمنة العفيفة، و الأحسن أن تؤخذ قيودها من هذه العناوين كأن يقال:

إنّ التشبيب إذا كان منشأ للفساد، أو إشاعة للفحشاء، أو إغراء بالحرام، أو هتكا لغرض محرّم، أو إيذاء لمسلم أو مسلمة، فانّ ذلك كلّه حرام، سواء كان بامرأة أو بغلام.

نعم، لبعض الأكابر هنا كلام في حرمة الإيذاء، و أنّه لا دليل علي حرمة كلّ فعل يترتّب عليه أذي الغير قهرا إذا كان الفعل سائغا، و لم يقصد العامل إيذاء الغير من فعله، و إلّا لزم القول بحرمة كلّ فعل يترتّب عليه أذي الغير و إن كان الفعل في نفسه مباحا أو مستحبّا أو واجبا، كتأذّي بعض الناس من اشتغال بعض آخر بالتجارة و التعليم و التعلّم و العبادة و نحوها.

انتهي «1».

أقول: الإيذاء عنوان قصدي، و الظاهر من الأدلّة الخاصّة و العامّة حرمته بالنسبة إلي المؤمن، المعتضد بدليل العقل، و أمّا ما أفاده (دام علاه) ليس منه، لأنّ التاجر أو العابد أو المتعلّم لا يقصد إلّا تحصيل مال أو عبادة أو علم، و تأذّي الغير ليس من قصده.

نعم، إذا لم يحتج إلي تجارة، و إنّما فعله بقصد إيذاء جاره بحيث إذا لم يكن يترتّب عليه

ذلك الأثر لم يفعله، لم يبعد القول بحرمته أيضا.

هذا و قد يكون القصد قهريا كما مرّ سابقا نظيره، و منه التشبيب بالمرأة المحرّمة الذي يوجب أذاها، فإنّ ذلك لا يترتّب عليه أي غرض صحيح عقلائي، و قصد الإيذاء مع هذا العلم قهري فتدبّر.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 212.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 158

بقي هنا أمران:

الأوّل: إنّ مجرّد المدح و ذكر الصفات الحسنة بل و إظهار الحبّ ليس من التشبيب المحرّم دائما، فالاشعار و النثور مشحونة بذلك بالنسبة إلي الرجال الأكابر و النساء المحترمات و أولياء اللّه، و كم ذكروا من محاسنهم الظاهرية و المعنوية و ما يرتبط بهم، إنّما المحرّم ما يرتبط بالقوي الشهوية الحيوانية لا غير، و هو أمر ظاهر.

و الثّاني: إنّه ينقدح ممّا ذكرنا حال الصور السبعة السابقة في التشبيب.

أمّا في المرأة الخيالية أو المبهمة من جميع الجهات علي السامعين، فليس فيه هتك و فضيحة و إيذاء و شبه ذلك.

نعم، قد يكون فيه إشاعة فساد و إغراء بالقبيح و الحرام، فيحرم من هذه الناحية، فإن لم يكن فيه ذلك أيضا فليس بمحرم مثل كثير من أشعار الشعراء.

و إن كان بمن تحلّ له من دون أن يسمعه غيره، فلهما أن يقول ما شاء إذا لم يكن كذبا و شبهه.

و إن كانت المرأة معروفة عند القائل دون السامع، فلا تنطبق عليه العناوين السابقة غالبا، فيحلّ له.

و إن كانت معروفة عند السامعين أيضا، و كانت تلك المرأة مؤمنة عفيفة، فتنطبق عليه كثير من العناوين السابقة، و حينئذ يكون حراما.

و هكذا الكلام بالنسبة إلي أهل الذمّة الذين يكون عرضهم محفوظا.

و أمّا بالنسبة إلي أهل الحرب الذين لا حرمة لهم، فان لم يكن فيه عنوان

محرم آخر من قبيل الإغراء بالحرام و شبهه، فلا إشكال فيه، و إلّا يحرم من هذه الجهة.

و أسوأ من جميع ذلك التشبيب بالغلام، فإنّ مصداق الحلال غير موجود فيه، بخلاف المرأة، فهناك عناوين محرّمة كثيرة في التشبيب بالغلام حتّي بالنسبة إلي فرد خيالي مبهم من جميع الجهات كما لا يخفي.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 159

4- تصوير ذوات الأرواح
اشارة

لا إشكال و لا كلام في حرمة التصوير في الجملة و به طفحت كلماتهم، و اتّفقت آراؤهم، بل هو ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام، من الخاصّة و العامّة، كما حكي عنهم، إنّما الكلام في خصوصيات المسألة و مواردها و عمدة الخلاف في أمرين:

الأوّل- هل هناك فرق بين ذوات الأرواح و غيرها.

الثاني- هل هناك فرق بين المجسّم و غيره.

و ما ذكره غير واحد من الأعلام من وجود أقوال أربعة في المسألة نشأ من هذين الخلافين.

فمنهم من قال: بحرمة الجميع، و منهم من خصّه بأمرين: «كونه مجسّما من ذوات الأرواح»، و منهم من فرّق بين ذوات الأرواح و غيرها، من دون فرق بين المجسّم و غيره، و منهم من فرّق بين المجسّم و غيره من دون فرق بين ذوات الأرواح و غيرها.

و كلّ ذلك ناشئ من إختلاف لسان روايات الباب، فلنرجع إليها و نحقّق فيها بما هو حقّ التحقيق، و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي: ما دلّ علي حرمة التصوير مطلقا

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أتاني جبرئيل قال:

يا محمّد! إنّ ربّك يقرءوك السلام و ينهي عن تزويق البيوت»، قال أبو بصير فقلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل» «1».

2- ما رواه ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في هدم القبور و كسر الصور» «2».

3- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم إلي المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها،

و لا قبرا إلّا سوّيته، و لا كلبا إلّا قتلته» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 560، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 562، ح 7.

(3). المصدر السابق، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 160

4- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تبنوا علي القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم كره ذلك» «1».

5- ما رواه أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام» «2».

و في نسخ الرواية حول كلمة من «جدّد» هل هو «جدّد» من تجديد القبور الدوارس، أو «حدد» بمعني التسنيم أو «جدث» بمعني جعل قبرا لشخص قبرا لآخر … إختلاف و لكلّ معناه.

6- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أتاني جبرئيل فقال:

«يا محمّد إنّ ربّك ينهي عن التماثيل» «3».

هذا، و لكن في بعضها التعبير ب «السقوف» أو «المحو» المناسب لغير الجسم، و في بعضها التعبير ب «الكسر» المناسب للجسم، كما ورد في غير واحد التعبير «بالكراهة» مثل:

7- ما رواه يحيي بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّه كره الصور في البيوت «4».

8- و ما رواه حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه أنّ عليا كان يكره الصورة في البيوت «5».

9- و ما رواه محمّد بن أبي عمير عن المثنّي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ عليا كره الصور في البيوت «6».

10- و رواية جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام

التي مضي ذكرها «7».

و هل التعبير بالكراهة بمعني الكراهة المصطلحة، أو بمعني أعمّ كما هو كذلك لغة، فلا يكون قرينة علي ظهورها في الحرمة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 9.

(2). المصدر السابق، ح 10.

(3). المصدر السابق، ح 11.

(4). المصدر السابق، ص 563، ح 13.

(5). المصدر السابق، ح 14.

(6). المصدر السابق، ص 561، ح 3.

(7). المصدر السابق، ص 562، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 161

أضف إلي ذلك كلّه روايات اخري، رواها في «المستدرك» في الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، و ما رواه البيهقي في «سننه» «1».

و هذه الروايات و إن كان أكثرها ضعاف الاسناد، إلّا أنّها متظافرة معتبرة من حيث المجموع.

الطائفة الثّانية: ما دلّ علي الفرق بين ذوات الأرواح و غيرها

و هي دليل علي حصر الحرام في الأوّل، إمّا بالصراحة أو الاشعار و التأييد مثل:

1- ما رواه أبو العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ «2» فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه» «3».

2- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بتماثيل الشجر» «4».

3- و ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر. فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «5».

4- و ما رواه حسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه تعالي يوم القيامة أن ينفخ فيها و

ليس بنافخ، و نهي أن يحرق شي ء من الحيوان بالنار، و نهي عن التختّم بخاتم صفر أو حديد، و نهي أن ينقش شي ء من الحيوان علي الخاتم» «6».

5- و ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّي ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذّب في منامه يعذّب حتّي يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلي حديث

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 6، ص 12.

(2). سورة السبأ، الآية 13.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 219، الباب 94، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 220، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 3.

(6). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 162

قوم و هم له كارهون يصبّ في اذنه الأنك و هو الاسرب» «1».

و المراد من العقد بين شعيرتين أن يعقد أحدهما بالاخري مثل عقد حبل بحبل آخر، و هذا غير ممكن في شعيرتين.

6- و ما رواه يعقوب بن يزيد مثله، إلّا أنّه قال: «و المستمع من قوم» «2».

7- و ما رواه ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل، و من كذّب في حلمه عذّب و كلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بفاعل، و من استمع إلي حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في اذنيه الأنك يوم القيامة» قال سفيان: الأنك: الرصاص «3».

8- و ما رواه ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة

أن ينفخ فيه الروح» «4».

9- و ما رواه حسين بن منذر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاثة معذّبون يوم القيامة: رجل كذّب في رؤياه، يكلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ» «5».

10- و ما رواه أبو العبّاس قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ و قال: «ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه» «6».

11- و ما رواه سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ هم المصوّرون، يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح» «7».

12- و ما رواه زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 221، الباب 94، من أبواب ما يكتسب به، ح 7.

(2). المصدر السابق، ح 8.

(3). المصدر السابق، ح 9.

(4). المصدر السابق، ج 3، ص 560، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 2.

(5). المصدر السابق، ص 561، ح 5.

(6). المصدر السابق، ح 6.

(7). المصدر السابق، ص 562، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 163

البيوت إذا غيّرت رءوسها منها و ترك ما سوي ذلك» «1».

و في المستدرك روايات اخري في هذا المعني يمكنك مراجعتها «2».

هذه جملة ما يمكن الاستدلال بها علي التفصيل بين «ذي الروح» و «غيره» و ما في بعضها من ضعف السند أو الدلالة لا يمنع عن الاستدلال بالمجموع لتأيّد بعضها ببعض بلا شكّ.

الطائفة الثّالثة: القول بالتفصيل

ما يمكن الاستدلال بها للقول بالتفصيل بين «المجسّم»

و «غيره» و هي روايات:

1- الرّوايات الدالّة علي الأمر بالنفخ فيها المتظافرة عددا الظاهرة في حصر مورد الحرمة فيها، فانّ ظاهرها كون المورد جسما ذات أبعاد ثلاثة قابلا للنفخ فيها، و ليس نقصانه إلّا من حيث الروح، و هو غير بعيد في بدو النظر، فتأمّل.

لا أقول إنّه لا يمكن النفخ في الأجزاء اللطيفة الموجودة في النقوش أو في محلّها، أو لا يمكن الأمر تعجيزا بجعل العرض جوهرا، ثمّ جعل الجوهر حيّا، فانّ كلّ ذلك و ان كان ممكنا عقلا، لكن مخالف لظاهر هذه الأوامر عرفا، و الكلام في الظهور العرفي لا الإمكان العقلي.

و من هنا يظهر أنّ ما روي عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السّلام أو الرضا عليه السّلام- في أمره الأسد المصوّر بافتراس الساحر- أجنبي عن المقام «3»، فإنّه يصحّ علي فرض كون الإشكال عقليّا، لا لأجل الظهور العرفي، و لكن الإنصاف عدم كونه أزيد من الاشعار بالجسمية في التعبير بالنفخ.

2- ما يظهر من مقابلة التصوير للنقش في رواية حسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام في حديث المناهي قال:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 564، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 3.

(2). مستدرك الوسائل، ج 2، ص 457، الباب 75، من أبواب ما يكتسب به.

(3). دلائل الإمامة للطبري، ص 195.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 164

نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ … و نهي أن ينقش شي ء من الحيوان علي الخاتم «1».

و الرواية و إن كانت ضعيفة «بشعيب بن واقد» إلّا أنّها شاهدة علي المقصود، و هو تقابل

التصوير بالنقش في كلمات العرب.

3- ما ورد في قطع رءوس التماثيل في رواية علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّي فيها؟ فقال: «لا تصلّ فيها و فيها شي ء يستقبلك إلّا أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها، و إلّا فلا تصلّ فيها» «2».

و ما ورد في كسر رءوسها و تلطيخ رءوس التصاوير مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّي فيه؟ فقال:

«تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير و يصلّي فيه و لا بأس … » «3». و ما ورد في قطع رأسها و إفسادها مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا حتّي يقطع رأسه منه و يفسد، و إن كان قد صلّي فليست عليه إعادة» «4».

هذه الروايات كلّها شاهدة علي أنّ المراد بالتماثيل هي التماثيل المجسّمة، فالحكم بحرمة غيرها مشكل.

أقول: لكنّها كلّها واردة في حكم اقتنائها في البيوت، بل حكم الصلاة و هي فيها، فهي أجنبية عمّا نحن بصدده- اللهمّ إلّا أن يقال هي قرينة علي إرادة الخصوص من سائر المطلقات أيضا، فتأمّل.

هذا و قد يؤيّد التخصيص بأنّ الظاهر أنّ الحكمة في ذلك محو آثار الشرك و عبادة الأصنام، فانّ التصوير كان من أشدّ أسباب الفساد، و كان قطع دابره منوطا بمنع التمثال بتّا، و من المعلوم أنّ الأصنام كانت صورة مجسّمة دائما أو غالبا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 220، الباب 94، من أبواب ما

يكتسب به، ح 6.

(2). وسائل الشيعة، ج 3، ص 462، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 463، ح 10.

(4). المصدر السابق، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 165

و ما قد يتوهّم من أنّ الحكمة فيها من جهة التشبّه باللّه في الخلق بعيد جدّا، و أي تشبّه في تصوير صورة علي قطعة حجر، إلّا في شي ء يسير جدّا و ليس الإنسان أو الحيوان بصورته؟! و أي شباهة في الخلق بين هذا و بين من جعل له العين و الاذن و اللسان و القلب و غيرها من الجوارح العجيبة؟!

و يؤيّد ما ذكرنا ما ورد في حكم الصلاة في بيت فيه تمثال «1» أو كراهة استقبال المصلّي التماثيل و الصور «2»، فإنّها ناظرة إلي ترك التشبّه بعابدي الأوثان.

و أمّا ما ورد في بعض الروايات من أنّ من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه «3»، فهو لا ينافي ما ذكرنا، لأنّ المضادّة قد تكون من جهة إيجاد مقدّمات الشرك.

هذا و لكن اختصاص العبادة بالتماثيل المجسّمة غير ثابت، بل الظاهر أنّها كانت أعمّ من النقوش و الأجسام، و قد ورد في روايات مكان المصلّي روايات كثيرة تدلّ علي المنع في مقابل و سادة أو فراش فيه نقوش الحيوان و شبهه.

ثمّ إنّ هذا كلّه علي فرض قبول وجود عمومات تدلّ علي الحرمة، و لكنّها بعد قابلة للكلام، فانّ النهي عن تزويق البيوت، الوارد في الحديث 1/ 3 من أبواب أحكام المساكن الآنف الذكر، و إن كان مطلقا، و لكنّه غير النهي عن نفس التصوير، و لعلّه لأجل كونها مكان المصلّي، و عدم مناسبتها له.

أمّا الروايات السابقة الدالّة علي أنّ من مثّل مثالا فقد خرج عن

الإسلام «4» و أمره بهدم القبور و محو الصور «5» و أمره بكسر الصور «6»، فانّها مع الإشكال في اسنادها، تختصّ بما إذا كانت معرضا للعبادة، و كان كسرها أو محوها بداعي محو آثار الأصنام، مع ما في تعبير

______________________________

(1). راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 465، الباب 33، من أبواب مكان المصلّي.

(2). راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 461، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي.

(3). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 210، الباب 75، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(4). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 10.

(5). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 8.

(6). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 166

الكسر من الدلالة علي التجسّم، و الشاهد علي ذلك أنّه جعلها في حدّ الكفر، و أردفها بمسألة بناء القبور التي نعلم أنّها كانت نوع عبادة منهم.

فقد ورد في الرواية لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد «1».

و يشهد له أيضا أنّ غير واحد من هذه الرّوايات وردت في الاقتناء، مع أنّه ليس في جوازه عند المشهور كلام كما سيأتي إن شاء اللّه.

فيبقي ما رواه علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: أتاني جبرئيل فقال: «يا محمّد إنّ ربّك ينهي عن التماثيل» «2».

و هي مطلقة، و لكنّها ضعيفة السند أيضا، مع أنّ الكلام بعد في معني التمثال، فقد أطلق في روايات كثيرة علي مجرّد المجسّمة، و في روايات متعدّدة علي الصور، فإطلاقه

علي كلا الأمرين ممكن، فإرادة العموم منه غير ثابت، و القدر المتيقّن المجسّمة.

و منه يظهر أنّ النهي عن نقش شي ء من الحيوان علي الخاتم في رواية حسين بن زيد (6/ 94) التي مرّت عليك أيضا لا تدلّ علي الحرمة، لإمكان كون النهي عن خصوص النقش علي الخاتم، للصلاة، أو مطلقا لبعض الملاكات الخاصّة به، مضافا إلي أنّه ورد في ضمن مناهي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم، و نعلم أنّ حديث المناهي مشتمل علي المكروهات و المحرّمات، فتأمّل، أضف إلي ضعف سنده بشعيب بن واقد.

و قد جعل الشيخ الأعظم قدّس سرّه صحيحة محمّد بن مسلم «3» أظهر من الكلّ، حيث ذكر الشمس و القمر في عداد التماثيل، و هو قرينة علي إرادة مجرّد النقش «4» (لعدم غير النقش فيهما في الغالب).

و لكن يرد عليه بأنّ مفهوم نفي البأس فيها وجود البأس في نقش الحيوان، و ليس هذا دليلا علي الحرمة، لإطلاق البأس علي الكراهة أيضا، كما هو ظاهر، مضافا إلي أنّ كثيرا من النقوش علي الجصّ و الحجر لا يخلو عن نوع تجسّم، فتدبّر.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 455، الباب 26، من أبواب مكان المصلّي، ح 3 و 5.

(2). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 11.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 220، الباب 94، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(4). المكاسب المحرّمة، ص 23، المسألة الرابعة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 167

و ما قد يقال أنّ الحكمة في التحريم هي حرمة التشبّه بالخالق، و التشبّه يحصل بالنقش أيضا، فقد عرفت الجواب عنه، لعدم كونه هو الحكمة. بل الظاهر أنّها محو آثار الشرك و

عبادة الأصنام لقرائن شتّي واردة في نفس روايات الباب.

مضافا إلي أنّ التشبّه بالخالق في صفاته (غير ما يختصّ به مثل الكبرياء و العظمة) غير ممنوع، بل ورد الأمر بالتخلّق بأخلاق اللّه في بعض الروايات، فتدبّر.

و الحاصل أنّه لم يقم دليل قاطع علي الحرمة في النقوش.

و هناك روايات اخري رواها في المستدرك، و هي ضعاف الاسناد، أو مراسيل، بعضها يدلّ علي النفخ و الاحياء يوم القيامة مثل:

1- ما رواه عن عوالي اللئالي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ أهل هذه الصور يعذّبون يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم» «1».

2- و ما رواه ابن عبّاس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال في حديث: «و من صور صورة عذّب حتّي ينفخ فيه الروح و ليس بنافخ» «2».

و أحسنها ما رواه الصدوق رحمه اللّه في الخصال بسند فيه ضعف، و هي:

3- ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إيّاكم و عمل الصور فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة» «3».

و لكن مع ذلك، السؤال عن شي ء يوم القيامة لا يدلّ علي كونه حراما، فقد يسأل عن المكروهات، هذا مع إمكان أخذ القدر المتيقّن من الإطلاق، و هو المجسّم.

و بالجملة، لا دليل إلّا علي حرمة عمل المجسّمة من ذوات الأرواح، نعم لا ينبغي ترك الاحتياط في النقوش منها أيضا.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 211، الباب 75، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 168

بقي هنا امور:
1- هل يعتبر في الحرمة قصد الحكاية؟

صرّح شيخنا الأعظم قدّس سرّه باعتباره، و إنّه لو دعت الحاجة إلي عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّه و لو كان

حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعا.

و لكن يرد عليه ما عرفت مرارا من أنّ القصد في أمثال المقام قهري، و الحرام هو تصوير الحيوان، و هذا صادق علي من صوّره و إن كان يقصد صنع بعض الأسباب التي يحتاج إليها، و لا دليل علي اعتبار قصد الحكاية فيه، فهو يصوّر صورة حيوان لبعض حوائجه.

2- هل للقصد هنا اثر؟

إذا كانت صورة مشتركة بين الحيوان و غيره بحيث يصدق عليها كلّ واحد منهما، فقد ذكر السيّد اليزدي قدّس سرّه في حواشيه علي المكاسب أنّ المدار فيها علي القصد، لأنّ تمييز المشتركات بالقصد، و كأنّه أخذه من كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه.

و فيه: أنّه إن عدّ مع ذلك شبحا مبهما لا يعلم الناظر إليه أنّه حيوان أو غيره، فلا ينبغي الريب في جوازه، لعدم صدقه عليه، و إن كان يصدق عليه كلاهما، فالظاهر حرمته بأي قصد كان، و صدق العنوانين و ان كان موجبا لشمول دليلي الحرمة و الجواز، إلّا أنّ الثاني من قبيل ما لا اقتضاء فيه، و الأوّل من قبيل ما فيه اقتضاء، فلا يتزاحمان.

3- هل أنّ الصورة الناقصة محرّمة أيضا؟

الذي صرّح به غير واحد من الأكابر اعتبار كونها صورة إنسان أو حيوان عرفا، و لا يقدح فيها نقص بعض الأجزاء إذا صدقت عليها الصورة عرفا، لا ما إذا صوّر نصف حيوان أو بعض أعضائه، هذا و لكن يمكن أن يقال: إنّ إطلاقات حرمة التصوير و التمثال توجب القول بحرمة الجميع لدخولها في قوله «من مثّل مثالا»، اللهمّ إلّا أن يقال بتقييد هذه المطلقات بقوله عليه السّلام في صحيحة محمّد بن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «1» فإنّ الحيوان

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 563، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 17.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 169

غير صادق علي رأسه أو نصف بدنه.

و الحقّ جواز الناقص بحسب مقتضي الأصل، و ما دلّ علي قطع رءوسها مؤيّد للمقصود، و كذلك ما دلّ علي كسرها، فانّ الكسر شامل لقطعه نصفين أيضا فتأمّل، هذا و لكن تصوير شي ء من الحيوان علي أقسام:

الف) أن يكون

الموجود شيئا منه، و الباقي مقدرة الوجود، كتصوير إنسان جالس، أو من ينظر من وراء الجدار، أو الراكب أو المغتسل في الماء، و الظاهر صدقه عليه فيحرم.

ب) أن يصوّر شيئا و يريد تصوير الباقي، فمن حين يأخذ في التصوير هو مرتكب الحرام إلي أن يفرغ، و توهّم كون الحرام أمرا بسيطا يحصل بآخر جزء منه، و الباقي مقدّمة له من عجائب الكلام، بل التصوير هو المجموع من حيث المجموع بلا إشكال.

نعم لو لم يلحقه الباقي كان من قبيل التجرّي، و ليس من هذه الجهة فرق بين فعل الواجب و الحرام، فمن يشرّع في الصلاة فهو مشغول بالواجب من أوّل أمره، و كذلك في المحرّمات.

ج) إذا أراد النصف مثلا، ثمّ بدا له الإتمام، فالظاهر أنّ الأوّل غير حرام، و الباقي متّصف بالحرمة، لانبساط الحكم علي المجموع.

د) إذا اشترك جماعة في تصوير، فهم مشتركون في فعل الحرام، و هو الصورة، غاية الأمر أنّ الحرمة تتوقّف علي إكمال الصورة بحيث يصدق عليه حيوان عرفا، و إلّا كان تجرّيا، و إذا حصلت الصورة حصل الحرام بفعل الجميع، و توهّم انصراف الأدلّة إلي كون فعل كلّ واحد صورة مستقلّة كما تري، بل الظاهر منها أنّها مبغوضة للشارع كيفما حصلت من المكلّفين.

و ما قد يقال إنّه لا يعدّ عمل كلّ واحد منهم مصداق الصورة- لما مرّ من عدم صدق هذا العنوان علي البعض- صحيح إذا جمدنا علي الألفاظ، و لكن في هذه الموارد يستفاد من الأدلّة مبغوضية وجود العمل في الخارج، سواء كان بفعل واحد، أو متعدّد، و كذا ما أشبهه من القتل و الجرح و الإفساد و الغيبة و الظلم و إشاعة الفحشاء و أمثال ذلك إذا حصلت بفعل جماعة.

هذا

مضافا إلي إطلاق بعض رواياته كما في النهي عن تزويق البيوت، أو النقش علي

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 170

الخاتم، أو النهي عن التماثيل أو غيرها، أو عذاب المصوّرين لصدق عنوان المصوّرين علي الجميع، فتدبّر.

أضف إلي ذلك ما ورد في نفي كون عمل الشياطين تصوير ذوات الأرواح في قصّة سليمان عليه السّلام مع أنّ الظاهر اشتراكهم في العمل، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في فهم العموم من الأدلّة في المقام و أمثاله، كما هو كذلك في الواجبات و المستحبّات أيضا، كبناء المساجد و إنقاذ نفس المؤمن و غيرهما باشتراك جماعة.

ه- هل اللازم أن يكون لذات الصورة وجود عيني خارجي؟ فلو صنع تمثالا لحيوان أو إنسان لا يوجد له شبيه و لا نظير، ذا رءوس واضحة متعدّدة، و قوائم مختلفة، و غير ذلك، فالظاهر كما اختاره السيّد المحقّق اليزدي قدّس سرّه في حواشيه علي المتاجر الحرمة، لإطلاق الأدلّة، و القول بانصرافها إلي الموجود في الخارج لا وجه له، لا سيّما بعد كون هذه الامور في التماثيل كثيرة جدّا، مضافا إلي الحكمة التي عرفتها، بل الأصنام كثيرا ما تصوّر علي صورة غير معهودة في الخارج، لجلب النفوس البسيطة الجاهلة إليها، و من هنا يعلم الحال في حكم تصوير الملائكة و الجنّ و الشياطين، و إن وقع الكلام فيه بين الأعلام، و ذكر في الجواهر إلحاق الملك و الجنّ بذلك «1» و حكي عن بعض الأساطين في شرحه علي القواعد، و قيل بالجواز، و ربّما يستظهر من كلام المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه حيث قيّد الحرمة بكون الحيوان ذي ظلّ، بحيث إذا وقع عليه ضوء حصل له ظلّ، و الملك و الجنّ لا ظلّ لهما (انتهي).

و الظاهر أنّ

التقييد بالظلّ مستفاد من انصراف إطلاق الحيوان في الروايات إلي الحيوان المادية المعروفة.

و ليس منشأ الحكم في المسألة كيفية الجمع بين مفهوم صحيحة محمّد بن مسلم «لا بأس ما لم يكن شي ء من الحيوان» «2» و خبر تحف العقول «ما لم يكن مثل الروحاني» «3» كما توهّمه بعض الأعاظم، لضعف الثاني سندا، مضافا إلي أنّ الظاهر أنّ المراد منهما واحد،

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 43.

(2). وسائل الشيعة، ج 3، ص 563، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 17.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 56، الباب 2، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 171

و كذلك ليس منشأه كون الجنّ و الملك جسما أو مجرّدا محضا، و انحصار المجرّد عن المادّة باللّه تعالي أو عدم انحصاره.

كذلك ليس المنشأ كون الحيوان في الروايات بمعناه المعروف، أو بمعني صاحب الحياة حتّي يشمل الجنّ و الملك، لأنّ الظاهر منها هو الأوّل.

بل العمدة في هذا الحكم أنّ المتعارف في تصوير الجنّ و الملك تصويرهما بصورة الإنسان أو الحيوان أو شي ء مركّب منهما، و قد عرفت أنّه لا يعتبر كون نوع الحيوان أو الإنسان المصوّر موجودا في الخارج، و هذا هو الدليل علي المقصود، و لذا لو صوّر الملك و الجنّ علي غير هذه الصور فلا دليل علي الحرمة، كما إذا صوّرهما بصورة سحاب، أو ريح عاصف، أو موجود خيالي لا يشبه شيئا من الحيوان الموجود أو المتوهّم، فتدبّر جيّدا.

و- قد وقع الكلام بينهم في جواز التصوير أو فعل المجسّمات بالآلات الحديثة للتصوير كالكامرات و شبهها، فقد صرّح المحقّق اليزدي قدّس سرّه في عبارة قصيرة له في المقام بأنّها غير جائزة «1».

و لكن الأكثر

علي الجواز بالنسبة إلي التصاوير المأخوذة بها، و هل هم قائلون بذلك في المجسّمات أيضا أم لا؟ كجعل الجصّ و شبهه في القوالب لخلق المجسّمات؟ لا يبعد ذلك، و ما ذكر لخروجها عن أدلّة الحرمة امران:

أوّلها- إنّ التصوير الحديث ليس إيجادا للصورة المحرّمة، و إنّما هو أخذ للظلّ، و إبقاء له بواسطة المواد الكيماوية، فإنّ الإنسان إذا وقف أمام آلة التصوير كان حائلا بينها و بين النور، فينعكس ظلّه عبر عدسة الآلة علي الأفلام و يثبت عليه بواسطة المواد الكيمياوية، فيكون صورة لذي ظلّ، و أين هذا من التصوير المحرّم (هكذا ذكره في مصباح الفقاهة)، ثمّ قاسه بوضع شي ء من الأدوية علي الجدران أو الأجسام الصيقلية لتثبت فيها الأظلال و الصور المرتسمة، بل قاسه علي ما اشتهر من انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز في بعض الأحيان، و لا يحتمل أن يتفوّه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت «2».

______________________________

(1). حاشية المكاسب السيّد اليزدي، ص 17، ج 1.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 233، (بتصرّف يسير في العبارة).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 172

ثانيها- ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الظاهر من الأدلّة هو تصوير الصورة كما كانت في عصر صدور الروايات بالمباشرة، فلا يشمل إيجادها تسبيبا بالآلات الحديثة، أو بجعل الجصّ و غيره في القوالب إلّا بضرب من المجاز و التأويل!.

و القول بالغاء الخصوصية، أو شمول بعض الإطلاقات له كقوله «من مثّل مثالا» الظاهر في إيجاده بأي نحو كان، لا خصوص تصويره- ممنوع، لأنّ الأوّل لا دليل عليه، و الثاني ظاهر في تمثيلها بقدرته «1».

لكن يمكن الجواب عن الأوّل بأنّ هذه تدقيقات عقليّة في مسألة عرفية، بل الظاهر من كلّ عنوان إيجاد

الفعل، سواء كان مستقلا أو بواسطة الآلة، و من المعلوم تغيير الآلات دائما بمرور الأزمنة و مضي الأعصار، فالأمر بالإسراج تارة يمتثل بجعل الدهن في القارورة، و جعل فتيلة عليه، و إشعالها بوسيلة الزناد، و قد يكون بالضغط علي زرّ الكهرباء، و كذلك نسج الثياب قد يكون باليد و اخري بالمكائن، و نحوهما كنس الدار فقد يكون باليد، و قد يكون بالمكنسة الكهربائية، إلي غير ذلك من الأمثلة، و لا فرق في صدق هذه العناوين علي جميع ذلك.

و التصوير أيضا من هذا القبيل، فقد يكون بالأقلام، و اخري بالأفلام و انعكاس الظلّ بواسطة المواد الكيميائية، فهذه كلّها أسباب و النتيجة واحدة، فكما أنّ النسّاج و الكنّاس صادق علي الجميع، فكذا المصوّر، و لذا يطلق علي الجميع لفظ الصورة و المصوّر في عصرنا.

و أمّا النقض بوضع شي ء من المواد الكيمياوية علي الجدران بحيث تنطبع عليها صور المارّة، فهو أيضا قابل للقبول، و نلتزم به إذا كان الواضع بصدد أخذ الصور من أوّل الأمر.

و أمّا المقابلة لشجرة الجوز لو لم يكن اسطورة من الأساطير، فالآخذ للصورة هو شجرة الجوز، و الإنسان معدّ له، فالقياس مع الفارق.

و يجاب عن الثاني بأنّ اعتبار المباشرة باليد في المعني الحقيقي و عدم صدقه مع التسبّب ممنوع أشدّ المنع، كما يعلم بملاحظة غيرها من الأفعال كالخياطة و الغسل و الكنس

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ج 1، ص 177.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 173

و الطبخ و دقّ الدقيق و بناء البيوت إلي غير ذلك من أصناف الأعمال التي تصدق بالمباشرة أو بالمكائن و هي كثيرة غاية الكثرة.

هذا كلّه مضافا إلي ما عرفت من الحكمة العامّة لهذا الحكم، فإنّها جارية في الجميع علي نحو

واحد، أضف إلي ذلك أنّ السؤال أو الجواب في غير واحد من روايات الباب وقع عن نفس التماثيل الذي يكون مرجعه إلي إيجادها، و هو أعمّ، اللهمّ إلّا أن يدّعي أنّ المقدّر خصوص تصويرها مباشرة، و هو كما تري.

و علي كلّ حال، فالظاهر أنّ التصوير و أمثال هذا التعبير عامّ يشمل الجميع، و لا أثر لطرق الإيجاد و انحائه فيه.

فبحسب ظاهر الأدلّة لا محيص عمّا ذكره المحقّق اليزدي قدّس سرّه من الحرمة، إلّا أن يتوصّل بأحد أمرين:

أوّلهما: عدم الدليل علي الحرمة في التصوير غير المجسّم كما مرّ تفصيله و دليله، فيبقي إيجاد المجسّمات بالمكائن علي حرمته.

ثانيهما: دعوي انصراف الإطلاقات عن مثل التصوير بالكاميرات، و إن كان الصدق العرفي ثابتا، فانّ الانصراف يكون بعد قبول الصدق عرفا، و لا سيّما بملاحظة الحكمة التي عرفتها من محو آثار الأصنام، و كذا الحكمة التي ذكرها بعض من نفي التشبّه بالخالق تعالي، فيبقي الإشكال في إيجاد المجسّمات بمثل القوالب، و لا يبعد حرمتها، و هذا الفرق لا يخلو عن إشكال، و العمدة هو الوجه الأوّل.

ز- هل يجوز اقتناء هذه الصور المجسّمة و غيرها و كذلك بيعها و استعمالها، أو لا يجوز؟

قال في الجواهر: أمّا بيعها و اقتنائها و استعمالها و الانتفاع بها و النظر إليها و نحو ذلك فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه … مع إنّا لم نجد من أفتي بذلك (الحرمة) عدا ما يحكي عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه من حرمة الإبقاء و يمكن دعوي الإجماع علي خلافه! «1».

قال المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه فيما حكي من شرح إرشاده: «إنّ المستفاد من الأخبار

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 44.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 174

الصحيحة و

أقوال الأصحاب عدم حرمة إبقاء الصور» (انتهي) «1».

و هذا مخالف لما حكاه في الجواهر منه «2» و لعلّه حكاه من مبحث آخر منه، فالأوّل في مبحث لباس المصلّي، و الثاني في كتاب البيع، و استظهر الشيخ الأعظم قدّس سرّه من بعض كلمات القدماء كالمفيد رحمه اللّه في «المقنعة» حرمة بيع التماثيل و ابتياعها.

و علي كلّ حال، فالعمدة هنا الروايات الواردة في المسألة، فقد استدلّ منها و من غيرها للحرمة بامور:

الأوّل- الظاهر من حرمة عمل شي ء مبغوضية وجود المعمول ابتداء و استدامة، و إن شئت قلت: حرمة إيجاد الشي ء إنّما هو باعتبار حرمة منافعها و اقتنائها، و ما أورد عليه الشيخ الأعظم قدّس سرّه من إنكار هذا الظهور، بل استظهر منه حرمة مجرّد الإيجاد، قابل للمنع، فإنّ الحكمة فيه إن كان محو آثار الأصنام فهو موجود، و إن كانت التشبّه بالخالق- و إن عرفت الإشكال فيه- فهو أيضا ثابت، و إن شئت قلت: الإيجاد طريق إلي وجود الشي ء، و لا موضوعية له، فكما أنّه يفهم من تحريم صنع الخمر أو الصليب و الصنم و آلات القمار حرمة حفظها، بل يعلم وجوب محوها و إفنائها، فكذا فيما نحن فيه، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ العلّة هناك معلومة، و هنا غير معلومة، و مجرّد الحكمة لا تكفي في إثبات الحكم.

الثاني- الإيجاد و الوجود شي ء واحد، و إنّما يختلف بالاعتبار، و يرد عليه أنّ الوجود بمعناه المصدري متّحد مع الإيجاد، و لكن الكلام هنا بمعني اسم المصدر و محصول العمل، لا المعني المصدري حتّي يقال باتّحاده مع الإيجاد.

الثالث- ما دلّ علي النهي أو نفي البأس عن نفس التماثيل مثل:

ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه

السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان» «3».

و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أتاني جبرئيل فقال:

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 44.

(2). المصدر السابق، ج 22، ص 44، (كتاب التجارة).

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 220، الباب 94، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 175

«يا محمّد إنّ ربّك ينهي عن التماثيل» «1».

بناء علي انصراف النهي إلي الانتفاع بمنافعها أو اقتنائها، لا عن تصويرها فقط.

الرابع: ما دلّ علي أمره صلّي اللّه عليه و آله و سلم بمحو هذه الصور أو كسرها، مثل ما رواه ابن قدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «2» و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد مرّ ذكرهما.

فانّ ظاهره حرمة إبقائها، و سيأتي الكلام فيه.

الخامس: ما دلّ علي نفي كون تماثيل الحيوان ممّا أراده سليمان من الجنّ، مثل ما رواه أبو العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه» «3».

و رواية اخري له عن الباقر عليه السّلام «4»، فإنّها ظاهرة في كون إبقائها حراما و لا تناسب مكانة سليمان نبي اللّه عليه السّلام.

السادس: ما دلّ علي جواز اقتنائها بشرط تغيير رءوسها، مثل:

1- ما رواه زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها منها».

2- و عن زرارة

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها منها و ترك ما سوي ذلك» «5».

3- و ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ربّما قمت اصلّي و بين يدي و سادة فيها تماثيل طائر، فجعلت عليه ثوبا و قال: «و قد اهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر، فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر» «6».

4- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّي فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 11.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 220، الباب 94، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 3، ص 562، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 6.

(5). المصدر السابق، ص 564، الباب 4، ح 3.

(6). المصدر السابق، ص 565، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 176

و يصلّي فيه و لا بأس». قال: و سألت عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير، يصلّي فيه؟ قال: «لا بأس» «1» إلي غير ذلك ممّا في معناه.

السابع: ما دلّ علي عدم صلاحية اللعب بها، مثل ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي عليه السّلام أنّه سأل أباه عليه السّلام عن التماثيل، فقال: «لا يصلح أن يلعب بها» «2».

و ما رواه عن مثنّي رفعه قال: التماثيل لا يصلح أن يلعب بها «3».

الثامن: ما دلّ علي عدم دخول الملائكة بيتا فيه صورة إنسان و شبهه مثل:

1-

ما رواه محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه» «4».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ جبرئيل عليه السّلام قال: «إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب، يعني صورة إنسان و لا بيتا فيه تماثيل» «5».

3- و ما رواه عمرو بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال جبرئيل عليه السّلام: «يا رسول اللّه إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا يبال فيه، و لا بيتا فيه كلب» «6».

4- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السّلام: «لا يصلّي في الدار فيها كلب إلّا أن يكون كلب الصيد، و أغلقت دونه بابا فلا بأس، فانّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب و لا بيتا فيه تماثيل و لا بيتا فيه بول مجموع في آنية» «7».

5- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: إنّ جبرئيل عليه السّلام قال:

«إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، و لا بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا فيه تمثال» «8».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 463، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 10.

(2). المصدر السابق، ص 563، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 15.

(3). المصدر السابق، ح 16.

(4). المصدر السابق، ص 464، الباب 33، من أبواب مكان المصلّي، ح 1.

(5). المصدر السابق،

ص 465، ح 2.

(6). المصدر السابق، ح 3.

(7). المصدر السابق، ح 4.

(8). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 177

6- ما رواه عبد اللّه بن يحيي الكندي عن أبيه عن علي عليه السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم (في حديث): إنّ جبرئيل قال: «إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، و لا جنب، و لا تمثال يوطأ» «1».

التاسع: ما دلّ علي أنّ عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت، مثل ما رواه حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه: أنّ عليا كان يكره الصورة في البيوت «2».

بضميمة ما دلّ علي أنّه عليه السّلام لم يكن يكره الحلال، كما جاء في الحديث «3».

العاشر: ما ورد في رواية تحف العقول الذي هو كضابطة عقلية للمحرّمات في باب الصنائع حيث قال عليه السّلام:

و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا … «4».

فقسّم الصنائع علي ثلاثة أقسام: و حكم بحرمة ما يجي ء منه الفساد محضا، و هو القسم الثالث منها.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان حرمة الاقتناء، و الأحسن من الكلّ هو الأوّل، و بيانه بتوضيح آخر: إنّ الظاهر من دليل حرمة إيجاد مصنوع، حرمة وجوده، لا أن يكون للإيجاد موضوعية، كما هو كذلك في غيره من أشباهه، مثل إيجاد آلات القمار و اللهو و هياكل العبادة و غير ذلك، بل لم نجد موردا يكون إيجاد الشي ء حراما و وجوده حلالا، بل هذا ممّا يستغر به العرف في محاوراتهم، لا أقول بينهما ملازمة عقلية، بل أقول ملازمة ظاهرة عرفية، و يؤيّده رواية تحف العقول التي تشتمل علي دليل عرفي عقلائي يؤيّد ما

ذكرنا، و بالجملة التفكيك بين الأمرين في أذهان أهل العرف مشكل جدّا، و الملازمة بينهما قويّة عندهم، فلا معدّل عنه إلّا بدليل قوي، و ستعرف أنّ إثبات الدليل علي التفكيك بينهما لا يخلو عن الإشكال، أمّا غيره فيمكن الجواب عنه غالبا.

أمّا وحدة الوجود و الإيجاد فقد عرفت الجواب عنه، و إنّ الكلام إنّما هو في الوجود بمعني اسم المصدر لا بمعناه المصدري، و الشبهة نشأت من هنا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 465، الباب 33، من أبواب مكان المصلّي، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 563، الباب 3، من أبواب أحكام المساكن، ح 14.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 447، الباب 15، من أبواب الربا، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 57، الباب 2، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 178

أمّا صحيحة محمّد بن مسلم و شبهها فقد اجيب عنها بأنّ النهي إنّما هو ممّا كان مركوزا في الأذهان من عمل التصوير لا عن حكم الاقتناء.

هذا و لكن يمكن المنع عن هذه الدعوي، بل الوارد في كثير من روايات الباب السؤال و الجواب عن نفس التماثيل، فهو أيضا يمكن أن يكون دليل المنع.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 178

أمّا عن الرابع فبحمله علي الكراهة بقرينة الأمر بقتل الكلاب، و في بعض رواياته الأمر بتسوية القبور، و هو أيضا غير واجب.

و يمكن أيضا أن يقال إنّ ذلك فيما كان مظنّة للعبادة كما يظهر من ذكر القبور في بعضها.

أمّا عن الخامس فبأنّ الظاهر

رجوع الإنكار إلي إذن سليمان عليه السّلام أو تقريره لعملهم.

أمّا عن السادس فبأنّه لا دلالة فيها علي الوجوب كما لا يخفي.

أمّا عن السابع فبأنّها أيضا ظاهرة في الكراهة، لما ورد فيها من التعبير بعدم الصلاحية.

أمّا الثامن فهو أيضا كذلك، بقرائن فيها كعطف وجود آنية البول أو الجنب عليه.

أمّا التاسع فبأنّ المراد منه المباح متساوي الطرفين، لأنّه كان يكره المكروه قطعا.

و أمّا العاشر فلضعف السند، و قد أورد علي دلالته أيضا تارة بأنّ حرمة إيجاد شي ء غير ملازم لحرمة آثاره، كحرمة الزنا مع عدم حرمة حفظ المتولّد منه.

و اخري بأنّه كثيرا ما تترتّب علي المنافع المحلّلة من التعليم و التعلّم و حفظ صور بعض الأعاظم.

و كلا الإيرادين ممنوعان، أمّا الثاني بأنّ ظاهر حديث تحف العقول حرمة الانتفاع بأمثال ذلك، و ما ذكر اجتهاد في مقابل النصّ، و أعجب منه الأوّل فانّه قياس مع الفارق جدّا، لاحترام النفوس و عدم احترام النقوش، فمحصّل ما ذكرنا أنّ كثيرا من هذه الأدلّة و ان كان قابل الدفع، لكن يبقي بعضها غير قابلة له، كالدليل الأوّل، و يؤيّده الأخير، و ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم أيضا السؤال عن نفس التماثيل، إلّا أن يقال ثبوت البأس أعمّ من الحرمة، و كذا يؤيّده الحكمة لهذا الحكم، سواء كان المنع عن عبادة الأصنام كما هو الظاهر أو غيره.

هذا من ناحية، و من ناحية اخري هناك روايات كثيرة دالّة علي الجواز، أو الكراهة، تعارض ما سبق من أدلّة الحرمة، و هي طوائف كثيرة:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 179

الاولي: منها ما دلّ علي جواز إبقاء التماثيل إذا غطّيت عند الصلاة إذا كانت بحذاء المصلّي، لا ما إذا كانت عن يمينه أو يساره أو

خلفه مثل:

1- محمّد بن مسلم قال قلت لأبي جعفر عليه السّلام: اصلّي و التماثيل قدّامي و أنا أنظر إليها؟

قال: «لا، اطرح عليها ثوبا و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا و صلّ» «1».

2- و ما رواه الحلبي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ربّما قمت فاصلّي و بين يدي الوسادة و فيها تماثيل الطير فجعلت عليها ثوبا «2».

3- و ما رواه محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السّلام عن التماثيل في البيت فقال: «لا بأس إذا كانت عن يمينك و عن شمالك و عن خلفك أو تحت رجلك، و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا» «3».

4- ما رواه ليث المرادي إنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوسائد تكون في البيت فيها التماثيل عن يمين أو شمال؟ فقال: «لا بأس به ما لم يكن تجاه القبلة، و إن كان شي ء منها بين يديك ممّا يلي القبلة فغطّه و صلّ»، قال: و سئل عن التماثيل تكون في البساط لها عينان و أنت تصلّي، فقال: «إن كان لها عين واحدة فلا بأس، و إن كان لها عينان و أنت تصلّي فلا» «4».

5- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك و عن شمالك و خلفك و تحت رجلك (رجليك) و إن كانت في القبلة فالق عليها ثوبا إذا صلّيت» «5».

و بعض هذه الروايات و إن كانت ظاهرة في النقوش، و لكن بعضها مطلقة يشتمل الصور، و هي دليل علي جواز اقتنائها، بل بيعها و

شرائها و سائر التصرّفات فيها بالملازمة العرفية.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 461، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 462، ح 4.

(4). المصدر السابق، ص 463، ح 8.

(5). المصدر السابق، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 180

الثّانية: ما دلّ علي جواز ما توطأ منها و تهان به، و لا تعظّم، مثل ما رواه محمّد بن مسلم (7/ 32) و رواية اخري له (11/ 32) و قد مرّ ذكرهما، أضف إليهما ما يلي:

1- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل، فقال: «لا بأس به يكون في البيت، قلت التماثيل، فقال كلّ شي ء يوطأ فلا بأس به» «1».

2- و ما رواه يحيي الكندي عن أبيه، و كان صاحب مطهرة أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال جبرئيل: «إنّا لا ندخل بيتا فيه تمثالا لا يوطأ» «2».

3- و ما رواه عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام:

يجلس الرجل علي بساط فيه تماثيل؟ فقال: «الأعاجم تعظّمه، و انّا لنمتهنه!» «3».

الثّالثة: ما دلّ علي جواز ما إذا كان بعين واحدة ممّا يصدق التمثال، فإنّ مجرّد قلع عين منها لا يضرّ بصدقه مثل:

1- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في التمثال يكون في البساط فتقع عينك عليه و أنت تصلّي، قال: «إن كان بعين واحد فلا بأس، و إن كان له عينان فلا» «4».

2- و ما رواه ليث المرادي و قد

مرّ ذكره (8/ 32).

3- و مرسلة الصدوق رحمه اللّه قال: قال الصادق عليه السّلام: «لا بأس بالصلاة و أنت تنظر إلي التصاوير إذا كانت بعين واحدة» «5».

4- و ما رواه ابن أبي عمير رفعه قال: «لا بأس بالصلاة و التصاوير تنظر إليه إذا كانت بعين واحدة» «6».

و لعلّها من مصاديق ما يكون موهونا فيما إذا قلعت إحدي عينيه عمدا، و إلّا فلا نفهم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 564، الباب 4، من أبواب المساكن، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 3، ص 462، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 6.

(5). المصدر السابق، ص 463، ح 9.

(6). المصدر السابق، ص 464، ح 13.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 181

سرّه، و يشهد له ما سيأتي في الطائفة الرابعة.

الرّابعة: ما دلّ علي المنع عن الصلاة إلّا إذا قطع رءوسها، أو مواراتها، و ظاهرها جواز الاقتناء لو لا أمر الصلاة، مثل ما رواه:

1- علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّي فيها؟ فقال: «لا تصلّ فيها و فيها شي ء يستقبلك إلّا أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها، و إلّا فلا تصلّ فيها» «1».

2- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّي فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطّخ رءوس التصاوير و لا بأس». قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير يصلّي فيه؟ قال: «لا بأس» «2».

3- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال سألته عن البيت فيه صورة

سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا حتّي يقطع رأسه منه و يفسده، و إن كان قد صلّي فليست عليه إعادة» «3».

4- علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام و سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر و لم يعلم بها و هو يصلّي في ذلك البيت ثمّ علم، ما عليه؟ فقال: «ليس عليه فيما لا يعلم شي ء، فإذا علم فلينزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل» «4».

5- علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: و سألته عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير يصلّي فيه؟ قال: «لا بأس» «5».

6- ما رواه عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) عن الثواب يكون في علمه مثال طير أو غير ذلك أ يصلّي فيه؟ قال: «لا»، و عن الرجل يلبس الخاتم فيه نقش مثال الطير أو غير

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 462، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 463، ح 10.

(3). المصدر السابق، ح 12.

(4). المصدر السابق، ص 321، الباب 45، من أبواب لباس المصلّي، ح 20.

(5). المصدر السابق، ح 23.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 182

ذلك قال: «لا تجوز الصلاة فيه» «1».

7- ما رواه حمّاد بن عثمان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم السود فيها التماثيل أ يصلّي الرجل و هي معه؟ فقال: «لا بأس بذلك إذا كانت مواراة» «2».

بل يدلّ الأخير علي جواز الصلاة بلا تغيير مع الكراهة، فهذه دليل علي جواز اقتنائها مع قطع النظر عن الصلاة.

الخامسة: ما دلّ علي جوازها بدون قيد،

أو إذا كانت للنساء، مثل:

1- محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: قال له رجل رحمك اللّه ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم؟ فقال: «هذا للنساء أو بيوت النساء» «3».

2- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه و قد مرّ ذكره آنفا «4».

فانّه لم ينه عن العبث و اللعب بها.

إلي غير ذلك ممّا أورده في الوسائل و هي كثيرة.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الأحاديث الواردة في المسألة إثباتا و نفيا و جوازا و منعا كثيرة جدّا، أوردها المحدّث الحرّ العاملي في سبعة أبواب (الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، و الباب 46 منها، و الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، و الباب 33 منها، و الباب 3 من أبواب المساكن، و الباب 4 منه، و الباب 94 من أبواب ما يكتسب به) و يستفاد من ضمّ بعضها إلي بعض و تفسير بعضها ببعض امور:

«أوّلها»: إنّ الاقتناء و سائر الانتفاعات جائزة في النقوش و الصور قطعا و في المجسّمة بحسب إطلاق غير واحد منها.

ثانيها: إنّ وجودها في البيت مكروه، إمّا مطلقا كما هو ظاهر غير واحد منها، ممّا يدلّ علي عدم دخول الملائكة في هذه البيوت، أو لخصوص الصلاة، و لا منافاة بينهما، فيكون الأوّل مكروها، و الثاني أشدّ كراهة، و الوجه فيه ليس إلّا التشبّه بعبدة الأصنام، لمناسبة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 3، ص 320، الباب 45، من أبواب لباس المصلّي، ح 15.

(2). المصدر السابق، ص 319، ح 8.

(3). المصدر السابق، ص 564، الباب 4، من أبواب أحكام المساكن، ح 6.

(4). المصدر السابق، ص 464، الباب 32، من أبواب مكان المصلّي، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 183

الحكم و

الموضوع، و أمّا التشبّه بالخالق بمجرّد التصوير فلا معني له، مضافا إلي أنّه غير قبيح كما عرفت.

ثالثها: تزول الكراهة بإهانتها، و من طرق الإهانة كونها تحت الأقدام و كذلك تزول بكسر رءوسها أو قلع عين واحدة منها لا أقل، أو تغطّيها للصلاة، أو كونها خلف المصلّي أو علي يمينه أو يساره.

رابعها: لازمها جواز بيع الوسائد و الفرش و أشباهها المشتملة علي هذه الصور و شرائها و غير ذلك من وجوه الانتقال كما هو ظاهر.

خامسها: الجمع بينها و بين ما دلّ علي تحريم إيجادها مطلقا، أو المجسّمة منها يقتضي التفكيك بين الإيجاد و وجودها بقاء، أو التصرّف في أدلّة التحريم بأجمعها و حملها علي كراهة شديدة، أو حملها علي موارد يكون مقدّمة أو مظنّة لعبادتها، أو إغراء بعبادة الأصنام، و حيث انّ التفكيك بين الإيجاد و الوجود مشكل جدّا، و لا يري له في الشرع مثل و لا نظير، فالجمع الثاني- أي الحمل علي الكراهة الشديدة أولي، فلا يبقي للحرمة مجال إلّا في موارد خاصّة جزئية (و اللّه العالم بحقائق الامور).

فتحصّل إنّه لا دليل علي حرمة إيجاد الصور المجسّمة أيضا إلّا في موارد خاصّة.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه يظهر ممّا ذكرنا حال «الصور المتحرّكة في الأفلام» و شبهها، فلو قلنا بحرمة التصوير مطلقا، فهي أيضا محرّمة إيجادا، إمّا الاقتناء و الانتفاع بها بما هو معمول في الأفلام، فلا دليل علي حرمته ما لم يكن فيه جهة اخري من جهات الحرمة، مثل كونها منشأ للفساد، أو إذاعة لسرّ المؤمن أو غير ذلك.

و ما فيها من صور النساء غير المحارم فان كانت مغرية و باعثة علي الفساد (كما هو الغالب فيها) فهي محرّمة من هذا الباب، و

إن لم تكن كذلك فلا دليل علي حرمتها، لأنّها لا تندرج تحت أدلّة النظر إلي الأجنبية، لأنّها صورتها لا نفسها، حتّي أنّه لا يمكن قياسها علي الصورة المنطبعة في المرآة، لأنّ المرآة لا صورة فيها، بل هي انعكاس النور من الشخص

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 184

علي المرآة، فالنظر في الواقع إلي نفس الشخص الخارجي، بخلاف الأفلام.

و إن أبيت عن هذه الدقّة، و قلت أنّها غير عرفيّة، فلا أقل من إمكان الغاء الخصوصية من النظر إلي الشخص بالنسبة إلي المرآة دون الصور الموجودة في الأفلام و شبهها، نعم لو كانت صورة امرأة مؤمنة غير متبرّجة قد يقال بحرمة النظر إليها من باب الهتك و إفشاء السرّ، و ليس ببعيد «فتدبّر».

5- التطفيف

لا شكّ في حرمة التطفيف، و هو كما ذكره أهل اللغة: «إذا كان أو وزن و لم يوف»، و أوضح البيان فيه قوله تعالي الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَي النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» و ذكر الاستيفاء في حقّهم ليس من حقيقة التطفيف، بل الظاهر أنّه ذكر مقدّمة لبيان قبح عملهم كما لا يخفي، و عدم ذكر الوزن في الأوّل دون الثاني من باب الاكتفاء به في الثاني، و لا سيّما أنّه كان الكيل أكثر عندهم من الوزن في تلك الأزمنة، لسهولته و عدم مؤنة له بخلاف الوزن، و إن كان الكيل أكثر عندهم من الوزن في تلك الأزمنة، لسهولته و عدم مؤنة له بخلاف الوزن، و إن كان الكيل و الوزن كلاهما في عصرنا موجودين لما في الأشياء من التفاوت، فربّ شي ء ينتفع بمقداره ثقلا، فيوزن كالذهب و الفضّة، و اخري حجما كاللبن و النفط.

و علي كلّ حال، فقد استدلّ

لحرمته بالأدلّة الأربعة:

1- فمن الكتاب قوله تعالي في حقّ المطفّفين: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ … و قد مرّت الإشارة إليه، و قوله تعالي في قصّة شعيب وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ «2».

و قوله تعالي وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ «3».

فانّ البخس هو النقص علي سبيل الظلم، كما ذكره أهل اللغة، و لا مانع من ذكره بكلا

______________________________

(1). سورة المطفّفين، الآية 2 و 3.

(2). سورة هود، الآية 84.

(3). سورة هود، الآية 85.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 185

لفظيه في قصّة شعيب كما هو واضح.

2- و من السنّة روايات كثيرة نشير إلي بعضها، منها:

أ) ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة … و اجتناب الكبائر و هي … و البخس في المكيال و الميزان … » «1».

و لا يضرّ ضعف أسانيد الصدوق رحمه اللّه إليه بعد كثرة هذه الأخبار و تعدّدها.

ب) و ما رواه أبان عن رجل، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «خمس إن أدركتموهنّ فتعوّذوا باللّه منهنّ … و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلّا أخذوا بالسنين و شدّة المئونة … » «2».

ج) و ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم … و إذا طفّف الميزان و المكيال أخذهم اللّه بالسنين و النقص … » «3».

إلي غير ذلك ممّا هو ظاهر في هذا المعني.

3- و يدلّ عليه الإجماع لاتّفاق علماء الإسلام عليه من دون خلاف.

4- و العقل، فإنّه مصداق واضح للظلم، و قبح الظلم من المستقلّات العقلية.

و هذا كلّه

واضح، إنّما الكلام في بعض ما يتفرّع عليه و هو العمدة هنا، منها: حكم المعاملة التي فيها «تطفيف» و «بخس»، و حاصل الكلام فيه أنّ هذا البيع لا يخلو إمّا أن يكون كليّا، أو شخصيا..

فإن كان بيعا كليّا، فلا إشكال في الصحّة، لأنّه إنّما وقع البيع علي طنّ من الحنطة مثلا، و إنّما وقع البخس عند الوفاء، من دون فرق بين الكلّي علي نحو الإطلاق، أو الكلّي في المعيّن، كصاع من حنطة.

و أمّا البيع الشخصي، فهو علي قسمين:

البيع بالصيغة، و البيع المعاطاتي …

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 260، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 33.

(2). المصدر السابق، ص 512، الباب 41، من أبواب الأمر بالمعروف، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 513، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 186

أمّا الأوّل فهو أيضا علي قسمين: فقد يقول: بعتك هذه الحنطة بشرط كونها عشرين منّا مثلا، و اخري يقول: «بعتك هذا العشرين» فالأوّل من قبيل الاشتراط، و الثاني من قبيل الوصف.

و الظاهر أنّ شيئا منها لا يوجب فساد البيع، لا تخلّف الشرط، و لا الوصف إذا لم يكن مقوّما، نعم إذا نقص بمقدار كثير كأن يكون ربع ما وصف، فلا يبعد البطلان، و إلّا كان صحيحا بمقدار من الثمن، فيجب عليه ردّ الزائد.

و لا تندرج هذه المسألة في المسألة المعروفة، أعني تعارض «الوصف» و «الإشارة» فيما إذا قال «بعتك هذا الفرس العربي» فتبيّن أنّه «غير عربي» و إنّ المقدّم هل هو الأوّل أو الثاني؟ أو يختلف بإختلاف المقامات كما سيأتي إن شاء اللّه في محلّه.

لأنّ المفروض هنا وقوع البيع علي المقدار، و تخلّف المقدار يوجب نقصا في الثمن بلا إشكال.

أمّا الثاني كأن يقول أعطني

منّا من الحنطة، فأعطاه أنقص من ذلك، و أخذ الثمن وافيا، و الظاهر أنّه أيضا صحيح بمقدار من الثمن، و ذمّة البائع مشغولة بالباقي، إلّا إذا ردّ المقدار الباقي من الحنطة إليه، نعم يحتمل الفساد إذا نقص بكثير بحيث يعدّ من قبيل عدم وجود المقوّم للمعاملة (و اللّه العالم).

هذا كلّه إذا لم يكن ربويا، و إلّا فسدت المعاملة من أصلها في غير الكلّي لما في العوضين من التفاوت.

6- التنجيم

من المسائل التي احتدمت فيها الآراء مسألة النجوم جوازا و حرمة.

قال في القواعد: «و التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثيرها بالاستقلال، أوّلها مدخل فيه» (و ذكر قبلها تحريم الكهانة و بعدها تحريم الشعبدة، و ليكن هذا علي ذكر منك).

و ذكر الفقيه المتتبّع الأجل صاحب مفتاح الكرامة قدّس سرّه في شرح هذا القول كلاما طويلا هذا ملخصه:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 187

«اختلف العلماء عن قديم الدهر في هذه المسألة اختلافا شديدا، و هي عامّة البلوي، فوجب تحريرها و تنقيحها، ثمّ نقل عن السيّد ابن طاوس أنّ التنجيم من العلوم المباحة، و أنّ للنجوم علامات و دلالات علي الحادثات، لكن يجوز للقادر الحكيم أن يغيّرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب، و جوّز تعليم علم النجوم و تعلّمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة، و حمل أخبار النهي و الذمّ علي ما إذا اعتقد ذلك، و أنكر علي علم الهدي تحريم ذلك».

ثمّ ذكر (ابن طاوس رحمه اللّه) لتأييد هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به، ثمّ ذكر في المفتاح أنّ الذي يعرف من كتب الرجال، و من كلام السيّد المذكور، و كتاب أبي

معشر الخراساني و غيرهم، أنّ جماعة من أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و العلماء كانوا عارفين بالنجوم عاملين به، منهم «عبد الرحمن بن سيّابة»، و «أحمد بن محمّد بن الخالد البرقي» حيث عدّ النجاشي من كتبه «كتاب النجوم» و «محمّد بن أبي عمير» و «أبو خالد السجستاني» و «محمّد بن مسعود العياشي» و «علي بن الحسين المسعودي» صاحب «مروج الذهب» الذي هو من أصحابنا، و جماعة آخرون، و حكايته عن «المحقّق الطوسي رحمه اللّه» مشهورة.

ثمّ حكي الجواز عن صاحب الكفاية، و كذا المحقّق الأردبيلي، و صاحب الوافي (قدّس اللّه أسرارهم جميعا) إلي أن قال:

أمّا من أنكر أحكامهم فهم جمهور المسلمين و المحقّقون من المتكلّمين، و ممّن ظاهره التحريم الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتاب «المقالات» فإنّه أنكر حياتها و تمييزها، و صرّح علم الهدي قدّس سرّه بالتحريم، و قال الشهيد قدّس سرّه في «الدروس» و يحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلّة، أو بالشركة، و الإخبار عن الكائنات بسببها، أمّا لو أخبر بجريان العادة بأنّ اللّه تعالي يفعل كذا عند كذا لم يحرم، و أمّا علم النجوم فقد حرّمه بعض الأصحاب، و لعلّه لما فيه من التعرّض للمحذور من اعتقاد التأثير، أو لأنّ أحكامه تخمينية (انتهي ملخّصا) «1».

فقد تحصّل من جميع ذلك وجود الخلاف الوسيع بينهم، ظاهرا، و إن كان يظهر من بعض

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 74.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 188

كلماتهم أنّ النزاع لفظي في بعض مراحله، فتأمّل.

و اللازم التكلّم فيه علي مقتضي القواعد أوّلا، ثمّ البحث عن الروايات الخاصّة الواردة في المسألة ثانيا، و أنّه هل فيها ما يخصّص أو يقيّد القواعد العامّة، أم تجري علي وفقها؟

فنقول و منه سبحانه نستمدّ التوفيق

و العناية.

لا شكّ في جواز علم الهيئة و ما يتعلّق بمعرفة النجوم و الأرض و السماوات و حالاتها و ما فيها من العجائب، بل هو مأمور به في كثير من آيات الذكر الحكيم صريحا، أو التزاما.

و كذا لا ريب في جواز علم النجوم و ما فيها من المقارنات و الفواصل و الأوضاع، كدخول القمر تحت الشعاع و خروجه و سيره في البروج، و كذا سير الشمس و أوضاع السيارات السبع و غيرها و ما فيها من الافتراقات، و الاتّصالات، و الخسوف و الكسوف و غيرها، و لا أظن من يحكم بحرمة تعلّم هذه الامور.

إنّما الكلام فيما يسمّي عندهم ب «أحكام النجوم» و هو الحكم بوقوع حوادث كونية في المستقبل كالأمطار و الخصب و الجدب و حوادث اجتماعية كالحرب و الصلح، و شيوع الأمراض أو العافية، و غلاء الأسعار أو رخصها بسبب الأوضاع النجومية.

ثمّ اعلم أنّ الحكم بها يتصوّر علي وجوه:

1- أن يكون باعتقاد تأثير الكواكب مستقلا أو جزءا مؤثرا في عالم الكون و حياة البشر، و هذا مبني علي اعتقادهم بقدمها و ألوهيتها.

2- باعتقاد أنّها حيّة مدبّرة للعالم و لو بإذن اللّه لا مستقلا.

3- أنّها مؤثّرة بالكيفية، كالحرارة الحاصلة من الشمس المورقة للأشجار.

4- أنّها مؤثّرة بأوضاعها الخاصّة لاقترانها و بعدها.

5- أنّها دلالات و أمارات، أو يقال إنّ عادة اللّه جرت علي خلق كذا عند وضع كذا.

و يمكن تلخيصها في ثلاث بأن نقول:

الأوّل- القول بتأثيرها مستقلا، و لا شكّ أنّه كفر و شرك، و نفي لتأثير اللّه في جميع الكون،

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 189

و أنّه ربّ العالمين، و خالق الخلق أجمعين، و مقدّر الأرزاق و منشئ السحاب و غير ذلك، و كذا القول

بكونها جزء مؤثّر.

الثّاني- القول بأنّها مؤثّرة بإذن اللّه، أمّا لأنّها حيّة شاعرة مأمورة بأمره، كالملائكة المدبّرات أمرا، و أمّا بتأثيرها الطبيعي كما في جميع الأسباب الطبيعية، و تأثير الشمس في حياة النبات و الحيوان، و هذا لا يوجب نفي الخالق و لا تدبيره و لا تأثيره في الكون و الحياة.

نعم هو باطل من جهتين: «أحدهما» عدم الدليل عليه، و كونها قولا بلا دليل، و اقتفاء لما ليس لنا به علم، و «الثاني»: كونها مخالفا لظاهر الأدلّة السمعية حيث لا يثبت للنجوم و الأفلاك شيئا من هذه الآثار، لا سيّما الحياة و الشعور و تدبير الخلق، بل ينسب الخلق و الرزق و الأمانة و الإحياء إلي اللّه تعالي، و إن كانت هذه النسبة لا تنافي وجود الأسباب الطبيعية، لكن لا بمعني أنّها شاعرة عالمة مدبّرة.

بل يتكلّم عن الأجرام السماوية و النجوم و الشمس و القمر كثيرا و يراها من آيات اللّه، من غير تعرّض لما زعموه من ارتباط جميع ما في العالم السفلي بالعالم العلوي، و لو كان كذلك لوردت الإشارة إليه في شي ء من هذه الآيات الكثيرة، و سائر الأدلّة السمعية.

الثّالث- كونها أمارات و دلالات أو مقارنات للحوادث، و هذا ليس كفرا و لا شركا قطعا، لعدم قبول تأثير لها في هذا العالم السفلي، نعم يشترك مع سابقه في كونه تخرّصا علي الغيب، و اقتفاء لما ليس به علم، نعم لو قاله ظنّا أو احتمالا إذا كانت مباديه (بادئ الاحتمال) حاصلة، لم يكن به بأس.

هذا، و ليعلم أنّ ما ذكرناه في الوجه الثاني من عدم كونه كفرا إنّما هو إذا لم يكن الاعتقاد بتأثيرها بحيث ينفي بطلان التأثير بالبرّ و الدعاء و غير ذلك مما

يلزمه إخراجه سبحانه عن سلطانه، بل يعود إلي الوجه الأوّل في الواقع الذي قد عرفت حاله.

و كذلك إنّما يصحّ ذلك إذا لم يرجع إلي القول بالجبر بأن يكون تأثيرات الكواكب فينا موجبا لاضطرارنا إلي العمل علي وفقها (كما يظهر من بعضهم علي ما ذكره السيّد الرضي قدّس سرّه فيما يأتي من كلامه إن شاء اللّه).

و كذلك إذا لم ينته إلي دعوي العلم بالغيب الذي يختصّ به سبحانه، فهو عالم الغيب فلا

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 190

يظهر علي غيبه أحدا إلّا من ارتضي من رسول، فلو لم يكن فيه شي ء من هذه الامور الثلاثة و لا ما تقدّمه من المفسدتين لم يكن حراما.

هذا هو مقتضي القواعد، و لكن من العجب حكم بعضهم بكفر المنجّم و لو لم يكن فيه شي ء من هذه الاعتقادات.

فقد ذكر شيخنا البهائي رحمه اللّه علي ما حكاه عنه في البحار: «و قد يظهر منها أنّ الاعتقاد بمجرّد التأثير حرام و كفر و إنّما يجوز مجرّد القول بكونها دلالات و علامات» انتهي «1».

و لعلّ مراده كونها مؤثّرة لا بإذن اللّه، و لا يخلو عن بعد، و نقل في البحار كلاما عن المحقّق الشيخ علي ما قد يظهر منه ذلك أيضا «2».

و كذا العلّامة قدّس سرّه في كتاب «المنتهي» حيث قال «و بالجملة كلّ من يعتقد ربط الحركات النفسانية و الطبيعية بالحركات الفلكية الكوكبية فهو كافر … «3».

و لنعم ما قال السيّد المرتضي رحمه اللّه في المقام حيث قال في كلام طويل له ما حاصله:

«اعلم أنّ المنجّمين يذهبون إلي أنّ الكواكب تفعل في الأرض و من عليها أفعالا يسندونها إلي طباعها، و ما فيهم أحد يذهب إلي أنّ اللّه تعالي أجري العادة

بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو بعده أفعالا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك، و من ادّعي هذا المذهب الآن منهم فهو قائل بخلاف ما ذهب إليه قدماؤهم في ذلك، و متجمّل بهذا المذهب عند أهل الإسلام، و متقرّب إليهم بإظهاره، و ليس هذا بقول لأحد ممّن تقدّم منهم … » «4».

و مغزاه أنّ قدمائهم كانوا علي مذاهب فاسدة، و مسلموهم ربّما لا يكونون كذلك.

إذا عرفت ذلك، فلنعد إلي الروايات الخاصّة و ما يستفاد منها، فنقول و منه سبحانه التوفيق:

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 55، ص 291.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق، ص 290.

(4). المصدر السابق، ج 55، ص 282.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 191

هناك طائفتان من الروايات:

الطائفة الاولي تدلّ علي لعن المنجّم و كذب أخباره، و كونه كالكاهن و الساحر، و عدم جواز تصديقه فيما يخبر به و ما أشبه ذلك، و هي كثيرة منها:

1- ما رواه القاسم بن عبد الرحمن أنّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن خصال، منها مهر البغي، و منها النظر في النجوم «1».

2- و ما رواه ظريف بن ناصح عن أبي الحصين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: سئل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن الساعة، فقال: «عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر» «2».

3- و ما رواه نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «المنجّم ملعون و الكاهن ملعون و الساحر ملعون … » «3».

4- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: و قال عليه السّلام: «المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار!» «4».

5- و

ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن أبي جعفر عن آبائه عليهم السّلام عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهي عن عدّة خصال منها النظر في النجوم «5».

6- و ما رواه هشام بن حكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّ زنديقا قال له: ما تقول في علم النجوم؟ قال: «هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه، لا يدفع به المقدور و لا يتّقي به المحذور، إنّ خبر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء، و إن خبر هو بخير لم يستطع تعجيله، و إن حدث بسوء لم يمكنه صرفه، و المنجّم يضادّ اللّه في علمه بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّه عن خلقه» «6».

7- و ما أرسله المحقّق رحمه اللّه (في المعتبر) … قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من صدق كاهنا أو

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 103، الباب 24، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7 و 8.

(4). المصدر السابق، ص 104.

(5). المصدر السابق، ح 9.

(6). المصدر السابق، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 192

منجّما فهو كافر بما انزل علي محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «1».

8- و ما رواه ابن طاوس رحمه اللّه من كتاب الشيخ الفاضل محمّد بن علي محمّد في دعاء الاستخارة الذي كان يدعو به الصادق عليه السّلام «إلي أن قال» «اللهمّ إنّك خلقت أقواما يلجئون إلي مطالع النجوم لأوقات حركاتهم و سكونهم و خلقتني أبرأ إليك من اللجإ إليهم … » «2».

9- و ما رواه عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي

قد ابتليت بهذا العلم، فاريد الحاجة فإذا نظرت إلي الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم أذهب فيها، و إذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: «تقضي؟» قلت: نعم، قال: «احرق كتبك» «3».

10- و ما رواه محمّد بن الحسين الرضي الموسوي (في نهج البلاغة) قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام لبعض أصحابه لمّا عزم علي المسير إلي الخوارج، فقال له يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم!، قال عليه السّلام: «أ تزعم أنّك تهدي إلي الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء؟ و تخوّف الساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن … أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدي به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلي الكهانة، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار … » «4».

11- و ما رواه المفضّل بن عمر، عن الصادق عليه السّلام في حديث في قول اللّه تعالي: وَ إِذِ ابْتَليٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ إلي أن قال: «و أمّا الكلمات فمنها ما ذكرناه، و منها المعرفة بقدم باريه و توحيده و تنزيهه عن التشبيه، حتّي نظر إلي الكواكب و القمر و الشمس، و استدلّ بافول كلّ واحد منها علي حدثه، و بحدثه علي محدثه، ثمّ أعلمه عزّ و جلّ أنّ الحكم بالنجوم خطاء» «5».

12- و ما رواه أبو خالد الكابلي قال: سمعت زين العابدين عليه السّلام يقول: الذنوب التي تغيّر

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 103، الباب 24، من أبواب ما يكتسب به، ح 11.

(2). المصدر السابق، ح 12.

(3). وسائل الشيعة، ج 8،

ص 268، الباب 14، من أبواب آداب السفر إلي الحجّ، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 271، ح 8.

(5). المصدر السابق، ص 270، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 193

النعم البغي علي الناس «إلي أن قال:» و الذنوب التي تظلم الهواء السحر و الكهانة و الإيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر … » «1».

الطائفة الثّانية: ما يدلّ علي الجواز و أنّه لا يضرّ بالدين، أو أنّ أصل الحساب حقّ، أو أنّه لا يعلمه إلّا الخواص، و هي روايات منها:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها و هي تعجبني، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي ء يضرّ بديني، و إن كانت لا تضرّ بديني فو اللّه إنّي لأشتهيها، و أشتهي النظر فيها.

فقال: «ليس كما يقولون لا تضرّ بدينك،- ثمّ قال- إنّكم تنظرون في شي ء منها، كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به» «2».

2- ما رواه هشام الخفّاف قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كيف بصرك بالنجوم؟» قال قلت: ما خلّفت بالعراق أبصر بالنجوم منّي!، قال: «كيف دوران الفلك عندكم؟» «إلي أن قال» «ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب و في هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، و يحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثمّ يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟!» قال: قلت: لا و اللّه لا أعلم ذلك قال: فقال: «صدقت إنّ أصل الحساب حق، و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم» «3».

3- ما رواه المعلّي بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن النجوم أحقّ هي؟ فقال:

«نعم، إنّ

اللّه بعث المشتري إلي الأرض في صورة رجل فأخذ رجلا من العجم، فعلمه «إلي أن قال» ثمّ أخذ رجلا من الهند فعلمه»، الحديث «4».

4- و ما رواه جميل بن صالح عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن النجوم قال:

«ما يعلمها إلّا أهل بيت من العرب و أهل بيت من الهند» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 270، الباب 14، من أبواب آداب السفر إلي الحجّ، ح 6.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 101، الباب 24، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 102، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 103، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 194

5- و ما رواه محمّد بن بسّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «قوم يقولون النجوم أصحّ من الرؤيا و ذلك هو، كانت صحيحة حين لم ترد الشمس علي يوشع بن نون، و علي أمير المؤمنين عليه السّلام فلمّا ردّ اللّه عزّ و جلّ الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم فمنهم مصيب و مخطئ» «1».

و يظهر من غير واحد منها حكمهم عليهم السّلام ببعض أحكام النجوم، مثل كراهة التزويج و القمر في العقرب و غيرها مثل:

1- ما رواه إبراهيم بن محمّد بن حمران عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تزوّج امرأة و القمر في العقرب لم ير الحسني» «2».

2- قال: و روي إنّه يكره التزويج في محاقّ الشهر «3».

3- و ما رواه علي بن محمّد العسكري عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال: «من تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسني». و قال: «من تزوّج في محاق الشهر فليسلم لسقط الولد»

«4».

4- و ما رواه محمّد بن حمران عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سافر أو تزوّج و القمر في العقرب لم ير الحسني» «5».

و القول بأنّ ذلك مثل كراهة الصلاة في أماكن مخصوصة عجيب، فانّ الظاهر منها دلالة هذا الوضع الفلكي علي عدم الظفر بالمطلوب، لا سيّما مع كون هذا أمر مركوزا في أذهانهم من ربط الفلكيات بالحوادث السفلية، فهذا إمضاء له في الجملة «6».

و الجمع بينها لا يخفي علي الخبير بعد الإشارات الكثيرة الواردة فيها، فانّ الذمّ و اللعن فيها إنّما هو علي الاعتقاد بتأثيرها الاستقلالي، أو ما يكون التفويض و الإخبار بالغيوب و الاستغناء عن اللّه، و الغفلة عن المحو و الإثبات، و عدم تأثير الدعاء و التوسل، و كونها قولا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 271، الباب 14، من أبواب آداب السفر، ح 9.

(2). وسائل الشيعة، ج 14، ص 80، الباب 54، من أبواب مقدّمات النكاح، الأحاديث 1 و 2 و 3.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

(5). وسائل الشيعة، ج 8، ص 266، الباب 11، من أبواب آداب السفر، ح 1.

(6). و قد عقد العلّامة المجلسي قدّس سرّه بابا في ج 55 من البحار (السماء و العالم) أورد فيها أكثر من ثمانين رواية تنقسم كما ذكرنا طريق الجمع واحد.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 195

بغير علم، و ما دلّ علي الجواز إنّما هو فيما خلا عن جميع ذلك كما لا يخفي علي من تدبّرها، و هناك قرائن اخري علي هذا الجمع:

الأوّل- قوله «عند إيمان بالنجوم» و «تكذيب بالقدر» كما جاء في الأحاديث التالية:

1- ما رواه أبو الحصين قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: سئل رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن الساعة فقال: «عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر» «1».

يعني هذا مذموم منهي عنه.

2- ما رواه أبو خالد الكابلي عن زين العابدين عليه السّلام و قد سبق ذكره «2».

الثّاني- عطف المنجّم علي الكاهن في رواية (7/ 24) أو تشبيهه بالكاهن (8/ 24) أو أنّ من صدق كاهنا أو منجّما فهو كافر (11/ 24 من ج 12) التي مرّت عليك قريبا.

أو أنّ التنجيم يدعو إلي الكهانة (8/ 14 من المجلّد 8 من الوسائل).

و الكهانة هي الإخبار عن الغيب و الحوادث المستقبلة بزعم أنّ له تابعا من الجنّ.

و كذا عطفه علي العرّاف الذي هو أيضا كالكاهن إلّا أنّ إخباره بالمغيبات إنّما هو بادّعائه معرفة أسباب الامور.

الثّالث- قوله فمن صدقك بهذا فقد كذّب القرآن و استغني عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب … و أن يوليك الحمد دون ربّه (8/ 14 من أبواب آداب السفر ج 8 من الوسائل ص 271).

الرابع- و قوله تقضي؟ في رواية عبد الملك بن أعين (1/ 14 ج 8 من أبواب آداب السفر من الوسائل) الظاهر في أنّه إن لم يغضّ بتّا بل كان علي سبيل الاحتمال أو شبه ذلك لم يضرّه.

الخامس- تعلّم جماعة من علماء الشيعة من المحدّثين و غيرهم علم النجوم، و تبحّرهم فيها أيضا، و هم كثير قد عرفت أسماء بعضهم في كلام ابن طاوس.

و الحاصل: إنّه لو لم يكن فيه الاعتقادات الفاسدة و الآثار المحرّمة التي عرفت الإشارة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 103، الباب 24، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، ص 270، الباب 14، من أبواب آداب السفر إلي الحجّ، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب

التجارة (لمكارم)، ص: 196

إليها، و لم يخبر بها عن جزم، و لم يكن مقدّمة لحرام آخر، لما منع منه مانع، و يجوز تعليمه و تعلّمه و النظر فيه، و اللّه العالم بحقائق الامور.

بقي هنا شي ء: إنّ هناك علوما اخر تسمّي ب «العلوم الغريبة» يستند إليها في كشف المغيبات و الأسرار، و كذا «التنويم المغناطيسي» و ما أشبه ذلك، و الظاهر أنّها مشتركة مع التنجيم في كثير من مفاسده و ملاكاته، فهي أيضا محرّمة إذا كان الإخبار فيها بعنوان الجزم أو الاستقلال، أو علي وجه ينكر قضاء اللّه و مشيّته، و عدم تأثير الدعاء، و كشف أسرار الناس، و الاطلاع علي أسرارهم، و دعوي علم الغيب، فهي مشتركة مع الكهانة و النجوم و عمل العرّاف، و يستفاد من حرمتها بلا إشكال للتعليلات الواردة في الأدلّة الكثيرة أو ما يشبه التعليل.

نعم إذا خلت عن جميع ذلك لم يبعد جوازها.

و من الجدير بالذكر أنّ أمثال هذه الامور، أعني الحكم بالنجوم و الكهانة و العلوم الغريبة، قليل في عصرنا لا يرغب إليها إلّا ضعاف النفوس، المائلون إلي الخرافات، و لعلّه لظهور كذب كثير من المدّعين لذلك، و بطلان أقوالهم.

و لا ينافي ذلك كونها علوم حقّة موجودة عند أهلها، فتدبّر جيّدا.

7- حفظ كتب الضلال و نشرها

صرّح غير واحد من الأصحاب بحرمة حفظ كتب الضلال، بل عن التذكرة و المنتهي- كما في الجواهر- نفي الخلاف عنه «1» نعم استثني بعضهم مورد النقض أو الحجّة علي أهلها، أو التقيّة، أو شبه ذلك.

و لكن لم يرد فيه نصّ بالخصوص، و إن أقام الأصحاب فيه وجوها اخري وافية بالمقصود كما سيأتي إن شاء اللّه.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 56.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 197

و من

هنا قال صاحب الحدائق: «و عندي في الحكم من أصله توقّف، لعدم النصّ، و التحريم و الوجوب و نحوهما أحكام شرعية، يتوقف القول بها علي الدليل الشرعي، و مجرّد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعية» «1».

و ذكر في مورد آخر في تفريعات المسألة: «لو كان الحكم المذكور منصوصا عليه و العلّة من النصّ ظاهرة، لأمكن استنباط الأحكام من النصّ بما يناسب تلك العلّة و يناسب سياق النصّ، و أمكن التفريع علي ذلك بما يقتضيه الحال من ذلك النصّ، و حيث أنّ الأمر ليس كذلك فهذه التفريعات و التخريجات كلّها إنّما هي من قبيل الرمي في الظلام» «2».

و كأنّ صاحب الجواهر قدّس سرّه ناظر إلي كلامه الأخير حيث يقول: «إنّه ربّما أساء الأدب مع الأصحاب الذين هم حفّاظ السنّة و الكتّاب نسأل اللّه العفو عنّا و عنه» «3» و كأنّ صاحب الحدائق رحمه اللّه غفل عن أنّه قد لا يكون الحكم منصوصا بالخصوص، و لكن تشمله الأدلّة العامّة الواردة في الكتاب و السنّة من العناوين الأوّلية و الثانوية، فكيف يمكن الإغماض عنها و عدم الفتوي بها، مع أنّ هذا الموضوع من أشدّ ما يبتلي به في كلّ زمان و لا سيّما في زماننا، و كيف كان فقد استدلّ له بامور:

أمّا من كتاب اللّه فبقوله تعالي: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ «4».

و قوله تعالي: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «5».

و قوله تعالي: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا يَكْسِبُونَ «6».

و

تفسير قول «الزور» بالكذب، أو الغناء من قبيل التفسير بالمصداق الظاهر، و لا يمنع عن عموم الحكم كما لا يخفي علي الخبير بكلماتهم عليهم السّلام.

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 141.

(2). المصدر السابق، ص 142.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 57.

(4). سورة لقمان، الآية 6.

(5). سورة الحجّ، الآية 30.

(6). سورة البقرة، الآية 79.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 198

و استدلّ من السنّة بما ورد في فقرات مختلفة من حديث «تحف العقول» من العناوين التالية:

«باب ما يوهن به الحقّ» - «ما يكون منه و فيه الفساد» - «ما يقوي به الكفر و الشرك في وجوه المعاصي» أو غير ذلك.

و ما مرّ من حديث عبد الملك بن أعين في مبحث النجوم و سؤال الإمام له: «تقضي» فلمّا أجاب بالإيجاب، قال له الإمام: «أحرق كتبك»! «1».

و استدلّ له أيضا بدليل العقل من باب وجوب قلع مادّة الفساد، و لو تمّ دعوي الإجماع كما أسنده في الحدائق إليهم تمّت الأدلّة الأربعة فيه.

هذا و الإنصاف أن يقال: إنّ حفظ كتب الضلال علي أنحاء:

تارة يكون بقصد إضلال الناس.

و اخري يعلم أو يظنّ بكونه منشأ لذلك، و ان لم يقصده.

و ثالثة ليس مظنّة، و لكن يحتمل.

و رابعة لا يترتّب عليه شي ء من ذلك.

فالأوّل داخل في الآيات الكثيرة الدالّة علي حرمة الإضلال و الإفساد و إشاعة الفحشاء و غير ذلك من أشباهه، و هو ضروري الحرمة.

و الثاني أيضا داخل فيه و في الإعانة علي الإثم، و قد عرفت أنّ القصد في هذه الموارد قهري.

و الثالث لا يبعد حرمته أيضا، لوجوب قلع مادّة الفساد ما دام احتماله العقلائي باق، بحكم العقل و غيره.

و أمّا الرابع فلا دليل علي حرمته، نعم لا يجوز بيعه حينئذ،

لعدم المالية له إلّا في مواضع نادرة، فالأدلّة السابقة إنّما تشمل بعض فروض المسألة لا جميعها، فاللازم الحكم بالتفصيل.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 268، الباب 14، من أبواب آداب السفر، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 199

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا فروعا:

1- كتب الضلال لا تنحصر بما ذكر، و إن شئت قلت لا يختصّ الحكم بعد ما عرفت من الأدلّة العامّة الواسعة بخصوص «الحفظ» بل يشمل التأليف و الطبع و التصحيح و النشر و غير ذلك من التعليم و التعلّم و الكتابة، و لا بخصوص «الكتاب»، بل يعمّ التصاوير و الأفلام و الإذاعات و غيرها.

و لا بخصوص «الضلال» بل يعمّ «الفساد و الفحشاء» و ما يوجب وهن المؤمنين و شبهها، إلّا أن يقال: إنّ عنوان «الضلال» أعمّ من الضلال في العقيدة أو غيرها، فالحكم أعمّ من جهات ثلاثة (من الحفظ، و الكتب، و الضلال) و كم له من المصاديق له في عصرنا ممّا لم يتعرّض له القوم رضوان اللّه عليهم، و لو لم يشملها بعض الأدلّة، ففي غيرها غني و كفاية.

2- الحفظ أعمّ من ظهر القلب، و في الخارج إذا كان له أثره، و دليله عموم الأدلّة.

3- إذا كانت كتب باطنها صلاح و هداية، و لكن ظاهرها يوجب الضلال و الغواية كما في بعض كتب الأشعار، أو بعض كتب العرفاء و الحكماء التي يذكرون لها تفاسير و توجيهات مع أنّ لها ظواهر منكرة في بعض الأحيان، و لا يبعد شمول العموم لها، لأنّ الإضلال عن سبيل اللّه فيها محقّق، و لا يصغي إلي عدم الإرادة بعد حصول العلم بالتأثير، و قد عرفت أنّ القصد هنا قهري و غير ذلك من الأدلّة.

4-

كتب العهدين أعني التوراة و الأناجيل المحرّفة الموجودة اليوم، قد يقال أنّها غير داخلة في كتب الضلال بالنسبة إليها بعد نسخها بالبداهة عند المسلمين، و لكنّه عجيب، لأنّها لو لم توجب إضلال العلماء الراسخين في العلم و أشباههم، فقد توجب إضلال غيرهم من ضعفاء النفوس و الإيمان و العلم، و ليس هذا أمرا نادرا، فقد رأيناهم ينشرون دائما هذه الكتب بين أبناء المسلمين و الشباب، و قد تؤثّر في نفوسهم، و لا شكّ أنّها من هذه الجهة كتب ضلال.

5- كتب المخالفين في المذهب علي قسمين: قسم علمي لا يكون إلّا بأيدي العلماء، فهي لا توجب شيئا من التوالي الفاسدة السابقة، و إن اشتمل كثير منها علي ما ليس بحقّ، أو ما يكون ضلالا، كالقول بالجبر و التجسيم و تفضيل الخلفاء و نفي العصمة عن بعض

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 200

المعصومين، و نفي الخلافة بلا فصل عن علي عليه السّلام و تفضيل غيره عليه و شبه ذلك، و هذا أمر سائغ بالنسبة إلينا، و لا تزال مكتباتنا مشحونة بكتبهم، بل قد نطبعها و ننشرها بيننا لما فيها من فوائد علمية مع بطلان كثير من مسائلها.

و اخري تكون من الكتب التي تنشر بين العوام، و يكون فيه الفساد لضعاف النفوس، فهذا داخل فيما مرّ.

6- قد يكون جزء من الكتاب أو شريط الكاسيت أو الفلم ضلالا و موجبا للفساد، و حينئذ يكون هو المشمول للأدلّة السابقة دون غيره، و لو وقع في مقابله جزء من الثمن في البيع لكان هذا المقدار باطلا بالنسبة إليه دون غيره كما هو ظاهر.

7- استثني غير واحد منهم من حرمة الحفظ أو البيع ما إذا كان للعلم بعقائد أهل الضلال لهدايتهم

إلي سواء السبيل، أو دفع مكائدهم عن الآخرين، أو فعل التقيّة في مقابلهم، أو غير ذلك من الفوائد ممّا ليس يخفي، و حينئذ يكون جائزا لأهله لا لغيرهم، و يتقيّد بمقدار الضرورة، حافظا لها عن غير أهلها، و لذا قيّده الأكثرون- كما في مفتاح الكرامة- بما إذا كان من أهل النقض «1».

8- أمّا حكم التكسّب بها حفظا و كتابة و بيعا فقد قال في مفتاح الكرامة:

«إذا حرما «الحفظ و الكتابة» حرم التكسّب بهما كما تعطيه القاعدة، و أكثر العبارات لمكان ذكر ذلك في المقام، مع تصريح جماعة كثيرين بحرمته، بل اقتصر في المراسم علي ذكر تحريم الأجر علي كتب الكفر» «2».

و ما ذكره جيّد لما عرفت من قاعدة التحريم، و أنّ اللّه إذا حرّم منافع شي ء حرّم ثمنه و لم تكن له مالية شرعا.

إنّما الكلام في أنّ حرمته تكليفية أو وضعية؟ قد يتوهّم أنّ مقتضي ما عرفت من الأدلّة أنّها تكليفية، كبيع السلاح لأعداء الدين، و بيع العنب ممّن يجعله خمرا، و فيه ما عرفت من أنّه ليس له منافع محلّلة علي المفروض، و ليس مثل العنب أو السلاح، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 62.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 62.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 201

منافع حفظها كثيرة لأهله كما عرفت، فلها مالية، إنّما الحرام بيعها من أشخاص معينين كالسلاح و العنب و هذا جيّد، و لكن يأتي الكلام السابق في بيع السلاح لأعداء الدين من أنّ مقتضي البيع إقباضه، مع أنّ إقباضه حرام هنا، فهو من قبيل ما لا يقدر علي إقباضه، فانّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فيكون بيعه باطلا بالمآل.

9- هل يجب محوها مضافا إلي ما

ذكر؟ ظاهر غير واحد من الأدلّة السابقة و كذا أدلّة النهي عن المنكر (و لو بملاكها) وجوبه، و ليس ببعيد، إلّا أن يكون لجلدها أو نفس الأشرطة (إذا محي عنها الأصوات اللهوية) و غيرها مالية، فلا بدّ من حفظها و يحرم إفنائها.

10- و لنختم الكلام ببعض ما وقع بين صاحب الحدائق قدّس سرّه و جمع من أصحابنا الاصوليين (رضوان اللّه عليهم) حيث حكم في بعض كلماته بأنّ الكتب التي ألّفتها العامّة في الاصول مسائل استحسانية لم ترد في الشرع فهي كتب ضلال، ثمّ ذكر أنّ الاصوليين من أصحابنا تبعوهم في ذلك و ان حذفوا منها ما لا يوافق مذهبنا.

و اعترض عليه غير واحد منهم العلّامة قدّس سرّه صاحب مفتاح الكرامة، بأنّ هذا المقدار من كتاب الحدائق بنفسه كتاب ضلال لا بدّ من محوه! «1».

و قد عرفت كلام الجواهر قدّس سرّه في حقّه من قبل.

و الإنصاف إنّ علم الاصول، «قواعد» و «اصول» و «أمارات» متّخذة غالبها من الكتاب و السنّة، و قد ذكر كثيرا منها صاحب الحدائق لا بعنوان علم الاصول، بل بعنوان المقدّمات في أوّل مجلّد من كتابه، فهي قواعد اصولية و إن لم يسمّها بذلك، فهذه الهجمات نشأت في الواقع من سوء التعبير في المسائل، و أشبه شي ء بالنزاع اللفظي، و الأمر سهل، و اللّه واسع المغفرة نسأل اللّه تعالي عفوه و رحمته لهم و لنا.

8- الرشا في الحكم و غيره
اشارة

أجمع علماء الإسلام- كما في جامع المقاصد- علي تحريم الرشا في الحكم، و هو علي

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 63.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 202

إجماله كذلك، لم يختلف فيه أحد، إنّما الكلام في تفاصيله، من ناحية الحكم و الموضوع، و ذلك لأنّ ما يأخذه القاضي

علي أنحاء:

1- ما يأخذه علي الحكم بالباطل.

2- ما يأخذه علي الحكم علي وفق مراد أحد المترافعين، حقّا أو باطلا.

3- ما يأخذه علي الحكم بما هو الحقّ في الواقعة.

4- ارتزاقه من بيت المال.

5- هداياه قبل الحكم أو بعده.

6- ما يأخذه من طريق المعاملات المحاباتية مع الناس عموما، أو المتخاصمين خصوصا.

هذا، و قد تكون الرشوة في غير الأحكام، فما ذا حكمه؟ إنّما الكلام في أنّ موضوع الرشوة أي أمر من هذه الامور؟ و ما ذا يدخل في مفهومه؟ و ما ذا يكون ملحقا به، بملاكه؟

فلنذكر «أوّلا» ما ورد في هذا الباب من الأدلّة الدالّة علي تحريمها، ثمّ نتبعها بما يستفاد منها من موضوع التحريم، فنقول و منه جلّ ثنائه التوفيق و الهداية:

يدلّ علي تحريم «الرشوة» بهذا العنوان روايات كثيرة في بعضها أنّها علي حدّ الكفر باللّه العظيم منها:

1- ما رواه عمّار بن مروان قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول؟ فقال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، … فأمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم جلّ اسمه و برسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «1».

2- و ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «السحت أنواع كثيرة … و أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم» «2».

3- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت … فأمّا الرشا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 61، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 62، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 203

في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم» «1».

4- و ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين

عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة … و ان أخذ الرشوة فهو مشرك» «2».

5- ما رواه عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة … فأمّا الرشاء يا عمّار في الأحكام فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «3».

6- و ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي قال و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ السحت أنواع كثيرة، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه!» «4».

و منها: ما يدلّ علي كونه «سحتا» مثل:

7- ما رواه يزيد بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن السحت فقال: «الرشا في الحكم» «5».

8- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة … و الرشوة في الحكم … » «6».

9- و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي من السحت ثمن الميتة … و الرشوة في الحكم … » «7».

10- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الرشا في الحكم هو الكفر باللّه» «8».

11- ما رواه يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن البخس فقال: «هو الرشا في الحكم» «9».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 63، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 63، ح 10.

(3). المصدر السابق، ص 64، ح 12.

(4). المصدر السابق، ص 65،

ح 16.

(5). المصدر السابق، ص 62، ح 4.

(6). المصدر السابق، ص 62، ح 5.

(7). المصدر السابق، ص 63، ح 9.

(8). وسائل الشيعة، ج 18، ص 162، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 3.

(9). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 204

12- ما رواه العياشي في تفسيره عن جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكل السحت الرشوة في الحكم» «1».

و منها: ما يدلّ علي حرمة قبول الهديّة للوالي أو القاضي مثل:

13- ما رواه الأصباغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه عند يوم القيامة و عن حوائجه و ان أخذ هدية كان غلولا … » «2».

14- و ما رواه جابر عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «هديّة الامراء غلول» «3».

و منها: ما يدلّ علي حرمة الرزق مثل:

15- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان علي القضاء الرزق فقال: «ذلك السحت» «4».

و هناك روايات اخري رواها في المستدرك في الباب الخامس من أبواب ما يكتسب به (المجلّد 2 الصفحة 426):

16- منها ما رواه في الجعفريات عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: «من السحت ثمن الميتة … و أجر القاضي» «5».

17- منها ما رواه عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من أكل السحت سبعة … الرشوة في الحكم» «6».

18- و منها ما رواه العياشي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن عليهما السّلام قال: «السحت أنواع كثيرة منها … فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر

باللّه» «7».

و هناك أيضا روايات اخر رواها المستدرك في الباب 8 من أبواب آداب القاضي منها:

19- ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: «من أكل السحت

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 163، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 7.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 63، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 10.

(3). وسائل الشيعة، ج 18، ص 163، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 6.

(4). المصدر السابق، ص 161، ح 1.

(5). مستدرك الوسائل، ج 2، ص 426، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(6). المصدر السابق، ص 427، ح 6.

(7). المصدر السابق، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 205

الرشوة في الحكم»، قيل: يا بن رسول اللّه و إن حكم بالحقّ؟ قال: «و ان حكم بالحقّ»، قال:

«فأمّا الحكم بالباطل فهو كفر» «1».

20- و عنه عن علي عليه السّلام أنّه قال في حديث: «و لا بدّ من قاض و رزق للقاضي» و كره أن يكون رزق القاضي علي الناس الذين يقضي لهم، و لكن من بيت المال! «2».

21- و عنه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فيما عهد إليه من أمر القضاة بعد ذكر صفاتهم كما تقدّم قال: «ثمّ أكثر تعاهد أمره و قضاياه و أبسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع و تقلّ به حاجته إلي الناس و اجعل له منك منزلة لا يطمع فيما غيره حتّي يأمن من اغتيال الرجال إيّاه عندك، و لا يحابي أحدا للرجاء، و لا يصانعه لاستجلاب حسن الثناء، أحسن توقيره في مجلسك و قربه منك» «3».

22- و منها ما رواه

في الجعفريات باسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن الميتة- إلي أن قال- و الرشوة في الحكم و أجر القاضي، إلّا قاض يجري عليه من بيت المال» «4».

23- و منها ما رواه في عوالي اللئالي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «لعن اللّه الراشي و المرتشي و من بينهما يمشي» «5».

و بالجملة الأحاديث الدالّة علي حرمة الرشوة بهذا العنوان أو بما يؤدّي معناها كثيرة جدّا، بل ربّما تبلغ حدّ التواتر كما أشار إليه في الجواهر «6»، و لكن قبل بيان مقتضاها لا بدّ من ملاحظة مقتضي القاعدة في هذا الباب، ثمّ ننظر هل يستفاد من روايات الباب معنا أوسع منه، أو لا؟

فنقول (و من اللّه التوفيق و الهداية): أنّه لو كان «الجعل» في مقابل حكم الباطل أو الحكم علي وفق مراد المعطي كيفما كان، حقّا أو باطلا، فلا شكّ أنّه حرام، لأنّ اللّه إذا حرّم شيئا

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 17، ص 353، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 354، ح 4.

(5). المصدر السابق، ص 355، ح 8.

(6). جواهر الكلام، ج 22، ص 145.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 206

حرّم ثمنه، أمّا إذا أخذ علي الحقّ فلا دليل علي الحرمة، نعم إذا كان القضاء واجبا عينيا، فقد يقال بحرمة أخذ الاجرة عليه، لما سيأتي من حرمة أخذ الاجرة علي الواجبات، و لكن فيه كلام سيأتي إن شاء اللّه، و كذلك بالنسبة إلي الواجب الكفائي.

ما هي الرّشوة؟

و اللازم هنا تحقيق

معني الرشوة و محتواها، قال في «القاموس»: إنّ الرشا الجعل، (و لا شكّ أنّه تعريف شرح اسمي) و قال في «مصباح المنير»: أنّه ما يعطيه الشخص للحاكم و غيره ليحكم أو يحمله علي ما يريد، و عن «مجمع البحرين» قلّما تستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل إلي إبطال حقّ أو تمشية باطل، و في «لسان العرب» الرشوة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلي امّه لتزقّه، و الرشاء رسن الدلو، ثمّ قال: قال ابن الأثير «الرّشوة» و «الرّشوة» الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به الماء فالراشي من يعطي الذي يعينه علي الباطل، و المرتشي الآخذ. و ذكر في ضمن كلامه الحديث النبوي المعروف:

لعن اللّه الراشي و المرتشي و الرائش (أي الماشي بينهما).

و تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الرشوة في الأصل بمعني الجعل، و مدّ الفرخ رأسه ليغتذي من امّه، أو إرضاع الناقة لفصيلها، ثمّ استعمل في الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، أو ما يعطي لمن يعينه علي الباطل، من غير تقييده بخصوص الأحكام و القضاء، و ليكن هذا علي ذكر منك.

و أمّا غلبته في الإعانة علي الباطل بحيث ينصرف إليه عند إطلاقه- كما ذكره في «مفتاح الكرامة» حيث قال: الرشا (بالضمّ و الكسر) جمع رشوة، و مثله الجعل كما في القاموس، و في «النهاية» الراشي الذي يعينه علي الباطل و المرتشي الآخذ، و الرائش الذي يسعي بينهما «1» - فظاهر جدّا، لا لما عرفت من مجمع البحرين فقط، بل لدلالة روايات الباب عليه أيضا، فإنّ إطلاق قوله: أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم المروي في كثير منها (1 و 2 و 8 و 12 و 16 الباب 5 من أبواب

ما يكتسب به من الوسائل) شاهد عليه، فانّها بقرينة

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 91.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 207

بعض ما عرفت آنفا ناظر إلي قوله تعالي: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ «1».

فلو لم يفهم هذا من إطلاق الرشوة لم يحسن ذكره مكرّرا بدون قيد هذا «أوّلا».

و «ثانيا»: جعلها في عداد ثمن الخمر و مهر البغي و ثمن الكلب و غير ذلك يدلّ علي أنّه في مقابل عمل محرّم، فلو أخذه في مقابل الحكم بالحقّ لم يكن كذلك.

و «ثالثا»: جعلها في مقابل اجور القضاة في غير واحد من روايات الباب التي سبق ذكرها، فلو كان جعل القاضي مطلقا رشوة لم يكن لذلك وجه.

«رابعا»: قد عرفت أنّها مأخوذة من أحد المعاني الثلاثة التي تشترك في معني الوصول إلي مقصد خاصّ عن طريق عمل، و هذا لا يناسب إعطاء مطلق الأجر إلي القاضي، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المقصود الوصول إلي نفس القضاء، و لكن لا يخلو عن بعد.

و علي هذا لا شكّ أنّ مقتضي القاعدة القول بالحرمة في خصوص ما يؤخذ علي الحكم بالباطل، أو الحكم علي وفق مراده باطلا كان أو حقّا، فلا تشمل القسم الثالث من الأقسام السابقة و لا ما بعده.

و من هنا يظهر النظر في كلام الجواهر حيث قال: إنّ الرشوة خاصّة في الأموال و في بذلها علي جهة الرشوة، أو أنّها تعمّها و تعمّ الأعمال، بل و الأقوال كمدح القاضي و الثناء عليه، و المبادرة إلي حوائجه و إظهار تبجيله و تعظيمه، و نحو ذلك و تعمّ البذل و عقد المحاباة و العارية و الوقف و نحو ذلك، و بالجملة كلّ ما قصد به

التوصّل إلي حكم الحاكم؟ قد يقوي في النظر الثاني، و أن شكّ في بعض الأفراد في الدخول في الاسم، أو جزم بعدمه فلا يبعد الدخول في الحكم (انتهي) «2».

أقول: أمّا الدخول في الاسم فهو بعيد جدّا بالنسبة إلي «الأقوال» بعد التعبير بالأخذ في كثير من روايات الرشوة، و ما يتبادر في الذهن منها في عرف المتشرّعة، بل العرف العامّ من كونها مالا لا قولا.

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 44.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 146- 147.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 208

و كذلك بالنسبة إلي العارية و الوقف و شبهه، نعم دخولها في الملاك غير بعيد بالنسبة إلي المعاملات المحاباتية، لا بالنسبة إلي الأقوال و السعي في الحوائج.

كما يظهر النظر في كلام بعض أعاظم السادة في حواشيه علي المكاسب من أنّ المتحصّل من كلمات الفقهاء رضوان اللّه تعالي عليهم، و من أهل العرف و اللغة … أنّ الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ أو تمشية باطل، أو للتملّق، أو الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، أو في عمل لا يقابل بالاجرة و الجعل عند العرف و العقلاء … بل يفعلون ذلك العمل للتعاون و التعاضد فيما بينهم، كإحقاق الحقّ و إبطال الباطل، و ترك الظلم و الإيذاء أو دفعها و تسليم الأوقاف … إلي غيره، كأن يرشو الرجل علي أن يتحوّله عن منزله فيسكنه غيره، أو يتحوّله عن مكان في المساجد فيجلس فيه غيره، إلي غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف أخذ الاجرة عليها، انتهي «1».

و الظاهر أنّ الذي حمله علي هذا التعميم العجيب في ناحية موضوع الرشوة هو الأخذ بظاهر بعض كلمات اللغويين من أنّها الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، مع انّك عرفت أنّ

هناك قرائن كثيرة تحدّدها.

حكم الهديّة للقاضي:

هذا كلّه في عنوان الرشوة، و لكن قد عرفت ما في بعض الروايات السابقة من الحكم بتحريم الهدية أيضا (10/ 5 المجلّد 12 الصفحة 63 و 6/ 8 المجلّد 18 الصفحة 163 و 11/ 5 المجلّد 12 الصفحة 64 من الوسائل).

و الأولي- أي رواية أصبغ بن نباتة- ضعيفة السند بأبي الجارود، و الثانية رواية جابر عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و الظاهر أنّها أيضا غير نقيّة السند، و الثالث رواية الصدوق رحمه اللّه في عيون الأخبار، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

و هناك روايات اخر رواها البيهقي ج 10 ص 138 في باب عقده لذلك في كتاب آداب القاضي، و روي فيه روايتين عن أبي حميد الأنصاري و أبي حميد الساعدي (و لعلّهما

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 262- 263.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 209

شخص واحد و ان كان مضمون الروايتين مختلفا ظاهرا).

فهذه الروايات و ان كانت غير نقيّة الإسناد غالبا، و لكن الإنصاف أنّها متظافرة بعضها مع بعض، مروية في كتب الفريقين المعروفة بينهم، و دلالة أكثرها قويّة.

هذا و ذكر في «مفتاح الكرامة» القولين من دون تسمية قائلهما: القول بحرمة أخذ الهدايا، و جوازه، ثمّ فصّل بين ما له مظنّة لها بالحكومة فتحرم، لأنّها تعود إلي الرشوة، و إن كان الغرض التودّد و التوصّل إلي حاجة اخري فهي هديّة «1».

أقول الهديّة علي أقسام:

1- منها ما يقصد به إبطال حقّ أو الوصول إلي مراده في الحكم أيّما كان، فهي رشوة و إن سمّيت بعنوان الهدية.

2- ما يكون في مقابل عمل القاضي، فهي بحكم الاجرة، و سيأتي حكمه إن شاء اللّه.

3- ما يكون لجلب قلبه في

الحاضر، أو الآتي، و بعبارة اخري: يكون لمقام قضائه، فلو لم يكن في هذا المقام لم يعطه.

4- ما يكون شكرا في مقابل عمله، و يكون بعد القضاء.

5- ما يكون لصلة بينه و بينه من دون أي ربط له بمقامه.

و الظاهر شمول الروايات للصور الثلاثة الاولي دون الأخيرتين، لا سيّما الأخيرة منهما، و لا ينبغي تركه فيما قبله، فالحكم بالحرمة في الصورة الاولي و الثانية و الثالثة قريب، و لو شكّ في ذلك كان الحكم البراءة، و إن كان الاحتياط لا ينبغي تركه لما يظهر من الشارع المقدّس من بنائه علي الاحتياط في هذا المقام كما لا يخفي علي من راجع الأدلّة.

اجور القضاة:

أمّا اجورهم فالمحكي عن المشهور المنع عن أخذ الحاكم الجعل من المتحاكمين مطلقا، بل عن جامع المقاصد دعوي النصّ و الإجماع عليه.

و الظاهر أنّه لا فرق بين الجعل و الاجرة عرفا في المقام، و ان كان بينهما فرق في مصطلحات الفقهاء.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 91.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 210

و لكن عن القاضي و المقنعة الجواز مطلقا، و عن المختلف التفصيل بين حاجة القاضي و عدم تعيّن القضاء عليه، و بين غناه أو عدم الغناء عنه.

و الذي يدلّ علي القول الأوّل أي الحرمة امور:

1- مصحّحة عمّار بن مروان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة … و منها اجور القضاة … » «1».

و دلالتها ظاهرة إن أخذ بإطلاقها و لم يحمل علي قضاة الجور.

2- ما رواه يوسف بن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «لعن رسول اللّه 6 من نظر إلي فرج امرأة لا تحلّ له … و

رجلا احتاج الناس إليه لتفقّهه، فسألهم الرشوة» «2».

و ظاهرها و إن كان تحريم الرشوة، إلّا أنّ قوله: احتاج الناس إليه «لتفقّهه»، ربّما يدلّ علي حرمة الاجور أيضا، و لكن لا يخلو عن إشكال (و الرواية مجهولة بيوسف).

3- معتبرة عبد اللّه بن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان علي القضاء الرزق، فقال: «ذلك السحت» «3».

و لكن التعبير بالرزق مخالف للمقصود لما سيأتي من جواز ارتزاقه من بيت المال، و ليس حمله علي الأجر بأولي من حمل السلطان علي الجائر.

و قد يعارض بما رواه حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من استأكل بعلمه افتقر»، قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟ فقال: «ليس اولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدي من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا» «4».

و موضع الاستفادة منها هو قوله: «ليبطل به الحقوق» الذي يستفاد منه جواز أخذ الاجرة إذا لم يبطل الحقوق، و الإنصاف أنّه لا ربط له بمسألة القضاء، و إنّ الطائفة المانعة كافية في إثبات المقصود، بعد وضوح دلالة الاولي منها و اعتبار سندها، و عمل المشهور بها، و تؤيّدها

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 64، الباب 5، من أبواب ما يكتسب به، ح 12.

(2). وسائل الشيعة، ج 18، ص 163، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 161، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 18، ص 102، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 211

الروايتان الاخريان، و أمّا

المعارض فلا دلالة كما عرفت.

و قد يستدلّ له- مضافا إلي ما ذكر- بامور اخري:

1- كون القضاء واجبا عينيا أو كفائيا- و الظاهر أنّه من الواجبات المبنيّة علي المجانية، فيحرم أخذ الاجرة عليها، و لكنّه أخصّ من المدّعي، لأنّه قد يقوم له من به الكفاية، فلا يجب علي الآخرين مطلقا.

2- إنّه مقام رفيع قد احتاط فيه الشارع المقدّس من جهات عديدة، و سنّ فيها سننا يستفاد من مجموعها عدم جواز هذه الامور فيها، و هذا غير بعيد لمن لا حظ ما ورد في أبواب القضاء من الروايات.

3- إنّ أخذ الأجر ربّما يؤدّي إلي وقوع القاضي في خطر الجور، و المساواة بين الخصمين في الأجر، و إن كان قد يدفع ذلك، و لكنّه أيضا غير كاف، لأنّ المساواة أيضا قد تدعو إليه، لأنّه يريد حفظ منافع كليهما، و الحال أنّ أحدهما يكون محقّا، و الآخر مبطلا غالبا.

و هذا إن لم يكن دليلا، فلا أقل من أنّه مؤيّد للمطلوب.

4- و يمكن الاستدلال له بما مرّ من حرمة أخذ الهدايا، فانّها تدلّ علي حرمة الاجرة بطريق أولي.

و من هنا يظهر حال القولين الآخرين، فانّ كون عمل القاضي محترما و حلالا، و إنّ اللّه إذا أحلّ شيئا أحلّ ثمنه، و إن كان معلوما، لكن لا يقاوم الأدلّة السابقة، للزوم الخروج عن هذا الأصل بعد ورود الأدلّة علي خلافه كما في المقام.

كما أنّ التفصيل إنّما هو ناظر إلي بعض الأدلّة فقط، فلا يركن إليه، هذا مضافا إلي أنّ حاجة القاضي و عدمها غير دخيلة في المقصود كما لا يخفي.

ارتزاق القاضي من بيت المال:

و المشهور جوازه، و هو الأقوي، و يدلّ عليه امور:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 212

1- إنّ أدلّة الحرمة التي مرّت

عليك غير شاملة لها، فيبقي علي أصالة الجواز، بضميمة ما دلّ علي مصارف بيت مال المسلمين، و أنّه لمصالح الإسلام و المسلمين، و من أهمّها أمر القضاء و رفع حاجة القاضي.

2- ما دلّ من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة فيما كتبه لمالك الأشتر النخعي، و إرسال سنده لا يقدح بعد علو مضامينه، بل فيه دلالة علي لزوم تحصيل كلّما يحتاج إليه القاضي من حيث المعني و المادّة، لكيلا يشرف نفسه علي الجور «1».

3- السيرة المستمرّة منذ زمن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و الوصي عليه السّلام، فإنّ القضاة كانوا يستمدّون من بيت المال ظاهرا و لم ينكر عليهم أحد.

و ما دلّ علي عدم جواز أخذ الرزق من السلطان (1/ 8)، فقد عرفت أنّه ناظر إلي قضاة الجور لا قضاة العدل.

بقي هنا امور:

الأوّل- لا يعتبر الحاجة و الفقر فيما يأخذه القاضي من بيت المال، و إن كان التعبير بالارتزاق قد يشعر به، لما عرفت من أنّ المعيار فيه رعاية مصالح المسلمين، فقد تقتضي المصلحة إعطائه و ان كان غنيّا ليهتمّ بأمر القضاء، و بالجملة ما يؤخذ من بيت المال قد يكون مشروطا بالفقر كالزكاة بالنسبة إلي سهم الفقراء و المساكين، و قد لا يكون كذلك كالخراج و الزكاة بالنسبة إلي سهم العاملين أو المؤلّفة قلوبهم أو في سبيل اللّه، و كذا سهم اللّه و رسوله و الأئمّة عليهم السّلام في الخمس دون سهام الفقراء و أشباههم، و حينئذ تتبّع المصالح في كلّ مقام، فلا يكون الفقر شرطا عاما.

و ما ورد في تقسيم بيت المال علي حدّ سواء إنّما هو في بعض ما يكون مشتركا بين عموم المسلمين (كما ذكر في

محلّه).

الثّاني- هل تجوز الرشوة في غير الأحكام، كأخذها لإصلاح أمره عند السلطان أو نجاة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 163، الباب 8، من أبواب آداب القاضي، ح 9، و نهج البلاغة، الكتاب 53.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 213

مظلوم عن سجن الظالم، أو أخذ حقوقه عمّن عليه الحقّ، أو إصلاح ذات البين، أو شفاعة عند من يحتاج إليه في بعض الامور أو غير ذلك من أشباهه؟

قد يقال: إنّ إطلاقات الرشوة تشمل جميع موارد الأحكام و غيرها، لأنّها هي الوصلة إلي الحاجة بالمصانعة، فكلّ مصانعة يتوصّل بها إلي حاجة داخلة فيها.

و فيه: إنّها منصرفة إلي باب الأحكام للتصريح به في كثير منها، فيحمل عليه غيره، نعم رواية العيون (11/ 5) قد تدلّ علي حرمتها، للحكم فيها بكون الهدية بعد قضاء الحاجة سحتا أيضا.

و لكن قد عرفت الجواب عنه، و أنّه لا بدّ من حملها علي الكراهة.

و ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه بعد عنوان المسألة «إنّ المحرّم الرشا في خصوص الحكم أو يعمّه و غيره؟ و علي الأوّل فهو خصوص الحكم الشرعي أو يعمّه و العرفي من حكّام العرف، بل و غيرهم من الآمرين بالمعروف؟ … لم أجد تحريرا لشي ء من ذلك في كلمات أحد من الأصحاب» ثمّ قال في بعض كلامه: «أمّا النصوص فهي و إن كان كثير منها في الرشاء في الحكم، لكن فيها ما هو مطلق لا يحكم عليه الأوّل لعدم التنافي بينهما، اللهمّ إلّا إن تفهم القيدية فيتنافي حينئذ مفهومه مع المطلق، لكنّه كما تري» انتهي «1».

و فيه أوّلا- إنّ تكرار هذا القيد في النصوص الكثيرة ظاهر في المفهوم، لأنّه في مقام الاحتراز.

و ثانيا: إنّ معناها اللغوي و إن كان مطلقا، إلّا

أنّه مختص في العرف بما يستعمله قضاة الجور و الظلمة و أتباعهم و من يحذو حذوهم، كما ذكره قدّس سرّه في بعض كلماته.

و ثالثا- إنّ عمومها و إن سلّم، إلّا انّك قد عرفت أنّه يختصّ بما إذا كان لإبطال حقّ أو إحقاق باطل، و هذا محرّم علي القواعد أيضا.

فلا يستفاد من مجموعها ما يزيد علي مقتضي القواعد.

فلنرجع إلي ما تقتضيه القواعد هنا، فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية): إن أخذ الرشوة في غير الأحكام يكون علي أنحاء:

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 147 و 148.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 214

1- تارة يكون في مقابل أمر حرام، سواء كان لتضييع حقّ، أو أخذ ما ليس له بحقّ، أو نجاة ظالم، أو اضطهاد مظلوم، فلا شكّ أنّه حرام و إن لم يكن في دائرة القضاء.

2- و اخري يكون في مقابل أمر واجب عليه بمقتضي الشرع الذي يجب عليه فعله مجانا، كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو أيضا حرام كما هو واضح.

3- و ثالثة يكون في مقابل ما وجب عليه بمقتضي كونه أجيرا علي عمل، كموظفي الإدارات و عمّال الحكومة الذين يأخذون من الحكومة في مقابل ما عليهم من الأعمال اجورا، فلو أخذوا رشوة كان حراما، بل قد لا يؤدّون ما عليهم من الواجب طمعا في أخذ الرشوة- و لا شكّ أنّه أيضا حرام، لأنّه أكل مال بالباطل.

4- و قد يكون الجعل لإصلاح أمر لا يكون واجبا عليهم عرفا و شرعا، و لا بمقتضي الإجارة للحكومة و غيرها و لكن يأخذ علي إصلاح الأمر حقّا كان أو باطلا شيئا، و لا شكّ في حرمته أيضا، لأنّه بهذه الصورة أكل للمال بالباطل، و أنّه

تعالي إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و كذا إذا أخذ منه لإحقاق حقّه قبل أوانه، ممّا لا يستحقّه بحسب النوبة.

5- إذا كانت الصورة بحالها، و لكن كان الجعل مأخوذا بقصد إصلاح أمره بطريق حلال لا يجب عليه شرعا، فحينئذ لا مانع منه شرعا، لأنّه أخذ جعل أو اجرة أو هدية علي أمر محلّل في الشرع، كما إذا لم يكن صاحب الأمر عارفا بطريق ذلك، و أخذ منه الجعل لإراءة الطريق و شبهها.

و الظاهر أنّ ما ورد في حديث محمّد بن مسلم الذي يدلّ علي جواز أخذ الرشوة لينتقل من منزله (2/ 85 من أبواب ما يكتسب به) ناظر إلي أمثال ذلك، كما أنّ ما ورد عن الصيرفي عن أبي الحسن عليه السّلام من جواز إعطاء الرشوة لعدم ظلم وكيل السلطان (1/ 37 من أحكام العقود) ناظر إلي ما سبق، فراجع و تدبّر.

6- قد يأخذ شيئا لشراء المتاع الذي و وكّل علي شرائه عن شخص معيّن، فان كان ذلك منه لأخذ شي ء أقلّ منه أو علي خلاف القيمة السوقية فلا شكّ في حرمة أخذ الجعل، بل و بطلان المعاملة، لأنّه لم يكن وكيلا فيها بهذه الكيفية، و إن كان وكيلا للشراء لا من شخص خاصّ، فأخذ الجعل علي ترجيح هذا الشخص علي ذاك، فالظاهر أنّه أيضا كذلك، لأنّه من

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 215

قبيل أكل المال بالباطل، نعم لو قبل منه هدية من غير معاوضة علي العمل كان جائزا، إذا لم يتخلّف في شي ء من شئون وكالته، فتدبّر.

الثّالث- المعاملة المحاباتية (و هي المشتملة علي المساهلة في البيع بحسب اللغة و في الاصطلاح البيع بما دون القيمة) علي أقسام:

1- قد يكون الغرض منها الرشوة، لأنّه

لا يمكنه أخذ الرشوة ظاهرا، فيتوصّل إلي المعاملة لذلك، أو يكون هذا داعيا له إلي المعاملة، كما إذا كان يشتري القاضي منه من قبل أيضا، و لكن تكون المحاباة بداعي الرشوة في المستقبل البعيد أو القريب، و كان الحكم له شرط ضمني فيه، فلا شكّ في حرمتها أيضا و فساد المعاملة لذلك، فهي من قبيل أكل المال بالباطل، و حيث أنّه لا يمكن التفكيك بين أصل المعاملة و المحاباة تبطل الصورة الثانية أيضا.

2- قد يكون ذلك بدون شرط، بل لجلب قلب القاضي، كالهدايا التي تهدي له لمقامه، فإذا انعزل انقطع! و هو أيضا حرام، لما عرفت في الهدية، فتشملها أدلّتها بالملاك كما هو ظاهر.

3- قد يكون لتكريم القاضي و التشكّر منه في حكمه الحقّ بعد العمل من دون نيّة خلاف بالنسبة إلي المستقبل، و لا دليل علي حرمته و ان كان الأولي تركه.

4- قد يكون لصلة بينه و بين القاضي مع قطع النظر عن مقام قضائه، كما إذا كان من أقربائه، فهو أيضا جائز بلا إشكال.

و بالجملة تنقسم المعاملات المحاباتية انقسام الجعل و لها أحكامه.

و الظاهر كما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه أنّ المعاملة المحاباتية المحرّمة فاسدة في وجه قوي «1» خلافا لبعض أعاظم المحشّين «2».

لأنّ الوفاء بهذا العقد غير ممكن شرعا، و تسليم العين غير جائز، فحينئذ يكون كعين لا يقدر علي تسليمها!

______________________________

(1). المكاسب، المسألة الثامنة، ص 31.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 273.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 216

الرّابع: في الحكم الوضعي لما يعطي بعنوان الرشوة.

قال في الجواهر: لا خلاف و لا إشكال في بقاء الرشوة علي ملك المالك، كما هو مقتضي قوله «أنّها سحت» و غيره من النصوص الدالّة علي

ذلك، و إن حكمها حكم غيرها ممّا كان من هذا القبيل، نعم قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة، باعتبار تسليطه، انتهي محلّ الحاجة «1».

و للمسألة هنا صور:

1- إذا كان عين الرشوة موجودة يجوز أخذها بلا إشكال، لبقائها علي ملك مالكها.

2- إذا كانت تالفة فإن كان بعنوان المعاوضة أو شبهها في مقابل الحكم فالآخذ ضامن، و إن علما بالفساد، فإنّ العلم بالفساد لا يوجب التسليط المجاني، بل التسليط بالعوض إعراضا عن حكم الشرع و اعتناء بحكم العقلاء- إذا جوزوا- أو بناء منه علي صحّة هذا العقد الفاسد من قبل نفسه، و بالجملة لم يقصد المجانية مطلقا، و هذا نظير غيره من العقود الفاسدة مع العلم بفسادها، فإنّه ضامن لما أخذه إذا كانت ممّا يضمن بصحيحها كما ذكرناه في محلّه، و كذا إذا كان من قبيل الشرط الضمني، ففيه أيضا ضامن.

3- إذا أعطاها هديّة و هبة لجلب قلبه، و أتلفها، فالظاهر أنّه غير ضامن، لأنّه ممّا لا يضمن بصحيحة، فلا يضمن بفاسده، و الدواعي لا اعتبار بها في المعاملات كما هو ظاهر.

4- لو حاباه في معاملة، فالظاهر فساد المعاملة أيضا، و حيث أنّها ممّا يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فهو ضامن لما أخذه من المتاع، و البائع ضامن لما أخذه من الثمن، و القول بأنّه من قبيل الشرط الفاسد و هو لا يوجب الفساد في العقد، ممنوع، لما عرفت من شمول أدلّة الرشوة و الهبة لنفس المعاملة و لو بملاكها، فهي محرّمة و أكل للمال بالباطل، و لا يجب الوفاء بها، فهي فاسدة.

الخامس- إذا اختلف المعطي و الآخذ، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه من صور الاختلاف شقوقا ثلاثة و عمدتها:

1- إذا اختلفا فقال

المعطي: كانت هدية ملحقة بالرشوة في الحرمة و الفساد، و قال الآخذ: بل كانت هبة صحيحة.

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 149.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 217

فقد يقال بترجيح الأوّل، نظرا إلي أنّ الأصل هو الضمان، و أنّ الدافع أعرف بنيّته.

و لكن الحقّ ترجيح الثاني، لأنّ الطرفين متفقان علي كونها هبة، و إنّما الخلاف في الصحّة و الفساد، و الأصل هو الصحّة.

2- إذا ادّعي الدافع أنّها إجارة فاسدة، و ادّعي الآخذ أنّها كانت هبة صحيحة، فحيث لا عقد هنا متّفق بينهما، يرجع إلي أصالة الضمان في الأموال، فيرجّح قول الدافع.

3- إذا ادّعي المعطي إنّها كانت إجارة فاسدة، و ادّعي الآخذ كونها هبة فاسدة حتّي لا يكون ضامنا لما مرّ من أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و القول هنا أيضا قول المدّعي للضمان، لأنّه الأصل في الأموال.

و الحاصل في جميع هذه الصور و أشباهها أنّ مقتضي الأصل في باب الأموال إذا أتلفها غير مالكها هو الضمان، و عليه جرت بناء العقلاء، إلّا أن يثبت أنّه كان برضي صاحبها أو بحقّ له عليه، و ما ورد من أنّه «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه».

و لا حاجة إلي التمسّك بقوله «علي اليد ما أخذت» حتّي يقال أنّه لم يثبت صحّة سنده، كما أنّه لا حاجة إلي استصحاب عدم طيب نفس المالك و رضاه، حتّي يقال أنّه عدم أزلي أو محمولي، بل الذي يدّعي الحقّ علي مال الغير أو جواز تصرّفه برضاه يحتاج إلي الإثبات، لما عرفت من أنّ البناء المسلّم بين العقلاء الذي أمضاه الشارع هو الضمان في هذا الباب.

نعم إذا اتّفقا علي وقوع عقد، و لكن اختلفا في صحّته و فساده، فأصالة

الصحّة حاكمة، كما إذا تنازعا في صحّة الهبة و فسادها قبل التلف إذا كان الموهوب له ذا رحم أو معوّضة (بناء علي المعروف من لزومها) أمّا إذا كان بعد التلف فهو غير ضامن علي كلّ حال، لما عرفت من أنّ صحيحها ممّا لا يضمن به فلا يضمن بفاسده.

9- سبّ المؤمن
اشارة

السباب ليس أمرا يمكن الاكتساب به عادة، و إنّما ذكره العلماء هنا استطرادا للباب و توسعة للبحث بما لم يذكر في غير المقام.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 218

و الكلام فيه تارة من ناحية الحكم، و اخري من ناحية الموضوع، و ثالثة في المستثنيات.

أمّا المقام الأوّل، فلا شكّ في حرمة سبّ المؤمن، و استدلّ له بالأدلّة الأربعة:

أمّا من كتاب اللّه لقوله تعالي: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «1» و أي زور أعظم من هذا؟ فإنّه من أوضح مصاديقه.

و من السنّة روايات كثيرة منها:

1- ما رواه عبد الرحمن بن حجّاج عن أبي الحسن موسي عليه السّلام في رجلين يتسابّان قال:

«البادي منهما أظلم، و وزره و وزر صاحبه عليه، ما لم يعتذر إلي المظلوم» «2».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ رجلا من تميم أتي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقال:

أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: «لا تسبّوا الناس فتكسبوا العداوة لهم» «3».

3- ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه» «4».

4- ما رواه النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه «سباب المؤمن كالمشرف علي الهلكة» «5».

و

من دليل العقل أنّه من مصاديق الظلم بغير إشكال.

و الإجماع علي الحكم واضح ظاهر.

و المقام الثّاني- معني السبّ معلوم إجمالا، قال الراغب في المفردات: إنّه الشتم الوجيع، و «السبابة» سمّيت بها للإشارة بها عند السبّ كتسميتها ب «المسبحة» لتحريكها بالتسبيح «6».

و يظهر أنّه أشدّ من الشتم، و منه يظهر أيضا أنّ ما ذكره في لسان العرب- من أنّ السبّ هو التعبير بالبخل- من قبيل بيان المصداق.

______________________________

(1). سورة الحجّ، الآية 30.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، ص 610، الباب 158، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 611، ح 4.

(6). المفردات، مادّة «سبّ».

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 219

و الظاهر أنّ كلّ قول يقصد به التحقير و الإهانة و تنقيص الغير هو سبّ، و قد ورد في روايات أبواب التعزيرات أنّ السبّ بغير قذف، عليه تعزير «1»، و ذكر كثير من مصاديقه في روايات اخري من هذا الباب، مثل قول الرجل لغيره: أنت خبيث أو خنزير «2» و ابن المجنون «3» و يا فاسق «4» يا شارب الخمر يا آكل الخنزير «5».

و يدخل فيه كلّما يوجب منقصة في النفس و الأخلاق و الدين و العرض و الأهل، بل المال و البدن، إذا كان فيه إهانة و تحقير، كأن يقول «وجهك وجه الخنزير» و «مالك مال السرقة و القمار» و لو نوقش في دخول بعض ذلك في مفهوم اللفظ، فلا شكّ أنّه داخل في الحكم، بل قد عرفت أنّ ثلاثة من الأدلّة الأربعة هنا لا تدور مدار عنوان السبّ، بل الزور أو الظلم أو غير ذلك ممّا هو أهمّ قطعا.

و هل يلزم مخاطبة الشخص المسبوب بذلك؟ الظاهر

عدمه، لعدم اعتباره لا في مفهوم اللفظ، و لا في ملاك الحكم، بل كان كثير من المجرمين في الصدر الأوّل يسبّون المؤمنين علي ظهر الغيب، بل و بعد موت المعنيّ بالسبّ، فلا يعتبر فيه التخاطب أصلا.

و هل يعتبر أن يكون السبّ بقصد الإنشاء؟ كما عن المحقّق الإيرواني قدّس سرّه، و لذا ذكر أنّ النسبة بينه و بين الغيبة هي التباين، لأنّها إخبار، و هذا إنشاء، أو يعمّ الخبر و الإنشاء؟

الظاهر هو الثاني، لعدم ذكر هذا القيد فيما عرفت من كتب اللغة، بل و لا متفاهم العرف، و ان كان أكثر أفراده بالإنشاء أو بالنداء، و الأمر سهل بعد عموم الملاك.

المقام الثالث: في موارد الاستثناء من هذا الحكم، و قد استثني منه امور:

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 219

1- المتظاهر بالفسق، لأنّه لا حرمة له.

2- أهل البدع، و يدلّ عليه ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم … » الحديث «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 452، الباب 19، من أبواب حدّ القذف، ح 1، رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 453، ح 4.

(5). المصدر السابق، ص 454، ح 10.

(6). وسائل الشيعة، ج 11، ص 508، الباب 39، من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن

المنكر، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 220

3- ما لا يتأثّر به المسبوب عرفا، بأن لا يكون نقصا في حقّه، كقوله الوالد لولده بعض ما هو المعمول بينهما، أو قد يكون له فخرا كقول بعض أساتيذه فيه بعض الأشياء.

4- ما إذا كان بعنوان التأديب، كتأديب الوالد لولده لفحوي جواز ضربه.

5- ما كان للنهي عن المنكر، إذا توقّف عليه بالخصوص، فهو جائز بأدلّته.

و ليعلم أنّ هذه الامور ليست علي نحو واحد، بل بعضها من قبيل الخروج عن الموضوع كالثالث، و بعضها من باب الخروج عن الحكم كالباقي، هذا و لكن بعضها لا يخلو عن تأمّل.

أولا: الإنصاف أنّ مجرّد عدم الحرمة للفاسق المتظاهر غير كاف في جواز سبّه ما لم يدخل تحت عنوان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لا يجوز قياسه علي عدم حرمة غيبته كما لا يخفي.

و ثانيا: إنّ سبّ أهل البدع أيضا داخل في هذا العنوان، فإنّهم من أظهر الفسّاق، أو من باب النهي عن المنكر.

و ثالثا: إنّ سبّ من لا يتأثّر عنه خارج عن عنوانه، لأنّه لا يكون نقصا و إيذاء و تحقيرا له، فلا يبعد جوازه، إذا لم يكن داخلا تحت عنوان قول الزور، أمّا إذا كان من جهة عدم مبالاته بما قال و ما قيل فيه، فيشكل خروجه عن إطلاق الأخبار.

و رابعا: جوازه بأدلّة التأديب أو النهي عن المنكر إنّما يصحّ إذا لم يمكن ذلك بطريق آخر غير مشتمل عليه.

بل و كذا يجوز إذا كان هناك اغراض أهمّ من قبيل التقيّة و شبهها، مثل بعض ما ورد في حقّ زرارة و نظائره من أكابر الأصحاب صونا لدمائهم.

بقي هنا شي ء:

و هو إنّه قد يقال بعدم حرمة السبّ في مقابل السبّ،

لو لم يتعدّ، و إنّ إثمهما علي البادي منهما، و يحكي عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه في آيات أحكامه من جواز القصاص حتّي ضرب

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 221

المضروب و شتم المشتوم بمثل فعلها «1».

و كذا ما عن العلّامة المجلسي قدّس سرّه من التصريح بأنّ الصادر عن المظلوم يترتّب عليه الإثم إلّا أنّ الشرع أسقط عنه المؤاخذة و جعلها علي البادي! «2».

و يظهر من الأوّل منهما عدم الإثم فيه، لاستدلاله بآيات جواز الاعتداء بالمثل، و من الثاني منهما كونه حراما، و لكن الشارع جعل إثمه علي البادي.

و اختاره في مصباح الفقاهة أيضا «3».

و غاية ما يمكن الاستدلال له امور:

1- آيات الاعتداء بالمثل «4».

و لكن الإنصاف انصرافه عن ذلك، و إلّا لزم جواز «القذف» في «مقابل القذف» لعدم الفرق بينهما، و القول بخروجه بدليل خاصّ كما تري، و كذا الغيبة في مقابل الغيبة، و التهمة في مقابل التهمة، و هو عجيب.

2- ما مرّ في مصحّحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن موسي عليه السّلام في رجلين يتسابّان قال: «البادي منهما أظلم، و وزره و وزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلي المظلوم» «5».

و هنا روايتان، في إحداهما «وزره و وزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلي المظلوم» و في الاخري بتفاوت في صدر سند الحديث و متنه «ما لم يتعدّ المظلوم» و ظاهره أنّه لا وزر عليه لو لم يتعدّ عن الحدّ، فيتوافق مع آيات الاعتداء بالمثل.

و فيه: أنّ الظاهر أنّهما ليستا روايتين، بل الاختلاف ناشئ من إختلاف النسخ بعد وحدة الراوي و المروي عنه عليه السّلام و المضمون، و كون الاختلاف في صدر السند فقط، فالاستدلال بها

______________________________

(1). آيات الأحكام نقلا عن مصباح الفقاهة، ج 1، ص 280.

(2).

بحار الأنوار، ج 72، ص 295، (باب السفيه و السفلة ح 2).

(3). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 280.

(4). سورة البقرة، الآية 193- 194.

(5). وسائل الشيعة، ج 8، ص 610، الباب 158، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 222

أيضا مشكل مع عدم ثبوت المتن الثاني و لا سيّما أنّ السند في الأوّل أقوي، و من حيث الدلالة أيضا مشكل، لاحتمال كونه من قبيل من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء، لا سيّما بقرينة قوله «أظلم».

3- ما ورد من طرق العامّة عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم:

«المتسابّان ما قالا فعلي البادي، ما لم يتعدّ المظلوم» «1».

و الإشكال فيه من حيث السند ظاهر، و يرد علي دلالته ما سبق.

و يؤيّد المختار أمران:

1- ما ورد في حكم التعزير في المتسابّين: عن أبي مخلّد السرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون! فأمر الأوّل أن يجلد صاحبه عشرين جلدة و قال: أعلم أنّه مستعقب مثلها عشرين، فلمّا جلده أعطي المجلود السوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما «2».

فإنّه كالصريح في الإثم من الجانبين إلّا أن يستشكل عليه بعدم صحّة سنده.

و كذلك ما ورد في حكم المتقاذفين من درء الحدّ عن كليهما و ثبوت التعزير فيهما مثل ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين افتري كلّ واحد منهما علي صاحبه؟ فقال: «يدرأ عنهما الحدّ و يعزّران» «3».

و الرواية صحيحة السند و قد أفتي بها الأصحاب من غير نكير.

و قد

ذكر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الحدود بعد ذكر هذا الحكم: «و منه و من غيره يعلم عدم سقوط التعزير عنهما لو تغايرا بما يقتضيه» «4».

2- المقابلة بالمثل قد يكون إيذاء فقط، فيجوز بأدلّة القصاص و غيره، و اخري يكون بما هو محرّم في نفسه، و في مثل ذلك لا يجوز، لأنّه من قول الزور و قبيح في نفسه، كالغيبة في مقابل الغيبة، و التهمة في مقابل التهمة.

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 10، ص 235، كتاب الشهادات.

(2). وسائل الشيعة، ج 18، ص 452، الباب 19، من أبواب حدّ القذف، ح 3.

(3). المصدر السابق، ص 451، الباب 18، ح 1.

(4). جواهر الكلام، ج 41، ص 431.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 223

و العمدة أنّ جواز المقابلة في خصوص حقّ الناس لا ما كان فيه جهة حقّ اللّه أيضا، كالغيبة و التهمة و السبّ و إحراق دار الغير في مقابل إحراق داره لما فيه من القبح، فتدبّر جيّدا.

10- السحر
المقام الأوّل: في حرمة السحر

حرمة السحر علي سبيل الإجمال مسلّمة معلومة كما اتّفقت عليه كلمات علماء الإسلام، بل قد يقال أنّها من ضروريات الدين، و ليس ببعيد، و يدلّ علي حرمتها آيات من كتاب اللّه عزّ و جلّ:

قوله تعالي في سورة يونس: أَ سِحْرٌ هٰذٰا وَ لٰا يُفْلِحُ السّٰاحِرُونَ «1».

و قوله تعالي: وَ أَلْقِ مٰا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مٰا صَنَعُوا إِنَّمٰا صَنَعُوا كَيْدُ سٰاحِرٍ وَ لٰا يُفْلِحُ السّٰاحِرُ حَيْثُ أَتيٰ «2».

و ما ورد في قصّة هاروت و ماروت و أهل بابل من قوله تعالي:

وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ الشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّٰاسَ السِّحْرَ «3» فإنّ ظاهره كون السحر نوعا من الكفر.

أمّا من السنّة فيدلّ عليه روايات كثيرة أوردها صاحب الوسائل في

الباب 25 و 26 من أبواب ما يكتسب به، و الباب 1 و 3 من أبواب بقيّة الحدود و التعزيرات، منها ما يلي:

1- ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ساحر المسلمين يقتل و ساحر الكفّار لا يقتل»، قيل: يا رسول اللّه لم لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال:

«لأنّ الشرك أعظم من السحر، لأنّ السحر و الشرك مقرونان» «4».

______________________________

(1). سورة يونس، الآية 77.

(2). سورة طه، الآية 69.

(3). سورة البقرة، الآية 102.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 106، الباب 25، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 224

2- ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن شيخ من أصحابنا الكوفيين قال: دخل عيسي بن شقفي علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و كان ساحرا يأتيه الناس، و يأخذ علي ذلك الأجر، فقال له:

جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر، و كنت آخذ عليه الأجر، و كان معاشي، و قد حججت منه، و منّ اللّه عليّ بلقائك و قد تبت إلي اللّه عزّ و جلّ، فهل لي شي ء من ذلك مخرج؟

فقال له عليه السّلام: «حل و لا تعقد» «1».

فدلّ علي حرمة السحر فيما يعقد.

3- ما رواه محمّد بن سيّار عن أبويهما عن الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السّلام في حديث قال:

في قوله عزّ و جلّ: وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَي الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ قال: «كان بعد نوح عليه السّلام قد كثرت السحرة المموّهون، فبعث اللّه عزّ و جلّ ملكين إلي نبي ذلك الزمان يذكر ما يسحر به السحرة، و ذكر ما يبطل به سحرهم

و يردّ به كيدهم، فتلقّاه النبي عن الملكين، و أدّاه إلي عباد اللّه بأمر اللّه عزّ و جلّ، و أمرهم أن يقفوا به علي السحرة و أن يبطلوه، و نهاهم أن يسحروا به الناس، و هذا كما يدلّ علي السمّ ما هو؟ و علي ما يدفع به غائلة السمّ، إلي أن قال: و ما يعلّمان من أحد ذلك السحر و إبطاله حتّي يقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة، و امتحان للعباد، ليطيعوا اللّه فيما يتعلّمون من هذا، و يبطل به كيد السحرة و لا يسحروهم، فلا تكفر باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار به و دعاء الناس إلي أن يعتقدوا أنّك به تحيي و تميت و تفعل ما لا يقدر عليه إلّا اللّه عزّ و جلّ، فإنّ ذلك كفر «إلي أن قال» و يتعلّمون ما يضرّهم و لا ينفعهم لأنّهم إذا تعلّموا ذلك السحر ليسحروا به و يضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّهم في دينهم و لا ينفعهم فيه» «2».

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا: إنّ توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد «3» (و كأنّه إشارة إلي ما مرّ تحت الرقم 2).

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 105، الباب 25، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 106، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 225

5- ما رواه علي بن الجهم عن الرضا عليه السّلام في حديث قال: «و أمّا هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة و يبطلوا به كيدهم و ما علّما أحدا من ذلك شيئا حتّي قالا إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز

منه و جعلوا يفرّقون بما تعلّموه بين المرء و زوجه، قال اللّه تعالي و ما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن اللّه يعني بعلمه» «1».

6- ما رواه أبو البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام قال: «من تعلّم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه وحده أن يقتل إلّا أن يتوب» «2».

7- ما رواه عبد الرحمن بن الحسن التميمي مسندا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عن علي عليه السّلام في حديث: «نحن أهل بيت عصمنا اللّه من أن نكون فتّانين أو كذّابين أو ساحرين أو زنائين، فمن كان فيه شي ء من هذه الخصال، فليس منّا و لا نحن منه» «3».

8- ما رواه أبو موسي الأشعري قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنّة:

مدمن خمر و مدمن سحر و قاطع رحم» «4».

9- ما رواه الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك فنسأله، فقال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من مشي إلي ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب» «5».

10- ما رواه زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة علي رأسه» «6».

11- ما رواه زيد بن علي عن أبيه عن آبائه قال: سئل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن الساحر فقال:

«إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 107،

الباب 25، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 108، ح 8.

(4). المصدر السابق، ص 107، ح 6.

(5). المصدر السابق، الباب 26، ص 109، ح 3.

(6). وسائل الشيعة، ج 18، ص 576، الباب 1، من أبواب بقيّة الحدود، ح 3.

(7). المصدر السابق، الباب 3، ص 577، من أبواب بقيّة الحدود، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 226

12- و ما رواه إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «من تعلّم شيئا من السحر كان آخر عهده بربّه، و حدّه القتل إلّا أن يتوب» «1».

المقام الثّاني: في معني السحر

و قد عرّف بتعاريف مختلفة في اللغة و لسان الفقهاء لا يخلو جلّها أو كلّها عن إشكال و إبهام:

1- ما عن القاموس: أنّه ما لطف مأخذه و دقّ.

2- و في لسان العرب: السحر الآخذة، و كلّ ما لطف مأخذه و دقّ.

3- و في مجمع البحرين: يسمّي سحرا لأنّه صرف جهته.

4- و عن الأزهري: أصل السحر صرف الشي ء عن حقيّته إلي غيرها.

5- و فسّر بعضهم: بإظهار الباطل بصورة الحقّ.

6- و بعضهم بالخدعة و التمويه.

7- و بعضهم: كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رقيّة، أو يعمل شيئا يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة.

8- إنّه: صرف الشي ء عن وجهه علي سبيل الخدعة و التمويه (و كأنّه من تركيب بعضها إلي بعض) ذكره في مصباح الفقاهة «2».

و الظاهر أنّ شيئا من هذه التفسيرات لا تكون تفسيرا جامعا مانعا، فانّ مجرّد لطف المأخذ و الدقّة، أو الأخذ بالعيون أو صرف الشي ء عن وجهه، أو إظهار الباطل بصورة الحقّ ليس سحرا، كما في الغشّ في الكلام و الأعيان

الخارجية.

و كذا مجرّد الخدعة و التمويه أو صرف الشي ء عن وجهه علي سبيل الخدعة الموجودة في أنواع الغشّ و المكر، لا يختصّ بالسحر، بل يشمله و غيره.

و الاولي ملاحظة حال مصاديقها الواضحة و استقرائها و استخراج جامع بينها، فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية):

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 3، ص 577، من أبواب بقيّة الحدود، ح 2.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 285.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 227

استعملت هذه الكلمة في كتاب اللّه العزيز كثيرا، و كذا في السنّة، فمنه ما ورد في قصّة سحرة فرعون، فقد أخذوا عصيّا و حبالا و وضعوا فيها أشياء (و يقال زيبق) فإذا يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعي، فأخذوا أعين الناس و استرهبوهم و جاؤوا بسحر عظيم، فسحرهم كان أمرا مركّبا من «الأخذ بالعيون» و «الاسترهاب» و «الانتفاع ببعض خواص الأشياء الخفيّة» و في جانب آخر نري السحر الذي أخذه أهل بابل من الملكين، فكانوا يأخذون ما يضرّهم و يفرّقون بين المرء و أهله ببعض الأسباب الخفيّة.

و في جانب ثالث نري الكفّار من جميع الامم يتّهمون أنبيائهم بالسحر، لمّا رأوا الآيات الإلهية كما قال تعالي: فَلَمّٰا جٰاءَتْهُمْ آيٰاتُنٰا مُبْصِرَةً قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ «1».

وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2».

حتّي انّهم كانوا يسندون تأثير القرآن في النفوس تأثيرا عميقا إلي السحر.

و هذه النسبة و ان كانت كذبا و زورا، و لكن كان منشأها مشاهدة الخوارق للعادات مع أسباب خفية حسبوها خدعة و تمويها.

فيستفاد من جميع ذلك و غيرها من أشباهها و ما ذكره علماء اللغة و الفقهاء أنّه يعتبر في مفهوم السحر الامور التالية:

أوّلا: أن يكون أمرا خارقا للعادة في

الظاهر، فإنّ مجرّد التأثير و الخدعة غير كاف لو كانت النتيجة أمرا عاديا.

ثانيا: أن يكون ناشئا عن أسباب خفيّة و لو بالتوسّل بأسباب كيمياوية من خواص الأدوية، أو الفيزيائية كذلك.

ثالثا: أن يكون فيه نوع خداع و تموية.

رابعا: أن يكون فيه الإضرار غالبا و ان لم يكن كذلك دائما، فمثل صرف القلب، و التفريق بين المرء و زوجه، أمر خارق للعادة بأسباب خفيّة، و فيه نوع خديعة و يكون فيه إضرار، و يكون صاحبه من المفسدين.

______________________________

(1). سورة النمل، الآية 13.

(2). سورة القمر، الآية 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 228

و أمّا معجزة «اليد البيضاء» التي كانوا ينسبونها إلي السحر، فقد كانت أمرا خارقا للعادة بأسباب خفيّة يتوهّمون أنّ فيها نوع خدعة و ان لم يكن فيه ضرر إلّا بما يترتّب علي تلك الخدعة المتوهّمة من يُرِيدٰانِ أَنْ يُخْرِجٰاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ … وَ يَذْهَبٰا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْليٰ و إلّا لم يكن نفس العمل ممّا فيه الضرر.

و من هنا يظهر الفرق بين السحر و المعجزات، فإنّ السحر فيه الخدعة، و المعجزة عين الحقيقة، و يعرفان من آثارهما.

و الفرق بينهما يظهر من امور:

1- الساحر رجل خداع يعرف من سائر أعماله، و صاحب المعجزة لا ينفكّ عن الحقيقة، يعرف ذلك من حسن أعماله.

2- السحر يكون من ناحية القوّة البشرية المحدودة، و لذا يكون سحر الساحر دائما محدودا من حيث النوع و الكيفية و الكمية في سحره، و لكن المعجزات لا حدّ لها، بل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قادر علي أي شي ء بقدرة اللّه تعالي و بإذنه.

3- المعجزات مقرونة بالتحدّي و دعوي النبوّة أو الإمامة، و سائر الخوارق للعادات ليست كذلك، فإنّها لو ظهرت في صورة الحقّ

و ادّعي صاحبها ذلك و تقوّل علي اللّه بعض الأقاويل أخذ اللّه منه باليمين و قطع منه الوتين كما يدلّ عليه حكم العقل.

إذا عرفت ذلك، و عرفت الاصول المعتبرة في معني السحر، و الفرق بينه و بين المعجزات، فلنعد إلي أقسام السحر:

المقام الثّالث: في أقسام السحر
اشارة

إنّ أجمع كلام في ذلك ما أفاده العلّامة المجلسي قدّس سرّه- و إن كان محلا للبحث من جهات تأتي- فقد ذكر أنّ السحر علي أقسام:

الأوّل: سحر الكلدانيين الذين كانوا يزعمون أنّ الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم، و الساحر عندهم من يعرف القوي العالية و يعلم ما يليق في العالم السفلي، و يعرف معدّاتها و موانعها، فيكون متمكّنا بها من استحداث بعض خوارق العادة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 229

الثّاني: سحر صاحب الأوهام و النفوس القويّة:

و الظاهر أنّ المراد به الذين يؤثرون في نفوس الناس بقوّة التلقين و النظر و مغناطيس البصر و غيره.

الثّالث: الاستعانة بالقوي الأرضية، يعني الجنّ و الشياطين.

الرّابع: الأخذ بالعيون، و الظاهر أنّ مراده به ما يحدث من حركات سريعة مع ما يحصل من إغفال الناظر و صرف نظره عن بعض الحركات و الأشياء حتّي يتخيّل أنّه قد وقع بعض خوارق العادات، و قد شاهدناه غير مرّة عند امتحانهم لأغراض معلومة.

الخامس: التوسّل بتركيب الآلات علي نسب هندسية، و الظاهر شموله لجميع المخترعات العجيبة التي تعدّ من خوارق العادة و ان كانت هذه الامور بعد سعة نطاق الصنائع خرجت في عصرنا هذا عن الخوارق، و صارت كأمور عادية و إن خفي علينا منشأها أحيانا، فقد رأينا بعض الأبواب ينفتح بمجرّد القرب منه و يوصد بمجرّد البعد عنه، أو تتوقّف المروحة الكهربائية بمجرّد قرب أيدي الأطفال و غيرهم إليها، ثمّ تعمل لدي

إبعادها عنها، و ذلك للعيون الإلكتريكية المزوّدة بها.

نعم، قد كانت مثل هذه الامور من أقسام السحر في قديم الأيّام، و ليست كذلك الآن.

السّادس: الاستعانة بخواص الأدوية كجعل بعض الأدوية المخدّرة في الطعام أو غير ذلك لكي توجد توهّمات للناظرين.

السّابع: شدّ القلوب، و هو أن يدّعي الساحر أنّه يقدر علي كذا و كذا حتّي تميل إليه العوام.

و الظاهر أنّ ما ذكره بمجرّده ليس سحرا إلّا أن يكون ميل العوام إليه سببا لأخذهم بالعيون و حينئذ يدخل فيما سبق.

الثّامن: النميمة، و لكن من الواضح أنّها ليست سحرا بمعناه الحقيقي، نعم قد يكون لها أثره، لأنّه ربّما يفرّق بها بين المرء و زوجه، و بين الأصدقاء و الأحبّاء هذا.

أقول: الأولي في تقسيمه أن يقال:

يمكن تقسيم السحر إلي الأقسام التالية بعد خروج غير واحد ممّا ذكره المحقّق

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 230

المجلسي قدّس سرّه عن تعريفه بماله من المعني الحقيقي:

1- ما يكون بالاستعانة بالأرواح و الجنّ و الشياطين، و قد يسمّي بالتسخيرات.

2- ما يكون من طريق بعض الأدعية و النفوذ الروحي أو قوّة الوهم الحاصلة بالرياضات و غيرها و مغناطيس البصر، مثل «الهيپنوتيزم» إذا أظهر عملا خارقا للعادة.

3- ما يكون بواسطة الاستفادة من خواص الأدوية غير المعروفة، و الخواص الكيمياوية الغريبة.

4- ما يكون من طريق التوسّل بخواص الأشياء الفيزيكية التي لم يعرفها العامّة من الناس، و لا تعدّ من قبيل الصنائع و المخترعات المعروفة.

5- ما يكون طريق الأخذ بالعين و الخطفة و السرعة، و قد يسمّي بالشعبدة (و في الفارسية: تردستي) و في جميع ذلك أو غالبها يتوسّل الساحر بأنواع التلقينات المؤثّرة في نفوس العامّة المشتملة علي الأكاذيب و غيرها، كي يجعلهم مستعدّين لما يريد، و قد

رأينا كثيرا منها عند التحقيق عنها، مطابقة لما ذكرنا آنفا، ما عدا القسم الأوّل، لأنّا لم نجد في مدّعيه ما يشهد بكونهم مرتبطين بالأرواح أو الشياطين، بل كانت تخيّلات لأنفسهم يزعمونها حقائق، و لكن لا ننكر إمكانها أو وقوعها.

و جميع هذه الصور الخمسة مشتملة علي ما ظاهره خرق العادة مع التوسّل بأسباب خفيّة علي العامّة. و فيها خدعة و تموية، و قد تشتمل علي الإضرار، و ربّما لا يكون إلّا لهوا و تفريحا، فتعريف السحر صادق علي الجميع، و إن أبيت إلّا عن عدم صدقه علي بعضها دون بعض، فالظاهر أنّ حكمه شامل لها من دون شكّ.

و قد يشتمل بعض أنواع السحر علي نوعين من الخمسة، أو ثلاثة أنواع، أو أكثر، كما في قصّة سحرة «فرعون» فانّهم توسّلوا بخواص الأدوية و غيرها مع التلقين في النفوس كما يظهر من آيات الذكر الحكيم.

نعم مجرّد الإخبار عن المغيبات أو الامور المستقبلة من طريق التوسّل بالأرواح و غيرها لا يعدّ سحرا، بل هو كهانة، و لا بدّ في السحر أن يكون فيه ما يشبه خرق العادة و لو

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 231

في ذهن السامع و قوّة خياله، و قد اشير إلي أكثر هذه الأقسام في رواية الإحتجاج التي رواها المجلسي قدّس سرّه في البحار «1».

و إلحاق النميمة بها من حيث الأثر و الحكم كما عرفت، لا أنّها منه موضوعا.

و أمّا حكم هذه الأقسام:

فتارة تترتّب عليها عناوين محرّمة اخري سوي عنوان السحر.

منها: أن يكون فيه إضرار إلي الغير كما قال تبارك و تعالي: وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ «2» و لا شكّ في حرمته من هذه الجهة.

و منها: ما يكون فيه هتك للمحرّمات كما يحكي كثيرا عن

فعل سحرة الكفّار، بل و بعض من لا يبالي بالدين من المسلمين، و هو حرام بل يوجب الكفر غالبا.

و منها: ما يكون في مقابل دعوة الأنبياء عليهم السّلام و أئمّة الدين عليهم السّلام مع القصد إلي إطفاء نور الحقّ، و حرمته أوضح من الكلّ (مثل سحر سحره فرعون).

و منها: ما يترتّب عليه بعض العناوين المحرّمة الاخري سوي ذلك مثل الإخبار بالمغيبات و كشف الستور و إغواء الناس عن طريق الحقّ و غير ذلك.

و حرمة جميع هذه الأقسام ممّا لا ريب فيها، إنّما الكلام فيما إذا خلي السحر عن جميع ذلك مع صدق هذا العنوان عليه، كما إذا أتي ببعض خوارق العادة و لو بحسب الظاهر، و التوصّل إلي أسباب خفيّة له، و كان فيه نوع خديعة و تمويه و لو بقصد إعجاب الحاضرين و اللهو و شبه ذلك، فالظاهر أيضا حرمته لإطلاق أدلّة حرمته، و التقييد يحتاج إلي دليل.

و إن شئت قلت: ظاهر أدلّة حرمة السحر حرمته بعنوانه، و لو لم يترتّب عليه عنوان ثانوي محرّم، و الظاهر أنّه لا فرق فيما ذكر بين تسخير الجنّ و الشياطين و التوصّل إلي خواص الأدوية و تركيب الآلات علي النسب الهندسية إذا كانت غريبة لا تصل إليها العقول العادية.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 60، ص 21.

(2). سورة البقرة، الآية 102.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 232

و من هنا يظهر حال ما ذكره بعض الأعلام تبعا لما يظهر من بعض أكابر المتقدّمين من أنّ إيجاد الصنائع المعجبة كما هو المعروف في العصر الحاضر كالطائرات و السيارات و سائر الآلات العجيبة ليس من مقولة السحر، و لم يثبت كون سحر سحرة فرعون من هذا القبيل «1».

و الجواب عنه إنّ

الظاهر أنّه لا يقول أحد بكونها سحرا بقول مطلق، إنّما الكلام إذا لم تكن من سنخ ما نعرفه من الصنائع، بل كان خارقا للعادة و لو في هذا الزمان، كما إذا أشار إنسان إلي سراج كهربائي فأطفأه بإشارة اليد، ثمّ أشعله كذلك، و لو كان في الواقع نوع صنعة لا نعرفها.

أو توصّل بدواع لا نعرفها و أتي ببعض العجائب، فهذا أيضا داخل في مفهوم السحر، و الظاهر أنّ سحر سحرة فرعون كانوا من هذا القبيل كما حكي في التواريخ و التفاسير، أعني كان من باب التوسّل ببعض الأدوية كالزيبق و شبهه، و ربّ شي ء يكون سحرا في زمان و يخرج عن هذا العنوان في زمان آخر بعد كشف علله علي نحو عام، فلا يصدق عليه عنوان «استناده إلي أسباب خفيّة» كما عرفت. و الحاصل أنّ المدار علي كون أسبابه خفيّة في ذاك الزمان و كان بقصد التمويه.

و كذلك الأخذ بالعيون و الشعبدة و نحوهما، لصدق السحر عليها، قال تعالي: سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ «2» (و سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه).

و كذلك ما يسمّي ب «انشداد القلب» (علي شي ء من الأشياء) إذا كان منشأ لاستحداث خوارق عادات و لو في حسّ الناظر.

و ما في كلام بعض الأعلام من أنّه لا وجه لجعله من أقسام السحر- و إنّما هو قسم من الكذب إذا لم يكن له واقع، علي أنّ انشداد القلب لو كان سحرا لكانت الاستمالة بمطلقها سحرا محرّما، سواء كانت بالامور الواقعية أم بغيرها «3» - ممنوع.

لأنّ كونه كذبا لا يمنع عن كونه سحرا، بعد اشتماله علي ما ذكر في تعريفه، المستفاد من

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 291.

(2). سورة

الأعراف، الآية 116.

(3). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 291.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 233

اللغة و العرف و موارد استعماله، و الالتزام بكون مطلقة سحرا لا مانع منه إذا كان من هذا القبيل، أي كان مشتملا علي أركان السحر المعتبرة في تعريفه.

و أمّا التنويم المغناطيسي بمجرّده فليس من السحر ظاهرا، بل هو أمر متداول له أسباب معروفة، بل قد يستفاد منه في الطبّ اليوم بدلا عن المواد الموجبة لفقد الحسّ و الشعور للعمليات الجراحية، أو لكشف ما في ضمير الإنسان من أسباب الأمراض النفسية التي قد لا يبرزه من مكنون ضميره في الحالات المتعارفة لغلبة الشعور الظاهر علي الشعور الباطن، فإذا بطل الشعور الظاهر بقي الشعور الباطن مطلقا، فربّما يطلع الطبيب النفساني علي السبب الأصلي للمرض و العقدة الموجبة له، فيعالجه من طريق حلّ عقدته، فهذا كلّه أمر جائز لا حرمة فيها لعدم وجود أركان معني السحر فيها. نعم «المديوم» أعني الذي يكون محلا للنوم و وسيلة للاتّصال بالأرواح أو إحضارها و كشف مسائل مجهولة من الغائبات أو مسائل مختلفة بسببها، فهذا إن لم يكن داخلا في موضوع السحر فلا أقل من دخوله في حكمه بالغاء الخصوصية، بل لا يبعد دخوله في موضوع الكهانة أحيانا.

قال في مصباح اللغة: «الكاهن» من يخبر عن الماضي و المستقبل أو هو خصوص من يخبر عن المستقبل، كما يستفاد من محكي «نهاية ابن الأثير» و قد يخصّ المخبر عن الماضي باسم «العرّاف»، و من المعلوم أنّه لو خصّ «الكاهن» بمن يخبر عن المستقبل موضوعا فانّه يلحق به الماضي حكما، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه في محلّه.

بقي هنا امور:
الاوّل: هل الساحر كافر؟

الظاهر من غير واحد من روايات السحر أنّ الساحر كافر، و

يؤيّده إجراء حدّ القتل عليه كما هو المعروف، بل لم ينقل فيه خلاف، فقد ذكر في باب الحدود أنّ حدّه القتل، و لكن من البعيد جدّا إجراء هذا الحدّ في جميع أنواع السحر، بل ينصرف بقرينة الحكم و الموضوع إلي ما يوجب الكفر، مثل ما نقله في الجواهر عن بعض من تأخّر و لم يسمّه من اختصاص

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 234

الحكم بمستحلّه، و ان لم يرتض هو به و قال إنّ إطلاق النصّ و الفتوي يقتضي خلافه «1» و لكن ذكر في كتاب التجارة ما يظهر منه ذهاب جماعة إليه و توقّفه فيه «2».

و لكنّه لو تأمّل «قدّس اللّه سرّه» في موارد شمول السحر وسعة دائرته فلعلّه كان يغيّر رأيه فيما ذكره في كتاب الحدود لا سيّما أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، و قد ذكرنا في محلّه لزوم إثباته بدلائل قطعية، أو ما هو نازل منزلتها من الظواهر البيّنة، لا بمجرّد مثل هذه الإطلاقات، أو يحمل علي أنّ المراد به الساحر المدّعي للنبوّة أو الإمامة، أو من يهتك حرمات اللّه أو غير ذلك ممّا أشبهه.

الثاني: هل الساحر قادر علي تغيير خلق اللّه؟

هل للسحر واقعية أم لا؟ قد يتوهّم أنّه ليست له واقعية أبدا، بل هو إظهار الباطل في صورة الحقّ، نعم قد يترتّب علي هذا الأمر الخيالي أثر واقعي كمن سحره الساحر فأراه أشياء هائلة فصار مجنونا، و قد يؤيّد ذلك بخبر الاحتجاج «3».

و قد ذكر العلّامة المجلسي قدّس سرّه كلاما بليغا وافيا في المقام، و نقل فيه أقوالا مختلفة، فقال بعضهم لا حقيقة له، بل هو محض توهّم، بينما حكي عن جمع آخرين أنّ له حقيقة من أرادها فليراجعها «4».

و لكن الذي يظهر بملاحظة موارد استعمالاته لا سيّما

في القرآن الحكيم أنّ له حقيقة في الجملة لا بالكليّة، بيان ذلك:

إنّ الساحر قد يؤثّر في عقل الإنسان أو قلبه و إرادته و ميوله بحيث يفرّق به بين المرء و زوجه (كما ورد في الكتاب العزيز)، و هذا من أظهر مصاديق السحر، و له واقعية بلا ريب، و هذا من قبيل ما حكي عن الشيخ قدّس سرّه في الخلاف حيث قال:

«السحر له حقيقة و يصحّ منه أن يعقد و يؤثّر (و يوقي) و يسحر، فيقتل و يمرض و يكوع

______________________________

(1). جواهر الكلام، كتاب الحدود، المجلّد 41، الصفحة 443.

(2). المصدر السابق، ج 22، ص 86.

(3). بحار الأنوار، ج 60، ص 21.

(4). المصدر السابق، ج 60، ص 28- 42.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 235

الأيدي «1» و يفرّق بين الرجل و زوجته، و يتّفق له أن يسحر بالعراق رجلا بخراسان، فيقتل عند أكثر أهل العلم و أبي حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي» «2».

و ما ذكره و ان كان من بعض الجهات محلّ تأمّل و كلام، مثل ما في قوله يسحر رجل بالعراق من يكون بخراسان، و لكنّه علي إجماله كلام جيّد من حيث تأثير السحر واقعا في الجملة.

و توضيحه ببيان آخر: إنّ هناك تفصيلا في ثبوت الواقعية للسحر و عدمه، و هو أنّ بعض مراتبه ثابتة قطعا، و ليس فيه أي تخيّل كما في سحر سحرة بابل كالتفريق بين المرء و زوجه، و ما أشبه ذلك، نعم قد يكون بامور خيالية، كما قد يكون بامور واقعية لا يلتفت إليها صاحبه، و لا يدري أنّه مسحور، و تشبيه الإمام عليه السّلام الساحر بالطبيب من بعض الجهات و أنّه احتال لكلّ صحّة آفة و لكلّ عافية عاهة

(كما في رواية الإحتجاج) ناظر إليه.

و الظاهر أنّ سحر الساحر في مجلس الرضا عليه السّلام أيضا كان من هذا القبيل «3» و أجابه عليه السّلام بما قضي عليه.

و اخري يكون بامور واقعية و خيالية توأمين، كما في سحر سحرة فرعون، فقد كانت حركة الحبال و العصي بالاستعانة بخواص الأدوية و الزيبق أو شبهه واقعية، و لكن كونها حيّات تسعي كان أمرا خياليا، كما قال سبحانه و تعالي: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعيٰ «4».

و ثالثة: يكون خياليا محضا كما في انشداد القلب و إيجاد عوالم خيالية في المسحور من هذا الطريق، و كذا في الشعبدة بناء علي كونها من أقسام السحر.

و الظاهر أنّ الاختلاف بين من تقدّم و من تأخّر في هذا الباب نشأ من أنّ كلا منهم نظر إلي بعض هذه الأقسام و جعله المدار، و الأمر ظاهر بعد ما عرفت.

و أمّا قدرة الساحر علي جعل إنسان بسحره في صورة الكلب و الحمار أو غير ذلك مثل

______________________________

(1). كوع كسمع: عظم كوعه- و هو طرف الزند الذي يلي الإبهام- أي يجعل فيه عوجا.

(2). بحار الأنوار، ج 60، ص 28، (الخلاف، ج 3، ص 161، المسألة 14، من كتاب كفّارة القتل).

(3). بحار الأنوار، ج 60، ص 28، (الخلاف، ج 3، ص 161، المسألة 14، من كتاب كفّارة القتل).

(4). سورة طه، الآية 66.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 236

جعل القرطاس نقودا و رقيّة، و الخزف لؤلؤا، فذلك كلّه باطل لا دليل عليه كما في رواية الإحتجاج و قد مرّ ذكرها آنفا «1».

و لنعم ما استدلّ به عليه السّلام علي ذلك من أنّه لو قدر الساحر علي ذلك لنفي البياض من رأسه، و الفقر عن ساحته (و

لم يحتج في معاشه إلي التوسّل بأمثال هذه الامور، بل جعل الخزف لؤلؤا و عاش منه أمدا بعيدا) مع ما نري من خلافه.

الثالث: هل التسخيرات من السحر؟

قد عرفت أنّ التسخيرات من أنواع السحر إذا كانت فيها الخصوصيات الثلاثة السابقة المعتبرة في حقيقة السحر، حتّي في تسخير الحيوانات المؤذية، فما ذكره المحقّق الإيرواني قدّس سرّه من أنّ «الأمر في تسخير الحيوانات أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر و الغلبة و الضرب، و مع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخدمة طوعا» «2» ليس في محلّه.

و الذي أوقعه قدّس سرّه و غيره في الشبهة أنّهم لم يتحفّظوا علي اصول ما يعتبر في مفهوم السحر «و أنّه نوع خرق عادة و لو في الظاهر، و له أسباب خفيّة، و فيه خديعة» و لو احتفظوا بها لم يقيسوا تسخير الحيوانات من طريق الضرب به، فلو سحرها من طرق غريبة و بأسباب خفيّة و أظهر للناس أنّه حاكم عليها، و كان فيه نوع خديعة كان سحرا بلا ريب، نعم لو كان مجرّدا عن الخديعة كان كرامة أو علما خاصّا «فتدبّر جيّدا».

الرابع: يجوز دفع السحر بالسحر

هل يجوز دفع السحر بالسحر، و كذا تعلّمه لذلك، أو لدفع مدّعي الإعجاز و إن كان يدفع اللّه كيده إذا كان منشأ لإغواء الناس، و قد يكون دفع كيده من هذا الطريق بإلهام منه تعالي؟

و علي كلّ حال، يدلّ علي جوازه- لدفع الضرر و التوقّي، أو لرفعه و حلّه، أو لردّ دعوي المتنبي- ما ورد في قصّة هاروت و ماروت في القرآن من قوله تعالي وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 60، ص 21.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 297.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 237

حَتّٰي يَقُولٰا إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلٰا تَكْفُرْ «1» و المراد من الكفر هو استعماله في الإضرار لا لدفع الضرر، كما هو ظاهر الآية،

و قوله تعالي أيضا وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لٰا يَنْفَعُهُمْ «2» فإنّه يدلّ علي جواز تعلّم ما ينفع و لا يضرّ، و لا شكّ أنّ التعلّم هنا مقدّمة للعمل فإنّه لا منفعة في مجرّد العلم في أمثال المقام.

و يدلّ عليه أيضا روايات كثيرة أوردناها بلفظها في أوائل البحث «3».

نعم، يحتمل أن تكون الآية أو غير واحد من الروايات من أحكام الشرائع السابقة، و لكن من الواضح أنّ ذكرها بلسان القبول في القرآن و السنّة دليل علي جريانها في هذه الشريعة أيضا.

و ضعف اسناد هذه الروايات غير قادح بعد تظافرها و ظهور العمل بها، نعم الظاهر اختصاصها بحال الضرورة، و ما أشار إليه الجواهر- من عدم ورود هذا القيد في شي ء من أخبار الباب «4» غير مانع بعد الانصراف، و مناسبة الحكم و الموضوع في هذا الباب، و انحصار الطريق فيها، لكن القول بخروجها موضوعا عن عنوان السحر بعد عدم قصد الإضرار مشكل لما عرفت من عدم اعتبار عنوان الإضرار فيه.

الخامس: حكم تعليم السحر و تعلّمه

و من هنا يعلم حال تعليم السحر و تعلّمه، و موارد جوازه و منعه، لأنّه إنّما يكون مقدّمة لفعله، و نقل جوازه في الجواهر عن استاذه، و عن تفسير الرازي إنّه اتّفق المحقّقون علي جوازه، فلو تعلّمه بعنوان الوقاية و دفع الضرر فلا شكّ في جوازه، بل لا يبعد الجواز إذا تعلّمه من دون ذلك و من دون قصد استعماله، بل للوقوف علي مجرّد علمه، من دون أن يرتكب في هذا المسير شيئا من المنهيات.

نعم، إذا تعلّمه بقصد الحرام كان من مقدّمات الحرام، و حرّم من هذه الناحية، نعم في

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 102.

(2). المصدر السابق.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 105- 106، الباب

25، من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 1 و 3 و 4 و 5.

(4). جواهر الكلام، ج 22، ص 78.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 238

الرواية السابعة من الباب 25 ما يدلّ علي المنع من مجرّد تعلّمه، و لكن الظاهر أنّه ناظر إلي صورة تعلّمه بقصد استعماله، فتدبّر.

السادس: الطّلّسمات لفتح الحصون و شبهها

ما يحكي عن بعض العلماء الكبار من التوسّل ببعض الأدعية و الطّلّسمات لفتح الحصون و غلبة الجيوش، أو العوذة الواردة في بعض الروايات لدفع الأمراض و غيرها، فليست من السحر قطعا، بل و كذا ما يحكي عنهم من جعل حمّام حارا بشمعة- لو ثبت ذلك- بل ما هو موجود من بعض البنايات المتحرّكة كما في «اصفهان» أو غيرها، فليس شي ء من ذلك من السحر، لأنّه لم يقصد بها خديعة و ان كانت خوارق عادات بأسباب خفيّة، و هو ظاهر.

السابع: فرق آخر بين السحر و المعجزة

تبيّن ممّا ذكرنا فرق آخر بين السحر و المعجزة مضافا إلي ما مرّ و هو أنّ السحر دائما فيه نوع خديعة أو إضرار، و ليست المعجزة كذلك، مضافا إلي أنّ السحر محدود بأشياء تعلّمها الساحر، و المعجزة غير محدودة بشي ء.

11- الشعبذة

الشعبدة و الشعبذة- بفتح الشين- واحد من حيث الوزن و المعني، و ذكر أرباب اللغة في معناها ما حاصله: «أنّها خفّة في اليد، و أعمال كالسحر، تري الشي ء بالعين بغير ما هو عليه».

بل يظهر من بعضهم (كمنتهي الارب) أنّها من أقسام السحر، و لكن المصرّح في مصباح اللغة و لسان العرب أنّها كالسحر يري الإنسان ما ليس له حقيقة.

قال العلّامة قدّس سرّه في «المنتهي»: و الشعبدة حرام و هي الحركات السريعة جدّا بحيث يخفي علي الحسّ الفرق بين الشي ء أو شبهه، لسرعة انتقاله من الشي ء إلي شبهه.

و نقل في شرحه في المفتاح عن القاموس: «أنّها خفّة في اليد و أخذ كالسحر يري الشي ء بغير ما عليه في رأي العين».

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 239

و عن مجمع البحرين: «أنّها حركة خفيفة» ثمّ نقل النصّ علي حرمتها عن النهاية و السرائر و الشرائع و النافع و التحرير و التذكرة و جمع آخر ممّن تأخّر، و حكي عن المنتهي أنّه لا خلاف فيه، ثمّ زاد هو نفسه: فلا وجه للتأمّل فيه بعد الإجماع المنقول بل المعلوم، إذ لم نجد مخالفا مع قربها من السحر، و قد ألحقها به الشهيد قدّس سرّه في الدروس» انتهي «1».

و ذكر مولانا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّها حرام بلا خلاف، ثمّ استدلّ علي حرمتها بامور:

1- الإجماع.

2- دخولها في الباطل و اللهو.

3- دخولها في رواية الإحتجاج المنجبر ضعفها بعمل الأصحاب.

4- دخولها في

بعض تعاريف السحر.

أقول: العمدة في ذلك دخولها في السحر موضوعا أو حكما.

و توضيح ذلك: إنّ الإجماع المدّعي و عدم ظهور الخلاف و ان كان مؤيّدا قويا، و لكن لا يكون بمجرّده دليلا في المسألة، لما عرفت غير مرّة من عدم كشفه عن رأي المعصوم بعد وجود مدارك اخري في المسألة يحتمل استناد المجمعين إليها.

و أمّا مجرّد كونه لهوا أو باطلا فهو أيضا غير كاف لعدم حرمة اللهو بقول مطلق، و أمّا خبر الاحتجاج و هو قوله: «و نوع آخر منه (أي من السحر) خطفة و سرعة و مخاريق و خفّة»، فالظاهر أنّه ليس من باب التعبّد بل تفسير للسحر بما له من المعني العرفي.

فالعمدة هو دخولها في معني السحر، لأنّ كثيرا من التعاريف المذكورة للسحر يشملها، بل الظاهر أنّ العناوين الثلاثة- أعني «خرق العادة» «بالأسباب الخفيّة» «مع الخديعة» - منطبقة عليها في الغالب، فقد يظهر المشعبذ بسبب سرعة عمله أنّه يبدّل القرطاس «نقودا و رقيّة» أو بالعكس، أو يجعل البيضة في لحظة واحدة فرخا، أو يلقي درهما إلي السماء لا يعود إليه، ثمّ يخرجه من فمّ بعض الحاضرين! و ليس ذلك إلّا لسرعة الحركات بيده، و إخفاء السكّة أو النقود الورقية في كمّه مثلا و قيامه ببعض الحركات السريعة، ثمّ إظهار أنّه أخرجها من فم بعض الحاضرين، فليس مجرّد لهو كما توهّم، بل أمر ظاهره خرق العادة، فلا يبعد

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 80.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 240

صدق السحر عليه، و رواية الإحتجاج المعمول بها عند الأصحاب مؤيّدة له.

و إن أبيت إلّا عن عدم دخولها في موضوعه، فلا شكّ في دخولها فيه حكما، بل ظاهر قضيّة سحرة فرعون انّهم كانوا مشعبذين

في الجملة كما قال اللّه تعالي سَحَرُوا أَعْيُنَ النّٰاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.

نعم لو صرّح المشعبد بأنّه لا يفعل ذلك إلّا بخفّة اليد و سرعة الحركات، و لم يرد به خديعة أمكن جوازها و إخراجها عن عنوان السحر.

و العجب بعد ذلك كلّه ممّا يظهر من بعض المعاصرين من نفي حرمتها مطلقا، لعدم وجدان دليل عليها أوّلا، و أنّ الذي يترتّب علي الشعبذة أمر واقعي فهو مباين للسحر «1».

و كأنّه دام علاه لم ير ما يفعله المشعوذون، و لا استيقن أنّه ليس لها واقعية، بل الواقعية في مقدّماتها، فالأمر ظاهر بعد ما عرفت.

12- الغشّ و هاهنا مقامان:
المقام الأوّل: في حرمة الغشّ

لا إشكال و لا كلام في حرمة الغشّ إجمالا، و يدلّ عليه مضافا إلي الإجماع، و حكم العقل بأنّه ظلم و اعتداء- روايات كثيرة، و هي علي طوائف:

الطائفة الاولي: ما يدلّ علي نفي كون الغاشّ من المسلمين، و هي دالّة علي الحرمة بأبلغ بيان، من قبيل:

1- ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ليس منّا من غشّنا» «2».

2- و بهذا الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم لرجل يبيع التمر:

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 297.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 208، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 241

«يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم» «1».

3- عن الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه (في حديث المناهي) عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «و من غشّ مسلما في شراء أو بيع فليس منّا، و يحشر يوم

القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين»، قال: و قال عليه السّلام: «ليس منّا من غشّ مسلما» و قال:

«و من بات و في قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك حتّي يتوب» «2».

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه بسنده عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال في حديث: «و من غشّ مسلما في بيع أو في شراء فليس منّا و يحشر مع اليهود يوم القيامة لأنّه من غشّ الناس فليس بمسلم … و من بات و في قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط اللّه و أصبح كذلك و هو في سخط اللّه حتّي يتوب أو يرجع، و إن مات كذلك مات علي غير دين الإسلام»، ثمّ قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ألا و من غشّنا فليس منّا- قالها ثلاث مرّات- و من غشّ أخاه المسلم نزع اللّه بركة رزقه و أفسد عليه معيشته و وكّله إلي نفسه … » «3».

5- و عنه أيضا قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ليس منّا من غشّ مسلما أو ضرّه أو ما كره» «4».

الطائفة الثّانية: ما دلّ علي حرمة الغشّ و النهي عنه بعنوان عامّ، و هي كما يلي:

6- ما رواه هشام بن الحكم قال: كنت أبيع السابري «5» في الظلال، فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسي عليه السّلام «راكبا» فقال لي: «يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ، و الغشّ لا يحلّ» «6».

7- ما رواه موسي بن بكر قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه فنظر إلي دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين ثمّ

قال لي: «القه في البالوعة! حتّي لا يباع شي ء فيه غشّ» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 208، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 210، ح 10.

(3). المصدر السابق، ح 11.

(4). المصدر السابق، ص 211، ح 12.

(5). نوع من الثياب يصنع في بلاد عجم و لعلّه في الأصل معرّب عن شاپوري.

(6). المصدر السابق، ص 208، ح 3.

(7). المصدر السابق، ص 209، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 242

8- ما رواه الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال جاءت زينب العطارة الحولاء إلي نساء النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و بناته و كانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و هي عندهنّ فقال: «إذا أتيتنا طابت بيوتنا»، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه. قال: «إذا بعت فأحسني و لا تغشي فإنّه أتقي و أبقي للمال» «1».

9- ما رواه عبيس بن هشام عن رجل من أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخل عليه رجل يبيع الدقيق فقال: «إيّاك و الغش فإنّه من غشّ، غشّ في ماله، فإن لم يكن له مال غشّ في أهله!» «2».

هذا و لكن دلالة الأخيرة علي الحرمة لا تخلو عن خفاء.

10- ما رواه سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: مرّ النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: «ما أري طعامك إلّا طيّبا» و سأله عن سعره فأوحي اللّه عزّ و جلّ إليه أن يدسّ يده في الطعام، ففعل فأخرج طعاما رديّا فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة

و غشّا للمسلمين» «3».

11- ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما بشي ء و أحدهما أجود من الآخر، فيخلطهما جميعا ثمّ يبيعهما بسعر واحد، فقال: «لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّي يبيّنه» «4».

12- ما رواه الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يشتري طعاما فيكون أحسن له و أنفق له أن يبله من غير أن يلتمس زيادته؟ فقال: «إن كان بيعا لا يصلحه إلّا ذلك و لا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، و إن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح» «5».

الطائفة الثّالثة: ما دلّ علي الحرمة في بعض مصاديق الغشّ، و لا دلالة له علي العموم إلّا بتنقيح المناط مثل:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 209، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ح 8.

(4). المصدر السابق، ص 420، الباب 9، من أبواب أحكام العيوب، ح 2.

(5). المصدر السابق، ص 421، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 243

13- ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان معي جرابان من مسك:

أحدهما رطب، و الآخر يابس، فبدأت بالرطب فبعته، ثمّ أخذت اليابس أبيعه، فإذا أنا لا أعطي باليابس الثمن الذي يسوي و لا يزيدوني علي ثمن الرطب، فسألته عن ذلك أ يصلح لي أن أنديه قال: «لا، إلّا أن تعلمه» قال: فنديته ثمّ أعلمته، فقال: «لا بأس به إذا أعلمتهم» «1».

14- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: نهي النّبي «رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله

و سلم» أن يشاب اللبن بالماء للبيع «2».

إلي غير ذلك ممّا ورد في كتب العامّة و الخاصّة، و هذه الروايات و إن كان بعضها صحيح الاسناد و بعضها ضعيفا، و لكن مع تظافرها و ضمّ بعضها ببعض فيها غني و كفاية، بل و فوق حدّ الكفاية، بل ادّعي فيها التواتر و ليس ببعيد.

و ليعلم أنّ كثيرا منها و إن اختصّ بالغشّ في التجارة و البيع، و لكن الظاهر كون بعضها أعمّ من الغشّ فيها و في النصح، و في سائر شئون الحياة مثل:

15- ما رواه الحسين بن خالد عن علي بن موسي الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من كان مسلما فلا يمكر و لا يخدع فإنّي سمعت جبرئيل يقول: إنّ المكر و الخديعة في النار. ثمّ قال: ليس منّا من غشّ مسلما و ليس منّا من خان مسلما … » «3».

و غيرها من الأحاديث.

المقام الثّاني: في معني الغشّ

يظهر من كلمات أهل اللغة أنّه يستعمل في معان كثيرة متقاربة المعني منها: «ضدّ النصح» و «عدم الخلوص» و «الخيانة» و «الخدعة» و أصله من الغشش، و هو المشرب

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 9، من أبواب أحكام العيوب ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 208، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(3). وسائل الشيعة، ج 8، ص 570، الباب 137، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 244

الكدر، ثمّ استعمل في غيره، و يعبّر عنه بالفارسية ب (فريب، خيانت، تقلّب، ناخالصي) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الغشّ علي أقسام:

1- منها ما إذا شوب جنس بغير جنس، كشوب اللبن بالماء و الحنطة

بالتراب.

2- شوب الجيّد بالردي ء كما في الحنطة و الارز و الدهن و الفواكه و التمر.

3- جعل الجيّد أعلاه و الردي ء أسفله بحيث لا يري، كما هو المعمول في أكثر صناديق الفواكه في أيّامنا (مع الأسف).

4- جعل شي ء في مكان يكتسب ثقلا كالحرير في مكان مرطوب بارد، فهذا غشّ بحسب الكميّة علي عكس ما سبق فانّه من ناحية الكيفية.

5- إخفاء العيب الموجود في الحيوان أو المتاع الذي لا يكون ظاهرا للناظر.

6- جعل المتاع في الضوء الشديد أو الظلمة إذا كان يري فيهما بخلاف ما هو عليه، كبيع السابرين في الظلال، و بيع بعض الفواكه تحت الضوء الغالب.

7- إذا باع شيئا بعنوان أنّه ذهب، فبان مموّها فالغشّ واقع في جنس المتاع.

8- و قد يكون منه المدح الشديد من المتاع بحيث يبدو في نظره بخلاف ما هو عليه من الأوصاف، إلي غير ذلك من الأقسام المتصوّرة أحيانا.

و من ناحية اخري يمكن تقسيمه بما لا يعلم إلّا من قبله كشوب اللبن بالماء في بعض مراحله، و ما يعلم بعد الدقّة و التأمّل، و أمّا ما هو ظاهر عند أوّل النظر فالظاهر أنّه ليس من الغشّ، و أمّا غيره حرام، و يدلّ عليه مضافا إلي إطلاقات الحرمة التصريح به في رواية سعد الإسكاف «1».

و من ناحية ثالثة يمكن تقسيمه بما يكون الغاشّ عالما و المغشوش له جاهلا مطلقا، أو جاهلا بمرتبة منه، و إن كان عالما بمرتبة اخري، و الظاهر اعتبار علم الغاشّ و جهل المغشوش له علي كلّ حال، فلو كان الأمر بالعكس أو كلاهما عالمين أو جاهلين لم يكن من الغشّ أبدا.

و الظاهر حرمة جميع ما مرّ من أقسامه ممّا يسمّي غشّا عرفا، كما أنّ الظاهر كون حرمته

______________________________

(1).

وسائل الشيعة، ج 12، ص 209، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 8، (و قد تقدّم أن نقلناها بعينها).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 245

بذاته لا بالعناوين العارضية كما توهّمه بعض أهل التحقيق. فقال: «مجرّد شوب اللبن بالماء مثلا ليس حراما، و كذا عرضه للبيع و كذا الإنشاء فالحرام أخذ الثمن في مقابله» «1».

و فيه: إنّ ظاهر الأدلّة حرمة الغشّ تكليفا الحاصل من هذه المقدّمات، و عدم حرمة كلّ واحد لا ينافي حرمة المجموع من حيث المجموع، و هذا نظير الحكاية المعروفة فيمن كان بصدد تحديد اللعب بالآلات من طريق التفرقة بين مقدّماته!

ثمّ إنّ ما هو المتعارف من تزيين الأمتعة بجعلها في غلاف، أو زجاجة، أو محلّ خاص، و غير ذلك من وسائل التزيين، لا يعدّ غشّا ما لم يكن سببا لإظهار الخلاف، و مصداقا للخدعة و الخيانة و إن أوجب توفّر الدواعي إليها، فانّه لا شكّ في أنّ الماء الذي هو أبسط الأشياء إذا كان في آنية البلّور و في صحائف جيّدة مع تشريفات اخري، تطلّعت النفوس إليه، مع أنّه ليس غشّا و كذلك غيره من أشباهه.

بقي هنا امور:

الأوّل: هل يعتبر قصد التلبيس في مفهومه؟ فلو لم يكن الغشّ بسبب فعله، كما إذا سقط إناء الماء في اللبن من دون اختياره، و لم يكن من قصده التلبيس فباعه من دون إعلامه، فهل هو غشّ؟

الذي يظهر من شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه جواز بيعه، بل حكي عن العلّامة رحمه اللّه في التذكرة إنّه منع كون البيع مطلقا مع عدم الإعلام بالعيب غشّا بل استظهر ذلك من رواية الحلبي «2» و «3».

و لكنّه عجيب، و لازمه جواز بيع المغشوش الذي اشتري من غيره

بعد علمه بذلك، لأنّ الغشّ كان من غيره لا منه، و يبعد الالتزام به، و ما ذكره من عدم القصد قد عرفت جوابه مرارا

______________________________

(1). و هو المحقّق الإيرواني قدّس سرّه حكاه في مصباح الفقاهة (ج 1، ص 299) عنه.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 421، الباب 9، من أبواب أحكام العيوب، ح 3.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 35.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 246

في مباحث بيع العنب ممّن يعمله خمرا، من أنّ القصد في أمثال المقام قهري، و كيف لا يقصد الغشّ مع كون اللبن ممزوجا بالماء، و هو يعلم و غيره لا يعلم به.

و إن شئت قلت: ظاهر عرض كلّ متاع إلي المشتري كونه سليما، و هذا الظاهر قائم مقام البيان من بعض الجهات، فلو لم يبيّن كان غاشّا، و منه يظهر الإشكال فيما حكاه عن العلّامة أيضا رحمه اللّه، فتأمّل.

الثّاني: هل يختصّ الحكم بالبيع كما هو ظاهر كثير من روايات الباب، أو يجري في غيره أيضا؟.

الظاهر جريانه في جميع المعاوضات، لإطلاق الأدلّة و عموم الملاك، و أمّا في مثل الهبة و العارية و الهدية و أشباهها فلا، فلو مزج اللبن بالماء ثمّ وهبه أو استضاف قوما بشي ء ممزوج بغيره ممّا هو حلال لم يكن حراما بلا إشكال، كذا لو خلط الجيّد من الحنطة بالردئ، ثمّ أنفقه علي الفقراء و شبه ذلك.

و العلّة فيها- مضافا إلي انصراف الأدلّة إلي المعاوضات- إنّه ليس في موردها ظهور للفعل مثلا في كون الموهوب سليما من كلّ عيب، فليس خيانة و خديعة.

الثّالث: في حكم المعاملة المغشوشة قد يقال ببطلان هذه المعاملة لأمور:

1- ما ذكره جامع المقاصد من أنّ القصد تعلّق بما هو خالص عن الغشّ، فما قصده لم

يقع و ما وقع لم يقصد، و فيه: أنّه جار في بيع المعيب، و موارد تخلّف الوصف و الشرط، و لازمه فساد الجميع، مع أنّه ليس كذلك، و سيأتي حلّ المسألة إن شاء اللّه.

2- أنّه ورد النهي عن هذا البيع في قوله «حتّي لا يباع شي ء فيه غشّ» «1» الذي ظاهره الفساد.

و لذا قطعه هو عليه السّلام بنصفين و ألقاه في البالوعة.

و فيه: مضافا إلي ضعف سنده، إنّه كان في الدراهم المغشوشة، و هي من قبيل ما ليس له منفعة محلّلة كآلات القمار، فهو خارج عمّا نحن فيه، و قد عرفت الكلام فيه سابقا.

3- إنّ النهي عن الغشّ دليل علي فساد المعاملة، لاتّحادهما (اتّحاد الغشّ و المعاملة).

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 209، الباب 86، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 247

و فيه: إنّ النهي في المعاملات لا يدلّ علي الفساد إلّا إذا تعلّق بذاتها، لا بعنوان خارج عنها اتّحد معها، كما في المعاملة وقت النداء، أو ما يكون إعانة علي الإثم، لعدم اعتبار القربة فيها، و لا وجه للفساد غيرها.

و قد يقال أنّ المسألة مبنية علي ما ذكروه في مبحث تقدّم «الإشارة» علي «الوصف» و عدمه، في مثل ما لو قال: بعتك هذا الفرس العربي، فبان غير عربي، و فيما نحن فيه إذا قال:

بعتك هذا اللبن أي غير المغشوش، فبان مغشوشا.

و فيه: أنّ تلك المسألة ناظرة إلي مقام الإثبات، و نحن الآن بصدد مقام الثبوت، و مفروض الكلام ما إذا تعلّق القصد بغير المغشوش و لكن مع ذلك لا يكون محكوما بالفساد.

و تحقيق الحال أن يقال- بعد كون محلّ النزاع البيع الشخصي، و أمّا الكلّي فلا شكّ

في صحّته و لزوم تبديل المصداق، أنّ في المسألة وجوها ثلاثة:

1- أن يكون الغشّ بغير الجنس كأن يبيع غير الحرير بعنوان الحرير.

2- أن يكون الغشّ بالمعيوب.

3- أن يكون الغشّ بخلاف الوصف الظاهر منه، كالثياب التي تباع في الظلال فتري أحسن ممّا تكون.

4- أن يكون فيه وزنا كاذبا كالحرير الذي جعل في مكان بارد مرطوب فاكتسب وزنا.

5- أن يكون باخفاء الوزن و إظهاره بعنوان أنّه كذا مع كونه أقلّ، و كذا العدد، و أحكام هذه الأقسام مختلفة.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في بطلانه، لاختلاف أركان المعاملة و عدم القصد إلي ما وقع.

أمّا الثّاني: فلا ينبغي الكلام في صحّته و كونه موجبا لخيار العيب و سائر أحكامه، لشمول أدلّتها له، و ليعلم أنّ هذا قد يكون بسبب مزجه بغير جنسه كاللبن المخلوط بالماء اليسير بحيث لم يخرجه عن اسمه، بل يصدق عليه عنوان اللبن المعيوب، و اخري يكون مخلطه بالردي ء منه أو شبه ذلك.

أمّا الثالث: فكما إذا جعل الجيّد فوق الردي ء من غير أن يكون معيوبا، و كان قوله أو فعله ظاهرا في أنّ الجميع مثل ما يري، فهذا من قبيل تخلّف الشرط أو التدليس، فلا يبطل البيع

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 248

معه، و لكن له خيار تخلّفه، و لا فرق في ذلك بين كون رضاه مشروطا به و عدمه، لأنّ المعاملات لا تدور مدار الدواعي الشخصية، و لذا لا يتفاوت الحال بذلك في وصف الصحّة، و كذا بيع ما يملك و ما لا يملك، فإنّهما صحيحان مع الخيار (خيار العيب و خيار تبعّض الصفقة) و ان كان رضا المشتري منوطا بهما جميعا، فالمدار في هذه الأبواب علي الدواعي النوعية لا الشخصية.

أمّا الرابع: فيمكن إرجاعه إلي

تخلّف الوصف أو التدليس، لأنّ المتاع و إن كان صحيحا بحسب الوزن و ليس معيوبا، و لكن فيه وصف يجعله أقلّ ممّا هو عليه، فإذا زالت برودته زال ثقله.

و يمكن أن يقال إنّه من باب التطفيف حكما، و إن لم يكن داخلا فيه موضوعا، فتصحّ المعاملة ببعض الثمن، و له خيار تبعّض الصفقة، لا سيّما إذا صبر حتّي نقص الوزن، و ليس ببعيد.

و منه يظهر الحال في الخامس أيضا، فانّه تطفيف مع الغشّ، أو شبه التطفيف معه، كما إذا باع العين الحاضرة بعنوان أنّها جزءان لكتاب الكفاية فبان جزءا واحدا، و في جميع ذلك يصحّ البيع مع خيار تبعّض الصفقة، إلّا أن يكون من قبيل أحد مصراعي الباب، أو أحد زوجي الخفّ، ففي ذلك يشكل صحّة البيع مطلقا بعد عدم الفائدة في أحد الزوجين غالبا، و ما قد يتراءي من بعضهم الصحّة حتّي في أمثال ذلك بعيد جدّا، و تمام الكلام في محلّه في «بيع ما يملك و ما لا يملك».

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت، أمّا بحسب مقام الإثبات فقد يتردّد بين كون المسألة من قبيل تخلّف الوصف، أو الجنس، أو لا هذا و لا ذلك كما إذا قال: بعتك هذا اللبن، و قلنا بأنّ لفظ اللبن ظاهر في الصحيح الخالص، بناء علي أنّه من باب تعارض التوصيف و الإشارة، فإن قلنا الترجيح للإشارة، فالبيع صحيح، و ان قلنا الترجيح للوصف فقد ينقدح الإشكال فيه بسبب كون المبيع غير موجود و الموجود غير مبيع.

فالحاصل أنّ الغشّ حرام بحسب الحكم التكليفي، و المعاملة المشتملة عليه حرام، و أمّا من حيث الحكم الوضعي، ففيه تفصيل كما عرفت.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 249

13- الغناء
اشارة

حرمة الغناء علي

إجماله معروف مشهور بين علماءنا، و قد ادّعي غير واحد من فقهائنا عدم الخلاف فيه، بل ادّعي في الجواهر الإجماع عليه بقسميه «1».

إلّا أنّه خالف فيه بعض متأخّري المتأخّرين، فقال بعدم حرمته إلّا إذا اشتمل علي حرام من خارج، قال في الحدائق: «لا فرق في ظاهر كلام الأصحاب بل صريح جملة منهم في كون ذلك في قرآن أو دعاء أو شعر أو غيرها»، إلي أن انتهت النوبة إلي المحدّث الكاشاني، فنسج في هذا المقام علي منوال الغزالي و نحوه من علماء العامّة، فخصّ الحرام منه بما اشتمل علي محرّم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو كالعيدان، و دخول الرجال (علي النساء) و الكلام بالباطل، و إلّا فهو في نفسه محرّم «2» و عن المحقّق السبزواري قدّس سرّه في الكفاية موافقته في ذلك «3».

و الكلام فيه في مقامات:

المقام الأوّل: في الأدلّة الدالّة علي حرمة الغناء
اشارة

و استدلّ له تارة بالإجماع، و اخري بآيات مثل قوله تعالي: وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «4» وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ «5».

و قوله تعالي: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «6».

و لكن شي ء من ذلك مع قطع النظر من روايات الباب لا يدلّ علي حرمته، و العمدة هنا الروايات الكثيرة بل المتواترة، فالأولي صرف عنان الكلام إليها، فنقول (و من اللّه سبحانه نستمدّ التوفيق): هي علي طوائف:

الطائفة الاولي: ما دلّ علي أنّه داخل في عنوان الزور الوارد في كلامه تعالي المنهي منه و هي روايات:

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 44.

(2). الحدائق، ج 18، ص 101 و 102.

(3). كفاية الأحكام للسبزواري، ص 85، كتاب التجارة.

(4). سورة الحجّ، الآية 30.

(5). سورة الفرقان، الآية 72.

(6). سورة لقمان، الآية 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 250

1-

ما رواه زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «قول الزور الغناء» «1».

2- ما رواه أبو السبّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال:

«الغناء» «2».

3- و ما رواه أبو الصباح الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ لٰا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: «الغناء» «3».

4- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه تعالي: قال:

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ «قول الزور الغناء» «4».

5- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الغناء» «5».

6- ما رواه عبد الأعلي قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السّلام: عن قول اللّه عزّ و جلّ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء» قلت: قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: «منه الغناء» «6».

7- ما رواه حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن «قول الزور» قال: «منه قول الرجل للذي يغنّي: أحسنت» «7».

8- ما رواه محمّد بن عمرو بن حزم في حديث قال: دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال:

«الغناء، اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا فضاق بي المجلس و علمت أنّه يعنيني» «8».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 225، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق،

ص 226، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 227، ح 8.

(5). المصدر السابق، ح 9.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 229، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 20.

(7). المصدر السابق، ح 21.

(8). المصدر السابق، ص 230، ح 24.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 251

9- ما رواه هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالي: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج و قول الزور الغناء» «1».

الطائفة الثّانية: ما دلّ علي أنّه داخل تحت عنوان «لهو الحديث» الوارد في قوله تعالي:

وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «2» و هي روايات:

10- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال سمعته يقول: «الغناء ممّا وعد اللّه عليه النار»، و تلا هذه الآية: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ «3».

11- ما رواه مهران بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «الغناء ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «4».

12- ما رواه الوشّاء قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه السّلام يقول: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء فقال: «هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «5».

13- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلي أهله و هو ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ

يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «6».

14- ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي (في مجمع البيان) قال: روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليهم السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ إنّهم قالوا:

«منه الغناء» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 230، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 26.

(2). سورة لقمان، الآية 6.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 226، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(4). المصدر السابق، ح 7.

(5). المصدر السابق، ص 227، ح 11.

(6). المصدر السابق، ص 228، ح 16.

(7). المصدر السابق، ص 230، ح 25.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 252

و قد يتوهّم أنّ هاتين الطائفتين دليلان علي أنّ الغناء من مقولة المعني، لا الألحان و الأصوات، و الظاهر أنّه ليس كذلك، بل لا مانع من أن يكون من مقولة الألحان كما سيأتي إن شاء اللّه.

الطائفة الثّالثة: ما دلّ علي النهي عنه و تحاشي أئمّة الدين عليهم السّلام منه، و هي روايات:

15- ما رواه زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «1».

16- ما رواه إبراهيم بن محمّد المدني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الغناء و أنا حاضر، فقال: «لا تدخلوا بيوتا اللّه معرض عن أهلها» «2».

17- ما رواه يونس قال: سألت الخراساني عليه السّلام عن الغناء و قلت إنّ العبّاسي ذكر عنك إنّك ترخص في الغناء فقال: «كذب

الزنديق، ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء» فقلت:

إنّ رجلا أتي أبا جعفر عليه السّلام فسأله عن الغناء فقال: «يا فلان إذا ميّز اللّه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟» قال مع الباطل، فقال: «قد حكمت» «3».

18- ما رواه عبد الأعلي قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغناء و قلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيّونا حيّونا نحيّكم، فقال: «كذبوا، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ مٰا خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لٰاعِبِينَ «4» لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَي الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ «5» ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف، رجل لم يحضر المجلس» «6».

19- ما رواه في المقنع عن الصادق عليه السّلام قال: «شرّ الأصوات الغناء» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 225، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 227، ح 12.

(3). المصدر السابق، ح 13.

(4). سورة الدخان، الآية 38.

(5). سورة الأنبياء، الآية 17 و 18.

(6). المصدر السابق، ص 228، ح 15.

(7). المصدر السابق، ص 229، ح 22.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 253

20- ما رواه الحسن بن هارون قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «الغناء يورث النفاق و يعقب الفقر» «1».

21- ما رواه جابر بن عبد اللّه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «كان إبليس أوّل من تغنّي و أوّل من ناح، لمّا أكل آدم من الشجرة تغنّي فلمّا هبطت حوّاء إلي الأرض ناح لذكره

ما في الجنّة» «2».

22- ما رواه الحسن بن محمّد الديلمي في «الإرشاد» قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «يظهر في أمّتي الخسف و القذف». قالوا: متي ذلك؟ قال: «إذا ظهرت المعازف و القينات و … » «3».

23- و فيه عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «إذا عملت أمّتي خمس عشرة حصلة حلّ بهم البلاء …

و اتخذوا القينات و المعازف … » «4».

24- ما رواه عاصم بن حميد قال: قال لي أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّي كنت؟ فظننت أنّه قد عرف الموضع، فقلت جعلت فداك إنّي كنت مررت بفلان فدخلت إلي داره و نظرت إلي جواريه.

فقال: «ذاك مجلس لا ينظر اللّه عزّ و جلّ إلي أهله، أمنت اللّه علي أهلك و مالك؟» «5».

كأنّه كانت جواريه مغنيات، و هذا يناسب التعبير بالمجلس في الحديث.

25- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: سأل رجل علي بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت، فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة»، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فامّا الغناء فمحظور «6».

26- ما رواه الصدوق رحمه اللّه باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه … و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار … » «7» و لا يضرّ التعبير بالكراهة بعد التصريح بالكبائر المحرّمة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 229، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 23.

(2). المصدر السابق، ص 231، ح 28.

(3). المصدر السابق، ح 30.

(4). المصدر السابق، ح 31.

(5).

المصدر السابق، ص 236، الباب 101، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 86، الباب 16، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(7). وسائل الشيعة، ج 11، ص 262، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 36.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 254

الطائفة الرّابعة: ما يدلّ علي أنّ أجر المغنية سحت بحيث يستفاد منه عدم منفعة محلّلة لها من حيث الغناء، و هي روايات:

27- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في «إكمال الدين» عن إسحاق بن يعقوب في التوقيعات التي وردت عليه من محمّد بن عثمان العمري بخطّ صاحب الزمان عليه السّلام « … و ثمن المغنية حرام» «1».

28- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنيات قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار و قد جعل لك ثلثها.

فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت» «2».

29- ما رواه إبراهيم بن أبي البلاد قال: أوصي إسحاق بن عمر بجوار له مغنيات أن تبيعهنّ و يحمل ثمنهنّ إلي أبي الحسن عليه السّلام … فقال عليه السّلام: «لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت، و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهنّ سحت» «3».

30- ما رواه الحسن بن علي الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنية قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن الكلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النّار» «4».

31- ما رواه سعيد بن محمّد الطاطري عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات فقال: «شرائهنّ و بيعهنّ

حرام و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق» «5».

الطائفة الخامسة: ما دلّ علي حرمة استماعه ممّا يعلم منه حرمة أصله، و هي أيضا روايات:

32- ما رواه الحسن قال: كنت اطيل القعود في المخرج لأسمع غناء بعض الجيران قال:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 86، الباب 16، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 87، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 88، ح 6.

(5). المصدر السابق، ح 7 (أيضا في فروع الكافي، ج 5، ص 120، ح 5).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 255

فدخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال لي: «يا حسن إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا السمع و ما وعي، و البصر و ما رأي، و الفؤاد و ما عقد عليه!» «1».

33- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليهما السّلام قال: سألته عن الرجل يتعمّد الغناء يجلس إليه؟ قال: «لا» «2».

34- ما رواه عنبة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «استماع اللهو الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع» «3».

35- ما رواه مسعدة بن زياد قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له رجل: بأبي أنت و امّي إنّي أدخل كنيفا ولي جيران و عندهم جوار يتغنين و يضربن بالعود، فربّما أطلت الجلوس استماعا منّي لهنّ، فقال عليه السّلام: «لا تفعل»، فقال الرجل: و اللّه ما أتيتهنّ، إنّما هو سماع أسمعه باذني، فقال عليه السّلام: «باللّه أنت أما سمعت اللّه يقول: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فقال بلي و اللّه، كأنّي لم أسمع بهذا الآية من

كتاب اللّه من عربي و لا عجمي، لا جرم أنّي لا أعود إن شاء اللّه، و إنّي استغفر اللّه فقال له: «قم و اغتسل و صلّ ما بدا لك فانّك كنت مقيما علي أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت علي ذلك، احمد اللّه و سله التوبة من كلّ ما يكره، فإنّه لا يكره إلّا كلّ قبيح، و القبيح دعه لأهله فانّ لكلّ أهلا» «4».

الطائفة السّادسة: ما دلّ علي حرمة الغناء في القرآن و هي أيضا روايات:

36- ما رواه في عيون الأخبار … عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن علي عليهم السّلام قال سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم يقول: «أخاف عليكم استخفافا بالدين، و بيع الحكم، و قطيعة الرحم و ان تتّخذوا القرآن مزامير تقدّمون أحدكم و ليس بأفضلكم في الدين» «5».

37- ما رواه عبد اللّه بن عبّاس عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «إنّ من أشراط

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 231، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 29.

(2). المصدر السابق، ص 232، ح 32.

(3). المصدر السابق، ص 235، الباب 101، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 2، ص 57، الباب 18، من أبواب الأغسال المسنونة، ح 1.

(5). وسائل الشيعة، ج 12، ص 228، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 18.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 256

الساعة إضاعة الصلوات … فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير … و يتغنّون بالقرآن … » «1».

38- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر فإنّه سيجي ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية لا يجوز تراقيهم … » «2».

أضف إلي ذلك ما دلّ علي وضوح حرمته بين الناس و تحاشي الأئمّة عليهم السّلام عنه بحيث يعرفه كلّ أحد مثل:

39- ما رواه معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: خرجت و أنا اريد داود بن عيسي بن علي، و كان ينزل بئر ميمون و علي ثوبان غليظان، فلقيت امرأة عجوزا و معها جاريتان فقلت: يا عجوز! أتباع هاتان الجاريتان؟ فقالت نعم، و لكن لا يشتريهما مثلك! قلت: و لم؟ قالت: لأن إحداهما مغنية و الاخري زامرة … «3».

و ما دلّ علي نزول البلاء علي بيوت الغناء مثل:

40- ما رواه زيد الشحّام قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «4».

فهذه أربعون حديثا فيها صحاح و غيرها، و دلالتها علي المطلوب قويّة، لا سيّما بعد ضمّ بعضها ببعض، كما أنّ أسنادها متواترة، و عليه عمل الأصحاب به.

دليل المخالف:

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّ الغناء كان مشتملا غالبا في تلك الأعصار و في كلّ عصر علي محرّمات كثيرة مضافا إلي هذا العنوان أهمّها: كون الغناء بأصوات الجواري اللاتي يحرم استماع صوتهنّ قطعا بهذه الكيفية، فإذا لم يرض الشارع «خضوعهنّ في القول» فكيف يرضي بمثل ذلك؟!

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 230، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 27.

(2). وسائل الشيعة، ج 4، ص 858، الباب

24، من أبواب قراءة القرآن، ح 1.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 226، ح 4.

(4). المصدر السابق، ج 12، ص 225، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 257

و كذا الضرب بآلات اللهو، و اشتمالها علي وصف ما يحرم، أو يوجب الفساد في القلوب.

و دخول الرجال علي النساء إلي غير ذلك من المحرّمات.

و لا أقل أنّ هذه الأربعة ممّا كانت من المقارنات الغالبة، بل و قد تزيد عليها امور اخري أحيانا كشرب الخمور، و مزاولة الغلمان، و غيرهما، و لا يزال المترفون و الجبّارون و أهل المعاصي يتعاطونها بهذه الكيفية، فهل أنّ الحرمة ناظرة إلي هذا الفرد الشائع الغالب المقارن للمحرّمات، أو نفس عنوان الغناء مجرّدا عنها؟

ظاهر ما عرفت من الإطلاقات حرمة الغناء بعنوانه، و لو خلّي عن جميع ما ذكر إلّا أن يدلّ دليل علي خلافه.

و غاية ما استدلّ به أو يمكن الاستدلال له امور:

الأوّل: ما ذكره في الوافي (و قد أشرنا إليه آنفا) من أنّ الذي يظهر من مجموع روايات الغناء أنّها ناظرة إلي ما كان متعارفا في زمن بني اميّة و بني العبّاس من دخول الرجال علي النساء، و تكلّمهنّ بالأباطيل، و لعبهنّ بالملاهي، و أمّا غير ذلك فلا محذور فيه، فلا بأس بسماع الغناء بما يتضمّن ذكر الجنّة و النار و التشويق إلي دار القرار و الترغيب إلي اللّه و إلي طاعته (انتهي ملخّصا) «1».

هذا و قد عرفت أنّ هذا الانصراف لا وجه له بعد أخذ هذا العنوان في متن الأحاديث الكثيرة الظاهرة في حرمته بنفسه.

الثاني: الروايات الكثيرة الدالّة علي مدح الصوت الحسن و الأمر به في قراءة القرآن و أنّه من أجمل الجمال، و أنّه صفة الأنبياء المرسلين و

هي كثيرة منها:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لكلّ شي ء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن» «2».

2- ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام أحسن الناس صوتا

______________________________

(1). الوافي، ج 3، ص 35، (باب ما جاء في الغناء من أبواب وجوه المكاسب).

(2). وسائل الشيعة، ج 4، ص 859، الباب 24، من أبواب قراءة القرآن، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 258

بالقرآن، و كان السقاؤون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قراءته» «1».

3- ما رواه أبو بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما ترائي بهذا أهلك، و الناس، فقال: «يا أبا محمّد اقرأ قراءة ما بين القراءتين تسمع أهلك … و رجّع بالقرآن صوتك فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعا» «2».

4- و ما رواه الحسن بن عبد اللّه التميمي عن أبيه عن الرضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم:

«حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» «3».

و هناك روايات اخر رواها الكليني في الكافي «4».

هذا و الإنصاف أنّه لا دلالة لشي ء من هذه الروايات علي ما نحن بصدده من مسألة الغناء، فانّ مجرّد الترجيع كما سيأتي ليس غناء، بل الغناء نوع صوت لهوي كما سيأتي تعريفه، و الصوت الحسن أعمّ منه، و ما أمر به في القرآن ليس هو القسم اللهوي منه قطعا، نعم لو قلنا بكون مجرّد الترجيع (و هو ترديد الصوت في الحلق) داخلا في الغناء، كان

بعض هذه دليلا علي المطلوب، و لعلّ إلي ما ذكرنا يشير بعضها الدالّة علي النهي عن «ترجيع القرآن ترجيع الغناء»، فالترجيع له نوعان، أحدهما غناء، و الآخر ليس كذلك.

الثّالث: ما رواه في قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر و الأضحي و الفرح قال: «لا بأس ما لم يعص به» «5».

فلو كان المراد من «عدم العصيان به» عدم وجود محرّم آخر معه كان دليلا، و أمّا لو كان عدم العصيان بنفس الغناء- أعني الصوت- كان دليلا علي الخلاف، و لكن ظاهره أنّ مجرّد الغناء ليس معصية، و لكن سند الحديث محلّ إشكال.

و روي هذا الحديث علي بن جعفر في كتابه، إلّا أنّه قال «ما لم يزمر به» و سنده أوضح

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 4، ص 859، الباب 24، من أبواب قراءة القرآن، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ح 6.

(4). اصول الكافي، ج 2، ص 614، (باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن).

(5). وسائل الشيعة، ج 12، ص 85، الباب 15، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 259

لصحّته كدلالته، لأنّ عدم التزمّر به بمعني عدم كون المزمار معه، فهو دليل علي عدم كونه بنفسه حراما، بل بما يقترن معه.

و أمّا ما في مصباح الفقاهة من أنّ المراد عدم كون الصوت صوت مزماري «1» فهو يحتاج إلي تقدير أو مجاز، و هو مخالف لظاهر الحديث.

كما أنّ احتمال اختصاص الحكم بمورد الرواية أبعد، لأنّ الفرح أمر عام يشمل جميع أنواع الفرح الذي يقارنه.

الرّابع: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بعدّة طرق، ففي طريق قال: قال

عليه السّلام: «أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال» «2».

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 259

و رواه في الوسائل بطريق آخر يتّصل إلي أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعي إلي الأعراس ليس به بأس» (الحديث) «3». و دلالته أوضح من سابقه.

و قد يجاب عنهما بأنّ استثناء زفاف العرائس لا دلالة علي جواز ذلك مطلقا، و لكن يرد عليه أنّ التعبير فيهما إنّما هو بعنوان عامّ، بل هو شبه تعليل فإنّ قوله عليه السّلام في الأوّل منهما:

«و ليست بالتي يدخل عليها الرجال» في مقام التعليل، و أوضح منه جعله في الرواية الثانية في مقابل ما يدعي إلي الأعراس فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعي إلي الأعراس ليس به بأس و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ … ».

و حيث أنّ سند الاولي مصحّح، فهي من حيث السند قابلة للاعتماد.

الخامس: ما رواه مرسلا في الفقيه (محمّد بن علي بن الحسين) و قد مرّت الإشارة إليه قال: سأل رجل علي بن الحسين عليهما السّلام عن شراء جارية لها صوت فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة»، يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور «4».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 309.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 85، الباب 15، من أبواب ما

يكتسب به، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 1.

(4). المصدر السابق، الباب 16، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 260

و فيه: مع ضعف السند أنّه لا دلالة له علي المطلوب بعد كون الصوت الحسن عامّا، و بعد التصريح بنفي القسم الذي يدخل في الغناء، بل هو علي خلاف المطلوب أدلّ.

السّادس: يمكن الاستدلال علي المسألة بما دلّ علي جواز الحداء للإبل فإنّ الظاهر أنّه نوع غناء، بناء علي تفسيره بالصوت المطرب، و قلنا أنّ الطرب حالة خفّة تعرض النفس لشدّة الفرح أو الحزن، فإنّه من أظهر مصاديقه حينئذ، بل لو لا كونه مطربا لما أفاد فائدة للإبل.

نعم لو قلنا هو الصوت اللهوي المناسب لمجالس أهل الفسوق لم يكن من مصاديقه، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

إلّا أنّه لا يوجد دليل علي هذا الاستثناء في رواياتنا المعروفة عدي ما يحكي عن طرماح بن عدي في مسير الحسين عليه السّلام إلي كربلا «1» و الظاهر أنّه حديث مرسل.

نعم، في روايات العامّة من ذلك شي ء كثير من حداء عبد اللّه بن رواحة عنده صلّي اللّه عليه و آله و سلم و حداء غلام يقال له «انجشة» و «البرّاء بن مالك» ممّا يدلّ كلّه علي الجواز «2».

السّابع: ما دلّ علي جواز النياحة لا سيّما ما رواه سماعة، قال: سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه «3».

فلو كانت الكراهة بمعناها المصطلح كما هو الظاهر هنا كان دليلا علي المطلوب، و لكن السند لا يخلو عن ضعف، هذا مضافا إلي أنّه لو فسّر الغناء بالصوت المطرب كانت النياحة من مصاديقه، لاشتمالها علي الطرب بمعني الحزن.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ هناك روايتين معتبرتين تامّتي الدلالة علي مطلوب المخالف، و الباقي

يكون مؤيّدا لهما، و لكن هل يمكن الاعتماد عليهما مع مخالفة الأصحاب و إعراضهم عنه أو حملهما علي الاستثناء في بعض الموارد أو علي التقيّة في مقابل الروايات الكثيرة السابقة؟

______________________________

(1). مقتل الحسين لعبد الرزاق الموسوي المقرّم، ص 220 (و ص 186 حديثه).

(2). السنن للبيهقي، ج 10، ص 227.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 90، الباب 17، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 261

و ربّما كان وجه إعراضهم كونها مخالفة للاحتياط، أو كون ما يدلّ علي قول المشهور أكثر، فلا أثر لإعراضهم، و الحمل علي التقيّة خلاف الظاهر، فعلي هذا الجمع بينهما و بين الأحاديث المحرّمة بما سبق من المحدّث الكاشاني ممكن، و لكن لا يخلو عن إشكال، و سيأتي له مزيد توضيح بعد بيان حقيقة الغناء.

و يمكن تأييد ما ذكر من الجواز إذا خلا عن المحرّمات الاخر بامور:

1- التصريح بدخوله في قول الزور الظاهر أنّه بيان بعض مصاديقه الواقعية لا التعبّدية، و لعلّه ما اشتمل علي مضامين باطلة دون غيره.

2- تفسير لهو الحديث به، و هو يدلّ علي كون محتواه باطلا مضلا.

3- ذكر المغنية في أكثر روايات الحرمة أو القينات لا المغنّي، و لا شكّ أنّ صوت المرأة مع هذا الوصف حرام بنفسه.

4- ذكر بيت الغناء أو مجلس الغناء أو شبه ذلك ممّا يدلّ علي أنّ المراد ما اشتمل علي امور اخر.

5- ما ورد أنّه من اللغو أو من الباطل و إنّ اللّه إذا ميّز بينهما (الحقّ و الباطل) كان من الأوّل، فإنّه مشعر باشتماله علي أباطيل، و لكن مع ذلك العدول عمّا ذكره المشهور المؤيّد بروايات كثيرة متواترة مشكل جدّا.

المقام الثّاني: في معني الغناء و حقيقته
اشارة

هذا المقام معركة للآراء و الخلاف الشديد

بين أهل اللغة و فقهائنا، و إليك نبذ ممّا ذكره أرباب اللغة و أكابر الفقه:

1- هو الصوت (كما عن المصباح المنير).

2- هو مدّ الصوت (كما عن بعض من لم يسمّ).

3- هو ما مدّ و حسن و رجّع (كما عن القاموس).

4- إنّه تحسين الصوت و ترقيقه (كما عن الشافعي).

5- كلّ من رفع صوتا و والاه فصوته عند العرب غناء، (عن محكي النهاية).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 262

6- أنّه الصوت المطرب (كما عن السرائر و الإيضاح و القاموس).

7- أنّه الصوت المشتمل علي الترجيع المطرب (كما عن مشهور الفقهاء).

8- كلّ صوت يكون لهوا بكيفية و معدودا من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو حرام، و إن فرض أنّه ليس بغناء، و كلّ ما لا يعدّ لهوا فليس بحرام و ان فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقّق (اختاره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه).

و يظهر ممّا ذكره في ذيل كلامه أنّ الغناء عنده بمعني الصوت اللهوي المعدود من ألحان أهل الفسوق، و صرّح به بعض محشي المكاسب أيضا من أعلام العصر «1».

9- أنّه ما سمّي في العرف غناء و إن لم يطرب (كما اختاره الحدائق).

10- أنّه ما يسمّي في العرف غناء (حكي عن المشهور أيضا).

و من الواضح أنّ المعاني الخمسة الاولي ليست تعاريف جامعة و مانعة، بل من قبيل شرح الاسم لوضوح أنّ مجرّد الصوت أو تحسينه أو رفعه و تواليه ليس بغناء قطعا.

كما أنّ التعريفين الأخيرين ليس تعريفا، بل اعتراف بعد إمكان ضبطه تحت تعريف جامع، مضافا إلي أنّه يظهر من صاحب الجواهر قدّس سرّه و هو من أهل اللسان بأنّه الآن مشتبه بين عرف عامّة سواد الناس من العرب لعدّهم الكيفية الخاصّة من الصوت في غير

القرآن و الدعاء و تعزية الحسين عليه السّلام غناء، و نفي ذلك عنها فيها، و ما ذاك إلّا لاشتباهه، للقطع بعدم مدخلية خصوص الألفاظ فيه «2».

فحينئذ يبقي من هذه المعاني، الثلاثة الأخيرة قبلهما، ففي واحد منها أخذ قيد «الطرب»، و في الآخر «الترجيع و الطرب» و في الآخر التعريف باللهو المناسب لمجالس أهل الفسوق، و لكن الكلام يأتي في معني الطرب و اللهو، و الظاهر أنّه ليست الكلمتان أوضح تفسيرا من نفس الغناء!

أمّا «الطرب» فالمعروف في تفسيره في كتب اللغة و الفقه أنّها خفّة عارضة لشدّة سرور أو حزن، و أمّا هذه الخفّة ما ذا؟ فهل هي خفّة في العقل شبيه السكر الحاصل بأسبابه، أو خفّة

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 311.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 46.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 263

في النفس بمعني النشاط و الانبساط و الانشراح، الذي يكون في كلتا الحالتين، أو لذّة خاصّة حاصلة منهما جميعا؟ فبعض الأحزان ممّا يلتذّ منه الإنسان كالسرور.

و الإنصاف أن الطرب ليس أوضح من الغناء كما ذكرنا، حتّي يرفع إبهامه به و ان كان يظهر من بعض العبارات أنّها هي النشئة السكرية، و هو غير ظاهر.

ثمّ إنّ المدار علي «الطرب» بالفعل لكلّ أحد، أو للأكثر، أو الطرب بالقوّة، و الاولي منتف في كثير من مصاديقها.

أمّا «اللهو» فان كان بمعناه الوسيع فلا إشكال في جوازه في الجملة، فإنّ الذي يلهي الإنسان عن ذكر اللّه أو يلهيه عن امور الحياة التي يعتادها أكثرها حلال و إن كان بمعني أخصّ من هذا، فما هذه الخصوصية؟

نعم، أحسن كلام ذكر في المقام هو ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري قدّس سرّه و هو: إنّ الغناء هو الإلحاق المناسبة لمجالس

أهل الفسوق و المعاصي و نزيد عليه أنّه يتناسب مع اقترانه بضرب الآلات و الرقص و التصفيق و شبه ذلك و إن لم تكن بالفعل.

و أمّا الأصوات الحسنة و الطيّبة و إن كان فيها نوع طرب، أعني نشاطا و انبساطا و فرحا أو حزنا كما هو كثير عند قراءة آيات القرآن بالصوت الحسن و ذكر الجنّة و نعيمها و النار و عذابها فلا بأس به.

نعم له مصاديق كثيرة مشكوكة، و القاعدة تقتضي الأخذ بالقدر المتيقّن المعلوم و اجراء البراءة فيما زاد عليه، فانّه من قبيل الأقل و الأكثر الاستقلاليين.

الألحان علي ثلاثة أقسام:

و من الجدير بالذكر أنّ الألحان فيما نعلمه و نشاهده علي ثلاثة أقسام:

قسم منها لا يناسب مجالس الفسوق أصلا، و قسم منها يختصّ بها، و قسم ثالث مشترك بين الأمرين، فإن كان محتواه أمرا باطلا فاسدا شهويا يختصّ بها، و إن كان أمرا صحيحا حقّا يكون في مجالس الحقّ أيضا كما لا يخفي علي من سبرها.

و من هنا يعلم أنّه قد يكون لمفاد الألفاظ تأثيرا في كون الألحان غناء، و قد لا يكون أي

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 264

أثر للمحتوي فيها، بل لحن فسوقي و لو كان في القرآن، بل يكون حينئذ أشدّ حرمة لما فيه من الهتك و الوهن بكلام اللّه تعالي.

و الحاصل أنّ اللحن قد يكون علّة تامّة لكونه غناء، و اخري علّة ناقصة تتمّ مع ما فيه من المحتوي، و الشاهد له وجود الألحان المشتركة بين ألحان أهل الفسوق و غيرهم.

و من هنا يمكن توجيه كلام المحدّث الكاشاني و من يحذو حذوه، بأنّ مرادهم جواز خصوص القسم المشترك إذا خلا عن مضامين باطلة، و إلّا فمن البعيد جدّا تجويزه للألحان المختصّة

بأهل الفسوق و العصيان التي يأباها كلّ متشرّع من العوام و الخواص و ان كانت بعض عبائره يأبي عن هذا المعني.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا إنّه لو قلنا بعدم حرمة الغناء ذاتا و إنّما المحرّم هو لوازمها أحيانا فلا كلام، و لو قلنا بالحرمة في الجملة و إن خلت من جميع المقارنات و العوارض المحرّمة، فالقدر المتيقّن منه ما يختصّ بمجالس أهل الفسوق و الفجور، أعني الألحان المختصّة بهم، و هذا المعني ليس أمرا خفيّا معضلا، بل يعرفه أهل العرف خواصهم و عوامّهم، و إن كان له مصاديق مشكوكة، كما هو الشأن في جميع المفاهيم، فالحكم في المشكوكات هو البراءة و إن كان الاحتياط طريق النجاة.

بقي هنا امور:

1- ذكر بعض الأعلام أنّ المحدّث الكاشاني لم ينكر حرمة الغناء مطلقا، بل قسّمه إلي قسمين: قسم محرّم، و هو ما اشتمل علي مقارنات محرّمة، فإذا قارنه ذلك كان نفس الغناء أيضا محرّما، و لذا حرّم أخذ الاجرة عليه حينئذ، و قسّم محلّل و هو ما خلا عن ذلك، فليس ما ذكره مخالفا للإجماع حتّي يقابل بالطعن و النسبة إلي الأراجيف «1».

و الإنصاف أنّ ما أفاده لا أثر له في كون كلامه مخالفا لما ذكره عامّة الأصحاب، فإنّ ظاهر كلامهم أو صريحه حرمته، و إن خلا عن كلّ محرّم، نعم طريق الجواب لا سيّما في

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ج 1، ص 210.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 265

قبال علماء الدين لا بدّ أن يكون بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالتي هي أحسن.

2- قد ظهر ممّا ذكرنا حال «النشيد» (سرود) المعمول اليوم و ما يجري في مجالس العزاء و المواكب الحسينية عليه السّلام و أنّها ليست من ألحان أهل

الفسوق غالبا و كذا الهوسات، و ما يشجّع الجيش في الميدان، فهي محلّلة بحسب الأصل، نعم لو وجد فيها بعض ما يختصّ بأهل الفسوق فهو حرام، و كذا الكلام في «النوح و النياحة» لعدم صدق ما ذكر عليها إلّا أحيانا كما هو ظاهر.

3- لا يخفي أنّ الغناء يتفاوت بتفاوت العرف و العادات، فربّ صوت بين قوم من مصاديقه، و لا يعدّ بين أقوام آخرين منها، بل قد يتفاوت بالأزمنة، فما يكون عندنا غناء، ربّما لم يكن غناء عند بعض الماضين و بالعكس، كما يتراءي ذلك بين المسلمين و غيرهم و بين العرب و العجم.

و منه يعلم إنّما ذكره بعض الأعلام في مكاسبه من أنّ الألحان المتداولة اليوم المسمّي بالتصنيف ليست من مصاديق الغناء، و هو عجيب، بل هو القدر المتيقّن منه، و لعلّه حيث لم ير في كثيرها مدّ الصوت أو الترجيع لم يعدّه من الغناء، و قد عرفت أنّ المدّ أو الترجيع غير معتبر في مفهومه، و الطرب الحاصل منه أكثر من غيره قطعا، و العمدة كونه من ألحان أهل الفسوق و العصيان.

المقام الثالث: في المستثنيات و قد ذكر هنا امور:
أوّلها: الغناء في زفاف العرائس

حكي عن جمع من أعاظم الأصحاب استثنائه، بل حكي في الجواهر عن بعض مشايخه نسبته إلي الشهرة، و اختاره هو في ذيل كلامه، و ان كان ظاهر عبارة الشرائع و بعض آخر الحرمة حيث لم يستثني ذلك من أدلّة الحرمة، بل حكي التصريح بعدم الجواز عن ابن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 266

إدريس و فخر المحقّقين، و علي كلّ حال لا يبعد استثنائه بعد ورود الحديث الصحيح به، و هو ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام

و التي تدعي إلي الأعراس ليس به بأس … » «1».

و يؤيّد حديثه الآخر (2/ 15) و الثالث (3/ 15)، و الظاهر أنّ الجميع واحد و إن رويت بأسناد مختلفة.

نعم، صرّح بعضهم بعدم كون اشتماله علي محرّم آخر كاللعب بآلات اللهو، أو التكلّم بالباطل، أو ورود الرجال عليهنّ كما هو صريح الرواية.

و لا يخفي أنّ هذه و ان كانت امورا خارجة عنها، و لكن حيث أنّ التجويز في أصله قد يتوهّم منه جواز ما قارنه كثيرا في الخارج كان من اللازم نفيه.

و بالجملة إباحة اجرة المغنية التي تدعي إلي الأعراس دليل علي جواز فعلها و استماع النساء منها بما مرّ من الشرائط.

نعم، قد يقال بانحصاره في المغنية، فلا يشمل المغني، و لا يشمل مثل مجالس الختان و غيره، هذا و الإنصاف دخولها في صحيحة علي بن جعفر (5/ 15) من استثنائه في الأفراح، و هو من مصاديقه، فهذا استثناء ثان في الحكم، و هو أيضا غير بعيد مع الشرائط السابقة، و سيأتي الكلام فيه.

ثانيها: ما عرفت من أيّام العيد و الأفراح

و إن لم يتعرّض له كثير منهم، و لكن بعد وجود الدليل المعتبر عليه و عدم ظهور إعراض عنه، لا مانع من العمل به، و هو صحيحة علي بن جعفر و قد مرّت.

و لكن لا بدّ من خلوّه من المقارنات المحرّمة من التكلّم بالأباطيل و دخول الرجال علي النساء كما اشير في ذيلها.

و لعلّ المراد بالفرح ليس كلّ فرح حتّي يستوعب التخصيص كما أشرنا إليه فيما سبق،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 84، الباب 15، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 267

بل الأفراح مثل الأعياد و الختان و الأعراس و المواليد و شبه ذلك

و ما في الجواهر «1» من المحامل المختلفة في الحديث من التقيّة أو خصوص العرس في اليومين أو إرادة التغنّي علي وجه لا يصل حدّ الغناء بعيدة لا داعي إليها، نعم الأحوط ترك ما يختصّ بأهل الفسوق و العصيان حتّي في هذه الأيّام.

كما أنّ إختلاف ذيلها (لم يزمر به- أو لم يعص به) لا يوجب اضطراب متنها بعد قرب المعنيين، و كون الباء بمعني «مع» ظاهرا، مع صحّة ما ورد في كتاب علي بن جعفر عليه السّلام و عدم ثبوت صحّة ما في قرب الاسناد.

ثالثها: «الحداء»

استثناه جماعة منهم المحقّق في شهادات الشرائع و العلّامة و الشهيد قدّس سرّه فيما حكي عنهم، بل حكي عن المشهور، و لكن صرّح غير واحد منهم بعدم وجدان دليل عليه في منابع حديثنا.

قال في الحدائق: «لم أقف في الأخبار له علي دليل و لم يذكره أحد» «2».

أقول: قد عرفت أنّ في بعض روايات المقاتل إشارة إليه، و قد عقد له في سنن البيهقي بابا أورد فيه أحاديث كثيرة تدلّ علي وقوعه بمحضر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن عدّة أشخاص منهم «عبد اللّه بن رواحة» و «البراء بن مالك» و غلام يسمّي «انجشة» «3».

و العمدة ما عرفت من عدم شمول عنوان الغناء له، نعم لو فسّر الغناء بمطلق الصوت الحسن دخل فيه، و لكن لا وجه له، فعلي هذا لا دليل علي حرمته حتّي يحتاج إلي استثناء.

رابعها: المراثي

استثناها بعضهم كما حكاه صاحب الحدائق عن الكفاية أنّه قال: «و هو غير بعيد» ثمّ ذكر

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 45.

(2). الحدائق، ج 18، ص 116.

(3). سنن البيهقي، ج 10، ص 226.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 268

صاحب الحدائق نفسه: «بل هو في غاية البعد لعدم الدليل عليه».

هذا و قد عرفت أنّ النياحة المتعارفة في مجالس العزاء لا تدخل في عنوان الغناء، لعدم كونها صوتا لهويا مناسبا لمجالس أهل الفسوق و العصيان، فكأنّهم رأوا للغناء معني عاما يشمل كلّ صوت حسن كما يظهر من بعض أهل اللغة، فذكروا هذا مستثني عنه، أو استثناء الحداء و غيره أيضا من هذا القبيل، و فيه ما عرفت من أنّها ليست كلّ صوت حسن، بل صوت خاصّ.

و أمّا ما استدلّ له من استقرار سيرة أهل الشرع عليه، أو

كونه معينا علي البكاء و شبهه غير ثابت، أو غير كاف، أمّا السيرة فلعدم اتّصالها بزمان المعصوم، و أمّا الإعانة علي البكاء فلعدم جواز التوصّل بالحرام إلي أمر مستحبّ كما هو واضح، فالحقّ خروجه عنه موضوعا، و لو كان من ألحان أهل الفسوق لم يجز في المراثي قطعا.

خامسها: في قراءة القرآن

و قد حكي عن مشهور المتأخّرين نسبة استثناء الغناء فيه إلي صاحب الكفاية أيضا، و لكن الظاهر من كلامه أنّه أخذ الغناء بمعني وسيع يشمل كلّ صوت حسن فيه تحزين و ترجيع، و لكن قد عرفت أنّ معناه أخصّ من ذلك، فليس مجرّد، هذه الامور بغناء ما لم يكن الصوت مناسبا لمجالس أهل الفسوق و العصيان.

و علي كلّ حال ما دلّ علي استحباب حسن الصوت في القرآن و ما ورد في شأن علي بن الحسين عليهما السّلام لا يدلّ علي جواز الغناء فيه و لو بإطلاقه، بل هو عليه السّلام خارج عن موضوع الغناء، فلا تصل النوبة إلي معارضتها بأدلّة حرمة الغناء حتّي يتكلّم في النسبة بينهما، و لو فرض التعارض بينهما، فلا شكّ في تقديم أدلّة حرمة الغناء لأنّها أقوي، و لأنّها من قبيل ما فيه الاقتضاء في مقابل ما لا اقتضاء فيه.

و يدلّ علي ما ذكرنا أيضا ما ورد من النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و اتّخاذه مزامير «1».

______________________________

(1). راجع الأحاديث 18/ 99 و 27/ 99، من أبواب ما يكتسب به و 1/ 24 من أبواب قراءة القرآن التي مرّت عليك سابقا.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 269

سادسها: الهلهلة

ذكر صاحب الجواهر أنّه «لا بأس بالهلهولة علي الظاهر لكونها صوتا من غير لفظ، و الغناء من الألفاظ» «1».

و الظاهر أنّ مراده ما يسمّي عندنا بالهلهلة، و ما ذكره في حكمه جيّد، و لكن التعليل بأنّ الغناء من الألفاظ لا يخلو عن شي ء، إلّا أن يقال أنّ مراده أنّ الغناء من الكيفيات العارضة بالألفاظ، و الهلهلة ليس بلفظ لعدم وجود حروف التهجّي فيها، و الأولي أن يقال: ليس فيها شي ء من أوزان

الغناء.

هذا مضافا إلي أنّها ليست صوتا لهويا من ألحان أهل الفسوق، نعم كونها من النساء قد يتوهّم كونه داخلا في الخضوع بالقول، و لكنّه غير ثابت (سواء كان في مجالس الفرح كما عندنا أو في مجالس العزاء كما عند بعض الأعراب أحيانا) و علي كلّ حال لا يبعد جوازه، و لا أقل من الشكّ و الحكم فيه البراءة، إلي هنا تمّ الكلام في الغناء و فروعه، و أمّا الضرب بالآلات فله مقام آخر و إن كان من كثير من الجهات كالغناء موضوعا و حكما، فتدبّر فإنّه حقيق به.

14- الغيبة
المقام الأوّل: في حكم الغيبة

و هي من المحرّمات قطعا و إن كان ممّا لا يكتسب به عادة.

و استدلّ عليه بالأدلّة الأربعة:

فمن الآيات بقوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ «2».

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 51.

(2). سورة الحجرات، الآية 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 270

نهي فيها عن ثلاثة أشياء كلّ واحد علّة للآخر في الحقيقة، و هي الظنّ السوء، ثمّ التجسّس، ثمّ الغيبة، و فيها أبلغ تشبيه بالنسبة إلي قبح الغيبة و حقيقتها، من حيث هتك الأعراض، حيث شبّه اللّه تعالي عرض المؤمن بلحمه، و غيبته بأكل لحمه، و كونه علي ظهر الغيب بكونه ميّتا، و اعتمد علي تنفّر الطباع منه، كي يبعثهم علي ترك هذه المعصية الكبيرة بمقتضي عقولهم، ثمّ أكّده بالأمر بالتقوي الباعث علي كلّ خير، و ترك كلّ شرّ، ثمّ أمر بالتوبة تلويحا، و وعد قبولها بما يجلب القلوب إلي امتثال هذا الحكم.

و قد استدلّ بآيات

اخري لا دلالة لها علي المطلوب، أو تكون أعمّ منه فالأولي صرف النظر عنها.

و من الإجماع بما هو ظاهر للكلّ، بل لعلّ حرمتها من ضروريات الدين، يعرفها كلّ من عاشر المسلمين، و لو برهة قليلة من الزمان.

و من العقل بأنّها ظلم ظاهر لما فيها من هتك العرض و إهانة المؤمن و تحقيره، بل و إيذائه إذا بلغه، و فيها مفاسد كثيرة مضافا إلي ما ذكر، و هي بثّ العداوة و إشعال نيران البغضاء، و سلب اعتماد الناس بعضهم ببعض، و أي إنسان لا يخلو عن عيب؟ فإذا كانت العيوب مستورة كان الاعتماد و الاخوّة بينهم حاصلة، و إذا هتكت الستور تفرّقوا و اختلفوا، و انحلّت عري الاخوّة، مضافا إلي ما فيها من أسباب العداوة و البغضاء، بل قد توجب سفك الدماء.

و قد تكون إشاعة للفحشاء و سببا لجرأة العاصي علي العصيان.

و سبب الغيبة امور كثيرة كلّها من الموبقات: منها الحسد و الحقد و الكبر و البخل و السخرية و غير ذلك ممّا ذكر في محلّ من علم الأخلاق، عصمنا اللّه منها بحقّ محمّد و آله الأطهار من هذه الكبيرة الموبقة.

أمّا السنّة: فهي روايات كثيرة جدّا، منها ما يدلّ علي أنّها أشدّ من الزنا، لأنّها حقّ الناس و الزنا حقّ اللّه، مثل:

1- ما رواه محمّد بن الحسن (في المجالس و الأخبار) باسناده عن أبي ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ إيّاك و الغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا»، قلت: و لم ذاك يا رسول اللّه؟ قال: «إنّ الرجل يزني فيتوب إلي اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّي تغفرها صاحبها» «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة،

ج 8، ص 598، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 271

2- و ما رواه اسباط بن محمّد برفعه إلي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا» فقيل:

يا رسول اللّه و لم ذلك؟ قال: «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب اللّه عليه، و أمّا صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّي يكون صاحبه الذي يحلّه» «1».

3- ما رواه أسباط بن محمّد رفعه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ألا اخبركم بالذي هو أشدّ من الزنا، وقع الرجل في عرض أخيه» «2».

و منها ما يدلّ علي أنّه يحرم علي المغتاب الجنّة أو شبه ذلك مثل:

4- ما رواه زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «تحرم الجنّة علي ثلاثة علي المنّان و علي المغتاب و علي مدمن الخمر» «3».

5- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية للّه و حرمة ماله كحرمة دمه» «4».

6- و ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن الغيبة و الاستماع إليها … و نهي عن الغيبة و قال: «من اغتاب امرأ مسلما بطل صومه و نقض و ضوءه، و جاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّي به أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّم اللّه عزّ

و جلّ … » «5».

7- و ما رواه نوف البكالي قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في رحبة في مسجد الكوفة فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته! فقال و عليك السلام يا نوف و رحمة اللّه و بركاته! فقلت له: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف أحسن يحسن إليك «إلي أن قال». قلت: زدني. قال: «اجتنب الغيبة فإنّها أدام كلاب النار ثمّ قال: يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة» «6».

8- ما رواه علقمة بن محمّد عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث أنّه قال: «فمن

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 601، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 18.

(2). المصدر السابق، ح 19.

(3). المصدر السابق، ص 599، ح 10.

(4). المصدر السابق، ح 12.

(5). المصدر السابق، ح 13.

(6). المصدر السابق، ح 16.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 272

لم تره بعينك يرتكب ذنبا و لم يشهد عليه عندك شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر، و شهادته مقبولة، و ان كان في نفسه مذنبا، و من اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية اللّه تعالي ذكره، داخل في ولاية الشيطان، و لقد حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما، و كان المغتاب في النار خالدا فيها و بئس المصير» «1».

9- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال … عن رسول اللّه صلّي

اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال في خطبة له:

«و من اغتاب أخاه المسلم بطل صومه و نقض وضوء فان مات و هو كذلك مات و هو مستحلّ لما حرّم اللّه … » «2».

و غيرها من الروايات الكثيرة.

المقام الثاني: في حقيقة الغيبة
اشارة

لا شكّ أنّ الاغتياب هو نوع فعل يكون في غيبة الطرف للانتقاص منه، و قد عرّفها الفقهاء و أرباب اللغة بتعاريف متقاربة المعني كلّها تشير إلي معني واحد تقريبا:

الأوّل- غابه- عابه، و ذكره بما فيه من السوء (القاموس).

و ذكر ضمير الغائب فيه إشارة إلي أنّها تقع في غياب الشخص.

الثّاني- أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه (الصحاح و مجمع البحرين).

و من الواضح أنّه لا يخالف الأوّل غالبا، لأنّ ذكر السوء و العيب يوجب الغمّ لا محالة، و كذلك لو لم يكن مستورا لما كان يغمّه، فتأمّل.

الثّالث- اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب و هو حقّ (المصباح المنير) و هو المعروف بين الأصحاب كما قيل.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 601، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 20.

(2). المصدر السابق، ص 602، ح 21.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 273

الرّابع: ما عن الشهيد الثاني قدّس سرّه في رسالته المعروفة في المسألة قال: إنّ في الاصطلاح لها تعريفين: أحدهما مشهور، و هو «ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصانا في العرف بقصد الانتقاص و الذمّ».

و الثاني «التنبيه علي ما يكره نسبته إليه» و هو أعمّ من الأوّل لشمول مورده اللسان و الحكاية و الإشارة.

الخامس- ذكر غيره بما يكرهه لو سمعه (و قد حكي شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدّس سرّه عن بعض أنّ الإجماع و الأخبار متطابقان فيه) «1».

السادس- ما

يظهر من غير واحد من الأخبار مثل:

1- ما رواه محمّد بن الحسن (في المجالس و الأخبار) … عن أبي ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له … قلت: يا رسول اللّه و ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره … » «2».

2- و ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: «إنّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه … » «3».

3- و ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه … » «4».

4- و ما رواه يحيي الأرزق قال: قال لي أبو الحسن عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه … » «5».

5- و ما رواه داود بن سرحان قال سألت: أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغيبة قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل و ثبت (ثبث) عليه أمرا قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حدّ» «6».

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، لشيخنا الأنصاري قدّس سرّه، ص 41.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، ص 598، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 600، ح 14، (و بهذا المعني لفظا و معني ح 2/ 154).

(4). المصدر السابق، ص 602، ح 22.

(5). المصدر السابق، ص 604، الباب 154، ح 3.

(6). وسائل الشيعة، ج 8، ص 604، الباب 154، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)،

ص: 274

6- و ما رواه علقمة بن محمّد عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام … عن آبائه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما و كان المغتاب في النار خالدا فيها و بئس المصير» «1».

يعتبر في معني الغيبة امور:

الأوّل: أن يكون المغتاب (بالفتح) غائبا، و هو مستفاد من مادّة الكلمة، نعم إذا كان حاضرا، و لكن كان غافلا فهو بحكمه و إن لم يكن منه لغة، مثل ما روي عن عائشة في امرأة دخلت علي النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقالت عائشة: يا رسول اللّه ما أجملها و أحسنها لو لا أنّ بها قصر، فقال لها النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «اغتبتيها يا عائشة … » «2».

فهذا إلحاق حكمي.

الثّاني: أن يكون بما فيه من العيوب، فلو كان بذكر المحاسن و لكن يكره إظهارها كالعدالة و الورع و بعض العلوم و بعض العبادات، فليس من الغيبة قطعا، نعم إذا كان بحيث يسمعه و يتأذّي منه و لم يكن تألّمه أمرا غير متعارف كان حراما من جهة اخري، أمّا إذا كان ذلك بسبب شذوذ فيه، فيشكل الحكم بلزوم تركه لعدم الدليل.

الثّالث: أن يكون ذلك مستورا، فلو كان ظاهرا لم يكن من الغيبة، لأنّه القدر المتيقّن، نعم إذا كان بقصد المذمّة لم يبعد حرمته، لا من هذه الجهة، بل من جهة حرمة مذمّة الناس.

الرّابع: أن يكون يكرهه إذا سمعه أو يغمّه إذا سمعه، و الظاهر أنّه قيد زائد لأنّه لازم سائر القيود السابقة عادة، و أمّا الافراد

النادرة فلا يعبأ بها.

الخامس: و قد يقال باعتبار قصد المذمّة، و لكن اعتباره بعيد، لأنّ مجرّد ذكر إنسان بعيب مستور كاف في كونه غيبة طبقا لما مرّ من الروايات و كثير من التعاريف الاخر، و ما هو المتبادر منها، فيتحصّل من جميع ذلك اعتبار امور ثلاثة في الغيبة: كونها عيبا، و كونه مستورا، و كون الشخص المقصود غائبا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 601، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 20.

(2). الدرّ المنثور، ج 6، ص 94 عن عكرمة.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 275

بقي هنا امور:

الأوّل: لا شكّ في انحصار موضوع الغيبة بما إذا كانت عن شخص معلوم أو جمع محصورين، فلو كان عن شخص مجهول لم يحرم و لم يكن غيبة، لما عرفت من الروايات الكثيرة الدالّة علي اعتبار كشف السرّ فيها، مضافا إلي ما ذكره بعض أهل اللغة، و إطلاق كلام جمع من الفقهاء لا بدّ أن يحمل عليه.

هذا مضافا إلي الملاك في حرمتها كما يظهر من الآية الشريفة و غير واحد من روايات الباب كونها سببا لهتك أعراض المؤمنين، و من الواضح عدم تحقّقها بدون معرفة المغتاب.

و الحاصل أنّه يتصوّر هنا صور:

1- ما إذا كان المغتاب (بالفتح) مجهولا مطلقا، كأن يقال رأيت رجلا بخيلا كذا و كذا، و لا إشكال في عدم حرمته و عدم كونه غيبة.

2- إذا كان محصورا بين أفراد كثيرين، كما إذا قال: واحد من أهل بلدة كذا بخيل دني، و هو أيضا كسابقه.

3- إذا كان محصورا بين افراد معينين، كما إذا قال: أحد أبناء فلان يشرب الخمر، فهل يحسب غيبة، أو لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في حرمته، و إن لم نقل بكونها غيبة لعدم

كشف الستر إلّا ناقصا و ذلك لجعل جميع أبنائه في معرض التهمة، بل قد تكون حرمته أشدّ من هذه الجهة، بل لا يبعد وجود ملاك الغيبة فيها و لو بمرحلة.

4- ما إذا تكلّم عن جماعة كثيرة، و قال: أهل البلد الفلاني كلّهم كذا و كذا، فلو كان من قبيل كشف الستر عن عيوبهم كان غيبة عن الجميع، لوجود شرائطها فيه بل كان أشدّ، و إلّا لم يعد غيبة.

5- إذا قال ذلك، و كان مراده أكثرهم و قصد كشف عيبهم المستور كان من قبيل غيبة المحصورين، و كان حراما، و لو فرضنا أنّا شككنا في صدق تعريفها عليه لم نشكّ في حرمته لما مرّ.

6- و كذلك إذا كان المراد بعضهم، و كانت القرينة قائمة، إلّا إذا كان البعض من قبيل القليل في الكثير بحيث لا يخلو جماعة منه، فلا يكون كشف ستر و لا هتكا للجميع.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 276

الثّاني: قد عرفت عدم اعتبار قصد المذمّة و الانتقاص في مفهوم الغيبة و حكمها، و إنّما المدار علي كشف الستر عن بعض العيوب بما يوجب هتك المؤمن و التعرّض لعرضه، و ذلك لتظافر ما عرفت من الروايات الدالّة عليه و إشعار الآية به لذكرها بعد سوء الظنّ و التجسّس، و تصريح بعض أهل اللغة به، و إن صرّح بعضهم كالشهيد الثاني قدّس اللّه نفسه الزكية باعتبار قصد الانتقاص.

هذا مضافا إلي أنّه لو كان ذكره بما فيه من العيوب الخفيّة كان قصد الانتقاص فيه قهريا، نظير ما مرّ في باب الإعانة علي الإثم إذا باع عنبه ممّن يعلم أنّه يعمله خمرا، فإن قصد الإعانة فيها قهري أيضا.

أمّا إذا لم يكن العيب مستورا، فلا يخلو عن

أحد امور:

1- يتكلّم به بقصد الذمّ و الانتقاص كأن يقول: انظر إلي هذا الأعمي المفلوج، أو إلي هذا المجرم النجس، و لا ينبغي الشكّ في حرمته لا من جهة شمول أدلّة الغيبة، بل لأنّه هتك المؤمن، مضافا إلي إيذائه لو سمعه، و شمول أدلّة التعيير له لو قلنا بحرمة تعيير المؤمن مطلقا.

2- ما إذا لم يقصد الذمّ، و لكن كان من الألقاب المشعرة بالذمّ، كما هو معمول بين من لا يبالون بأمر الدين، و هذا أيضا حرام لدخوله في أدلّة حرمة التنابز بالألقاب.

3- إذا لم يكن من هذه الألقاب و لا قصد الانتقاص، بل و لا يترتّب عليه هذا العنوان قهرا، كما إذا كان في مقام ذكر العلاقة، من قبيل ما لو سئل عن زيد فقال: أي زيد؟ الأعمي أو البصير؟ و غير ذلك من أشباهه.

بقي الكلام فيما إذا كان العيب ظاهرا لغالب الناس، و لكن كان مستورا عن شخص المخاطب، فهل هو ملحق بالغيبة، أو لا؟ لا يبعد عدم كونه غيبة و ان كان الأحوط الاجتناب، و ذلك لعدم شمول تعريفها له، و لا أقل من الشكّ.

الثّالث: لا بدّ فيها من وجود مخاطب، و إلّا فمجرّد حديث النفس غير كاف، لعدم كونه كشف ستر.

الرّابع: لا تفاوت بين ذكر العيوب المستورة في كونها غيبة، و قد أشار شيخنا الأعظم إلي

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 277

سبعة أنواع من العيوب، و هي ما كان في بدنه، أو نسبه، أو خلقه، أو فعله، أو قوله، أو دينه، أو دنياه «1» و زاد عليه غيره امورا اخر ممّا يتعلّق بالإنسان، إلّا أنّه يمكن إدراجها في قوله «أو دنياه»، فلو قال: داره أو ثوبه أو ولده أو دابته

أو زوجته أو اخوته كذا و كذا ممّا يعدّ نقصا له أيضا كان غيبة له مع اجتماع سائر شرائطها، و كذا إذا ذكره بسوء في كتابه و درسه و بحثه و غير ذلك ممّا يتعلّق بشأن من شئونه ممّا يعدّ نقصا مستورا.

و الدليل علي ذلك كلّه إطلاق كثير من كلمات أهل اللغة و الفقهاء و بعض الروايات، مضافا إلي عموم الملاك كما هو ظاهر، و اختصاص بعض كلماتهم بموارد خاصّة لا يدلّ علي خروج غيره، و قد عرفت في حديث عائشة أيضا الذي ذكرناه آنفا، و في المستدرك عن الصادق عليه السّلام ما يدلّ علي ذلك فراجع «2».

الخامس «الذكر»: كما صرّح به غير واحد منهم هنا أعمّ من القول و الفعل و الإشارة، و القول أعمّ من الدلالة المطابقية و التضمّنية و الالتزامية، و أنواع الكنايات و التعريضات، بل قد يظهر الإنسان أنّه لا يريد الغيبة مع أنّه من أشدّ الغيبة، بل قد يجتمع فيه عنوان الغيبة و الرياء، كأن يقول «لو لا أنّ المؤمن ملجم قلت فيه بعض الأشياء»! أو إنّي أخاف اللّه و عذابه يوم القيامة و إلّا قلت في زيد بعض القول!، أو يقول الحمد للّه الذي لم يبتلني بكذا و كذا تعريضا علي بعض من يفهمه المخاطبون، فإنّ ذلك أشدّ، لأنّ ذهن السامع يذهب كلّ مذهب، و قد يكون التصريح بنفس العيب المستور أخفّ منه، و فيه أيضا نوع من الرياء، كما هو ظاهر، فيكون مصداقا لهما (أعاذنا اللّه منه).

السّادس: قد ظهر ممّا ذكرنا قبح ما هو معمول بين جمع من العوام حيث يغتابون أحدا، ثمّ يقولون هذا من صفاته، فإنّه لو لم يكن من صفاته كان بهتانا، و قد روي

في الجوار أنّه ذكر عنده صلّي اللّه عليه و آله و سلم رجل فقالوا: ما أعجزه، فقال: «اغتبتم صاحبكم»، قالوا: يا رسول اللّه قلنا ما فيه! قال: «إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه!» «3».

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 42.

(2). مستدرك الوسائل، ص 106.

(3). مجمع الزوائد، ج 8، ص 94، نقلا عن الجواهر، ج 22، ص 65.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 278

و كذا ما قد يقوله بعض العوام «إنّا نقول ذلك بمحضره» فهو أيضا عذر باطل، إلّا أن يراد أنّه لا يكره هذا الكلام بناء علي كون الكراهة ممّا يعتبر في مفهومه فتدبّر.

السّابع: حكي عن المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية قدّس سرّهما عموم تحريم الغيبة للمؤمنين و غيرهم (من المسلمين و غيرهم) لأنّ قوله تعالي وَ لٰا يَغْتَبْ … «1» عام، و الكثير من أدلّة الحرمة جاءت بلفظ الناس أو المسلم، فيشملان الجميع، و لا استبعاد في ذلك بعد احترام ماله و نفسه، فليكن عرضه كذلك، و لكن شدّد عليه الإنكار في الجواهر «2» و غيره.

و عمدة ما استدلّوا للجواز امور:

الأوّل- ظاهر الآية الاختصاص بالأخ، و هو خاصّ بالمؤمن.

الثّاني- ظاهر الروايات- بعد ضمّ بعضها ببعض- اختصاص الحرمة بالمؤمن، و هو من يقول بولاية الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام.

الثّالث- ما علم من ضرورة المذهب من عدم احترامهم و عدم جريان أحكام الإسلام فيهم إلّا قليلا، ممّا يتوقف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه، لا سيّما ما دلّ علي حكم الناصب و أنّه أنجس من الكلب.

الرّابع- ما دلّ علي جواز لعنهم و وجوب البراءة منهم و الوقيعة فيهم، أي غيبتهم مثل:

1- ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام و يحذّرهم الناس و لا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك الحسنات و يرفع لكم به الدرجات في الآخرة» «3».

2- و ما رواه محمّد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالي: كٰانُوا لٰا يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ قال: «أما أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجلسون مجالسهم، و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم» «4».

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 12.

(2). الجواهر، ج 22، ص 62.

(3). وسائل الشيعة، ج 11، ص 508، الباب 39، من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 509، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 279

5- قيام السيرة المستمرّة بين العلماء و العوام عليه، و قد ذكر في الجواهر أنّه من الضروريات «1».

6- أنّهم بأجمعهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم، و المتجاهر بالفسق يجوز غيبته.

أقول: ما المراد بالمخالف؟ هل هو الناصب، أو المعاند للأئمّة المعصومين، أو من ينكر فضلهم، أو مطلق من لا يعرف هذا الأمر، و إن كان مواليا له كما يتراءي من كثير منهم حتّي صنّفوا كتبا في فضل أهل البيت و الأئمّة عليهم السّلام و يؤدّونهم مودّة كثيرة، و إن لم يعرفوا إمامتهم لا سيّما إذا كانوا قاصرين لا مقصّرين؟

أمّا الأوّل: فلا كلام فيه لما ذكر و لغيره، و أمّا إن كان المدّعي العموم بحيث يشمل الأخير أيضا، فهو قابل للكلام، و شمول الأدلّة

المذكورة لها غير واضح.

أمّا عدم شمول الآية له فانّه لا يمنع عن شمول غيره بعد عدم المفهوم في الآية، أمّا الروايات فبعضها و إن كان مصرّحا فيها بالمؤمن مثل:

1- ما رواه سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «المؤمن من ائتمنه المؤمنون علي أنفسهم و أموالهم، و المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه، و المهاجر من هجر السيّئات، و ترك ما حرّم اللّه، و المؤمن حرام علي المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة» «2».

2- و ما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية للّه، و حرمة ماله كحرمة دمه» «3».

3- ما مرّ من رواية علقمة بن محمّد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال:

«من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع اللّه بينهما في الجنّة أبدا، و من اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما و كان المغتاب في النار خالدا فيها و بئس المصير» «4».

و لكن المصرّح به في غيرها مطلق المسلم مثل:

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 62.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، ص 596، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 599، ح 12.

(4). المصدر السابق، ص 601، ح 20.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 280

1- ما رواه الحرث بن المغيرة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «المسلم أخ المسلم و عينه و مرآته و دليله

لا يخونه و لا يخدعه و لا يظلمه و لا يكذّبه و لا يغتابه» «1».

2- و ما رواه رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المسلم أخ المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه و لا يغشّه و لا يحرّمه» «2».

3- ما مرّ آنفا عن أبي ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال: «يا أبا ذرّ إيّاك و الغيبة فانّ الغيبة أشدّ من الزنا!» قلت و لم ذاك يا رسول اللّه قال: «لأنّ الرجل يزني فيتوب إلي اللّه فيتوب اللّه عليه، و الغيبة لا تغفر حتّي يغفرها صاحبها، يا أبا ذرّ سباب المسلم فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه من معاصي اللّه و حرمة ماله كحرمة دمه … » «3».

4- ما مرّ عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن الغيبة و الاستماع إلهيا … و قال: «من اغتاب امرأ مسلما بطل صومه و نقض وضوءه … » «4».

و في بعضها مطلق الناس مثل:

ما مرّ عن نوف البكالي قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام … فقلت له: يا أمير المؤمنين عظني، فقال: يا نوف … قلت زدني، قال: «اجتنب الغيبة فانّها أدام كلاب النار ثمّ قال يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال و هو يأكل لحوم الناس بالغيبة» «5».

و ما رواه الحسين بن خالد عن الرضا عن أبيه عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يبغض البيت اللحم و اللحم السمين قال: فقيل له: إنّا لنحبّ اللحم و ما تخلوا بيوتنا منه فقال: ليس

حيث تذهب إنّما البيت اللحم البيت الذي تؤكل فيه لحوم- الناس- بالغيبة! … » «6».

خرج منه الكافر و بقي غيره.

و من الواضح عدم المنافاة بين هذه العناوين الثلاث (المؤمن، المسلم و الناس) لأنّ إثبات شي ء لا ينفي ما عداه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 597، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 598، ح 9.

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 599، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 13.

(5). المصدر السابق، ص 600، ح 16.

(6). المصدر السابق، ص 601، ح 17.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 281

أمّا ما علم من ضرورة المذهب إنّما هو في القسم الأوّل منهم فقط، و كذا أحكام الناصب، أمّا الموالين لهم لا سيّما إذا كانوا قاصرين فدخولهم في ذلك غير ثابت، فالأحوط لو لا الأقوي وجوب الاجتناب عن غيبتهم.

أمّا أدلّة وجوب اللعن فهي مختصّة في أهل البدع، و الظالمين لأهل البيت (عليهم آلاف الثناء و التحية) و كذا ما ورد في الزيارات المأثورات، و كذلك الكلام في السيرة المستمرة.

و أعجب من الكلّ الاستدلال بمسألة التجاهر بالفسق، فانّ الغيبة في المتجاهر إنّما هي فيما تجاهر، أمّا الأزيد فغير ثابت كما سيأتي.

هذا مضافا إلي أنّ المفروض في بعض شقوق المسألة أنّه قاصر، و القاصر لا يكون فاسقا، و العمدة هنا أنّه قد حرّم الشارع دمه و ماله و أمر بالعشرة معه بالمعروف، و الغيبة موجبة لهتك الأعراض و كشف الستور، و احترام العرض أولي من احترام الأموال، فلا يبعد أن يكون القول بالتفصيل هنا هو القول الحقّ و الوسط.

الثّاني: ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه أنّ الظاهر دخول الصبي المميّز المتأثّر بالغيبة لو

سمعها، و استدلّ له بعموم بعض روايات الباب مع صدق الأخ عليه، لقوله تعالي في حقّ الأيتام: وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ «1» و ليس فيها قوله «في الدين» كما قد يتوهّم، بل هو وارد في آية اخري في سورة الأحزاب لا دخل له بأمر اليتامي، و الأمر سهل.

مضافا إلي إمكان إطلاق المؤمن عليه تغليبا فتأمّل.

و أمّا تقييده بالمميّز فغير ظاهر بعد عدم كون الملاك الإيذاء، بل هتك عرض المؤمن، فلو كان ذكر بعض العيوب هتكا لغير المميّز في العاجل أو الآجل لم يكن خاليا عن الإشكال، فلنعم ما قال الشهيد رحمه اللّه في «كشف الريبة» بعد عدم الفرق بين الصغير و الكبير الشامل لغير المميّز، و بالجملة المدار علي حرمة الإرث، و الظاهر أنّ أطفال المؤمنين بحكمهم دما و مالا و عرضا.

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 220.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 282

و منه يظهر الكلام في مجانينهم و انّ ما يوجب هتكهم و كشف سرّهم و عيبهم و لو كانوا مجانين مشكل جدّا.

المقام الثّالث: في المستثنيات من الغيبة
اشارة

و هي علي نحوين: تارة بعنوان عامّ، و اخري بالخصوص.

و أمّا الأوّل: فله بيانان، الأوّل: درج المسألة في قاعدة «الأهمّ و المهم» فكلّما كانت هناك مصلحة أهمّ من مفسدة الغيبة تكون جائزة، كما هو كذلك في جميع المحرّمات، كأكل الميتة المحرّمة للاضطرار.

و لكن عدّ هذا من المستثنيات بعيد، لأنّه من قبيل العناوين الثانوية، و المستثني ما كان من العناوين الأوّلية للموضوع، كاستثناء وجوب القصر علي من نوي عشرا، اللهمّ إلّا أن يقال: لا فرق بينهما كما ذكر في آية حرمة الميتة إِلّٰا مَا اضْطُرِرْتُمْ …

و علي كلّ حال أصل الحكم ليس فيه إشكال أصلا.

نعم هنا إشكال آخر، و هو ما قد

يقال: أ ليس هذا من قبيل قول بعض المذاهب الفاسدة:

«الغاية تبرّر الوسيلة»؟

قلنا: كلّا، إنّهم لا يقولون بأنّ الأهداف العالية تبرّر الوسائل الضعيفة، بل هم قائلون بأنّ الغاية كيفما كان تبرّر الوسيلة كيفما كانت، من دون ملاحظة قاعدة الأهمّ و المهم، و لذا ليس عندهم استثناء و قيد في ذلك، و عملهم شاهد عليه فيما إذا وقعت بعض منافعهم الشخصية في خطر، فيجوّزون قتل الأبرياء و نهب الأموال و غيرها لبعض منافعهم غير المشروعة.

الثّاني: ما عن المحقّق الثاني رحمه اللّه: إنّ ضابط الغيبة المحرّمة كلّ فعل يقصد به هتك عرض المؤمن، أو التفكّه به، و إضحاك الناس منه، أمّا ما كان لغرض صحيح، فلا يحرم كنصح المستشير و غيره.

هذا، و فيه إشكال ظاهر بعد ما عرفت من عدم اعتبار قصد الانتقاص في معني الغيبة، بل القصد حاصل قهرا، فهذه المستثنيات بناء عليه خارجة عن الموضوع لا عن الحكم.

و الإنصاف أنّه ليس كذلك، و الموضوع حاصل، و الاستثناء من الحكم.

أمّا ما ذكر بالعنوان الخاص (بل قد يقال بخروجه و لو لم تكن هناك مصلحة أهمّ) فأمران:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 283

أحدهما: المتجاهر بالفسق

فقد حكي إجماع الفريقين علي استثنائه عن حكم حرمة الغيبة، و يدلّ عليه مضافا إلي ذلك روايات كثيرة تنقسم إلي طائفتين:

الطائفة الاولي:

1- ما رواه أبو البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «ثلاثة ليس لهم حرمة، صاحب هوي مبتدع، و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن بالفسق» «1».

2- و ما رواه هارون بن الجهم عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة» «2».

3- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّي اللّه

عليه و آله و سلم أنّه قال: «لا غيبة لثلاثة:

سلطان جائر، و فاسق معلن، و صاحب بدعة» «3».

4- و ما رواه موسي بن إسماعيل عن أبيه (عن) موسي بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أربعة ليس غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه، و الإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر و إن أسأت لم يغفر، و المتفكّهون بالامّهات، و الخارج من الجماعة الطاعن علي أمّتي الشاهر عليها سيفه» «4».

5- ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص عن الرضا عليه السّلام قال: «من ألقي جلباب الحياء فلا غيبة له» «5».

هذه الروايات تدلّ علي عدم الحرمه للمتجاهر، و لازم نفي الحرمة جواز الغيبة مع التصريح بذلك في بعضها.

الطّائفة الثّانية: ما دلّ علي اعتبار الستر في مفهوم الغيبة، فإذا لم يكن هناك عيب مستور، خرج عن موضوعها لا عن حكمها، مثل:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 605، الباب 154، من أبواب أحكام العشرة، ح 5.

(2). المصدر السابق، ص 604، ح 4.

(3). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 128، الباب 134، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ج 9، ص 129، ح 3، (و رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم مثله ص 108).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 284

1- داود بن سرحان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الغيبة، قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ عليه أمر قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حدّ» «1».

2- و ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة قال: سمعت أبا عبد

اللّه عليه السّلام يقول: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه … » «2».

3- ما رواه يحيي الأرزق قال: قال لي أبو الحسن عليه السّلام: «من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه … » «3».

4- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره اللّه عليه … » «4».

5- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق جعفر بن محمّد قال: «إنّ من الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّه عليه … » «5».

و أكثرها أو كلّها و ان كانت ضعافا و لكن كثرتها جابرة لضعفها.

فكلا الطائفتين دليلان علي جوازها في حقّ المتجاهر، لكن الأولي من قبيل الاستثناء من الحكم، و الثانية تدلّ علي الخروج عن الموضوع.

و هناك بعض ما دلّ علي وجوب الغيبة لمن أعرض عن جماعة المسلمين:

منها: ما رواه ابن أبي يعفور … قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: لا غيبة إلّا لمن صلّي في بيته و رغب عن جماعتنا، و من رغب عن جماعة المسلمين وجب علي المسلمين غيبته، و سقطت بينهم عدالته، و وجب هجرانه، و إذا رفع إلي إمام المسلمين أنذره و حذّره، فان حضر جماعة المسلمين و إلّا احرق عليه بيته، و من لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته بينهم «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 604، الباب 154، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 602، الباب 152، من

أبواب أحكام العشرة، ح 22.

(5). المصدر السابق، ص 600، ح 14.

(6). وسائل الشيعة، ج 18، ص 289، الباب 41، من أبواب الشهادات، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 285

و لعلّه من باب لزوم النهي عن المنكر، و كان الإعراض عن الجماعة إعراضا عن الإسلام أو الحكومة الإسلامية في الحقيقة، أو مقدّمة له، و أمروا بالنهي عنه.

و الحاصل، أنّه لا إشكال في جواز غيبة المتجاهر، إمّا لعدم دخوله تحت عنوان الغيبة كما هو الأقوي، أو خروجه عنها حكما علي احتمال.

إنّما الكلام في المراد من «المتجاهر»، و هل أنّ جواز غيبته يختصّ بما تجاهر فيه، أو أعمّ؟

أمّا الأوّل: فالمتجاهر هو الذي يتجاهر بالمعصية مع علمه بها موضوعا و حكما، بأن يعلم أنّ هذا المائع فقاع، و أنّ الفقاع حرام، و لو اشتبه عليه أحدهما لم يكن متجاهرا، و بالجملة المدار علي الحرمة الفعلية في حقّه لا علي الحرمة الواقعية و ان كان معذورا فيها، فكلّ من يفعل فعلا و يعتذر فيه بعذر يحتمل في حقّه لا بدّ من حمل فعله علي الصحّة، و لا يكون متجاهرا إلّا أن يعلم بكذبه في دعوي العذر.

أمّا الثّاني: فهل جواز غيبته يختصّ بما تجاهر فيه، فلو كان متجاهرا بمعونة الظلمة لا يجوز غيبته بشرب الخمور و غيرها، و أولي منه ما إذا كان متجاهرا بصغيرة فهل يجوز غيبته بكبيرة، قد يقال بالأعمّ، و استظهره في الحدائق من بعض أحاديث الباب.

و لكن استظهر خلافه من كلام جملة من الأصحاب، إلّا أنّه قال: الأحوط الاقتصار علي ما ذكروه «1».

و في الحقيقة دليله إطلاق الروايتين: 4 و 5/ 154 و قد مرّتا عليك، و كذا إطلاق ما رواه في المستدرك الذي مرّ

عليك أيضا، و لكن الإنصاف أنّ مناسبة الحكم و الموضوع مانعة عن إطلاقها، أو يكون المراد من الفاسق الفاسق في جميع أفعاله أو أكثره، بل لا يبعد أن يكون هذا هو المراد ممّن «ألقي جلباب الحياء» و علي كلّ حال الأخذ بالعموم مشكل جدّا.

و قد يقال: إذا كان الفسق المستور دونه في القبح يجوز غيبته به، و لكنّه أيضا محلّ إشكال، فقد يتجاهر الإنسان بالغيبة مع أنّها أشدّ من الزنا، و لا يتجاهر بالزنا، فهل يجوز غيبته بالثّاني لارتكابه الأوّل؟

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 166.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 286

و كون شي ء أخفّ أو أشدّ في نظر الشرع غير كاف، بل لو كان كذلك عرفا، فهو أيضا مشكل، لعدم الدليل علي كفاية ارتكاب الأشدّ في الغيبة علي الأخفّ بعد كون الأصل في عرض المؤمنين الحرمة.

بقي هنا امور:

1- قد يكون الإنسان متجاهرا بين جماعة، و لا يكون متجاهرا مع غيرهم، فقد يقال بإطلاق أخبار الجواز، و لكن مناسبة الحكم و الموضوع مانعة منه، و موجبة لانصرافها عنه، فلو كان متجاهرا في بلده متستّرا في غيره لا يجوز غيبته به، نعم يمكن أن يقال: إنّ المدار علي التجاهر بالنسبة إلي عامّة الناس، لا بالنسبة إلي كلّ أحد، فان كان متستّرا من شخص خاص جاز غيبته عنده إذا كان متجاهرا للعامّة، لإطلاق الأخبار و إنّه لو قلنا بالحرمة لزم الاستفسار قبلا من كلّ من يريد ذكره عنده، و هذا ممّا يأبي عنه إطلاق أخبار الباب، فلو كان متجاهرا بالنسبة إلي العموم متستّرا من بعض أقربائه أو بعض أحبّته جاز غيبته عندهم.

2- «المتجاهر» عند قوم بالخصوص كأصدقائه و جيرانه و محارمه لا تجوز غيبته عند العامّة، للشكّ

في صدق المتجاهر عليه ما لم يكن عامّا، بل قد يعلم بعدمه إذا كان متستّرا عن عامّة الناس ما عدي عدّة قليلة جدّا.

3- لا يعتبر في جواز غيبته قصد غرض صحيح- أهمّ أو غير أهمّ- من قبيل النهي عن المنكر و غيره، لإطلاق الأدلّة كما هو ظاهر.

ثانيهما: مسألة التظلّم

و الكلام تارة في أصل جواز الغيبة عند التظلّم، و اخري في حدوده، أمّا الأوّل فيدلّ عليه مضافا إلي شهرته بين العامّة و الخاصّة قوله تعالي: لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ «1» و الجهر بالسوء و إن لم يختصّ بالغيبة بل يشمل كلّ إجهار به، و لكنّه يشملها،

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 148.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 287

فاستثناء المظلوم دليل علي جوازه، و هذا هو العمدة في هذا الحكم.

و قد ورد في تفسيرها حديثان مرسلان يؤيّدان إطلاق الآية:

1- ما رواه الفضل بن أبي قرّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّٰا مَنْ ظُلِمَ قال: «من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه» «1».

2- و ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي رحمه اللّه (في مجمع البيان) في قوله لٰا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ … عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله» «2».

فإذا جازت الغيبة للإساءة في الضيافة جازت لسائر المظالم بطريق أولي.

هذا، و قد فسّرت الروايتان بما يكون مصداقا لظلم المضيف لا مجرّد ترك الأولي. نعم للضيف حقّ علي المضيف، كما أنّ للمضيف حقّا عليه، و علي كلّ حال ضعف سندهما يمنع عن

الاستدلال بهما و لو مع هذا التفسير إلّا بعنوان مؤيّد للمقصود.

و قد يؤيّده ما ورد في غير واحد من الروايات من شكاية الناس عن غيرهم عند النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و عند الأئمّة من أهل بيته عليهم السّلام مثل:

ما روي عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني و ولدي ما يكفيني فقال لها: «خذي لك و لولدك ما يكفيك بالمعروف» «3».

و كذا ما ورد من تظلّم بعض أصحاب الأئمّة عليهم السّلام عندهم.

هذا و الإنصاف إنّ مسألة القضاء خارجة بالإجماع بل الضرورة، لأنّ قوامها في الغالب بذكر مساوئ الظالمين، و لعلّ موارد هذه الروايات كانت من قبيل القضاء.

و قد يؤيّد هذا الحكم بآيات اخري أو دلائل عقلية غير وافية بالمراد، مثل قوله تعالي:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 605، الباب 154، من أبواب أحكام العشرة، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 129، الباب 134، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 288

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «1» أو إنّ في هذا الأمر نوع تشفّ للمظلوم، و منعه منه حرجي، أو مثل ذلك، فانّ الانتصار خارج عمّا نحن بصدده، فقد يقال إنّه نوع من المقابلة بالمثل فتأمّل، و ترك التشفّي لا يكون حرجا دائما.

أمّا حدود هذا الحكم فانّ القدر المعلوم منه ما إذا كان له أثر في دفع الظلم، و لكن الإنصاف أنّ مسألة الشكوي عند القاضي أو دفع الظلم خارج عمّا نحن بصدده كما عرفت، بل هذا عنوان برأسه يعلم جوازه من

ظاهر الآية الشريفة.

سائر المستثنيات:

أمّا ما يندرج تحت ما عرفت من العنوان العام، أعني قاعدة الأهمّ و المهمّ فهي كثيرة لا تحصي، ذكر منها شيخنا الأعظم عشرة:

1- نصح المستشير، بل نصح المؤمن مطلقا، سواء استشار أم لا.

2- في الاستفتاء إذا توقّف علي ذكر الشخص.

3- في النهي عن المنكر إذا توقّف عليه.

4- ردّ أهل البدع و قلع مادّة الفساد.

5- جرح الشهود و الرواة، فالإشكال علي علم الرجال من هذه الناحية باطل جدّا.

6- دفع الضرر عن المغتاب، كما في قضيّة زرارة «2».

7- ما كان من الصفات المميّزة التي لا يعرف إلّا بها، كالأحول، و الأشتر.

8- إذا كان القائل و السامع عالمين به.

9- ردّ النسب الباطل.

10- ردّ المقالة الباطلة كما في ذكر بعض الإشكالات العلمية «3».

و لكن الظاهر أنّ السابع و الثامن خارجان عن هذا العموم، بل هما خارجان عن موضوع

______________________________

(1). سورة الشوري، الآية 41.

(2). المكاسب المحرّمة، ص 45.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 44.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 289

الغيبة، لأنّها كشف الستر عن عيب، و ليستا كذلك.

و توجد موارد اخري تلحق بها، منها:

1- مقام إقامة الشهادة عند القاضي فيما يتعلّق بالحدود، كالشهادة علي الزنا الذي يكون أمرا خفيّا غالبا أو دائما، و كذا ما يتعلّق بالحقوق فيما إذا كانت خفيّة، لاستمرار السيرة، بل هو من الضروريات.

2- في مقام تعيين مراجع الدين إذا كان في بعضهم نقص، فإنّ مصلحة هذا المقام العظيم أهمّ من كتمان العيوب، و لكن هو من مزالّ الأقدام، فلا بدّ فيه من رعاية كمال الاحتياط، فإنّه كثيرا ما تشتبه الأهواء المهلكة الشيطانية بالواجبات الإلهية!

3- مقام نصب القضاة و الولاة العدول و غيرهم، ممّن يتحكّم في دماء المسلمين و أموالهم و فروجهم، فان ذكر عيوبهم عند

ولي الأمر لازم.

4- ما كان في مقام حفظ النفوس، كما إذا علمنا أنّ فلانا هيّأ الأسباب لقتل فلان.

5- ما كان لحفظ الثروة طائلة لا يرضي الشارع بتلفها.

و بالجملة مصاديق هذه القاعدة كثيرة جدّا، و لكن لا يمكن الحكم الكلّي فيما مرّ من الموارد الخمسة عشر بالجواز، بل اللازم في كلّ مورد من ملاحظة هذه القاعدة، فقد يكون حفظ عرض المؤمن أهمّ من مسألة النصح مثلا إذا كان في أمر غير مهمّ، و من اللازم الحذر من تسويلات إبليس في هذه المقامات، فإنّها من مزالّ الأقدام كما لا يخفي.

المقام الرابع: في كفّارة الغيبة

فقد ذكر فيها وجوه أو أقوال كثيرة من الاستحلال، أو الاستغفار أو كليهما أو التفصيل بين وصولها إلي المغتاب بالاستحلال، و لا يكفي الاستغفار أو غير ذلك.

و العمدة بيان أنّها هل هي من قبيل الحقوق التي لا بدّ فيها من الاستحلال، أم لا؟ فلو كانت منها وجب الاحتياط لأصالة عدم براءة الذمّة، و إلّا كانت البراءة حاكمة، و الذي يدلّ علي أنّه من الحقوق: العقل و النقل.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 290

أمّا العقل: فلأنّه هتك عرض المؤمن، و يعادل أخذ أمواله، بل يكون أقوي و أظهر، و كيف يكون إتلاف بعض أمواله موجبا للضمان و مستلزما للاستحلال، و لا يكون أكل لحمه و التفكّه به موجبا له، أ ليس الخدش موجبا للأرش، أو العفو منه؟ أ فلا تعادل الأعراض هذا الخدش؟ و إنكار ذلك كما يظهر من بعضهم من الغرائب، بل هذا لا يزال من المرتكز في أذهان العقلاء من أهل الشرع.

أمّا النقل فامور كثيرة:

1- منها ما عرفت سابقا من رواية أبي ذرّ عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عند حكمه بأنّ الغيبة

أشدّ من الزنا من أنّ «الغيبة لا تغفر حتّي يغفرها صاحبها» مع التصريح باحترام عرضه و ماله و دمه «1».

و ضعف سندها غير مانع بعد كثرة ما ورد في هذا الباب كما سيأتي إن شاء اللّه، و كفي بها وثوقا.

2- مرفوعة اسباط بن محمّد عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: « … و أمّا صاحب الغيبة فيتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّي يكون صاحبه الذي يحلّه» «2».

3- و ما مرّ من رواية المفيد قدّس سرّه في الاختصاص في هذا المعني عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «الغيبة أشدّ من الزنا»، فقيل: و لم ذلك يا رسول اللّه؟ قال: «صاحب الزنا يتوب فيتوب اللّه عليه، و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب اللّه عليه حتّي يكون صاحبه الذي يحلّله» «3».

4- ما رواه الورّام بن أبي فراس عن جابر و أبي سعيد قالا: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا، إنّ الرجل يزني فيتوب إلي اللّه فيتوب اللّه عليه و انّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّي يغفر له صاحبه» «4».

5- ما ورد عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أيضا من أنّ «أربي الربا عرض الرجل المسلم» «5».

6- ما رواه في جامع الأخبار عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل اللّه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 598، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 9.

(2). المصدر السابق، ص 601، ح 18.

(3). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 114، الباب 32، من أبواب أحكام العشرة، ح 8.

(4). المصدر السابق، ص

118، ح 21.

(5). المصدر السابق، ص 119، ح 25.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 291

تعالي صلاته و لا صيامه أربعين يوما و ليلة إلّا أن يغفر له صاحبه» «1».

7- ما في نهج البلاغة عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتّي يستقيم قلبه و لا يستقيم قلبه حتّي يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقي اللّه سبحانه و هو نقي اليد من دماء المسلمين و أموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل» «2» فقد جعل فيه الدماء و الأموال و الأعراض في مستوي واحد.

8- يظهر من بعض الروايات أنّ الغيبة بمنزلة قتل النفس عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من اغتاب مؤمنا فكأنّما قتل نفسا متعمّدا» «3».

9- ما رواه في الأحياء قال في الحديث الصحيح عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس هنا دينار و لا درهم، إنّما يؤخذ من حسناته، فان لم يكن له حسنات اخذ من سيّئات صاحبه فزيدت علي سيّئاته!» «4».

10- و يؤيّده أو يدلّ عليه ما دلّ علي نقل الحسنات و السيّئات في المغتاب من طرقنا، مثل ما رواه سعيد بن جبير عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «يؤتي بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي اللّه يدفع إليه كتابه فلا يري حسناته، فيقول إلهي ليس هذا كتابي فانّي لا أري فيها طاعتي. فقال: إنّ ربّك لا يضلّ و لا ينسي ذهب عملك باغتياب الناس، ثمّ يؤتي بآخر و يدفع إليه كتابه فيري فيها طاعات كثيرة فيقول: الهي ما هذا كتابي فإنّي ما عملت

هذه الطاعات. فيقول: إنّ فلانا اغتابك فدفعت حسناته إليك» «5».

بل لعلّ الظاهر من الآية الشريفة أيضا ذلك.

نعم هنا امور يمنع عن الأخذ بهذه الأدلّة، منها:

1- إنّ العرض لا يقابل بالمال، و لا يجري فيه الدّية و ليس فيه قصاص و أمثال ذلك.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 122، ح 334.

(2). المصدر السابق، ص 123، ح 39.

(3). مستدرك الوسائل، ج 8، ص 125، الباب 132، ح 48.

(4). المحجّة البيضاء، ج 5، ص 273- و أخرجه أحمد في المسند، ج 2، ص 506، من حديث أبي هريرة.

(5). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 121، الباب 132، من أبواب أحكام العشرة، ح 30.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 292

2- ربّما يكون في الاستحلال الشحناء و البغضاء.

3- ربّما لا يغفر صاحبه، أو لا يمكن الوصول إليه، لموت أو غيره.

و الجواب عن الكلّ واضح..

أمّا عن الأوّل، فلأنّ عدم الدّية و القصاص لا يمنع الاستحلال كما في المال إذا لم يتمكّن من أدائه.

أمّا عن الثاني فلأنّ كلّ حكم قابل للاستثناء، و الاستثناء ليس مانعا من أصله.

أمّا عن الثالث، فلأنّ عدم وجوبه عند عدم القدرة لا يمنع عن وجوبه عند القدرة عليه، و عليه يحمل ما دلّ علي كفاية الاستغفار، مثل ما رواه حفص بن عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم ما كفّارة الاغتياب؟ قال: «تستغفر اللّه لمن اغتبته كلّما ذكرته» «1».

و حينئذ لا يبعد لزوم الاستغفار و فعل الخيرات رجاء رضاه، و لو أمكن الاستحلال، فالواجب هو الاستحلال.

المقام الخامس: في حكم «استماع الغيبة»

لا خلاف في حرمة «استماع الغيبة» و لا إشكال كما ذكره في الجواهر «2» و غيره، و أرسله في الحدائق إرسال المسلّمات

من دون ذكر خلاف «3».

و الذي يدلّ عليه مضافا إلي أنّ الاستماع نوع إعانة علي هتك عرض المؤمن، فإنّ تمام فعل المغتاب بفعل المستمع (فتأمّل)، نعم مجرّد السماع القهري لا يدخل تحت هذا العنوان، روايات كثيرة منها:

1- ما دلّ علي الحرمة مثل ما رواه محمّد بن علي بن الحسين … عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي: «إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن الغيبة و الاستماع إليها … » «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 605، الباب 155، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 71.

(3). الحدائق، ج 18، ص 159.

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 599، الباب 152، من أبواب أحكام العشرة، ح 13.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 293

2- ما دلّ علي أنّ السامع للغيبة أحد المغتابين مثل ما رواه الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «السامع للغيبة أحد المغتابين» «1».

3- و أنّ الغيبة كفر و المستمع لها و الراضي بها مشرك، مثل ما رواه في كتاب الروضة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الغيبة كفر و المستمع لها و الراضي بها مشرك»، قلت: فإن قال ما ليس فيه؟ فقال: «ذلك بهتان» «2».

4- و من طرق العامّة ما في إحياء العلوم: «المستمع أحد المغتابين» «3».

5- روي في الاختصاص للشيخ المفيد رحمه اللّه فقال: نظر أمير المؤمنين عليه السّلام إلي رجل يغتاب رجلا عند الحسن ابنه عليه السّلام فقال: «يا بني نزّه سمعك عن مثل هذا، فإنّه نظر إلي أخبث ما في وعائه فأفرغه في

وعائك» «4».

و ضعف اسنادها ينجبر بتكاثرها و عمل المشهور بها حتّي أنّه لم ينقل الخلاف فيه، لا سيّما إذا كان الاستماع مع الإعجاب و الرضا، ففي ذيل الحديث 5 من باب 156 «كان عليه كوزر من اغتاب» «5» لكنّه أخصّ من المدّعي كما لا يخفي.

بل لا يبعد استفادة الحرمة عمّا ورد في وجوب ردّ الغيبة بالملازمة أو بطريق أولي (فتأمّل)، فالمسألة واضحة بحمد اللّه.

إنّما الكلام في وجوب الردّ، فإنّ الأحاديث في هذا المعني و ان كانت كثيرة (راجع الباب 156 الحديث 1 إلي 8) و لكنّها ممّا يشكل الاستدلال بها علي الوجوب، و إن استظهر شيخنا الأعظم منها الوجوب في مكاسبه، فانّ مجرّد الخذلان الوارد في غير واحد منها غير كاف، كما أنّ الوزر للإعجاب أخصّ من المدّعي.

هذا و من العجيب ما أفاده بعض الأعلام من أنّ ظاهر هذه الأخبار جواز استماعها للردّ، حتّي أراد تقييد الروايات الدالّة علي حرمة استماعها بهذا، مع أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّه في الاستماع القهري.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 133، الباب 136، من أبواب أحكام العشرة ح 7.

(2). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 133، الباب 136، من أبواب أحكام العشرة، ح 6.

(3). احياء العلوم، ج 3، ص 153.

(4). مستدرك الوسائل، ج 9، ص 132، الباب 136، من أبواب أحكام العشرة، ح 5.

(5). وسائل الشيعة، ج 8، ص 607، من أبواب أحكام العشرة، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 294

و أعجب منه قوله أنّ السماع القهري أمر نادر «1» فلا تحمل عليه، لأنّه كثيرا ما يستمع الإنسان إلي كلام غيره من دون أن يعلم أنّه بصدد الغيبة، فلمّا تمّت الجملة يري أنّه اغتابه، فقبل تمام الجملة

غير معلوم، و بعد تمامه مضي وقت الاستماع، و هذا كثير جدّا، و لم يرخّص في استماع الغيبة، و انتهاك عرض المؤمن للدفاع عنه بعده، فلو وجب الدفاع لا بدّ من عدم الاستماع لأنّ إعدام الموضوع أولي من ردّه بعد وجوده.

و لا شكّ أنّ الردّ لو لم يكن واجبا، لكان حسنا بلا إشكال، و هذا غير النهي عن المنكر، فانّ هذا دفاع بذكر ما يبطله، و ذاك مجرّد منع عن فعل الحرام استدامة.

عصمنا اللّه تبارك و تعالي بمنّه و كرمه عن الغيبة و الاستماع إليها و غفر اللّه لنا و لمن اغتابنا أو اغتبناه جهلا منّا بذلك آمين يا ربّ العالمين.

15- القمار
اشارة

و الكلام فيه يقع في خمس مقامات:

1- اللعب بأدواته مع الرهن.

2- اللعب بأدواته لا مع الرهن، بل لمجرّد اللهو، أو أغراض اخر، مثل ما يذكرونه من قوّة الحفظ و شبهه في بعضها لو كان.

3- اللعب بغير أدوات القمار مع الرهن، كأنواع اللعب الرياضي و غيرها ممّا فيه أغراض عقلائية ظاهرة، أو مجرّد لهو مع الرهن.

4- اللعب بها لا مع الرهن.

5- ما فيه أثر القمار من دون أن يكون فيه لعب مطلقا، بل فيه مجرّد القرعة أو شبهها كما في «اليانصيب» و شبهه، و مثل ما كان من الاستقسام بالأزلام في الجاهلية، و في كونه من أقسام القمار موضوعا أو حكما كلام يأتي إن شاء اللّه.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 358.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 295

المقام الأوّل: حرمة اللعب بآلته مع الرهن

فلا إشكال و لا كلام في حرمته تكليفا و وضعا، بل ادّعي عليها الضرورة، و لا يبعد ذلك، لأنّ كلّ من عاشر المسلمين برهة قصيرة من الزمان يعرف حرمته عندهم، و ان كانت الضرورة بنفسها لا أثر لها إلّا أن يرجع إنكارها إلي إنكار النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم، و هو يجري في المعلومات غير الضرورية أيضا كما لا يخفي، و الظاهر أنّ إطلاق كلامهم يشمل الحرمة الوضعية و التكليفية معا، و يدلّ عليه مضافا إلي ما عرفت كتاب اللّه و السنّة المتواترة:

أمّا الأوّل: فقوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ* وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا

الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا عَليٰ رَسُولِنَا الْبَلٰاغُ الْمُبِينُ «1».

و قوله تعالي: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا … «2».

و من الجدير بالذكر أنّ الآيات الثلاث الاولي مؤكّدة باثني عشرة تأكيدات:

1- الخطاب إلي المؤمنين 2- كونها رجسا 3- كونها من عمل الشيطان 4- الأمر بالاجتناب 5- كون الغاية الفلاح 6- إرادة الشيطان إيقاع العداوة و البغضاء فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ 7- البعد عن ذكر اللّه 8- البعد عن الصلاة 9- قوله تعالي فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ 10- وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ 11- الأمر بالحذر 12- التهديد بقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ.

و عدم التشديد في آية البقرة لمراعاة تدريجية الحكم مع أنّه أيضا دالّ علي المطلوب، بل و قوله تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ «3».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 90- 92.

(2). سورة البقرة، الآية 219.

(3). سورة النساء، الآية 29.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 296

فانّ القمار من أوضح مصاديق أكل المال بالباطل.

و أمّا الثّاني هو «السنّة» فقد استدلّ له بروايات كثيرة، أوردها في الوسائل في الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، و لكن الإنصاف أنّه لا يدلّ شي ء من رواياتها الأربعة عشر علي المطلوب إلّا حديث واحد علي إشكال فيه، و هو ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: لا تصلح المقامرة و لا النهبة «1».

و المراد من «النهبة» علي الظاهر ما كانوا ينهبون كلّ من الآخر فيما ينثر في الأعراس و شبهها و هو دون شأن الإنسان الكريم، بل قد يكون حراما إذا حازه غيره.

و لكن تعبيره

ب «لا تصلح» لعلّه غير كاف.

و أمّا غير هذه الرواية، فكلّها ناظرة إلي الحرمة الوضعية و كون التكسّب بالقمار حراما من هذه الجهة، أمّا الحرمة التكليفية فلا يستفاد منها.

نعم هناك روايات كثيرة دالّة علي حرمة اللعب بالشطرنج و نحوه مثل:

1- ما رواه زيد الشحّام قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: «الرجس من الأوثان: الشطرنج، و قول الزور: الغناء» «2».

2- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام مثله «3».

3- و ما رواه مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن الشطرنج قال: «دعوا المجوسية لأهلها لعنها اللّه» «4».

4- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عن اللعب بالشطرنج و النرد» «5».

5- و ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد فقال:

«لا تقربوهما … » «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 120، الباب 35، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 237، الباب 102، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 238، ح 7.

(5). المصدر السابق، ح 9.

(6). المصدر السابق، ص 239، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 297

و كذا ما دلّ علي حرمة الحضور في مجلس القمار مثل:

6- ما رواه حمّاد بن عيسي قال: دخل رجل من البصريين علي أبي الحسن الأوّل عليه السّلام فقال له: جعلت فداك إنّي أقعد مع قوم

يلعبون بالشطرنج و لست ألعب بها، و لكن أنظر، فقال:

«مالك و لمجلس لا ينظر اللّه إلي أهله» «1».

7- و ما رواه سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: المطّلع في الشطرنج كالمطّلع في النار» «2».

8- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «بيع الشطرنج حرام و أكل ثمنه سحت و اتّخاذها كفر.

و اللعب بها شرك، و السلام علي اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة، و الخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير لا صلاة له حتّي يغسل يده كما يغسلها من مسّ لحم الخنزير و الناظر إليها كالناظر في فرج امّه! و اللاهي بها و الناظر إليها في حال ما يلهي بها و السلام علي اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء، و من جلس علي اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من النار و كان عيشه ذلك حسرة عليه في القيامة، و إيّاك و مجالسة اللاهي و المغرور بلعبها، فانّها من المجالس التي باء أهلها بسخط من اللّه يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم» «3».

و كذا الروايات الكثيرة الواردة في تحريم اللعب بالشطرنج و النرد و غيرهما لا سيّما هذين الحديثين:

9- ما رواه معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «النرد و الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة و كلّ ما قومر عليه فهو ميسّر» «4».

10- ما رواه محمّد بن عيسي قال: كتب إبراهيم بن عنبسة يعني إلي علي بن محمّد عليه السّلام إذ رأي سيّدي و مولاي أن يخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 240، الباب 103، من أبواب ما يكتسب به،

ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 241، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 4.

(4). المصدر السابق، ص 242، الباب 104، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 298

الآية فما الميسر جعلت فداك؟ فكتب: «كلّ ما قومر به فهو الميسر و كلّ مسكر حرام» «1».

11- و ما ورد في عيون الأخبار عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون في شرائع الدين فقد عدّ القمار فيها من الكبائر «2».

12- و ما ورد في حديث شرائع الدين عن الصادق عليه السّلام: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه … و الميسر» «3».

13- و ما ورد في ذكر مفاسد آخر الزمان، و هو حديث طويل يشتمل علي امور كثيرة، و فيها ملاحم أو ما يشبه الملاحم، و فيها «و رأيت القمار قد ظهر» «4».

14- و ما دلّ علي أنّه من الذنوب التي تهتك العصم «5».

و بالجملة الروايات فيه مستفيضة أو متواترة، و المتيقّن منها ما كان مع المراهنة.

المقام الثّاني: اللعب بأدوات القمار بدون المراهنة

ما إذا كان اللعب بأدوات القمار بدون المراهنة، و قد ادّعي الشهرة أو عدم الخلاف في حرمتها أيضا، و استدلّ علي حرمتها بامور:

1- المطلقات الواردة في الكتاب و السنّة مثل ما دلّ علي حرمة القمار و عدّه من الكبائر، و قد مرّ آنفا.

هذا، و لكن يمكن دعوي الانصراف فيها إلي ما كان مع المراهنة.

و قد صرّح أرباب اللغة باعتبار المراهنة في مفهوم القمار و معناه، و إن صرّح غير واحد منهم بإطلاقه علي مطلق اللعب بها، و لكن لم يثبت كونه إطلاقا حقيقيّا.

لا سيّما مع قوله تعالي فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ فانّ الظاهر أنّ المنافع لا تكون إلّا مع المراهنة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12،

ص 243، الباب 104، من أبواب ما يكتسب به، ح 11.

(2). المصدر السابق، ج 11، ص 260، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 33.

(3). المصدر السابق، ص 262، ح 36.

(4). وسائل الشيعة، ج 11، ص 516، الباب 41، من أبواب الأمر بالمعروف، ح 6.

(5). المصدر السابق، ص 520، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 299

و كذا قوله إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ فانّ العداوة و البغضاء لا تكون غالبا بغير المراهنة كما هو واضح.

لا أقول: القمار بدون المراهنة قليل و انّ الكلمة منصرفة عنه بهذا الاعتبار، بل أقول إنّ الفرد الأكمل الذي يتوجّه النظر إليه و فيه المفاسد الكثيرة هو ما كان مع المراهنة، و كان هو الشائع أيضا في تلك الأيّام.

هذا مع الشكّ في كونه بدون المراهنة من مصاديقه حقيقة لما عرفت من إجمال كلام اللغويين.

2- المطلقات الواردة في حرمة اللعب بالشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك، بل حضور مجلسهما، بل النظر فيها أو السلام علي اللاعب بها، و هذا أحسن من الأوّل من بعض الجهات، لأنّه لا يردّ عليه ما يردّ علي عنوان القمار و الميسر، و لا ينافي الاستناد بأقوال أهل اللغة بالنسبة إلي معني القمار و الميسر، فانّ العنوان فيها مجرّد اللعب بالآلات، و هو أعمّ.

و لكن إذا كان هذا إشارة إلي ما كان متداولا في تلك الأيّام من اللعب مع المراهنة، و لا أقل من احتمال ذلك فيشكل الأخذ بعمومها أو إطلاقها أيضا.

و لكن دعوي الانصراف مع أخذ عنوان اللعب في هذه الأخبار و عدم دخل المراهنة في عنوان اللعب لا يخلو عن إشكال، و كذا قوله و

اللاهي بها كذا.

3- ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام و في آخره: « … كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه محرّم و هو رجس … » «1».

و لكنّه مع ضعف سنده بالإرسال تارة، و بأبي الجارود اخري، فانّه ضعيف الدلالة أيضا، لتفسيره ما ذكره بعد ذلك بقوله «و قرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان» و قد عرفت الكلام في معني الميسر و أنّه بمعني اللعب مع المراهنة.

4- ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الشطرنج و النرد فقال:

«لا تقربوهما» قلت: فالغناء؟ قال: «لا خير فيه لا تقربه» «2».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 239، الباب 102، من أبواب ما يكتسب به، ح 12.

(2). المصدر السابق، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 300

و يرد عليه ما ورد في الإطلاقات.

5- و قد استدلّ شيخنا الأنصاري قدّس سرّه ببعض ما ورد فيه إناطة التحريم بالباطل مثل ما رواه: زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن الشطرنج و عن لعبة الشبيب التي يقال لها لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث، فقال: «أ رأيتك إذا ميّز اللّه الحقّ و الباطل مع أيّهما تكون؟» قال:

مع الباطل قال: «فلا خير فيه» «1».

مدّعيا أنّ ظاهرها عدم اعتبار الرهن فيها.

و فيه: أنّ هذه الدعوي غير مسموعة لو قلنا بأنّها ناظرة إلي ما كان متداولا في الخارج من اللعب مع المراهنة.

فالعمدة في المقام هو إطلاقات حرمة اللعب بهذه الآلات مثل النرد و الشطرنج و غيرهما، و لكن الذي يبعّد الإطلاق التشديد الوارد في الروايات، مثل ما عرفت من جامع البزنطي (4/ 103)

و التوعيد بالعذاب و النار لمن نظر إليها أو جلس في مجلسها أو سلم علي اللاعب و غير ذلك، و من البعيد كون هذه التوعيدات لمجرّد اللعب من دون المراهنة، و لا أقل من الشكّ، فإذا لا يبقي لها دلالة علي الحرمة، و الأصل الجواز، و لكن لا ينبغي ترك الاحتياط.

نعم إذا كان مظنّة للوقوع في الحرام كان حراما من هذه الناحية.

بقي هنا شي ء: و هو أنّه إذا تغيّر عنوان بعض هذه الامور بحيث خرج عن عنوان القمار- كما يدعي ذلك في الشطرنج و يقال أنّها في عصرنا من الألعاب الرياضية- فلا يبعد تبدّل حكمه، و تعليق الحكم في روايات الباب علي عنوان الشطرنج الذي يعدّ من القمار، هذا و لكن في الصغري نظر «فتدبّر».

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 300

المقام الثّالث: اللعب بغير أدوات القمار مع المراهنة

و له مصاديق كثيرة سواء ما يعدّ عند الصبيان لعبا، أو الألعاب الرياضية، و غيرها، ممّا فيه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 238، الباب 102، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 301

أغراض عقلائية، بل حلّ بعض المسائل العلمية أو الأدبية. و لا كلام في الحرمة الوضعية فيها، لأنّها من الأكل بالباطل، إنّما الكلام في حرمتها التكليفية، فقد ادّعي عدم الخلاف فيه أيضا، و لكن الظاهر من الجواهر عدم حرمته من هذه الجهة، بل لم ينقل فيه مخالفا «1»، و بين ما ذكره و ما حكي عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه من الحرمة و الفساد، و نفي

الخلاف فيه تهافت ظاهر.

بل ذكر في الجواهر أنّه لو أخذ الرهن الذي فرض لهذا القسم بعنوان الوفاء بالوعد، و مع طيب نفس الباذل لا بعنوان أنّ المقامرة المزبورة أوجبته … أمكن القول بجوازه، نعم هو مشكل في القسم الأوّل «2».

هذا و لكن يرد علي ما أفاده قدّس سرّه:

أوّلا: إنّه خارج عن المتنازع فيه، لأنّ الرضا غير الجاري علي العقد لا دخل له بما نحن بصدده، و يجري في كلّ معاملة فاسدة.

و ثانيا: لم لا يجري مثل ذلك في الصورة الاولي.

و ثالثا: ما ذكره من عدم الحرمة تكليفيا ينافي ما سيأتي من حرمة المسابقة مع الرهان إلّا في ثلاث، الظاهر في الحرمة التكليفية.

و علي كلّ حال العمدة في الحكم بالفساد الوضعي أصالة الفساد و عدم دخوله تحت عقد إلّا السبق الذي ينحصر بموارد خاصّة.

كما أنّ العمدة في الفساد التكليفي أمران:

الأوّل- ما دلّ علي حرمة الرهان إلّا في ثلاثة، مثل ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق عليه السّلام: «إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلي الحافر و الخفّ و الريش و النصل، و قد سابق رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم اسامة بن زيد و أجري الخيل» «3».

الظاهرة في الحرمة التكليفية و الوضعية معا.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 109.

(2). المصدر السابق، ج 22، ص 110.

(3). وسائل الشيعة، ج 13، ص 347، الباب 1، من أبواب السبق و الرماية، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 302

و ما رواه العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: « … و لا بأس بشهادة المرهن عليه، فانّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و

آله و سلم قد أجري الخيل و سابق و كان يقول: إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش، و ما سوي ذلك فهو قمار حرام» «1».

و الأولي و ان كانت مرسلة و الثانية ضعيفة بعلاء بن سيّابة، إلّا أنّ ظاهر الأصحاب الاستناد إليهما، و لذا أطلق علي الاولي «المعتبرة» أطلقه في الجواهر في كتاب السبق، و قال إنّ ضعفها منجبر بالشهرة، بل و عمل الكلّ «2» لا سيّما و انّ الصدوق رحمه اللّه أسنده إلي الصادق عليه السّلام علي طريق الجزم، و كفي بجميع ذلك.

و قد يستدلّ بما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ليس شي ء تحضره الملائكة إلّا الرهان و ملاعبة الرجل أهله «3».

و الإنصاف إنّ عدم حضور الملائكة عند غيره لا يدلّ علي الحرمة.

ثمّ إنّ ظاهر كلمات القوم في كتاب السبق هو الحرمة التكليفية أيضا في غير الثلاث:

الخفّ و الحافر و النصل.

الثّاني- شمول عنوان القمار له لعدم اختصاصه بما يكون بآلات خاصّة، قال في لسان العرب راهنه (غلبه) و كذلك في القاموس، نعم في مجمع البحرين (القمار: اللعب بالآلات المعتدة له) و في المنجد «قمر راهن و لعب في القمار» و هو ينافي ما مرّ في القاموس و لسان العرب في الجملة، و يؤيّد شمول العنوان لما نحن فيه إطلاقه عليه كما في رواية العلاء بن سيّابة الآنفة الذكر حيث جاء في ذيلها «و ما سوي ذلك فهو قمار حرام».

و لكن لا يبعد كون ذلك من باب الإلحاق حكما، لا موضوعا.

و ما ورد في الحديث من أبواب ما يكتسب به من إطلاق القمار علي الرهن في البيض «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، ص 349، الباب 3،

من أبواب السبق و الرماية، ح 3.

(2). جواهر الكلام، ج 28، ص 221.

(3). المصدر السابق، ص 347، الباب 2، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 119، الباب 35، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 303

و في حديث آخر من أنّ «كلّما تقومر به حتّي الكعاب و الجوز داخل في الميسر» «1».

و في الحديث أنّه عليه السّلام كان ينهي عن الجوز يجي ء به الصبيان من القمار «2».

و كذا التعبير بالمقامرة بالجوز و البيض في حديث آخر «3».

و هذه الروايات و ان كانت ناظرة إلي الحكم الوضعي، إلّا أنّه إذا أطلق عليه القمار حقيقة تلزمه الحرمة التكليفية أيضا.

اللهمّ إلّا أن يقال: لو سلمنا عموم القمار للعب مع الجوز و البيض و شبههما، و لكنّه لا يلزم منه شموله لمثل المسابقات المختلفة، لصحّة سلب عنوان القمار عنهما عرفا إلّا من باب الإلحاق الحكمي.

و من هنا و من إختلاف كلام اللغويين في ذلك يبعد الجزم بالعموم موضوعا، فالاعتماد علي شمول عنوان القمار له مشكل، نعم في الدليل الأوّل غني و كفاية، فالحرمة الوضعية و التكليفية ثابتتان هنا و ان لم يصدق عليها عنوان القمار.

و استدلّ بعضهم للجواز وضعا بما في مصحّحة محمّد بن قيس في المؤاكلة (أي المسابقة علي الأكل) و هي:

ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قضي أمير المؤمنين عليه السّلام في رجل أكل و أصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، و ان لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا، فقضي فيه أنّ ذلك باطل لا شي ء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ما كثر و منع غرامته فيه» «4».

نظرا إلي حكمه

بعدم الغرامة من دون ذكر الحرمة التكليفية.

و الإنصاف أنّه لا يزيد علي الإشعار بعد كونها ظاهرة في مقام بيان الحكم الوضعي دون التكليفي سواء قلنا أنّ المؤاكلة نوع عقد باطل كسائر أنواع الرهان (كما هو الظاهر) أو مركّبة من إباحة معوضة علي تقدير، و إباحة بغير ضمان علي تقدير آخر، كما قيل (في وجه ضعيف

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 119، الباب 35، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 120، ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7.

(4). الفروع من الكافي، ج 7، ص 428، باب النوادر من كتاب القضاء و الأحكام، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 304

عندنا، لأنّه مخالف للظاهر) و علي كلّ حال هذا الإشعار لا يقاوم ما مرّ من دليل الحرمة كما لا يخفي.

نعم، أورد عليها بأنّ كونها بصدد بيان الحكم الوضعي أيضا مشكل، لأنّه علي فرض البطلان فانّ نفس الأكل محرّم، فكيف لم يمنع منه؟ اللهمّ إلّا أن يقال أنّه كان بعد مضي الوقت و الخروج عن محلّ الابتلاء، و لكن يرد عليه إشكال آخر، و هو حكمه عليه السّلام بعدم الضمان و عدم الغرامة مع أنّه ممّا يضمن بصحيحة (كما في الخفّ و الحافر و النصل) فيضمن بفاسده، اللهمّ إلّا أن يقال أنّه إباحة مع شرط فاسد، فإذا فسد الشرط لم تفسد نفس الإباحة. فتأمّل.

و بالجملة سكوت الرواية عن حرمة نفس العمل و عن حرمة الأكل و تصريحها بعدم الغرامة إيرادات ثلاث عليها، و يجاب عن الأوّل و الثاني بعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، و عن الثالث بما عرفت من أنّه من قبيل الإباحة مع شرط فاسد، و لكن مع ذلك لا

تخلو عن تكلّف، لأنّ قوله: لا شي ء في المؤاكلة … كقاعدة كليّة، و ان كانت ناظرة إلي نفي الغرامة إلّا أنّ سكوته عن الأمرين علي القول بحرمتهما أو حرمة الثاني ممّا يبعد توجيهه، فالأولي ردّها إلي أهلها لشذوذها.

المقام الرّابع: اللعب بغير الآلات بدون المراهنة

هل يجوز اللعب بغير أدوات القمار بدون المراهنة، سواء كان له أغراض عقلائية كما في الألعاب الرياضية، أو كان مجرّد لهو.

المحكي عن الأكثر عدم الجواز، بل قد يظهر من بعض ما حكي عن التذكرة الإجماع عليه، و لكن مال في المسالك إلي الجواز، و كذا غير واحد ممن تأخّر، و قال في الجواهر:

الظاهر عدم حرمته مع عدم الرهان «1» من دون إشارة إلي وجود الخلاف في المسألة.

و ذكر الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في كتاب السبق في المسألة 2 المسابقة بالمصارعة بعوض

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 109.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 305

لا تجوز، و في المسألة الثالثة المسابقة بالطيور بعوض لا تجوز «1».

و تقييدهما بالعوض مشعر بجوازه عنده بدون العوض، و المشهور بين العامّة هو الجواز.

و علي كلّ حال فالأقوي جوازه، و يدلّ علي ذلك الأصل، بل السيرة المستمرّة كما ذكره في الجواهر من العوام و العلماء في المغالبة بالأبدان و غيرهما «2».

و ما روي من مغالبة الحسنين عليهما السّلام بمحضر النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم «3» بل و ما روي من عمل النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم من طرق العامّة مع بعض من المسابقة علي الأقدام «4».

و ما حكي من مكاتبة الحسنين عليهما السّلام (المسابقة في الكتابة و جودة الخطّ) و التقاطهما خرز قلادة امّهما عليهم السّلام «5».

و العمدة هو الأصل، و قد يدعي الخروج عنه لأمور:

أوّلها- صدق

القمار عليه، و فيه إنّه لا شكّ في صحّة سلب هذا العنوان عنه، و كيف يقال بأنّ المغالبة بالأبدان أو المسابقة بالأقدام قمار؟ و لو أطلق عليه أحيانا كان مجازا قطعا لما عرفت.

ثانيها- ما دلّ علي نفي السبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل، مثل ما رواه ابن أبي عمير عن حفص عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل، يعني النضال» «6».

و مثله الحديث الثاني و الرابع من الباب 3 و هي تشمل مع الرهان و بدونه.

و فيه: أوّلا: أنّه يحتمل «السبق» بالفتح فيكون صريحا في المراهنة، و ثانيا: لو قرأ بالسكون بمعني نفس المسابقة كان أيضا منصرفا إليه، أو إنّ القدر المتيقّن منه هو كذلك، و لذا ذكر الرهن عليه في الحديث الثالث من الباب نفسه و أطلق القمار عليه.

ثالثها- ما مرّ في النهي عن اللعب بالشطرنج و النرد من التعليل بأنّه من الباطل.

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 109.

(2). المصدر السابق، نقلا عن ذخائر العقبي، ص 134.

(3). المغني، ج 1، ص 127.

(4). مستدرك الوسائل، ج 14، ص 81، كتاب السبق و الرماية، الباب 4، ح 1.

(5). الجواهر، ج 28، ص 221.

(6). وسائل الشيعة، ج 13، ص 348، الباب 3، من أبواب السبق و الرماية، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 306

و لكن قد عرفت أنّ الباطل بمعني ما ليس له غرض عقلائي ليس حراما قطعا، و أعمال الناس زاخرة به لا سيّما مزاحهم و دعاباتهم.

و ثانيا: إنّ كثيرا من المغالبات لها أغراض عقلائية، فالجواز ممّا لا ينبغي الشكّ فيه.

المقام الخامس: المراهنة بغير اللعب بالآلات

ما كان فيه بعض آثار القمار، و هو المراهنة من دون أي لعب،

بل يكون من طريق القرعة، أو جعل بعض الجوائز، كما في الاستقسام بالأزلام و اليانصيب.

أمّا الاستقسام بالأزلام فهو كما قاله المفسّرون نوع من القمار كان في الجاهلية يأخذون عشرة أقداح (و هي المراد بالأزلام جمع زلم علي وزن قلم) سبعة منها لها نصيب، و ثلاثة ليس لها نصيب، ثمّ يأخذون جزورا فيذبحونه و يقسّمونه أجزاء و يجتمع عشرة أشخاص، فيسهمون السهام، فلكلّ من السبعة نصيب خاصّ (مختلف أو متساو) و علي كلّ من الثلاث ثلث قيمة الجزور، من دون أن يكون لهم نصيب، و كان هذا حراما، و أكلا للمال بالباطل، و الظاهر حرمته تكليفية و وضعية معا.

حكم اليانصيب:

أمّا «اليانصيب» فيتصوّر فيه صور:

1- أن يعطي كلّ واحد مبلغا و يجتمع المال، فيقرعون أنفسهم، فيعطي من خرجت القرعة باسمه، فيقسّم جميع المال بينهم.

2- أن يقسّم كذلك مع أخذ شي ء منه للقائمين به أو الحكومة كما هو المعمول، و للقائمين سهم كثير مجحف!

3- أن يعطي كلّ واحد بقصد الإعانة لمقاصد صالحة كبناء المستشفيات و المدارس و غيرها، فيكون من قبيل الإعانة علي هذا الأمر من دون عوض و من دون شرط، و لكن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 307

العاملين يقتسمون شيئا منها بالقرعة لتشويقهم إلي هذا الأمر، و هذا يتحقّق من طريق إعلامهم بذلك بينهم.

أمّا الاولي و الثانية فمحرّمتان قطعا، لكونهما أكلا للمال بالباطل، و شمول أدلّة حرمة الاستقسام بالأزلام لهما مع الغاء الخصوصية، و شمول أدلّة حرمة القمار له حكما لا موضوعا، لبعض التعليلات الواردة فيها، فتدبّر.

و الثانية أشدّ حرمة، لما فيه من غصب الحقوق و الإجحاف علي الناس!

و أمّا الثالثة فالظاهر إنّه لا مانع منه إذا لم يشترط أي شرط، و لا مانع إذا

كان الداعي هو أخذ الجوائز من دون شرط، و لا تشمله أدلّة الاستقسام و لا غيرها كما هو ظاهر.

بقي هنا شي ء، و هو حكم المأخوذ بالقمار و اليانصيب الحرام، فالظاهر أنّه من قبيل المأخوذ بالعقد الفاسد، و المفروض أنّه ممّا يضمن بصحيحة (و هو العقد السابق الصحيح) فيضمن بفاسده.

و ان شئت قلت: إنّه ليس من قبيل التسليط المجّاني كما في الهبة الفاسدة، فان كانت عينه موجودة فلا بدّ من ردّها، و إلّا ردّ مثلها أو قيمتها، و ان لم يعرف صاحبه تصدّق عنه (علي ما هو المعروف في مجهول المالك).

16- القيادة

و المراد منها جمع الرجل و المرأة علي الحرام، و لا شكّ في حرمتها بالإجماع و العقل و السنّة، أمّا السنّة فمثل:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني عن القوّاد ما حدّه؟ قال «لا حدّ علي القوّاد، أ ليس إنّما يعطي الأجر علي أن يقود؟» قلت: جعلت فداك إنّما يجمع بين الذكر و الانثي حراما! قال: «ذاك المؤلّف بين الذكر و الانثي حراما»، فقلت: هو ذاك.

قال: «يضرب ثلاثة أرباع حدّ الزاني خمسة و سبعين سوطا و ينفي من المصر الذي هو فيه» «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 429، الباب 5، من أبواب حدّ السحق و القيادة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 308

2- و في خبر آخر: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم الواصلة و الموتصلة، يعني الزانية و القوّادة في هذا الخبر» «1».

و قد ورد تحت عنوان «الدياثة» في بعض الأخبار، فهي من الكبائر التي ورد فيها حدّ، و حدّها كما عرفت ثلاث أرباع حدّ الزاني، و هي من

الإعانة علي الإثم المحرّم بلا إشكال، و في بعض الأحاديث لعنه أيضا «2».

و لا شكّ في حرمة ثمنها أيضا للقاعدة التي عرفتها غير مرّة «3».

17- القيافة

و المراد منه الاستناد إلي علامات توجب الحاق بعض الناس ببعض، و قد ادّعي عدم الخلاف في حرمتها، بل عن المنتهي و غيره دعوي الإجماع عليه، بل قد ادّعي في الجواهر منافاته لما هو كالضروري من الشرع من عدم الالتفات إلي هذه العلامات، بل ذكر أنّ الوجدان أعدل شاهد علي عدم مطابقة القيافة للنسب «4».

و الكلام تارة من حيث ترتيب الأثر في المناكح و المواريث و غيرها، و اخري من حيث التعليم و التعلّم من دون حكم بها، و الأوّل ممّا لا كلام فيه بيننا، و ان حكي عن العامّة الاعتناء به إجمالا، و يدلّ علي مذهب الأصحاب:

1- أصالة عدم الحجيّة في كلّ طريق يشكّ في حجيّته- كما هو المقرّر في الاصول.

2- شهادة الوجدان بعدم مطابقته للواقع.

3- أدلّة الحاق الولد للفراش.

4- أدلّة اللعان، فانّها شاهدة علي الإلحاق، و عدم الاعتناء بشي ء في مقابل الفراش.

5- بعض الأحاديث الخاصّة مثل:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 18، ص 430، الباب 5، من أبواب حدّ السحق و القيادة، ح 2.

(2). المصدر السابق، ج 12، ص 94، الباب 19، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(3). و هي: انّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

(4). الجواهر، ج 22، ص 92.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 309

ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» قال: قلت: فالقيافة (فالقافة) قال: «ما أحبّ أن تأتيهم … » «1».

أمّا الثّاني:

فمقتضي الأصل جوازه، إلّا أن يكون مظنّة للشكّ في الأنساب، و مثارا للتهمة، و أمّا حديث زكريا بن يحيي التي استند إليها للجواز في الأوّل الذي رواه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في مكاسبه فضعيف، منكر، لا دلالة له علي المقصود، و الأولي ترك التعرّض لنقله.

بقي هنا شي ء، و هو أنّه لا يجوز التعويل علي قول الأطباء في إلحاق الأولاد بواسطة تحليل الدم و شبهه، لأنّ كلّ ذلك ظنون لا دليل علي اعتبارها، و المعيار قاعدة «الولد للفراش» و حصول الظنّ من هذه الأسباب أحيانا غير كاف في الإلحاق و عدمه، فانّه لا يغني من الحقّ شيئا، إلّا ما ثبت بالدليل.

18- الكذب
اشارة

الكذب من الامور المحرّمة التي لا يكتسب بها إلّا نادرا، و فيه مقامات:

المقام الأوّل: في أدلة حرمة الكذب

فقد ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه أنّه حرام بضرورة العقول و الأديان، و تدلّ عليه الأدلّة الأربعة (انتهي) «2».

أمّا من كتاب اللّه فهناك عشرات من الآيات تدلّ علي حرمة الكذب و كونه من أعظم الظلم، و أشدّ القبائح، و لكن كلّها أو جلّها واردة في تكذيب اللّه أو رسله أو نسبة امور إليه تعالي كذبا، أو تكذيب الآخرة، كقوله تعالي: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَريٰ عَلَي اللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ إِنَّهُ لٰا يُفْلِحُ الظّٰالِمُونَ … «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 108، الباب 26، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المكاسب المحرّمة، ص 49.

(3). سورة الأنعام، الآية 21.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 310

و مثل قوله تعالي: إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْكٰاذِبُونَ «1».

و قد استدلّ بالأخير علي حرمته علي الإطلاق، لأنّ ظاهرها مطلق في بدو النظر، و لكن الدقّة فيما سبقها من الآيات تدلّ علي أنّ المراد منه الكذب علي اللّه أو علي أوليائه، مثل قوله تعالي: وَ إِذٰا بَدَّلْنٰا آيَةً مَكٰانَ آيَةٍ وَ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُنَزِّلُ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ «2».

و قوله تعالي: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ … «3».

فلا ينبغي الشكّ في كونها ناظرة إلي ما ذكرنا، نعم قد يستفاد الإطلاق من قوله تعالي:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِليٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ وَ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ «4».

و لكن الظاهر منه أيضا عند التأمّل ما ذكرنا.

و أمّا السنّة، فهي كثيرة غاية الكثرة، عامّة شاملة لجميع أنواع الكذب، من

غير اختصاص بالكذب علي أولياء اللّه أو غيره.

منها روايات كثيرة أوردها في الوسائل في الأبواب 138 و 139 و 140 و 141 تربو علي 38 حديثا، كثير منها دليل علي المطلوب، و ستأتي الإشارة إلي كثير منها في الأبحاث الآتية و أوضحها الروايات التالية:

1- ما رواه سيف بن عميرة عمّن حدّثه علي أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير، في كلّ جدّ و هزل، فانّ الرجل إذا كذّب في الصغير اجترأ علي الكبير! … » «5».

2- ما رواه أصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتّي يترك الكذب هزله و جدّه» «6».

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 105.

(2). سورة النحل، الآية 101.

(3). سورة النحل، الآية 103.

(4). سورة التوبة، الآية 77.

(5). وسائل الشيعة، ج 8، ص 576، الباب 140، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(6). المصدر السابق، ص 577، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 311

3- ما رواه الحارث الأعور عن علي عليه السّلام قال: «لا يصلح من الكذب جدّ و لا هزل، … » «1».

4- ما رواه محمّد بن الحسن باسناده الآتي عن أبي ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له قال:

«يا أبا ذرّ! من ملك ما بين فخذيه و ما بين لحييه دخل الجنّة»، قلت: و إنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا؟ فقال: «و هل يكبّ الناس علي مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم … يا أبا ذرّ ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له … » «2».

5- ما رواه محمّد بن علي

بن الحسين قال: «من ألفاظ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أربي الربا الكذب!» «3».

6- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل للشرّ أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شرّ من الشراب» «4».

7- ما رواه ابن أبي ليلي عن أبيه عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكذب هو خراب الإيمان» «5».

8- ما رواه الخصال باسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي … و الكذب … » «6».

9- و ما رواه في عيون الأخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان في كتابه إلي المأمون قال:

«الإيمان هو أداء الأمانة و … و اجتناب الكبائر … و الكذب» «7».

و في المجلّد التاسع من المستدرك في الباب 120 و 121 و 122 من أبواب أحكام العشرة أيضا عشرات من الأحاديث و في البحار ج 69 ص 232 الباب 114 نقل 48 حديثا فيها روايات مطلقة جيّدة «8».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 577، الباب 140، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 577، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 574، الباب 138، ح 12.

(4). المصدر السابق، ص 572، ح 3.

(5). المصدر السابق، ح 4.

(6). وسائل الشيعة، ج 11، ص 262، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 36.

(7). المصدر السابق، ص 260، ح 33.

(8). و في بعض الطبعات ج 72.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 312

و لا يضرّ ضعف سند كثير منها بعد كونها متظافرة متكاثرة، بل متواترة.

و الإجماع بل ضرورة الدين أيضا قائمة عليه، و ما

قد يقال بإمكان استنادها إلي ما ذكر من الروايات، لا يصغي إليه إذا بلغ الحكم من الوضوح إلي حدّ الضرورة.

و أمّا من العقل، فهو أيضا واضح، لأنّ قبحه من المستقلات العقلية، و لكن قد يظهر من بعض الأكابر الوسوسة بل الإنكار في إطلاق حكم العقل به، فقال: لا يحكم العقل بحرمة الكذب بعنوانه الأوّلي مع قطع النظر عن ترتّب المفسدة و المضرّة عليه، و كيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التي لا تترتّب عليها مفسدة دنيوية أو اخروية «1».

و لكن الإنصاف أنّ حرمة الكذب عند العقلاء ليست لمجرّد المفاسد المترتّبة عليها، مضافا إلي أنّه يوجب سلب الاعتماد و الاطمئنان بين الأفراد الذي هو الحجر الأساس للمجتمع الإنساني، و أي شخص يشكّ في قبح فعل من يذكر في حقّ أبيه آلافا من المناقب مع أنّه لم يكن فيه شي ء منها بل كان فيه ما خالفها لمجرّد أنّه لا تترتّب عليه أيّة مفسدة.

لا سيّما إذا شاع ذلك بين الناس، فالعقلاء يذمّون مثل هذا الشخص، بل مع قطع النظر عن التبعات فانّه يوجب وهن شخصيّة صاحبه و حقارته في نفسه و سقوطه عن أعين الناس، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في قبحه عقلا و ان كانت بعض الحالات الطارئة قد تستوجب حسنه كما سيجي ء إن شاء اللّه.

هذا مضافا إلي إمكان القول بحرمته بحكم العقلاء مضافا إلي حكم العقل، بأن يقال إنّ بناءهم قائم علي تحريمه، و الأحكام العقلائية كثيرا ما تدور مدار المصالح و المفاسد الغالبة لا الدائمة كما في أحكام الشرع، فكثيرا ما تكون المصلحة أو المفسدة بعنوان الحكمة لا العلّة في حكم العقلاء، و حيث أنّه يوجب الفساد غالبا حكموا بمنعه دائما، فتأمّل.

المقام الثّاني: في كون الكذب من الكبائر مطلقا أو في الجملة:

لا شكّ

أنّ كثيرا من مصاديق الكذب من الكبائر، كالكذب علي اللّه و رسوله، و الذي يظهر

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 385.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 313

من الآيات كونه من أشدّ المحرّمات، و كذا ما يترتّب عليه مفاسد عظيمة، كإيجاد الخلاف بين المسلمين و الضرر عليهم، و ما أشبه ذلك، و أمّا ما ليس كذلك فقد نقل الشيخ الأعظم قدّس سرّه عن الفاضلين و الشهيد الثاني قدّس سرّه إطلاق كونه من الكبائر «1»، بل لعلّه يظهر من غيرهم أيضا، و لكنّه قدّس سرّه تردّد في بعض كلماته في ذلك، و اجترأ بعض الأكابر ممّن تأخّر عنه علي إنكار كونه بإطلاقه من الكبائر.

و لكن الإنصاف ظهور غير واحد من أدلّة حرمته في كونه كبيرة مطلقا، و هي روايات مضي بعضها، منها:

1- ما رواه فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة … و اجتناب الكبائر و هي … الكذب» «2».

2- الأعمش عن جعفر بن محمّد في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة (منها) الكذب» «3».

و لكن أورد عليهما بضعف السند تارة، و ضعف الدلالة اخري، لعدم كون إطلاقهما في مقام البيان.

أمّا الثّاني فواضح الدفع، لعدم فرق بينه و بين سائر المطلقات، مضافا إلي ورود التقييد في غير واحد من فقراتهما، و هو دليل علي كونها في مقام البيان.

أمّا الأوّل فهو بالنسبة إلي رواية الأعمش واضح، و أمّا الثّاني بالنسبة إلي رواية الفضل فقد حكي أنّ الصدوق رحمه اللّه له ثلاثة طرق إلي الفضل بعضها ضعيف و بعضها مقبول، فتأمّل.

و العمدة أنّ الروايات فيما نحن فيه كثيرة مستفيضة لا تصل النوبة إلي هذه الامور.

3- ما رواه محمّد

بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «اللّه عزّ و جلّ جعل للشرّ أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، و الكذب شرّ من الشراب» «4».

و القول بأنّ كلّ فرد من افراد الكذب ليس شرّا من الشراب ممنوع «أوّلا» بأنّ ملاحظة

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 50.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 260، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 33.

(3). المصدر السابق، ص 262، ح 36.

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 572، الباب 138، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 314

النسبة من بعض الجهات كما في نظائره، و كفي بذلك في المقصود، و «ثانيا» إنّ الكذب الذي ليس فيه مفسدة في مورده قد تكون فيه مفاسد بحسب نوعه إذا صار راسخا في الإنسان.

4- ما رواه أبو ليلي عن أبيه عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكذب هو خراب الإيمان» «1».

5- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين عليهم السّلام باسناده قال و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول:

«ألا فأصدقوا إنّ اللّه مع الصادقين و جانبوا الكذب فانّه يجانب الإيمان … ألا و انّ الكاذب علي شفا مخزاة و هلكة … » «2».

6- ما رواه أبو ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في وصيّة له، قال: «يا أبا ذرّ! من ملك ما بين فخذيه و بين لحييه دخل الجنّة»، قلت: و أنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا. فقال: «و هل يكبّ الناس علي مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم … يا أبا ذرّ ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له ويل له … » «3».

7- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في

أماليه مرسلا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا سوء أسوأ من الكذب» «4».

8- ما رواه يونس رفعه إلي أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «يا علي أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد و الحرص و الكذب» «5».

9- ما رواه أبو بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ العبد ليكذب حتّي يكتب من الكذّابين، و إذا كذب قال اللّه كذب و فجر» «6».

10- مرسلة أبي محمّد العسكري عليه السّلام قال: «جعلت الخبائث في بيت و جعل مفتاحه الكذب» «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 572، الباب 138، من أبواب أحكام العشرة، ح 41.

(2). المصدر السابق، ص 574، ح 13.

(3). المصدر السابق، ص 577، الباب 140، ح 4.

(4). البحار، ج 69، ص 259، باب الكذب، ح 23.

(5). المصدر السابق، ص 261، ح 31.

(6). المصدر السابق، ص 262، ح 39.

(7). المصدر السابق، ص 263، ح 46.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 315

11- مرسلة الراوندي قال النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أربي الربا الكذب … » قال: يا رسول اللّه المؤمن يكذب؟ قال: «لا، قال اللّه تعالي إِنَّمٰا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «1» و «2».

12- و عن جامع الأخبار قال عليه السّلام: «إيّاكم و الكذب فانّ الكذب يهدي إلي الفجور و الفجور يهدي إلي النار … » «3».

إلي غير ذلك من الروايات الكثيرة جدّا، و الاستبعاد بأنّه كيف تكون كبيرة مع أنّه قد لا تترتّب عليه أيّة مفسدة قد عرفت الجواب عنه، و أنّه بنوعه يترتّب عليه مفاسد عظيمة نهي الشارع عنه لذلك و جعله كبيرة.

و غاية ما يمكن الاستدلال

به لعدم كونه مطلقا من الكبائر امور:

1- ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب علي اللّه و علي رسوله من الكبائر» «4».

2- و ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب علي اللّه و علي رسوله و علي الأوصياء عليهم السّلام من الكبائر» «5».

و فيه: أنّها من مفهوم اللقب.

3- و ما رواه جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن آبائه (في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام): «يا علي من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» «6».

و الجواب هو الجواب.

4- ما رواه سيف بن عميرة عمّن حدّثه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان علي بن الحسين عليهما السّلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه و الكبير في كلّ جدّ و هزل فانّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ علي الكبير أما علمتم أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: … و ما

______________________________

(1). البحار، ج 69، ص 263، باب الكذب، ح 47.

(2). سورة النحل، الآية 105.

(3). البحار، ج 69، ص 263، باب الكذب، ح 48.

(4). وسائل الشيعة، ج 8، ص 575، الباب 139، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 576، ح 6.

(6). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 316

يزال العبد يكذب حتّي يكتبه اللّه كذّابا» «1».

و لعلّ هذه الرواية علي خلاف المدّعي أدلّ، لأنّه بيان للمفسدة النوعية التي أشرنا إليها.

5- و استدلّ الشيخ الأعظم قدّس سرّه أيضا بصحيحة عبد الرحمن الحجّاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الكذّاب هو الذي يكذب في الشي ء؟ قال: «لا، ما من أحد

إلّا يكون ذاك منه، و لكن المطبوع علي الكذب» «2».

أضف إلي ذلك كلّه أنّ كبر الكذب و صغره باعتبار ما يترتّب عليه من المفاسد.

و فيه «أوّلا» إنّه لا أثر فيه ممّا ذكر من كونه باعتبار ما يترتّب عليه.

و «ثانيا» هو بصدد بيان الكذّاب و تعريفه، و لا دخل له بما نحن بصدده، يعني أنّ مجرّد صدور كذب من إنسان لا يوجب كونه داخلا في الكذّاب، حتّي يترتّب عليه عقابه، لصدور ذلك من كلّ أحد.

فلا يصحّ الاستدلال بشي ء من ذلك علي عدم كونه من الكبائر، بل هو كبيرة مطلقا.

المقام الثّالث: الكذب هزلا

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في أوّل كلامه في المقام خروجه عن حكم الكذب، و لكن مال في آخر كلامه إلي حرمته «3».

و فصل بعض الأساتذة بين ما إذا أخبر بوقوع شي ء هزلا، كأن يخبر بقدوم مسافر ليتهيّأ له السامع، فيضحك مثلا، و نفي الشبهة عن كونه حراما، و اخري ينشأ بعض المعاني بداعي الهزل من دون قصد الحكاية عن واقع ليكون إخبارا، كما إذا أطلق «البطل» علي فرد جبان أو العالم علي الجاهل و قصد به الهزل، و ذكر أنّه لا دليل علي حرمته مع نصب القرينة «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 576، الباب 140، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 573، الباب 138، ح 9.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 50.

(4). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 389.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 317

و فصل آخر بين المحفوف بقرينة مقالية أو حالية، كما إذا أعدّ المجلس للهزل، و ما إذا لم يكن كذلك، مدّعيا انصراف الأدلّة عنه، بل لم يكتف بذلك حتّي ادّعي عدم حرمته إذا لم يفد المخاطب شيئا، و لم يكن

فيه اغراء، كما إذا أخبر ببرودة النّار و حرارة الماء!

أقول: الإنصاف أنّه لا محصّل للتفصيل بين كونه اخبارا و إنشاء، لأنّ جميع ما ذكر من قبيل الإخبار قطعا، و البطولة و العلم و أشباههما ليست من الامور الإنشائية التي تحصل بمجرّد الإنشاء، و كذا تطبيق هذه الأوصاف علي بعض الموارد.

هذا مضافا إلي ما سيأتي من احتمال جريان الصدق و الكذب في بعض الإنشائيات أيضا، فانتظر.

كما أنّ دعوي الانصراف في أدلّة الكذب ممنوعة، و ليت شعري ما الفرق بين الكذب و سائر المحرّمات؟ فانّ لها أيضا مصاديق قليلة الفساد أو خالية عن الفساد ظاهرا كمن شرب قطرة من الخمر، أو غصب حبّة من حنطة أو وطأ خطوة أرض الغير بغير رضاه، فهل تعدّ هذه ذنوبا صغارا؟ و هل يلاحظ الفرق بين المصاديق؟ و هل فصّل فيها أحد؟

و هكذا الفرق بين ما لا يفيد السامع شيئا و غيره.

و بالجملة لا تدور المحرّمات مدار المفاسد الفردية، بل النوعية، فإذا شمل عنوانها لمصداق جري عليه حكمه.

بل يمكن الاستدلال علي العموم بروايات خاصّة:

1- منها رواية سيف بن عميرة الآنفة الذكر (1/ 140) و فيها بيان كون المفسدة نوعية.

2- منها ما رواه الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لا يجد عبد طعم الإيمان حتّي يترك الكذب هزله و جدّه» (2/ 140) و حمله علي الاستحباب كما ذكره في المصباح كما تري.

3- و منها ما رواه أبو ذرّ عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: « … ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم» (4/ 140).

و رميها بضعف السند مشكل بعد كونها متظافرة.

نعم، إذا قامت القرائن الحالية أو المقالية علي إرادة المجاز أو الكناية

من اللفظ، و لو

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 318

لكونه في مقام الهزل، خرج من عنوان الكذب لوجود القرينة كما هو ظاهر، فالأحوط لو لم يكن أقوي وجوب الاجتناب عن الجميع، إلّا في موارد قيام القرينة ممّا لا يسمّي كذبا.

المقام الرّابع: هل يجري حكم الكذب في الإنشاء؟
اشارة

المعروف عدم جريان الصدق و الكذب في الإنشائيات، و لكن يحكي عن كاشف الغطاء (رضوان اللّه عليه) جريان حكم الكذب في الإنشاء و انّ الكذب و إن كان من صفات الخبر، إلّا أنّ حكمه يجري في الإنشاء المنبئ عنه، كمدح المذموم و ذمّ الممدوح، و تمنّي المكاره، و ترجّي غير المتوقّع و إيجاب غير الموجب. انتهي.

و ظاهر عبارة الشيخ الأعظم قدّس سرّه ميله إليه لعدم ردّه «1».

و لكن صرّح بعض المعاصرين ممّن تأخّر عنه نفي كون الإنشاء متّصفا بهما، بينما يظهر من غيره أنّ الكذب علي قسمين: حقيقي و ادّعائي حكمي، فكلّما كان له نوع كشف عن الواقع و لو كان من قبيل الإنشائيات داخل في الكذب حكما، و محرّم إلّا ما استثني.

أقول: الذي يستفاد من الإطلاقات العرفية إطلاق عنوان الكذب علي الأخبار و الإنشاء كليهما و ان كان المعروف المشهور في ألسن أهل العلم عدم اتّصاف الإنشاء بهما، بل هو المأخوذ في تعريف الإنشاء و الإخبار.

فإذا قال القائل: فيا ليت الشباب يعود يوما … مع انّا نعلم أنّه يكره عود الشباب إليه قطعا، نقول أنّه يكذب في قوله هذا، أو قال: يا ليت زيدا حاضر هنا، مع انّا نعلم شدّة عداوته له، أو قال: تعالي تغدّ معنا. و نحن نعلم أنّه لا يريده. نقول أنّه كاذب في هذا القول.

فالظاهر دخول الصدق و الكذب في الإنشائيات غالبا، لا لأنّ مفاده الذي هو أمر إيجادي

قابل للاتّصاف بالصدق و الكذب، بل لما يلازمه من الإخبار، فان التمنّي ملازم للإخبار بحبّ الشي ء، كما أنّ الأمر بشي ء ملازم لإرادته، و الاستفهام عن شي ء ملازم للجهل به، و جريان الصدق و الكذب بعنوان ملازمه.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 50.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 319

هذا و لكن شمول أدلّة الحرمة للوازم الكلام محلّ تأمّل، فمن قال: آه من ذنوبي، فلازمه الإخبار بخوفه منها، فإذا علمنا بأنّه لا يخاف فهل يمكننا القول أنّه يكذب و لا يخاف اللّه؟

الظاهر أنّ أدلّة الحرمة لا تشمل لوازم الكلام و لا أقل من الشكّ، فالأصل البراءة و أمّا الوعد و حقيقته فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

حكم الوعد:

يظهر من بعض آيات القرآن الكريم و كثير من الروايات أنّ الوفاء بالوعد من الواجبات.

أمّا من القرآن- فقوله تعالي: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» فانّ الوعد نوع من العهد.

و كذلك قوله تعالي: لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ «2».

بناء علي عدم انحصار مفادها بقول خال عن العمل، و شمولها بعمومها للوعد أيضا، و ليس ببعيد، لا سيّما بملاحظة صحيحة هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

عدّة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، و لمقته تعرّض، و ذلك قوله:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ «3».

و أمّا السنّة فهي كثيرة جدّا منها:

1- ما رواه شعيب العقرقوفي عن أبي عبد للّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف

إذا وعد» «4».

2- و ما رواه الحارث الأعور عن علي عليه السّلام قال: «لا يصلح من الكذب جدّ و لا هزل و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا يفي له … » «5».

______________________________

(1). سورة الإسراء، الآية 34.

(2). سورة الصفّ، الآية 2.

(3). وسائل الشيعة، ج 8، ص 515، الباب 109، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

(4). المصدر السابق، ح 2.

(5). المصدر السابق، ص 577، الباب 140، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 320

و يظهر منه أنّه جعل خلف الوعد من الكذب.

و هناك روايات اخري كثيرة ذكرها المجلسي في بحار الأنوار تدلّ علي المطلوب «1».

3- و ما رواه في نهج البلاغة: و إيّاك و المنّ علي رعيّتك … أو أن تعدهم فتتبّع موعدك بخلفك، فانّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيد يذهب بنور الحقّ، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس، قال اللّه سبحانه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ» «2».

هذا و لكن ذكر لزوم الوفاء بالوعد من حقوق الاخوّة في بعض الأخبار يضعف دلالتها علي الوجوب، مثل ما جاء في البحار في أحاديث متعدّدة فراجع «3».

و قد يقال أنّ السيرة العملية و الشهرة بين الأصحاب علي عدم الوجوب، و لو كان ذلك واجبا لاشتهر و بان مع شدّة الابتلاء به، و الإنصاف أنّه يشكل رفع اليد عن هذه الظواهر بمجرّد هذه الامور، فالأحوط الوفاء بالوعد.

هذا و لكن يظهر من كلماتهم في أبواب النذر أنّ التزام شي ء علي نفسه لا يكون ملزما إلّا إذا كان الالتزام للّه.

قال في الجواهر بعد كلام له في المقام: و في قواعد الفاضل لو قال: «عليّ كذا و لم يقل للّه، استحبّ له الوفاء، و لعلّه

لأنّه طاعة، … و علي كلّ حال فالأمر سهل من انّ الحكم مستحبّ، و الفرض إن لم يكن نذرا منعقدا فهو وعد أو شبه الوعد» «4».

و يظهر من هذه العبارة تسالمهم علي أنّ الوعد أو شبه الوعد لا يجب الوفاء به و انّ ما كان للّه يجب الوفاء به.

بل لعلّه يظهر من بعض روايات أبواب النذر أنّ مجرّد الالتزام علي النفس بشي ء لا يجب الوفاء به إلّا ما كان للّه، و لا يبعد شموله لبعض أفراد الوعد، بل لجميعه، فلعلّ ما يدعي من السيرة أو الشهرة أو الإجماع نشأ من هنا، و إليك هذه الروايات:

1- ما رواه مسلم بن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام … و سئل عن الرجل

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 72، ص 79- 91، الباب 47، من أبواب لزوم الوفاء بالوعد و العهد.

(2). نهج البلاغة، الكتاب 53.

(3). بحار الأنوار، ج 72، ص 92 و 93 و 96.

(4). الجواهر، ج 35، ص 375.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 321

يحلف بالنذر و نيّته في يمينه التي حلف عليها درهم أو أقل، قال: «إذا لم يجعل اللّه فليس بشي ء» «1».

2- و ما رواه خالد بن جرير عن أبي الربيع قال: سئل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقول للشي ء يبيعه: أنا أهديه إلي بيت اللّه قال: فقال: «ليس بشي ء كذبة كذبها» «2».

3- ما رواه سعيد بن عبد اللّه الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحلف بالمشي إلي بيت اللّه و يحرم بحجّة و الهدي، فقال: «ما جعل للّه فهو واجب» «3».

4- و ما رواه إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي

جعلت علي نفسي شكرا للّه ركعتين اصلّيهما في السفر و الحضر أ فأصلّيهما في السفر بالنهار. فقال: «نعم»، ثمّ قال:

«إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل علي نفسه «، قلت: إنّي لم أجعلهما للّه عليّ، إنّما جعلت ذلك علي نفسي اصلّيهما شكرا للّه، و لم اوجبهما علي نفسي، أ فأدعهما إذا شئت؟

قال: «نعم» «4».

5- ما رواه السندي بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: جعلت علي نفسي مشيا إلي بيت اللّه. قال: «كفّر عن يمينك، فإنّما جعلت علي نفسك يمينا و ما جعلته للّه فف به» «5».

6- و ما رواه ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل تكون له الجارية فتؤذيه امرأته و تغار عليه، فيقول: هي عليك صدقة. قال: «إن جعلها للّه و ذكر اللّه فليس له أن يقربها، و ان لم يكن ذكر اللّه فهي جاريته يصنع بها ما شاء» «6».

و من هنا يشكل الحكم بوجوب الوفاء بكلّ عهد و وعد و ان كان الأحوط استحبابا ذلك.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 183، الباب 1، من أبواب النذر، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 184، ح 8.

(4). المصدر السابق، ص 189، الباب 6، ح 1.

(5). المصدر السابق، ص 192، الباب 8، ح 4.

(6). المصدر السابق، ص 201، الباب 17، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 322

بقي هنا شي ء، و هو إنّه قد يقال: إنّ الوعد علي أقسام، تارة يخبر عن عزمه علي الوفاء بشي ء، كأن يقول انّي عازم علي أن اعطيك كذا و كذا.

و اخري أن ينشئ ما التزمه، بأن يقول: لك عليّ كذا.

و ثالثة أن

يخبر عن الوفاء بأمر مستقبل، كقوله: أجيئك غدا «1».

هذا و لكن الوعد ليس شيئا منها، بل هو إنشاء و التزام فعل لغيره علي نفسه في المستقبل، بأن يقول: أجيئك غدا لا بقصد الإخبار، بل بقصد الإنشاء و الالتزام، و من هنا يعلم أنّ أدلّة حرمة الكذب لا تشمله (فتأمّل فانّه حقيق به).

نعم، هنا إطلاق آخر من هذا العنوان، فيقال: وعد صادق أو كاذب، إذا وفي بعهده أو لم يف به، و هذا صدق و كذب في العمل لا دخل له بالقول الذي هو محلّ الكلام، فتدبّر.

المقام الخامس: الكلام في التورية

«التورية» في اللغة بمعني الستر و الإخفاء، يقال: وري الشي ء، أي أخفاه عن غيره، و لكن في مصطلح الفقهاء هو: ذكر لفظ و إرادة معناه الواقعي مع قصد القاء المخاطب في غيره (و هو علي قسمين: ما يكون في مقام الضرورة، و اخري في غيرها).

و قد يعبّر عنه في كلمات فقهاء العامّة و الخاصّة بالمعاريض، جمع «المعراض» بمعني ستر شي ء عن شي ء آخر، و أمثلته كثيرة، و لكن من ألطفها ما حكي عن بعض علماء الشيعة أنّه سئل عن الخليفة بعد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم فأراد بيان الحقّ مع إخفاء ظاهره لبعض المسائل قال:

«من بنته في بيته».

و قال الشاعر:

خير الوري بعد النبي من بنته في بيته

من في دجي ليل العمي نور الهدي في زيته

و مثله ما هو المعروف من كلام عقيل: «أمرني معاوية بلعن علي عليه السّلام ألا فالعنوه!».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 390.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 323

و ما يحكي عن سعيد بن جبير قال في جواب الحجّاج: ما تقول في حقّي؟ قال: «أنت قاسط عادل» ففرح الحاضرون، و لكن فهم

الحجّاج المعني، و قال: أمّا القاسط فإشارة إلي قوله تعالي: وَ أَمَّا الْقٰاسِطُونَ فَكٰانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً «1» (و القسط ممّا له معنيان متضادّان) و أمّا العادل فهو إشارة إلي قوله تعالي: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «2» (بمعني جعل العدل و الشريك له) فحكم بظلمي و كفري! إلي غير ذلك في أشباهها.

و قد يمثّل له بقول القائل في مقام الإنكار «علم اللّه ما قلته» يريد ما الموصولة و السامع يحسبه ما النافية.

و لكن الإنصاف أنّ التلفّظ بهما مختلف في النطق كما لا يخفي علي الخبير، نعم في الكتابة متوافقان.

و علي كلّ حال، فقد وقع الخلاف في حكمه، و يظهر من كثير منهم خروج التورية عن الكذب، بل ذكر بعضهم أنّه لا شبهة فيه.

و لكن عن المحقّق القمّي قدّس سرّه أنّه داخل في الكذب، و العلّة في ذلك هو الخلاف في حقيقة الصدق و الكذب، فان قلنا إنّ المعتبر في اتّصاف الخبر بالصدق و الكذب هو مطابقة ما قصده المتكلّم للواقع و عدمها، فهو ليس من الكذب، لأنّه قصد معناه الواقعي و ان قلنا إنّ المعيار هو مطابقة ظاهره للواقع فهو كذب (و لا دخل له بالنزاع المشهور من أنّ المعيار مطابقته للواقع أو لاعتقاد المتكلّم).

و ما حكي عن أكثر الأصحاب في باب المسوغات أنّه إنّما يسوغ الكذب إذا لم يقدر علي التورية، و إنّها ليست كذبا لا يخلو عن إشكال.

أقول: الحقّ أنّ التورية علي قسمين:

فتارة يكون الكلام بظاهره قابلا لاستعماله في كلّ منهما كما في اللفظ المشترك، و كما في مرجع الضمير المستعمل في الكلام في الأمثلة المتقدّمة، فانّ الرجوع إلي كلّ ما ذكر في الكلام جائز، و ان كان الأقرب أولي، و لكن ليس

لازما، و كما في لفظ «هنا» الذي يقوله

______________________________

(1). سورة الجنّ، الآية 15.

(2). سورة الأنعام، الآية 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 324

الإنسان من وراء الباب «انّ فلانا ليس هنا» و مراده خلف الباب، و لكن المخاطب بسبب بعض ما في ذهنه من الاعتقادات أو التخيّلات ينتقل إلي فرد لا يريده المتكلّم، أو بسبب كثرة استعماله في فرد خاص، و لكن لم يبلغ حدّ الوضع و شبهه.

و قد لا يحتمل الكلام ذلك المعني إلّا مجازا أو ببعض القيود، و لكن يريد المتكلّم منه ذلك، كما إذا قال المتكلّم: أنا ما أكلت اليوم شيئا، و أراد حالة النوم فانّ الكلام بظاهره نفي مطلق لا يحتمل الفرد الخاص، و استعماله في خصوص حال النوم غير جائز إلّا ببعض القيود.

أو قال: اليوم رأيت أسدا، و قصد بذلك رجلا شجاعا مع عدم إقامة قرينة حالية أو مقالية عليه.

أو قال: فلان مجتهد جامع الشرائط، و أراد أنّه قريب الاجتهاد.

و الحقّ أنّ القسم الأوّل داخل في الصدق، و الثاني داخل في الكذب، يشهد له مراجعة الوجدان و ملاحظة كلمات العرف.

فمن قال: هذا الدار ملك لي، و أراد به الإجارة، و ملك المنافع، كان كاذبا، أمّا إذا قال: إنّ يدي خالية، ففهم المخاطب الكناية عن عدم مال له، و لكن أراد المعني الحقيقي، و هو خلو يده عن الأشياء الظاهرة كالكتاب و السبحة و غيرهما كان صادقا.

فإذا، الحقّ ما ذكره المحقّق القمّي قدّس سرّه في هذا المقام، و السرّ في ذلك أنّ الوضع يقتضي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي، أو المجازي مع القرينة، فمن فعل غيره كان كاذبا، و العمدة هو فهم العرف، و تبادر ما ذكرنا من لفظ الكذب.

و الخلط بين

هذين القسمين صار منشأ للخلاف في حكم التورية، بل و في تفسير الصدق و الكذب في الأخبار، و لعلّ المشهور أيضا أرادوا ما ذكرنا، فتأمّل.

و الحاصل، أنّ التورية علي قسمين: قسم منها جائز مطلقا، و قسم لا يجوز إلّا عند الضرورة.

نعم يبقي هنا بعض ما ورد في روايات الباب، فما عدّ دليلا للقول الأوّل و هو الجواز مطلقا هي الروايات التالية:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 325

1- ما رواه عبد اللّه بن بكير بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يستأذن عليه، فيقول للجارية: قولي «ليس هو هاهنا» قال: «لا بأس ليس بكذب» «1».

و من الواضح أنّه داخل في القسم الأوّل ممّا ذكرنا، لاشتراك الإشارة بين تمام الدار و خلف الباب.

2- و ما رواه في كتاب الإحتجاج إنّه سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ في قصّة إبراهيم عليه السّلام: قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ «2» قال: «ما فعله كبيرهم و ما كذب إبراهيم»، قيل: و كيف ذلك؟ فقال: «إنّما قال إبراهيم فاسألوهم ان كانوا ينطقون، إن نطقوا فكبيرهم فعل، و إن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا و ما كذب إبراهيم» «3».

3- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه في العلل باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال في تفسير هذه الآية إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ: «إنّهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا تري أنّهم حين قالوا: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا سرقتم صواع الملك» «4».

4- و ما رواه سويد بن حنظلة قال: خرجنا و معنا وائل بن حجر نريد النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم

فأخذه أعداء له و تحرّج القوم أن يحلفوا فحلفت باللّه أنّه أخي، فخلي عنه العدو، فذكرت ذلك للنبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقال: «صدقت المسلم أخ المسلم» «5».

و الظاهر أنّ الأخير من قبيل ما ذكرنا، لأنّ الأخ يستعمل في المعنيين استعمالا ظاهرا (مضافا إلي أنّه كان في مقام الاضطرار).

و كذا ما قبله، لأنّ الشرط كما يمكن أن يكون قيدا للسؤال، يمكن أن يكون قيدا للفعل.

هذا و ممّا يؤيّد المختار إطلاق الأخبار المجوّزة للكذب عند الضرورة و عدم استثناء إمكان التورية، و وجهه أنّ التورية علي ما ذكرنا قليلة الموارد لا تجري إلّا فيما كان هناك كلام ذات وجهين، و أمّا علي مبني القوم فهي كثيرة بحسب المصداق.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 580، الباب 141، من أبواب أحكام العشرة، ح 8.

(2). سورة الأنبياء، الآية 63.

(3). بحار الأنوار، ج 69، ص 240، الباب 114، من أبواب الكذب، (في شرح ح 4، ص 237).

(4). المصدر السابق، ص 241.

(5). الخلاف، ج 2، ص 459، المسألة 60، من كتاب الطلاق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 326

بقي هنا شي ء:

و هو ما حكي في سورة الأنبياء عن إبراهيم عليه السّلام من قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ … «1» و كذا ما حكاه اللّه تعالي عنه في سورة الصافات من قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ «2» و في سورة يوسف: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ «3» هل هو داخل في مسألة التورية، أو كذب جائز للإصلاح و الهداية؟ لسان الروايات فيه مختلف:

ففي بعضها يظهر منه الاحتمال الأوّل، أي التورية، فإنّه قال: «إن نطقوا فكبيرهم فعل» «4».

و يظهر من بعضها أنّه كان من التقية.

و لكن

صريح غير واحد منها أنّه كان من الكذب الجائز، للإصلاح و أنّه «لا كذب علي مصلح» «5».

و في غير واحد منها نفي الفعل و الكذب كليهما عن إبراهيم و يوسف حيث قال «ما فعل كبيرهم و ما كذب» - «و ما كانوا سرقوا و ما كذب» و تحقيق ذلك:

أوّلا: إنّ الكلام في قضيّة يوسف لم يكن منه، و لا دليل علي أنّه كان بإذنه، و لعلّ المؤذّن لما فقد صواع الملك حصل له سوء ظنّ باخوة يوسف، و قال ما قال، و عدم نهي يوسف عنه لو كان بمرآه لعلّه لمصلحة هناك.

و في قضيّة إبراهيم عليه السّلام «و نظرة في النجوم … » لعلّه كان مصابا بالحمّي أو شبهها تنوبه في أوقات معيّنة، فأراد تعيين وقتها كما قيل، و إلّا لا ربط لسقمه بمسألة النجوم، فلم يكن كاذبا، فتبقي مسألة نسبة الفعل إلي كبير الأصنام، و سيأتي جوابها.

و ثانيا: يجوز أن يكون المراد سرقة يوسف من أبيه، فتأمّل.

و أمّا نسبة الفعل إلي الصنم الكبير لعلّه كان مشروطا بنطقهم، فتدبّر.

______________________________

(1). سورة الأنبياء، الآية 63.

(2). سورة الصافات، الآية 88.

(3). سورة يوسف، الآية 70.

(4). راجع تفسير البرهان، ج 2، ص 65، (ذيل الآية).

(5). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 327

هذا و الأولي بعد تعارض الأخبار في هذا الباب أن يقال: إنّ الكذب إنّما يكون فيما إذا لم تكن هناك قرائن محفوفة بالكلام تدلّ علي كون المراد منه الاستهزاء بالأصنام أو شبهه، أو الكناية عن عدم قدرتها علي شي ء و إلّا لم يقع مصداق الكذب كما مرّ شرحه آنفا.

المقام السّادس: في مسوغات الكذب
الأوّل من مسوغات الكذب: ما كان للضرورة
اشارة

الذي يظهر من كلماتهم أنّ العناوين المحرّمة علي قسمين: ما يكون قبحه ذاتيا لا يختلف بالوجوه و الاعتبار،

و مثّلوا له بالظلم، و ما يختلف بذلك و جعلوا الكذب منها.

و لكن هذا التقسيم قابل للتأمّل، لأنّ كلّ شي ء غير الكفر و هدم الدين- الذي هو أكبر الكبائر- ليست حرمته ذاتية حتّي لو كان ظلما، فلذا يجوز أكل مال الغير في المخمصة، و الهجوم علي المسلمين إذا تترّس الكفّار بهم في الحرب بشرائطه مع أنّ وقوع الظلم عليه حينئذ واضح، و لو اجيب عن الأوّل، فلا يمكن الجواب عن الثاني، نعم وجود الغرض الأهمّ رخّص هذا الظلم.

فغالب المحرّمات أو جميعها إلّا ما ذكر يكون جائزا عند طروّ عنوان أهمّ منه، و الكذب منه قطعا، و بعبارة اخري عند دوران الأمر بين أمرين محرّمين يؤخذ بالأقوي منهما فيترك و يعمل بالآخر، و كذا إذا دار الأمر بين محرّم و واجب، و هناك كثير من الواجبات و المحرّمات أقوي ملاكا من الكذب، فيجوز ارتكاب الكذب لحفظها.

و هذا هو الدليل العمدة في هذا الباب، و الاضطرار و الإكراه و دوران الأمر بين الأمرين كلّها، تندرج تحت عنوان الضرورة، خلافا لبعض الأعلام.

و هناك روايات كثيرة و بعض الآيات تدلّ علي جواز ذلك أيضا، مضافا إلي الإجماع المعلوم حاله في أمثال المقام.

أمّا من الآيات فقد استدلّ له بقوله تعالي: مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ … «1».

______________________________

(1). سورة النحل، الآية 106.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 328

و لكن الظاهر أنّها لا تشتمل علي مسألة الكذب، بل هي ناظرة إلي إظهار البراءة التي هي من قبيل الإنشاء، إلّا أن يتمسّك بالأولوية، هذا مضافا إلي اختصاصها بمورد الخوف علي النفس، و ليست عامّة.

و بقوله تعالي: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً … «1».

و الظاهر أنّها أيضا بصدد أمر آخر، و هو اتّخاذ الكفّار أولياء، و المحبّة إليهم، و تزاورهم و إعانتهم، إلّا أن يقال: إنّ ذلك لا ينفكّ عن الكذب غالبا، و هو كما تري.

هذا مضافا إلي ما مرّ في نظيره في الآية السابقة من أنّها خاصّة ببعض الموارد.

نعم هناك روايات كثيرة عامّة أو خاصّة تدلّ علي المطلوب، و لكن فيها ما يدلّ علي عدم الحرمة تكليفا، مضافا إلي عدم التأثير وضعا في مثل الطلاق و غيره، و بعضها عام يشملها.

و من الأوّل:

1- ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «احلف باللّه كاذبا و نجّ أخاك من القتل» «2».

2- و ما رواه زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: نمرّ بالمال علي العشّار، فيطلبون منّا أن نحلف لهم و يخلون سبيلنا، و لا يرضون منّا إلّا بذلك، قال: فاحلف لهم فهو أحلي من التمر و الزبد «3».

3- و ما رواه الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز (يجوز) بذلك ماله. قال: «نعم» «4».

4- و ما رواه الحلبي عن الصادق عليه السّلام: اليمين علي وجهين، إلي أن قال: «فأمّا الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكفّارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرء

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 28.

(2). وسائل الشيعة، ج 16، ص 134، الباب 12، من كتاب الإيمان، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 135، ح 6.

(4). المصدر السابق، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة

(لمكارم)، ص: 329

مسلم، أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّي عليه، من لصّ أو غيره» «1».

5- و ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: نحلف لصاحب العشور نجيز بذلك مالنا؟ قال: «نعم» «2».

6- و ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا حلف الرجل تقيّة لم يضرّه إذا هو اكره و اضطرّ إليه. و قال: ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «3».

و من الثّاني:

1- ما رواه إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف، قال: «لا جناح عليه، و عن رجل يخاف علي ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه، قال لا جناح عليه»، و سألته: هل يحلف الرجل علي مال أخيه كما يحلف علي ماله؟ قال: «نعم» «4».

2- و ما رواه مسعدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما آمن باللّه من و في لهم بيمين!» «5».

3- و ما رواه فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون قال: «و التقيّة في دار التقيّة واجبة، و لا حنث علي من حلف تقيّة يدفع بها ظلما عن نفسه» «6».

4- و ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل حلف للسلطان بالطلاق و العتاق، فقال: «إذا خشي سيفه و سطوته فليس عليه شي ء، يا أبا بكر! إنّ اللّه عزّ و جلّ يعفو، و الناس لا يعفون» «7».

5- و ما رواه محمّد بن أبي نصر جميعا عن أبي الحسن عليه السّلام في الرجل يستكره علي اليمين فيحلف بالطلاق و العتاق

و صدقة ما يملك، أ يلزمه ذلك؟ فقال: «لا»، فقال: قال

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 135، الباب 12، من كتاب الإيمان، ح 9.

(2). المصدر السابق، ص 137، ح 19.

(3). المصدر السابق، ح 18.

(4). نفس المدرك، ص 134، ح 1.

(5). المصدر السابق، ح 5.

(6). المصدر السابق، ص 135، ح 10.

(7). المصدر السابق، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 330

رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «وضع عن أمّتي ما اكرهوا عليه و ما لم يطيقوا و ما أخطئوا» «1».

6- و ما رواه معاذ بيّاع الأكسية، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نستحلف بالطلاق و العتاق فما تري؟ أحلف لهم؟ فقال: «احلف لهم بما أرادوا إذا خفت» «2».

و من الثالث:

1- ما رواه أبو الصباح قال: و اللّه لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «إنّ اللّه علّم نبيّه التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عليا عليه السّلام قال: و علّمنا و اللّه، ثمّ قال: ما صنعتم من شي ء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة» «3».

2- و ما رواه يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السّلام في رجل حلف تقيّة فقال: «إن خفت علي مالك و دمك فاحلف تردّه بيمينك، فان لم تر أنّ ذلك يردّ شيئا فلا تحلف لهم» «4».

3- و ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّا نمرّ علي هؤلاء القوم فيستحلفونا علي أموالنا و قد أدّينا زكاتها، فقال: «يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا»، قلت:

جعلت فداك بالطلاق و العتاق. قال: «بما شاءوا» «5».

4- و ما رواه الأعمش

عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: « … و لا كفّارة علي من حلف تقيّة يدفع بذلك ظلما عن نفسه» «6».

هذا مضافا إلي ما دلّ علي نفي الضرر و الحرج في الدين و جواز المحرّمات عند الضرورة.

هذا، و قد يورد علي الاستدلال بها بأنّ مورد الإخبار غير منطبق علي المراد، فانّ ظاهرها جواز الحلف لمطلق المال، و ليس هذا من الضرورة، و أوضح منه الحلف لدفع الضرر عن الغير «7».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 16، ص 136، الباب 12، من أبواب كتاب الإيمان، ح 12.

(2). المصدر السابق، ح 13.

(3). المصدر السابق، ص 134، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 136، ح 14.

(6). وسائل الشيعة، ج 11، ص 464، الباب 24، من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 21.

(7). راجع المكاسب للإمام قدّس سرّه، ج 2، ص 80.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 331

و لم يكتف بهذا حتّي أورد عليه بأنّ عنوان الاضطرار و الإكراه و الدوران بين المحذورين غير عنوان الضرورة.

و لكن الإنصاف أوّلا: إنّ الضرورة في اللغة و العرف لها معني عام يشمل الإكراه و دوران الأمر بين الأمرين، و هو عين الاضطرار، فليس هنا عناوين أربعة. فانّ الإنسان إنّما يتّقي (في التقيّة الخوفية) إذا رأي نفسه في خطر فاضطرّ إليها، و كذا الإكراه لا يكون إلّا بالتوعيد، و دوران الأمر أيضا كذلك، مثلا إذا أراد الإنسان ترك الغصب وقعت نفسه في الهلاك عند المخمصة و الجماعة، و إذا أراد حفظ نفسه لزمه ارتكاب الغصب، و حيث يكون أحدهما أهمّ، فيصدق عليه عنوان الاضطرار.

ثانيا- حفظ المال الكثير يعدّ ضرورة، و أمّا المال اليسير فالظاهر

انصراف الأخبار عنه.

كما أنّ حفظ أموال الأخ المسلم أيضا كذلك إذا كان ممّا يعتدّ به، فكلّ ذلك داخل في معني الضرورة بالمعني المطلق.

و هذا كلّه واضح، إنّما الكلام في أنّه هل تجب التورية عند الضرورة، بحيث لا يسوغ الكذب إلّا عند العجز عنه، أو يجوز مطلقا؟

حكي عن المشهور وجوبها، و استدلّ له بأمرين يرجعان إلي واحد في الحقيقة:

أحدهما: إنّ الملاك في جواز الكذب تحقّق الضرورة، و مع إمكان التورية لا ضرورة.

ثانيهما: إنّ قبح الكذب عقلي، فلا يجوز إلّا بعروض عنوان حسن عليه، و لا يعرض هذا العنوان إلّا إذا كان الطريق منحصرا في الكذب، لا ما إذا أمكن التورية.

و لكن في مقابل هذين الدليلين إطلاق الروايات الكثيرة التي ليس فيها عين من هذا الشرط و لا أثر، و من البعيد تقييد جميعها، و لذا مال الشيخ الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته إلي جواز ذلك من دون قيد، و دفع الدليل العقل بأنّه لا مانع من توسّع الشارع علي العباد بجواز الكذب عند الضرورة مطلقا بعد كون التورية موجبة للعسر و الحرج إجمالا.

و لكن مال أخيرا إلي كلام المشهور، و احتاط فيها أخذا بالقاعدة، و أمر بالتأمّل في ذيل كلامه الذي يظهر منه الترديد آخر الأمر.

و التحقيق في المسألة أن يقال: إنّ المشكل نشأ من ناحية عدم التفسير الصحيح للتورية،

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 332

فقد عرفت أنّها لا تجري إلّا فيما يحتمل الكلام لمعنيين بحسب ذاته، و لكن ينصرف ذهن المخاطب إلي واحد منهما، لبعض ما في ذهنه ممّا هو خارج عن الكلام، و القرائن الموجودة فيه بحسب موازين التكلّم، مثلما عرفت من كلام عقيل لمعاوية و شبهه، أو شهرة أحد المعاني شهرة

لم تبلغ حدّ الظهور توجب انصراف ذهن المخاطب مع أنّ مراد المتكلّم غيره، إلي غير ذلك.

و من الواضح أنّ التورية بهذا المعني لا تنفق إلّا في موارد خاصّة قليلة، فعدم ذكرها في الروايات إنّما هو لتعرّضها للمصاديق الغالبة التي لا توجد فيها التورية بطبيعة الحال.

نعم، إذا فسّرناها بما ذكرها شيخنا الأعظم قدّس سرّه و أتباعه (من إرادة معني صحيح من الكلام و ان كان الكلام ظاهرا بحسب الوضع أو القرائن في غيره) فقلّما يتّفق مورد لا يمكن فيه التورية كما لا يخفي، و هذا هو مفتاح حلّ المسألة، فالحقّ مع المشهور، و عدم ذكرها في الأخبار المجوّزة لا يوجب محذورا، لأنّها ناظرة إلي الأفراد الغالبة التي لا يمكن فيها التورية.

فإطلاقات الحرمة بحالها لا يتعدّي منها إلّا عند الاضطرار، و هو منحصر فيما لا يمكن التخلّص بالتورية.

بقي هنا شي ء، و هو إنّه قد يقال أنّ روايات الباب لا دخل لها بما نحن فيه، فانّها بصدد جواز الحلف عند الضرورة، توضيحه:

«إنّ الحلف عبارة عن جملة إنشائية يؤتي بها لتأكيد الجملة الإخبارية أو الإنشائية، و لمّا ورد في الكتاب العزيز النهي عن جعل اللّه عرضة للأيمان، و ورد في الروايات النهي عنه صادقا أو كاذبا، يمكن أن يكون ذلك منشأ للشبهة في أنّ اليمين غير جائزة حتّي لإنقاذ المال و التخلّص من العشّار و غيره، فأجابوهم بالجواز، و لا ربط لما بما يقارنه من الأخبار، فهي أجنبية عمّا نحن بصدده».

و هذا كلام عجيب، فان جعل اللّه عرضة للأيمان حتّي في موارد الصدق لم يكن أمرا محرّما، و هذا معلوم لكلّ أحد بدليل شيوعه حتّي في كلمات المعصومين عليهم السّلام و ان كان مرجوحا في بعض الموارد، مع أنّ

ظاهر الأخبار كونه محرّما في غير الضرورة، هذا أوّلا.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 333

و أمّا ثانيا، فللتصريح في غير واحد منهما بكون المراد الحلف كاذبا (فراجع الأحاديث 4/ 12 و 9/ 12 و 13/ 12 و 14/ 12 التي مرّت عليك آنفا).

بقي هنا امور:

الأوّل: ظاهر أخبار الباب بل صريحها بطلان الطلاق و سائر الإيقاعات و العقود الواقعة عن إكراه و شبهه، و جواز الحلف لها، و هل يعتبر عدم القدرة علي التورية هنا أيضا كما اعتبرناه في ناحية الحكم التكليفي؟ ظاهر المشهور عدمه، بل قد يسند إلي إجماعهم، فحينئذ يأتي الكلام في الفرق بين المسألتين.

قد يقال: الفرق إنّما هو بين عنوان «الإكراه» و «الاضطرار»، فانّ الاضطرار لا يصدق إلّا عند عدم المفرّ، و لكن الإكراه صادق في الصورتين، و تبطل العقود كلّها عند الإكراه.

و الأولي أن يقال: إنّ المعاملات تدور مدار الرضا، و مع الإكراه لا يكون هناك رضا، سواء قدر علي التورية، أو لا، و أمّا الحكم التكليفي في الكذب فانّه يرد مدار الضرورة و عدم طريق آخر.

و الظاهر أنّ البيان الأوّل الذي ذكره الشيخ أيضا يعود إليه و إن توهّم تباينهما.

الثّاني: ذكر شيخنا الأعظم في بعض كلماته أنّ المسوّغ للكذب هو المسوّغ لسائر المحرّمات … نعم يستحبّ تحمّل الضرر المالي اليسير …

قلت: هو كذلك بعد ما عرفت أنّ المدار في الجميع عنوان «الضرورة و الاضطرار» و انّ أخبار الكذب لا تدلّ علي أكثر منه و تستثني منها صورة القدرة علي التورية بالمعني الذي عرفت.

و لكن ليعلم أنّ نفي الضرر عن الأخ المؤمن أيضا يعدّ ضرورة كما هو واضح بالوجدان، كما أنّ الظاهر أنّها منصرفة عن الضرر اليسير و ناظرة إلي الضرر الكثير.

الثّالث:

يبقي الكلام فيما صدر عن المعصومين عليهم السّلام عند التقيّة و أنّها كذب مجاز للضرورة، أو في جميعها نوع من التورية، أو مجاز مع إخفاء القرينة أو شبه ذلك؟

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 334

و التحقيق أنّ التقيّة علي أقسام:

الف) تقيّة المؤمنين في العمل في مقابل الأعداء.

ب) تقية المؤمنين قولا كذلك.

و جلّ روايات التقيّة أو كلّها ناظرة إليهما (فراجع كتاب الأمر بالمعروف من الوسائل ج 11 الباب 24 و غيره).

ج) تقيّة المعصومين عليهم السّلام بأنفسهم في العمل في مقابل أعداء اللّه، و ليس شي ء من هذه محلا للكلام.

د) تقيّتهم في الأقوال و بيان بعض الأحكام.

و هذا قد يكون مثل أمر علي بن يقطين بالوضوء علي خلاف مذهبه الذي كان حكما ثانويا له كسائر الأحكام الثانوية الاضطرارية، و هو حكم مطابق للواقع في هذه المرحلة، و لعلّ كثيرا ممّا صدر منهم تقيّة كان كذلك.

و اخري يكون من قبيل المجاز مع القرينة الحالية بأن كانت هناك شرائط و ظروف خاصّة تدلّ علي أنّه عليه السّلام لم يكن قادرا علي بيان الواقع، و قد عرفت أنّ ذلك ليس من الكذب.

و ثالثة ما لا يكون من هذا و لا ذاك، فيأتي فيه أنّه تورية أو كذب مجاز، فالأولي أن يقال:

لم يثبت مصداق لهذا القسم الأخير، و بعبارة اخري: ما ثبت من تقيّتهم إمّا كان من قبيل القسم الأوّل، أو ما كان محفوفا بالقرائن و ان لم تصل تلك القرائن إلينا، أو ما كان فيه التورية.

أمّا ما عدي ذلك بحيث يعدّ كذبا جائزا لهم فهو غير ثابت.

الثّاني من مسوغات الكذب: ما كان للإصلاح
اشارة

و قد أجمع علماء الإسلام عليه إجمالا، كما حكي عنهم، و لا بدّ من ملاحظة أدلّته أوّلا حتّي يري مقدار دلالتها.

فنقول و

منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية: يمكن الاستدلال له بالأدلّة الأربعة: أمّا من كتاب اللّه العزيز فقوله تعالي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «1».

______________________________

(1). سورة الحجرات، الآية 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 335

لكن الظاهر أنّه لا إطلاق فيها من ناحية الوسائل و الأسباب التي يتوسّل بها للإصلاح، كما هو الحال في سائر الواجبات و المندوبات، و ليس لها إطلاق حتّي يقع التعارض بينها و بين أدلّة الكذب بالعموم من وجه، ثمّ يرجع فيه إلي الرواية أو غيرها كما قيل «1».

بل العمدة في ذلك هي الروايات الواردة مع دليل العقل، فانّ حال الإجماع في هذه المسائل أيضا معلوم، أمّا العقل فهو من باب دوران الأمر بين الأهمّ و المهمّ، فلا ريب أنّ الإصلاح بين المؤمنين أهمّ، أمّا الروايات فهي علي طوائف:

منها ما دلّ علي جواز الكذب عند إرادة الإصلاح بين الناس، مثل:

1- ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: «يا علي إنّ اللّه أحبّ الكذب في الصلاح، و أبغض الصدق في الفساد «إلي أن قال» يا علي: ثلاث يحسن فيهنّ الكذب: المكيدة في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس» «2».

2- ما رواه المحاربي عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «ثلاثة يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب، و عدتك زوجتك، و الإصلاح بين الناس … » «3».

3- ما رواه عيسي بن حسّان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوما

إلّا كذبا في ثلاثة … أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الإصلاح ما بينهما … » «4».

4- و ما رواه أبو يحيي الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس»، قال: قيل له: جعلت فداك ما الإصلاح بين الناس؟ قال: «تسمع من الرجل كلاما يبلغه فتخبث نفسه، فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه» «5».

و هذه الروايات تتعاضد بعضها ببعض.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 415.

(2). وسائل الشيعة، ج 8، ص 578، الباب 141، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). المصدر السابق، ص 579، ح 5.

(5). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 336

و منها: ما دلّ علي جوازه لمن أراد الإصلاح بقول مطلق، سواء كان الإصلاح بين الناس، أو إصلاح امور اخر، و ان لم يكن هناك خلاف، مثل:

1- ما رواه معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المصلح ليس بكذّاب» «1».

2- و ما رواه الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا قد روينا عن أبي جعفر عليه السّلام في قول يوسف عليه السّلام أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ فقال: «و اللّه ما سرقوا و ما كذب و قال إبراهيم عليه السّلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ فقال: «و اللّه ما فعلوا و ما كذب». فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت ما عندنا فيها إلّا التسليم! قال:

فقال: «إنّ اللّه أحبّ اثنين، و أبغض اثنين، أحبّ

الخطر فيما بين الصفّين، و أحبّ الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطر في الطرقات، و أبغض الكذب في غير الإصلاح، انّ إبراهيم عليه السّلام إنّما قال بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا إرادة الإصلاح و دلالة علي انّهم لا يفعلون و قال: يوسف عليه السّلام إرادة الإصلاح» «2».

3- و ما رواه عطاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لا كذب علي مصلح، ثمّ تلا أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ ثمّ قال و اللّه ما سرقوا و ما كذب، ثمّ تلا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ ثمّ قال: و اللّه ما فعلوه و ما كذب» «3».

4- و ما رواه معاوية بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّه قال له: «أبلغ أصحابي كذا و كذا و أبلغهم كذا و كذا». قال قلت: فانّي لا أحفظ هذا، فأقول ما حفظت و لم أحفظ أحسن ما يحضرني، قال: «نعم المصلح ليس بكذّاب» «4».

و منها: ما دلّ علي جوازه لمن نفع المؤمنين، و الظاهر أنّ الأخير يعود إلي ما قبله، كما أنّ الأوّل داخل في عموم الثاني.

ثمّ أنّه هل يستفاد منها معني أعمّ ممّا يستفاد من حكم العقل، أو يقتصر علي ما كان هناك غرض أهمّ في نظر الشارع؟ الإنصاف عدم استفادة أكثر من ذلك، لأنّ الظاهر أنّها بأجمعها

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 578، الباب 141، من أبواب أحكام العشرة، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 579، ح 4.

(3). المصدر السابق، ح 7.

(4). المصدر السابق، ص 580، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 337

ناظرة إلي حكم العقل من مراعاة

الأهمّ عند التزاحم و لا إطلاق لها، و لا أقل من الشكّ، فيقتصر علي موارد وجود الأهمّ، فلا يكفي كلّ إصلاح في تجويز كلّ كذب، إلّا ما كان له شأن بحيث يكون أهمّ، و من هنا يمكن إرجاع هذا و موارد الضرورة إلي شي ء واحد و اندراجهما تحت عنوان جامع.

بقي هنا امور:

الأوّل: ما ورد من جواز الكذب في وعد الزوجة أو في مطلق الأهل، و هي: 1/ 141 و 2/ 141 و 5/ 141 التي مرّت عليك آنفا، و الكلام فيها في جواز العمل بإطلاقها، أو لا؟

أمّا إذا كان علي سبيل الإنشاء، فقد عرفت أنّه خارج عن محلّ الكلام و ان صدق عنوان الصدق و الكذب فيه بمعني آخر، و أمّا إذا كان في صورة الخبر فظاهر هذه الأخبار جوازه مطلقا، و الأولي الاقتصار علي موارد الضرورة لعدم الدليل الواضح علي أكثر منه، و يشكل العمل بالإطلاق مع القرينة العقلية.

الثاني: يجوز الكذب عند المكيدة في الحرب المصرّح به في روايات الباب (1 و 2 و 5/ 141) بل هو داخل في مسألة الأهمّ و المهمّ لما يترتّب عليه من الآثار كما لا يخفي علي الخبير.

الثالث: و يجوز الكذب أيضا عند أخذ الإقرار من المفسدين و الماكرين الذين يمكرون اللّه و رسوله و ان لم يكن هناك حرب، و كذا الكذب لكشف الامور المهمّة إذا كان داخلا في قاعدة الأهمّ و المهمّ.

بل الظاهر أنّها و ما أشبهها ممّا يتوقّف علي الكذب أحيانا داخل في عنوان «الإصلاح» بقول مطلق المذكور في روايات الباب.

19- الكهانة
اشارة

و الكلام فيها في مقامات:

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 338

المقام الأوّل: في معني الكهانة

فالذي يظهر من كتب اللغة و لا سيّما لسان العرب أنّ «الكاهن» هو الذي يخبر عن الغائبات، و يتعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، و يدّعي معرفة الأسرار، و قد كان في العرب كهنة، كشقّ و سطيح و غيرهما، و قد كانت الكهنة يروّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، و يستميلون بها القلوب، و يستصغون إليها الأسماع (و لذا كان ينسب من يكون له كلام موزون و فصيح إلي الكهانة، و لعلّ نسبة الكهانة برسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم كان من هذا الباب و قد نسب بعض المعاندين إلي الإمام علي عليه السّلام ذلك، لما في كلامه عليه السّلام من السجع البليغ).

و قد كانت العرب تسمّي كلّ من يتعاطي علما دقيقا كاهنا، و منهم من كان يسمّي المنجّم و الطبيب كاهنا «1».

و كذا يظهر منهم انّهم كانوا مختلفين: «فمنهم من كان يزعم أنّ له رأيا (صاحب رأي) من الجنّ يلقي إليه الأخبار عن الغائبات، و الامور المستقبلة، و منهم يزعم أنّه يعرف الامور بمقدّمات و أسباب يستدلّ بها علي مواقعها، من كلام من يسأله، أو فعله، أو حاله، و هذا يخصّونه باسم «العرّاف» … » «2».

و الذي يستفاد من مجموع كلمات أرباب اللغة أنّ الكهانة هي الإخبار عن الامور المستقبلة أو الغائبات الموجودة، بطرق غير متعارفة من الاتّصال بالجنّ و غيره، فلو أخبر إنسان بأمر غائب أو مستقبل من تجربة جرّبها أو شبه ذلك، فليس من الكهانة ظاهرا.

و قد يقال إنّ الشياطين و مردة الجنّ كانوا يسترقّون السمع قبل بعثة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم

فيخبرون أوليائهم من الإنس عن أخبار السماوات، و لكن منعوا منه بعد ذلك، فلم يبق لهم غير ما يخبرونه من أخبار الأرض.

هذا، و لكن الظاهر من آيات سورة الحجر انّهم كانوا ممنوعين منها في كلّ زمان وَ لَقَدْ جَعَلْنٰا فِي السَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّٰاهٰا لِلنّٰاظِرِينَ* وَ حَفِظْنٰاهٰا مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ* إِلّٰا مَنِ

______________________________

(1). راجع لسان العرب مادّة كهنة.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 339

اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ مُبِينٌ «1».

و أمّا ما ورد في الأخبار في هذا الباب فانّه بحاجة إلي مزيد تأمّل و تحقيق، و سيأتي أنّ اسم الكاهن و لو كان خاصّا ببعض من كان يخبر عن الغائبات، و لكن ملاك الحكم فيه عام يشمل الجميع.

المقام الثّاني: في حكمه الكهانة

فالحكم بحرمتها في الجملة مجمع عليها ظاهرا، بل قد يقال أنّه لا خلاف فيه بين المسلمين.

و عمدة ما يدلّ عليه أخبار كثيرة وردت في هذا الباب منها:

1- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن إتيان العرّاف و قال: «من أتاه و صدقه فقد برئ ممّا أنزل اللّه عزّ و جلّ علي محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «2».

هذه الرواية و ان كانت ضعيفة علي الظاهر بشعيب بن واقد، و لكن تظافر مضمونها يغنينا عن السند.

2- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من تكهّن، أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم … » «3».

و هي أيضا ضعيفة بأبي حمزة.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد،

انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 339

3- ما رواه الهيثم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلا ربّما أخبر من يأتيه يسأله عن الشي ء يسرق أو شبه ذلك، فنسأله؟ فقال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم من مشي

______________________________

(1). سورة الحجر، الآية 16- 18.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 108، الباب 26، من أبواب ما يكتسب به، ح 1، (و قد أورد الوسائل نفس ح في ج الثامن، ص 269، الباب 14، من أبواب آداب السفر، ح 3).

(3). المصدر السابق، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 340

إلي ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب» «1».

4- و ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة … و أجر الكاهن» «2».

5- ما رواه أبو خالد الكابلي قال: سمعت زين العابدين عليه السّلام يقول: « … و الذنوب التي تظلم الهواء السحر و الكهانة … » «3».

6- محمّد بن الحسين الرضي الموسوي (في نهج البلاغة) قال: قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام لبعض أصحابه لمّا عزم علي المسير إلي الخوارج فقال له: يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم. فقال عليه السّلام: « … أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدي به في برّ أو بحر، فانّها تدعو إلي الكهانة، و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار، سيروا علي اسم اللّه» «4».

و هناك روايات

اخري رواها في المستدرك لها دلالة قويّة علي المطلوب مثل ما يلي:

7- الجعفريات عن علي عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن الميتة إلي أن قال: و أجر الكاهن.. إلي أن قال: و أجر القافي … » «5».

8- ما رواه ابن مسكان و حديد رفعاه إلي أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أوحي إلي نبي في نبوّته: أخبر قومك انّهم استخفّوا بطاعتي و انتهكوا معصيتي … إلي أن قال: و خبّر قومك أنّه ليس منّي من تكهّن أو تكهّن له أو سحر أو تسحر له» «6».

9- ما رواه عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث أنّه عدّ من السحت أجر الكاهن «7».

10- ما رواه أبو سعيد قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لا يدخل الجنّة عاقّ و لا منّان و لا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 109، الباب 26، من ابواب ما يكتسب به، ح 3.

(2). المصدر السابق، ص 62، الباب 5، ح 5.

(3). المصدر السابق، ج 8، ص 270، الباب 14، من أبواب آداب السفر إلي الحجّ، ح 6.

(4). المصدر السابق، ص 271، ح 8.

(5). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 110، الباب 23، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(6). المصدر السابق، ص 111، ح 5.

(7). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 341

ديّوث و لا كاهن، و من مشي إلي كاهن فصدّقه بما يقول فقد برئ ممّا أنزل اللّه علي محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «1».

11- ما رواه الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «من صدّق كاهنا فقد

كفر بما أنزل علي محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «2».

12- ما رواه نوف البكالي قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السّلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر إلي النجوم فقال يا نوف: «إنّ داود قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال أنّها ساعة لا يدعو فيها عبد ربّه إلّا استجاب إلّا أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيا» «3».

و هذه الأخبار بعضها واردة في الكاهن و بعضها في العريف، و لكن يظهر من رواية عقبة بن بشير الأسدي عن الباقر عليه السّلام أنّ العريف كان له معني آخر، و هو من يعرف القوم و يعرفهم للسلطان، و لعلّه لهذا جعله في جنب العشّار و شبهه.

و عليه يشكل الاستدلال بما صرّح فيه بلفظ العريف و لا أقل من الإبهام، و يدلّ عليه أيضا بعض ما روي من طرق العامّة أيضا مثل ما يلي:

13- ما رواه البيهقي في سننه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من أتي عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل علي محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «4».

و اسنادها أو كثيرا منها و ان كانت ضعيفة لا تضرّ بالمقصود بعد توافرها و تكاثرها، فالحكم بالحرمة ثابت لا ينكر وضعا و تكليفا.

و هل يمكن الاستدلال له بالعقل أيضا لإمكان تشويه أمر النبوّة؟ الظاهر عدمه، لأنّ هذا الاستدلال أخصّ من المدّعي.

المقام الثّالث: حكم من اتي الكاهن و صدّقه

فيعلم حكمه ممّا سبق للتصريح في غير واحد منها بحرمة إتيان الكاهن أو العريف،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، ص 110، الباب 23، من ابواب ما تكتسب به، ح 7.

(2). المصدر السابق، ص 112، ح 8.

(3). المصدر السابق، ص 112، ح

9.

(4). سنن البيهقي، ج 8، ص 135.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 342

مضافا إلي أنّه إعانة علي الإثم أو رضي به، فكما أنّ الكهانة محرّمة، فكذلك إتيان الكاهن و السؤال عنه.

المقام الرّابع: الأخبار الواردة عن الحوادث المستقبلية
اشارة

الأخبار الغائبات أو الحوادث المستقبلية من غير طريق الكهانة من العلوم الإسلامية الغريبة أو التفؤل أو الحدس أو العلوم الرياضية أو ما يسمّي بالكامبيوتر و أمثال ذلك، و هو العمدة من بعض الجهات، و حاصل الكلام فيه أنّه قال في المفاتيح فيما حكي عنه: إنّ الأخبار علي الغائبات علي البتّ لغير نبي أو وصي نبي سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك من المعاصي المنصوص عليها، ثمّ أضاف: أنّه إن كان الإخبار علي سبيل التفؤل من دون جزم فالظاهر جوازه «1».

و ذكر صاحب الجوهر قدّس سرّه في بعض كلماته في المقام بعد استظهار جواز الإخبار ظنّا بالكهانة من هذا الكلام، و الإشكال عليه بشمول الإطلاقات له و أنّه لم يعرف قائلا بجوازه.

ثمّ قال في آخر كلامه: قد يقال لا بأس بالعلوم النبوية كالجفر و نحوه ممّا يمنح اللّه به أوليائه و أحبّائه و ان كان ينبغي لهم عدم إبدائه و إظهار آثاره عند سواد الناس لكيلا يحصل لهم شكّ في النبوّة و الإمامة «2».

و يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم قدّس سرّه المفروغية عن جواز الإخبار بالحوادث المستقبلة إذا ثبت ببعض ما صحّ اعتباره، كبعض الجفر و الرمل، و في كلام آخر له في المقام إنّ ظاهر صحيحة «الهيثم» أنّ الإخبار عن الغائبات لا علي سبيل الجزم محرّم مطلقا، سواء كان بالكهانة أو غيرها، و لا يخفي ما بينهما من التهافت، فتأمّل.

هذا، و ذكر بعض الأكابر في حواشيه عليه ما

حاصله: «إنّ الإخبار إن كان علي سبيل

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 91، نقلا عن المفاتيح.

(2). المصدر السابق، ص 92، (مع تلخيص منّا).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 343

الظنّ كان حراما و ان كان علي سبيل القطع و حصل له ذلك جاز من أي طريق حصل» «1».

ثمّ ذكر الدلائل الثلاث للشيخ ورد عليها.

أمّا الأوّل، أعني مصحّحة الهيثم «2» المتقدّمة الذكر (و الظاهر أنّه الهيثم بن واقد الجزري الثقة بقرينة رواية ابن محبوب عنه) فالجواب: «أوّلا» باختصاصها بالامور الماضية و «ثانيا» بأنّ ظاهرها حصر المحرّم بهذه الثلاث (الكاهن و الساحر و الكذّاب) لا حصر الخبر عن الغائبات بهم. و «ثالثا» الحرام تصديق قوله لا إخباره.

أمّا الثاني، أعني الحديث 1/ 26 «3» فبضعف سنده تارة، و ضعف دلالته اخري، لأنّه يدلّ علي حرمة ترتيب الأثر.

أمّا الثالث، أعني ما في مرسلة الإحتجاج «4» من التعليل، فأورد عليه بأنّها ناظرة إلي الإخبار من السماء من طريق الكهانة لا مطلقا (انتهي ملخّصا) «5».

هذا و الأقوي حرمة الإخبار بالغيب علي سبيل الجزم من هذه الطرق جميعا، سواء كان بالنسبة إلي الامور المستقبلة أو الحال، و كذلك كشف الغائبات من هذه الطرق، إلّا أن يكون من الطرق العادية أو علم إلهي، و الظاهر أنّ ما ذكرناه داخل في عنوان الكهانة لغة، و لا أقل من الغاء الخصوصية، و إلّا فالذي يخبر عن المغيبات التي لا يعلم أنّه من طريق الجنّ أو من علوم غريبة جاز إتيانه مع أنّ ظاهر الأخبار حرمة إتيانه و لو لم يعلم منشأ علومهم.

و رواية الهيثم أصدق شاهد عليه، و الإشكالات مندفعة عنه، أمّا الأوّل فبأنّه إذا حرّم الأخبار عن الامور المغيّبة الماضية فعن المستقبلة بطريق أولي،

و أمّا الثاني فلأنّه لو لم يكن المخبر عن الغائبات محصورا في واحد من الثلاث كان الجواب قاصرا كما هو ظاهر.

أمّا الثالث فيعلم من الملازمة العرفية في هذه الموارد و لا سيّما مع ملاحظة عنوان الساحر و الكاهن و الكذّاب.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 418.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 109، الباب 26، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(3). المصدر السابق، ص 108، ح 1.

(4). الاحتجاج، ص 185، نقلا عن مصباح الفقاهة، ج 1، ص 419.

(5). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 344

و الظاهر أنّ عنوان العرّاف الوارد في غير واحد من روايات الباب (لا خصوص واحد منها) أيضا عام شامل للجميع، و بالجملة لا ينبغي الشكّ في أصل الحكم بالحرمة.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه ما المراد بالجفر و الجامعة و الرمل و الاسطرلاب التي تعدّ من العلوم الغريبة.

أمّا «الجفر» فالذي يظهر من بعض كلماتهم أنّه في الأصل مأخوذ من «الجفرة» بمعني ولد الشاة، و روي أنّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أمر عليا بذبح سخلة شاة و أخذ جلدها ثمّ كتب الملائكة فيها علوما كثيرة، فكان عندهم عليهم السّلام و يسمّي هذا جفرا «1».

و لعلّ الذي يسمّي بالجفر عندنا شي ء من تلك العلوم وصل يدا بيد إلي بعض الخواص، و يمكن أن يقال: إنّه أمر آخر مثل علم الحساب و الحروف و الجمل التي هي من العلوم الغريبة تسمّي جفرا لشباهتها به.

أمّا «الجامعة» فهي صحيفة طويلة كانت فيها أحكام الإسلام جميعا حتّي أرش الخدش، و كانت عندهم عليهم السّلام كما نطق به غير واحد من الروايات «2».

و أمّا «الرمل» فالذي يظهر من كلمات بعض المحقّقين في هذا الأمر أنّه

علم يبتني علي أشكال خاصّة كلّ شكل له معني.

و أمّا «الاسطرلاب» فهي: آلة رصد قديمة لقياس مواقع الكواكب و ساعات الليل و النهار يعلم منها بعض الامور.

هذا و قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الأخبار عن المغيبات سواء كان من طريق التنجيم أو الكهانة أو العرّافة أو العلوم الغريبة مشكل شرعا، و يدلّ عليه ما عرفت من إمكان تنقيح المناط من مجموع روايات التنجيم و الكهانة و العرّافة و القيافة و غيرها، مضافا إلي دلالة بعض ما عرفت من النصوص الصحيحة عليه.

______________________________

(1). راجع بحار الأنوار، ج 26، ص 26.

(2). راجع بحار الأنوار، ج 26، ص 22 و 25، الأحاديث 11 و 22 و 23.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 345

هذا مضافا إلي ما فيها من التخرّص علي الغيب و اقتفاء ما ليس به علم إذا كان الإخبار علي سبيل الجزم، مع ما فيها من المفاسد الكثيرة و كشف الستور و إلقاء الخلاف بين الناس و أخذ البري ء و إيجاد البغضاء، لأنّ كثيرا من أخباره كاذبة فاسدة و مظنّة للفساد، فأراد الشارع المقدّس سدّ هذا الباب التي تأتي منها مفاسد علي المسلمين الأبرياء.

و أمّا ما يدعي من العلوم الغريبة فلم يثبت اعتبارها و كشفها عن الواقع، و لو فرض إمكان كشف الغائبات بها و صحّتها، لم يثبت جوازها و جواز الرجوع إلي صاحبها، بل ثبت عدمه.

و أمّا الجفر أو الجامعة الذي كان عند المعصومين عليهم السّلام فهو أمر وراء ذلك لا دخل لها به.

نعم يمكن لبعض العبّاد و الزهّاد و أرباب النفوس الزكيّة الاطّلاع علي بعض الحقائق المكتومة و أسرار الغيب و قد حكي في التاريخ في أحوال أصحاب الأئمّة عليهم السّلام و علماء السلف ما

لا يخفي علي الخبير، و الظاهر أنّه لا يدخل تحت أدلّة الحرمة بعد أن كان بتعليم إلهي، و لكن جواز الإخبار بها موقوف علي عدم ترتّب مفسدة عليه كما هو ظاهر.

و كذلك لا مانع منه إذا حصل الاطّلاع عليه بالحسّ أو قرائن قريبة من الحسّ كما لا يخفي.

فما يتراءي من بعض أهل الدين من الرجوع إلي بعض مدّعي العلوم الغريبة لكشف ضالّتهم أو السارق أو غير ذلك من المغيبات و الامور المستقبلة ممّا لا ينطبق علي ضوابط المذهب.

و حاصل الفتوي: إنّه لا تجوز الكهانة و لا يجوز الرجوع إلي الكاهن، و كذا كلّ من يخبر عن المغيبات سواء كان من طريق الكهانة أو العلوم الغريبة أو ملاحظة خطوط الكفّ أو غير ذلك، نعم لا مانع منه إذا كان بمقدّمات حدسية قريبة من الحسّ و نحوها، أو ما إذا الهم بقلب عبده المؤمن صاحب النفس الزكيّة، و أمّا الإخبار علي نحو الاحتمال و الترديد فلا مانع منه إذا لم تترتّب عليه مفسدة.

20- اللهو
اشارة

و الكلام فيه تارة في «حكمه» و اخري في «موضوعه».

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 346

الأوّل: في بيان حكم اللهو

فقد يقال إنّه حرام بقول مطلق، و أسند هذا القول إلي جمع من أساطين الفقه، كالشيخ و المحقّق و الشهيد قدّس سرّهم و غيرهم و إن كان في النسبة نظر ستعرفه إن شاء اللّه.

و قد استدلّ له بروايات كثيرة و لكنّها مختلفة جدّا يمكن تقسيمها إلي طائفتين:

الطائفة الاولي: ما دلّ علي حرمته مقيّدا ببعض القيود:

فمن الآيات: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «1».

و من الروايات:

1- ما رواه سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لمّا مات آدم شمت به إبليس و قابيل فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس و قابيل المعازف و الملاهي شماتة بآدم عليه السّلام فكلّ ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذّذ به الناس فإنّما هو من ذلك» «2».

2- ما رواه الأعمش عن جعفر بن محمّد عليه السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة و هي الشرك باللّه … و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار علي صغائر الذنوب» «3».

3- ما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه قال: «سبعة لا يقصرون الصلاة (إلي أن قال) و الرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا … » «4».

الطّائفة الثّانية: أعني ما دلّ بظاهره علي حرمة اللهو مطلقا، فهي روايات عديدة لعلّ كثرتها تغني عن الدقّة في أسنادها:

1- منها ما رواه الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلي المأمون قال: «الإيمان هو أداء الأمانة … و اجتناب الكبائر و هي قتل النفس …

و الاشتغال بالملاهي … » «5».

2- و ما رواه أنس بن محمّد عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه في وصيّة النّبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم

______________________________

(1). سورة لقمان، الآية 6.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 233، الباب 100، من أبواب ما يكتسب به، ح 5.

(3). وسائل الشيعة، ج 11، ص 262، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 36.

(4). المصدر السابق، ج 5، ص 510، الباب 8، من أبواب صلاة المسافر، ح 5.

(5). المصدر السابق، ج 11، ص 260، الباب 46، من أبواب جهاد النفس، ح 33.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 347

لعلي عليه السّلام قال: «يا علي ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو و طلب الصيد و إتيان باب السلطان» «1».

3- ما رواه في المقنع قال عليه السّلام: «و اجتنب الملاهي … » «2».

4- ما رواه عبد اللّه بن علي عن علي بن موسي عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: «كلّ ما ألهي عن ذكر اللّه فهو من الميسر» «3».

5- ما رواه عنبسة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع» «4».

6- ما رواه عبد اللّه بن مغيرة رفعه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم (في حديث): «كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث: في تأديبه الفرس و رميه عن قوسه و ملاعبته امرأته فانّهن حقّ» «5».

إلي غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبّع و ما ورد في روايت حرمة الغناء و انّ حرمته من جهة كونه لهوا.

هذا و الطائفة الاولي حالها معلوم و يشكل الاستدلال بها لحرمة مطلق اللهو، و إنّما تدلّ علي حرمته في

موارد خاصّة.

و أمّا الطائفة الثّانية فظاهرها و ان كان الحرمة في مطلق اللهو، و لكن لا بدّ من حمل هذا الظهور علي نوع من الكراهة أو الإشارة إلي خصوص بعض أفراد اللهو ممّا يعلم حرمته من الشرع قطعا، لما سيأتي عن قريب.

الثّاني: في بيان موضوع اللهو
اشارة

اللهو في اللغة علي ما ذكره أئمّة الفنّ له معني وسيع قال الراغب: «اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 233، الباب 100، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 234، ح 9.

(3). المصدر السابق، ح 15.

(4). المصدر السابق، ص 235، الباب 101، ح 1.

(5). المصدر السابق، ج 13، ص 347، الباب 1، من أبواب أحكام السبق و الرماية، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 348

و من الواضح بل البديهي عدم حرمة هذا المعني و الإجماع قائم عليه، و حتّي لو كان المراد ما يشغل الإنسان عن اللّه، فانّ الحياة الدنيا كلّها لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم، كما قال اللّه عزّ و جلّ من كتاب الكريم «1».

و قال ابن فارس في مقاييس اللغة اللهو: كلّما شغلك عن شي ء فقد ألهاك.

و قال في لسان العرب: «اللهو ما لهوت به و لعبت به و شغلك» «و اللهو هو اللعب» و من الواضح أنّه لا يقول أحد بحرمة مطلق اللعب أو ما يشغل الإنسان.

هذا مضافا السيرة المستمرّة عليه، فإنّ كثيرا من أعمال الناس طول الليل و النهار يشغلهم عن ذكر اللّه و لا يخلو عنه إنسان غير أهل العصمة و الأوحدي من الناس.

أضف إلي ذلك وجود بعض القرائن فيها أو في غيرها ممّا يدلّ علي جواز المزاح في السفر و الحضر، بل

الترغيب فيه إجمالا، و عملهم عليهم السّلام بذلك في الجملة معلومة مشهورة.

فلا يمكن المساعدة علي حرمة اللهو مطلقا، بل لا بدّ من حمل المطلقات علي أحد الأمرين المتقدّمين.

حكم الموسيقي:

بقي الكلام في شي ء، و هو من بعض الجهات أهمّ ممّا سبق لابتلاء الناس به في عصرنا هذا، و كثرة الكلام بل الخلاف أحيانا فيه، و هو حكم اللعب بآلات اللهو و الموسيقي، و هل أنّه حرام مطلقا أو الحرام بعض مصاديقه؟

قال المحقّق قدّس سرّه في الشرائع: «الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة … ».

و قال في الجواهر بعد ذكر هذه العبارة: «بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه» «2».

______________________________

(1). سورة الحديد، الآية 20.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 25.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 349

و قال في المصباح اتّفق فقهائنا، بل الفقهاء كافّة، علي حرمة بيع آلات الملاهي وضعا و تكليفا، بل في المستند دعوي الإجماع علي ذلك محقّق، ثمّ قال بعد كلام له في المقام:

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الروايات قد تواترت من طرقنا و من طرق العامّة علي حرمة الانتفاع بآلة اللهو في الملاهي و المعازف و أنّ الاشتغال بها و الاستماع إليها من الكبائر الموبقة و الجرائم المهلكة «1».

و قال في المسالك في شرح كلام المحقّق قدّس سرّه.

«آلات اللهو و نحوها إن لم يكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم و لم تكن لمكسورها قيمة فلا شبهة في عدم جواز بيعها لانحصار منفعتها في المحرّم» «2».

و هذه الكلمات و ان وردت في باب بيع الآلات فحسب لا نفس الانتفاع بها، إلّا أنّ ظاهرها أو صريحها حرمة الانتفاع بها مطلقا،

بل أرسلوه إرسال المسلّمات، بل لم يتعرّضوا لها بعنوان مسألة مستقلّة لوضوحها عندهم.

هذا و الكلام فيها يحتاج إلي بسط في البحث، لأنّ إجماله و ان كان مقطوعا إلّا أن تفاصيله غير نقيّة عن الإشكال، و غير غني عن البحث و الكلام، فنقول (و من اللّه التوفيق و الهداية):

إنّ اللازم التكلّم في مقامات:

1- النظر في أدلّة حرمة الانتفاع بالآلات مطلقها، و مقيّدها، و مبهمها.

2- النظر في أنواع الانتفاع بها، فانّ له أقساما مختلفا، تارة يعمل بها في طريق اللهو و البطر و العصيان، و اخري ينتفع بها في الحروب لتشجيع العساكر علي المسير، أو علي الحرب، و ثالثة في المراثي و شبهها، و رابعة في الرياضة و ما شابهها.

فهل جميع هذه الانتفاعات محرّمة بأقسامها، أو بعضها دون بعض؟

3- ما المراد بآلات اللهو؟ و ان وقع الشكّ في بعض مصاديقه، فما هو مقتضي القاعدة؟

و ما حكم ما كان مشتركا بين اللهو و غيره، و لعلّ منها في عصرنا الطبل و الجرس و البوق و أمثال ذلك؟

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 155.

(2). المسالك، ج 1، ص 165، (كتاب التجارة).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 350

أمّا المقام الأوّل: ففيه روايات كثيرة، و لكن بعضها مطلقة، و كثير منها غير واردة في مقام البيان حتّي يؤخذ بإطلاقها.

فمن الأولي:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أنهاكم عن الزفن و المزمار و عن الكوبات و الكبرات» «1».

و الزفن هو الرقص، كما صرّح به بعض أهل اللغة و ما بعدها أنواع آلات اللهو.

2- ما رواه السياري «رفعه» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن السفلة

فقال: «من يشرب الخمر و يضرب بالطنبور» «2».

3- ما رواه نوف البكالي عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام في حديث قال: «يا نوف إيّاك أن تكون عشّارا أو شاعرا أو شرطيا أو عريفا أو صاحب عرطبة و هي الطنبور أو صاحب كوبة و هو الطبل … » «3».

4- ما رواه عبد اللّه بن عبّاس عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلاة … و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه … و يستحسنون الكوبة و المعازف … » «4».

5- ما رواه في تحف العقول عن الصادق عليه السّلام: « … إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهو به و بعض آلات الطرب» «5».

و فيها فقرتان تدلّان علي هذا المعني، فراجع.

و من الطائفة الثانية: (أعني ما لا إطلاق فيه) الروايات التالية:

1- ما رواه إسحاق بن جرير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ شيطانا يقال له

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 233، الباب 100، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 234، ح 11.

(3). المصدر السابق، ص 234، ح 12.

(4). المصدر السابق، ص 230، الباب 99، ح 27.

(5). المصدر السابق، ص 54، الباب 2، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 351

القفندر إذا ضرب في منزل الرجل أربعين صباحا بالبربط و دخل الرجال وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه علي مثله من صاحب البيت، ثمّ نفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها حتّي تؤتي نساؤه فلا يغار!» «1».

2- ما رواه أبو داود المسترق قال: «من ضرب

في بيته بربط أربعين يوما سلّط اللّه عليهم شيطانا يقال له القفندر فلا يبقي عضو من أعضائه إلّا قعد عليه فإذا كان كذلك نزع منه الحياء و لم يبال ما قال و لا ما قيل فيه» «2».

3- ما رواه كليب الصيداوي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة» «3».

4- ما رواه موسي بن حبيب عن علي بن الحسين عليه السّلام قال: «لا يقدّس اللّه أمّة فيها بربط يقعقع … » «4».

5- ما رواه عمران الزعفراني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أنعم اللّه عليه بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفّرها» «5».

6- ما رواه أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا عليه السّلام في حديث الشامي أنّه سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معني هدير الحمام الراعية قال: «تدعو علي أهل المعازف و المزامير و العيدان!» «6».

7- ما رواه ورّام بن أبي فراس في كتابه قال: قال عليه السّلام: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد و لا تستجاب دعائهم و ترفع عنهم البركة» «7».

8- ما رواه الديلمي قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «يظهر في أمّتي الخسف و القذف»،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 232، الباب 100، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 233، ح 3.

(4). المصدر السابق، ح 4.

(5). المصدر السابق، ح 7.

(6). المصدر السابق، ص 234، ح 10.

(7). المصدر السابق، ص 235، ح 13.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 352

قالوا: متي ذلك؟ قال: «إذا ظهرت المعازف و القينات

و شربت الخمور … » «1».

9- ما رواه الديلمي قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا عملت أمّتي خمس عشر خصلة حلّ بهم البلاء: إذا كان الفي ء دولا … و اتّخذوا القينات و المعازف … » «2».

و هناك روايات كثيرة اخري رواها في المستدرك في الباب 79 من أبواب ما يكتسب به بعضها مطلقة و بعضها غير مطلقة، و من الأوّل:

10- ما رواه في الجعفريات باسناده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه علي بن الحسين عليه السّلام عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أنهي أمّتي عن الزمر و المزمار و الكوبات (و الكبرات) و الكيوبات» «3».

11- و بهذا الإسناد عن علي بن أبي طالب عليه السّلام أنّه رفع إليه رجل كسر بربطا فأبطله «4».

12- ما رواه في دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أنهي أمّتي عن الزفر و المزمار و عن الكوبة و الكبارات» «5».

13- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه حرّم الدفّ و الكوبة و المزامير و ما يلعب به» «6».

14- ما رواه في عوالي اللئالي عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه نهي عن الضرب و الدفّ و الرقص، و عن اللعب كلّه، و عن حضوره، و عن استماع إليه و لم يجز ضرب الدفّ إلّا في الأملاك و الدخول بشرط أن يكون في البكر و لا يدلّ الرجال عليهنّ «7».

15- ما رواه أبو امامة عن رسول اللّه

صلّي اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالي بعثني هدي و رحمة للعالمين و أمرني أن أمحو المزامير و المعازيف و الأوتار، و الأوثان و امور الجاهلية، إلي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 231، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 30.

(2). المصدر السابق، ح 31.

(3). مستدرك الوسائل، الطبعة ح ة، ج 13، ص 215، الباب 79، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 216، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 217، ح 6.

(6). المصدر السابق، ص 218، ح 11.

(7). المصدر السابق، ح 14.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 353

أن قال: إنّ آلات المزامير شرائها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام» «1».

16- ما رواه في الروضات عن رسالة قبائح الخمر للسيّد الجليل صدر الدين الدشتكي عن الرضا عليه السّلام: «استماع الأوتار من الكبائر» «2».

17- و فيه أيضا أنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام رجلا يطرب بالطنبور فمنعه و كسر طنبوره ثمّ استتابه فتاب، ثمّ قال: «أ تعرف ما يقول الطنبور حين يضرب؟» قال: وصي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أعلم، فقال: «إنّه يقول ستندم ستندم أيا صاحبي ستدخل جهنّم أيا ضاربي!» «3» و «4».

و هناك روايات كثيرة أيضا من طرق العامّة رواها البيهقي في المجلّد العاشر من سننه، فيها أيضا مطلقات تدلّ علي المطلوب منها:

18- ما رواه ابن عبّاس عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالي حرّم عليكم الخمر و الميسر و الكوبة (و هو الطبل) و قال: كلّ مسكر حرام» «5».

و هي و ان كانت واردة في خصوص الكوبة، و لكنّها مطلقة

من حيث الانتفاعات.

19- ما رواه عبد اللّه بن عمرو: «إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم نهي عن الخمر و الميسر و الكوبة و الغبيراء و قال: كلّ مسكر حرام» «6».

«الغبيراء» كما ذكره بعض أهل اللغة: شجرة خشبة جيّدة (و لعلّهم كانوا يصنعون منه بعض آلات اللهو).

20- ما رواه قيس بن سعد بن عبادة أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال: «إنّ ربّي حرّم عليّ الخمر و الميسر و القنين و الكوبة- قال أبو زكريا القنين العود» «7».

و في معناه روايات اخري في نفس ذاك الباب، و بالجملة الروايات المطلقة الدالّة علي الحرمة متواترة ظاهرا.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، الطبعة ح ة، ج 13، ص 219، الباب 79، من أبواب ما يكتسب به، ح 16.

(2). المصدر السابق، ص 220، ح 19.

(3). المصدر السابق، ح 20.

(4). الزفن (الرقص) الكوبة (طبل صغير).

(5). سنن البيهقي، ج 10، ص 221، باب ما جاء في ذمّ الملاهي من المعازف و المزامير و نحوها.

(6). المصدر السابق.

(7). المصدر السابق، ص 222.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 354

لكن يبقي الكلام في دلالتها، فهل يؤخذ بما هو ظاهرها في بادئ النظر من حرمة الانتفاع بها مطلقا، سواء كان في صورة لهوية أو رياضية أو في الحروب أو في المراثي أو غيرها …

أو لا بدّ من الأخذ بما ينصرف إليه من الصورة الاولي، (و هو اللهوية) فانّها الصورة المتعارفة ذلك اليوم المعمولة بين المتلبّسين بها أو المنتفعين منها؟

فالكلام يدور مدار الانصراف إلي المنافع الغالبة، أو مطلق المنافع، و يمكن ترجيح الأوّل لأمور (و العمدة هو الأوّل و الباقي مؤيّدات):

أوّلا: إنّ المتعارف في أمثال المقام هو القول بالانصراف إلي المنافع

الغالبة، فإذا حكم بحرمة الخمر ينصرف إلي شربه، و لا يدلّ علي حرمة التداوي بها لغسل الجروح مثلا أو بعض الأمراض الجلدية، و كذا النهي عن الأدهان النجسة إذا كانت ممّا يتعارف أكلها لا يدلّ علي حرمة الاستصباح بها إذا لم يكن هناك دليل آخر، هكذا ديدنهم في الفقه.

ثانيا: يمكن أن يقال إنّ حرمة الغناء و الضرب بالآلات من باب واحد، فكما أنّ الصوت الحسن ينقسم إلي قسمين: لهوي و غير لهوي، فكذلك الضرب بالآلات ينقسم إليهما لتقارب مضامين أخبارهما و الاستدلال فيهما واحد.

ففي جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: يحشر صاحب الطنبور … و يحشر صاحب الغناء من قبره أعمي و أخرس و أبكم، و يحشر الزاني مثل ذلك و صاحب المزمار مثل ذلك و صاحب الدفّ مثل ذلك «1».

و لعلّ ذكر الزاني في عدادهم من ناحية أنّ هذه الملاهي تدعو إليه كثيرا، فهذا أيضا يؤيّد بعض ما سيأتي، و كذلك بالنسبة إلي نفوذ النفاق في القلب (و ليكن هذا علي ذكر منك).

و في رواية كليب الصيداوي (3/ 100 و قد مرّ ذكرها) قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة.

و قد ورد مثله في الغناء، ففي رواية عنبسة 1/ 101 التي سبق ذكرها عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم قال:

«استماع اللهو و الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع».

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 219، الباب 79، ح 17.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 355

و كذلك بالنسبة إلي عدم دخول الملائكة (كما مرّ في الرواية 13/ 100 من أبواب ما يكتسب من الوسائل) حيث قال

صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد و لا يستجاب دعاؤهم و يرتفع عنهم البركة» «1».

و في رواية زيد الشحّام عنه عليه السّلام: بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة و لا تجاب فيه الدعوة و لا يدخله الملك» «2». فهذا كلّه دليل علي اتّحاد المسألتين.

و ثالثا: قد اشير في بعض روايات المسألة أنّ العلّة في تحريم صناعة آلات اللهو أنّه يجي ء منها الفساد محضا، كرواية تحف العقول، و من المعلوم أنّ ما يستفاد منها في الحروب و الرياضة و أمثالهما لا يجي ء منها فساد ظاهر، و لا يناسب ما ورد في هذه الرواية أصلا.

و رابعا: إنّ التعبير في كثير ممّا عرفت بعنوان «اللهو» دليل علي أنّ الملاك فيها أن يكون الضرب بها ضربا لهويا، لا ما إذا كان للحروب مثلا أو للرياضة و شبههما، و ما لم يرد فيها هذا العنوان أيضا فهو محمول عليه بعد ما كانت الروايات تفسّر بعضها بعضا، و العمدة هو الوجه الأوّل، و الباقي مؤيّدات له، و لكن بعد ذلك كلّه الأحوط الترك، لعدم ورود هذه التفصيلات في كلمات أكابر الفقه و أساطينها، و ان كان الأقوي هو الجواز.

و نزيدك توضيحا هنا أنّ عنوان الحرمة في كثير من روايات الباب و كلمات الأصحاب هو آلات اللهو أو كلّ ملهو به أو شبه ذلك بحيث يستفاد منها أنّ الحكم يدور مدار هذا العنوان، و قد مرّت روايات الباب فيما سبق.

و حاصل جميع هذه العبارات أنّ الحكم يدور مدار هذا العنوان، ثمّ يأتي الكلام في أنّ المراد باللهو ما ذا؟ و قد مرّ الكلام فيه مشروحا و أنّه ليس علي

معناه اللغوي (أعني كلّما يشتغل به الإنسان عن غيره) بل المراد نوع خاص و هو اللهو المفسد المغري بالمحرّمات علي البطر، و هو المناسب لمجالس أهل الفسوق و العصيان.

و يؤيّد جميع ذلك تعبير الفقهاء بآلات «اللهو»، فإذا استعملت الآلة فيما ليس بلهو بهذا المعني، كالذي يكون في الحروب و الرياضات و شبهها، فليس بحرام، و لكن قد عرفت سبيل الاحتياط.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 218، الباب 79، من أبواب ما يكتسب به، ح 15.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 225، الباب 99، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 356

بقي هنا أمران:

1- لا يجوز أن يكون هذا ذريعة للتطرّق إلي المصاديق المحرّمة، و تسويلات الشيطان في ذلك كثيرة، فانّه باب من أبواب اغوائه لبني آدم، و لو كان كذلك فقد يحرم لبعض العناوين الثانوية.

و المصاديق المشكوكة تجري فيها البراءة، و ان كان الاحتياط فيها أيضا مطلوب جدّا.

2- و يظهر منه حال المقام الثالث و أنّه لو شكّ في بعض الآلات و لم يثبت كونها آلة للهو أو عدّ من الآلات المشتركة بحيث يكون كلا العنوانين من المنافع الغالبة، فلا يحكم بحرمة بيعها أيضا، و لكن الحذر كلّ الحذر هنا أيضا من مكائد الشيطان عصمنا اللّه من الزلل بلطفه و منّه.

خلاصة الفتوي في مسألة آلات اللهو:

1- المتيقّن من الأدلّة حرمة اللعب بها لعبا لهويا، و هو ما يناسب مجالس أهل الفسوق و العصيان، و أمّا اللعب بها لغيره كاللعب بها في الرياضة أو ميادين الحرب و ما أشبههما، فلا دليل علي حرمته و ان كان الأحوط الاجتناب عنه مطلقا.

2- الآلات المشتركة بين هذه كبعض الطبول و غيرها يجوز بيعها و شراؤها، أمّا ما يغلب عليها الفساد كأكثر آلاتها، فلا يجوز بيعها و شراؤها.

21- مدح من لا يستحقّ المدح

لم يتعرّض لحرمته إلّا قليل منهم، كالعلّامة قدّس سرّه فيما حكي عنه، حيث ذكره في عداد المكاسب المحرّمة، ثمّ تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه.

و ليعلم أنّ المدح- كالذمّ- علي قسمين: قسم منه بالإخبار: و الثاني بالإنشاء.

و الأوّل: قد يكون كذبا كما هو الغالب، كما إذا قال في مقام مدحه: إنّ علمه كذا و تقواه و عبادته و شجاعته كذا، و لم يكن فيه شي ء من ذلك.

و اخري يكون صدقا، كأن يذكره ببعض الأوصاف الحسنة من غير تعرّض لما فيه من القبائح التي هي أكثر بمرّات بحيث لا يكون في المجموع مدحا لمن يستحقّ، و لو من حيث

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 357

اكتفائه بما فيه من المحاسن القليلة، و ترك ما هو أكثر من القبائح الكثيرة.

و الثّاني: كأن يدعو الكواكب السماوية و الجبال بالخضوع له و الملائكة بخدمته و غير ذلك ممّا لا يليق به أصلا، أو يتمنّي له الحياة إلي أبد الآباد، أو يرجو له دوام العزّ و الشرف، و غير ذلك من الأباطيل و الخيالات.

أمّا الأوّل، فلا شكّ في حرمته، لكونه كذبا، و لعلّه خارج عن محطّ كلامهم، و لذا لم يستدلّ له شيخنا الأعظم قدّس سرّه بأدلّة حرمة الكذب مع أنّها أظهر

من جميع ما استند إليه في المسألة فيما ستعرف إن شاء اللّه.

و ينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الظاهر أنّ عنوان البحث «المدح بما أنّه مدح» لا بما أنّه كذب.

فتبقي الصورتان الأخيرتان هما المقصود الأصلي بالكلام، فنقول (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق و الهداية):

إنّه قد يترتّب عليهما عناوين محرّمة اخري كترويج الباطل و إعانة الظالم و نشر الفساد و شيوع الفاحشة، و تقوية المبدع في الدين، و تضعيف أهل الحقّ و الصلاح، و غير ذلك من العناوين المحرّمة.

و ينبغي أن يكون هذا خارجا عن محلّ البحث أيضا، فإنّ العناوين الطارئة التي نسبتها مع ما هو محلّ الكلام عموم من وجه غالبا لا أثر له فيما نحن بصدده، بل قلّما يكون عنوان محلّل خاليا منها.

و أمّا إذا لم يترتّب عليها شي ء من ذلك فأقصي ما يمكن الاستدلال به لحرمته امور:

1- قوله تعالي: وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا … «1».

و من الواضح أنّه لا يكون المدح ركونا دائما، و كونه كذلك أحيانا لا يكفي في مقام الاستدلال، فهو أخصّ من المدّعي من وجه.

2- ما ورد من الإعراض عن اللغو و الاجتناب عن قول الزور.

و فيه: إنّ اللغو بمعني مطلق أي ما لا غرض عقلائي فيه لا دليل علي حرمته، بل السيرة

______________________________

(1). سورة هود، الآية 113.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 358

و غيرها دالّة علي جوازه، فالمنهي بعض أقسامه، و كذا «قول الزور» بمعني ما لا يشتمل علي الحقّ، و إن لم يترتّب عليه شي ء من العناوين المحرّمة المعروفة.

3- ما ورد في حديث المناهي عن الحسين بن زيد عن الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله

و سلم في حديث المناهي أنّه نهي عن المدح و قال: احثوا في وجوه المدّاحين التراب! «1».

و فيه: إنّ من الواضح كونه أخصّ من المدّعي أيضا، و داخلا في إعانة الظالمين و التقرّب إليهم للدنيا، و لا شكّ في حرمته (مضافا إلي ضعفه بشعيب بن واقد كما قيل).

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث « … و من عظم صاحب دنيا و أحبّه لطمع دنياه سخط اللّه عليه و كان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار … » «2».

(و هو أيضا ضعيف بعدّة مجاهيل).

مضافا إلي أنّه لا ينبغي الشكّ في انصرافه إلي ما يستلزم شيئا من العناوين المحرّمة، فانّ الاقتراب من صاحب الدنيا و تعظيمه بما ليس فيه باطل، و ما لا ينافي التوحيد و التوكّل علي اللّه لا قائل بحرمته، بل أكثر مناسبات الناس حتّي كثير من المؤمنين من هذا الباب، فهم يعظّمون الأطباء أو التجّار أو صاحب الحرف لحاجتهم إليهم، و مجرّد ذلك ليس حراما، و إنّما الحرام ما ينافي بعض ما مرّ.

5- قبح ذلك عقلا- و هو ممنوع لو خلا من الامور المذكورة و العناوين الطارئة المحرّمة و ان كان منافيا لكمال الإنسان و القيم الأخلاقية.

و الحاصل أنّ مجرّد مدح من لا يستحقّ المدح لا يكون عنوانا من العناوين المحرّمة إلّا أن يرجع إلي الكذب أو ترويج الباطل أو عناوين محرّمة اخري، و ان كان مرجوحا علي كلّ حال.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 132، الباب 43، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 130، الباب 42، ح 14.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص:

359

22- معونة الظالمين
اشارة

حكي الحكم بحرمة معونة الظالمين فيما يحرم، عن غير واحد من أصحابنا الأقدمين كصاحب المقنعة و المراسم، كما حكي حرمة معونة الظالمين في ظلمهم من أكثر الفقهاء، و الظاهر أنّ المراد منهما واحد.

و لكن يأتي الكلام أوّلا في أنّه بعد دعوي الإجماع علي حرمة الإعانة علي الإثم مطلقا، فمورد الكلام يكون مصداقا من مصاديقها، فما الفائدة في ذكر خصوص هذا المصداق؟

لكن أجاب عن هذا السؤال في الجواهر بأنّه يمكن أن يكون ذكر هذا العنوان بخصوصه إرشادا إلي أنّ المراد من الروايات الكثيرة المستفيضة أو المتواترة الدالّة علي حرمة إعانة الظالمين هو خصوص إعانتهم في مظالمهم لا مطلقا (انتهي) «1» أو بعض ما سنذكره أيضا إن شاء اللّه.

ثمّ اعلم أنّ متعلّق الإعانة علي أقسام:

1- قد يكون المراد الإعانة علي ظلمهم.

2- و اخري علي تقوية شوكتهم.

3- و ثالثة علي فعل مباح أو راجح مع عدّه في أعوانهم.

4- و رابعة علي فعل من المباحات من دون أن يعدّ في أعوانهم.

و الظالم أيضا علي أقسام:

1- من يصدر منه الظلم أحيانا.

2- من يكون الظلم عملا له كالسارق و من يؤذي الناس دائما.

3- السلطان الجائر.

4- الغاصب للخلافة الإلهية عن المعصومين عليهم السّلام الذين اختارهم اللّه لهذا المنصب (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

و الإعانة أيضا علي أقسام:

1- إعداد المقدّمات القريبة التي تنحصر فائدتها في الظلم عاجلا، كما إذا أراد الظالم ضرب مظلوم فأعطي السوط بيده.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 52.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 360

2- إعداد المقدّمات البعيدة كمن يعطيهم القوت و الطعام أو الشراب الذي يوجب قوتهم علي الظلم.

3- إعداد المقدّمات المشتركة بين الظلم و غيره، كمن يبيعهم السلاح في غير حال الحرب، و يمكن انتفاعهم بها لدفع

الأعداء عن الإسلام أو لبعض المظالم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا ينبغي الإشكال في كون معونتهم حراما في الجملة بالأدلّة الأربعة:

الأوّل: من كتاب اللّه بقوله تعالي: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «1». و دلالتها ظاهرة، و لم أر من أشكل عليها إلّا بعض المعاصرين حيث قال: إنّ «التعاون» غير «الإعانة» فانّ أحدهما من باب الأفعال، و الآخر من باب التفاعل، فحرمة أحدهما لا تسري إلي الآخر، و التعاون عبارة عن اجتماع عدّة من الأشخاص لإيجاد فعل من الخير أو الشرّ ليكون صادرا من جميعهم، و لكن الإعانة عبارة عن تهيئة مقدّمات فعل الغير «2».

و فيه: إنّ التعاون علي أمر أعمّ من اشتراك الجميع في المباشرة أو بعضهم في إعداد المقدّمات، كالجماعة الذين يشتركون في بناء، فبعضهم يرسم الخريطة، و الآخر بالتمويل، و الآخر بالمصالح، و الآخر بالبناء، و إن أبيت عن ذلك فلا أقل من الغاء الخصوصية، و بالجملة لا تنبغي الوسوسة في ذلك كما فهمه الأصحاب أعلي اللّه درجاتهم.

و بقوله تعالي: وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ «3».

فانّها دليل علي المطلوب بطريق أولي لو لم يكن الركون عاما شاملا لمطلق الإعانة.

و أمّا الثاني و الثالث الإجماع و العقل فظاهران.

أمّا من السنّة فهي روايات كثيرة تنقسم إلي طوائف:

الطائفة الاولي ما يدلّ علي حرمته بالعموم منها:

1- ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين» «4».

______________________________

(1). سورة المائدة، الآية 2.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 427.

(3). سورة هود، الآية 113.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 128، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص:

361

2- و ما رواه حريز قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «اتّقوا اللّه و صونوا دينكم بالورع و قوّوه بالتقيّة و الاستغناء باللّه عزّ و جلّ عن طلب الحوائج إلي صاحب سلطان، أنّه من خضع لصاحب سلطان و لمن يخالفه علي دينه طلبا لما في يده من دنياه أخمله اللّه عزّ و جلّ و مقته عليه، و وكّله إليه، فان هو غلب علي شي ء من دنياه فصار إليه منه شي ء نزع اللّه جلّ اسمه البركة منه و لم يأجره علي شي ء منه ينفقه في حجّ و لا عتق و لا برّ» «1».

3- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أعمالهم فقال لي: «يا أبا محمّد! لا، و لا مدّة قلم، إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله، أو حتّي يصيبوا من دينه مثله» «2»، (الوهم من ابن أبي عمير).

و دلالتها علي المطلوب بالأولوية.

4- ما رواه ابن أبي يعفور، قال كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك أنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعي إلي البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسناة يصلحها فما تقول في ذلك؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء و انّ لي ما بين لابتيها، لا، و لا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّي يحكم اللّه بين العباد» «3».

5- و باسناده السابق في عيادة المريض عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «من تولّي خصومة ظالم إعانة عليها

نزل به ملك الموت بالبشري بلعنة، و نار جهنّم و بئس المصير، و من خفّ لسلطان جائر في حاجة كان قرينه في النار، و من دلّ سلطانا علي الجور قرن مع هامان، و كان هو و السلطان من أشدّ أهل النار عذابا، و من عظم صاحب دنيا و أحبّه لطمع دنياه سخطه اللّه عليه، و كان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار، و من علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها اللّه حيّة طولها سبعون ألف ذراع فيسلّطه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 128، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 129، ح 5.

(3). المصدر السابق، ح 6، (المسناة: ما يبني ليردّ السيل و فيها منافذ للماء من سنو إذا فتحت) (لسان العرب).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 362

اللّه عليه في نار جهنّم خالدا فيها مخلّدا، و من سعي بأخيه إلي سلطان و لم ينله منه سوء و لا مكروه أحبط اللّه عمله، و ان وصل منه إليه سوء و مكروه أو أذي جعله اللّه في طبقة مع هامان في جهنّم» «1».

6- ما رواه ورّام بن أبي فراس (في كتابه) قال: قال عليه السّلام: «من مشي إلي ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام» «2».

7- قال و قال عليه السّلام: «إذا كان يوم القيامة نادي مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة حتّي من بري لهم قلما و لاق لهم دواة قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمي بهم في جهنّم» «3».

8- عن السكوني قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ما اقترب عبد من

سلطان جائر إلّا تباعد من اللّه، و لا كثر ماله إلّا اشتدّ حسابه و لا كثر تبعه إلّا كثرت شياطينه» «4».

9- ما رواه محمّد بن مسعود العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: ما تقول في أعمال السلطان؟

فقال: «يا سليمان الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر و النظر إليهم علي العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار» «5».

الطائفة الثّانية: ما يدلّ علي حرمة الإعانة في بعض الأفعال بالخصوص ممّا يكون من مصاديق الظلم، و لكن ليس فيه لفظ عامّ.

10- ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي قال: «ألا و من علّق سوطا بين يدي سلطان جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار طوله سبعون ذراعا يسلّطه اللّه عليه في نار جهنّم و بئس المصير» «6».

الطائفة الثّالثة: ما يدلّ علي حرمة إعانتهم علي المباحات مثل:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 130، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 14.

(2). المصدر السابق، ص 131، ح 15.

(3). المصدر السابق، ح 16.

(4). وسائل الشيعة، ج 12، ص 130، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 12.

(5). المصدر السابق، ص 138، الباب 45، ح 12.

(6). المصدر السابق، ص 130، الباب 42، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 363

11- ما رواه يونس بن يعقوب قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا تعنهم علي بناء مسجد!» «1».

12- ما رواه صفوان بن مهران الجمّال قال: دخلت علي أبي الحسن الأوّل صلّي اللّه عليه و آله و

سلم و قال لي: «يا صفوان كلّ شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا!».

قلت: جعلت فداك أي شي ء؟ قال: «اكرائك جمالك من هذا الرجل»، يعني هارون قال:

و اللّه ما أكريته أشرا و لا بطرا و لا للصيد و لا للهو، و لكنّي أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكّة، و لا أتولّاه بنفسي و لكن أبعث معه غلماني، فقال لي: «يا صفوان أيقع كرائك عليهم؟» قلت: نعم جعلت فداك، قال فقال لي: «أ تحبّ بقائهم حتّي يخرج كرائك؟» قلت: نعم قال:

«من أحبّ بقائهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار» قال: صفوان فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلي هارون فدعاني فقال لي: يا صفوان بلغني انّك بعت جمالك قلت: نعم قال: و لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، و انّ الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال هيهات هيهات انّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسي بن جعفر قلت: ما لي و لموسي بن جعفر؟

فقال عليه السّلام دع هذا عنك، فو اللّه لو لا حسن صحبتك لقتلتك! «2».

13- و ما رواه محمّد بن عذافر عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب و الربيع، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟» قال: فوجم أبي، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: لمّا رأي ما أصابه: «أي عذافر! إنّما خوّفتك بما خوّفني اللّه عزّ و جلّ به»، قال محمّد: فقدم أبي فما زال مغموما مكروبا حتّي مات «3».

14- ما رواه ابن أبي يعفور التي مرّت عليك في الطائفة الاولي (6/ 42).

15- ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا كان يوم القيامة نادي مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مدلهم مدة قلم فاحشروهم معهم!» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 129، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 131، ح 17.

(3). المصدر السابق، ص 128، ح 3.

(4). المصدر السابق، ص 130، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 364

الطائفة الرّابعة: ما يدلّ علي حرمة كون الإنسان من أعوانهم مثل:

16- ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم» «1».

و ما رواه عذافر (3/ 42) التي مرّت عليك في الطائفة الثالثة.

و ما رواه السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه (11/ 42) أوردناها في الطائفة الثالثة.

و رواية صفوان بن مهران الجمّال (16/ 42) أوردناها في الطائفة الاولي.

الطائفة الخامسة: ما يدلّ علي حرمة صحبتهم و حبّ بقائهم مثل ما رواه:

17- ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها، فانّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من اللّه عزّ و جلّ، و من آثر السلطان علي اللّه أذهب اللّه عنه الورع و جعله حيرانا» «2».

و ما رواه الصدوق رحمه اللّه عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم (12/ 42) التي مرّت عليك في الطائفة الثالثة.

و ما رواه صفوان بن مهران الجمّال (17/ 42) التي أوردناها في الطائفة الثالثة.

18- و ما رواه سهل بن زياد رفعه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في

قول اللّه عزّ و جلّ وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ قال: «هو الرجل يأتي السلطان فيحبّ بقاه إلي أن يدخل يده إلي كيسه فيعطيه!» «3».

19- و ما رواه عياض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال: «و من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصي اللّه» «4».

20- و ما رواه محمّد بن مسلم قال كنّا عند أبي جعفر عليه السّلام علي باب داره بالمدينة فنظر إلي الناس يمرّون أفواجا فقال لبعض من عنده: حدث بالمدينة أمر؟ فقال أصلحك اللّه «جعلت فداك» ولي المدينة وال فغدا الناس «إليه» يهنّئونه فقال: «إنّ الرجل ليغدي عليه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 128، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 130، ح 13.

(3). المصدر السابق، ص 133، الباب 44، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 134، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 365

بالأمر يهنّي به و أنّه لباب من أبواب النار» «1».

الطائفة السّادسة: ما دلّ علي حرمة الولاية من قبلهم و سيأتي إن شاء اللّه.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ مقتضي القاعدة المستفادة من الآية الشريفة و من حكم العقل حرمة إعانة الظالمين في ظلمهم، و كذلك ما يوجب قوّة شوكتهم الملازم عادة للإعانة علي ظلمهم.

و كذا الدخول في أعوانهم و تسويد الاسم في ديوانهم إذا زادت به شوكتهم، و قد روا به علي الظلم أزيد ممّا كان بدونه.

أمّا إذا لم يكن فيه شي ء من ذلك و كان المراد مجرّد إصلاح أمر مباح أو راجح فلا.

و كذا إذا كان في المقدّمات البعيدة بحيث لا تعدّ إعانة عرفا.

و كذا إذا كان بمقدّمة مشتركة بين المباح و الحرام ما لم يعلم

بصرفه خاصّة في الحرام.

ففي هذه الصور الثلاث لا دليل علي الحرمة وفقا للأصول و القواعد، و لكن يظهر من بعض ما مرّ من النصوص حرمة القسم الأوّل، مثل حديث 8 و 7/ 42 و المستفاد منه حرمة حبّ بقائهم، لا إعانتهم في المباحات كما لا يخفي.

إلّا أن يقال: إعانتهم علي بناء المسجد أو الحجّ ممّا يوجب تقوية شوكتهم فتأمّل.

و أمّا الإطلاقات، فالظاهر انصرافها إلي ما يكون في ظلمهم، و لذا أفتي المشهور فيما حكي عنهم بالحرمة في خصوص ظلمهم أو في مطلق الحرام.

و قد يستدلّ علي الحرمة في الإعانة علي المباحات بامور اخر:

1- ما رواه ابن عذافر (3/ 42) بناء علي كون المعاملة فيها أعمّ.

و فيه: مضافا إلي كون «سهل» في سنده، أنّ المعاملة لعلّها كانت بمعني كونه عاملا لهم أو عدّه في أعوانهم كما ليس ببعيد.

2- ما رواه ابن يعفور (6/ 42).

و فيه: مضافا إلي ضعفه بجهالة «بشير» (كما قيل) أنّ المراد بقرينة ذيلها إذا دخل في أعوانهم.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 135، الباب 45، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 366

3- ما رواه «السكوني» (11/ 42).

و الجواب عنه: إنّ المدار علي كونه من أعوانهم مضافا إلي ما في السند.

4- ما رواه «العياشي» (12/ 45).

و فيه: مضافا إلي ضعف السند بالإرسال، أنّ قوله في أعمالهم و العون لهم دليل علي كونه في مظالمهم و صيرورته من أعوانهم.

و العمدة هنا جريان السيرة المستمرّة علي إعانتهم بالامور المباحة، و ابتياعهم من سوق المسلمين ما يريدونه، و لم يكن لهم سوق يختصّ بهم، مضافا إلي الشهرة التي عرفت، مع إمكان حمل بعض ما عرفت علي كون النهي من باب

حماية الحمي.

ثمّ اعلم أنّ قسما كبيرا من هذه الروايات وردت في غاصبي الحقوق عن أئمّة الحقّ عليهم السّلام و لكن الإنصاف أنّ جلّها حاكمة بالحرمة في مواردها بعنوان كونهم ظالمين، لا غاصبي حقوقهم فقط.

نعم مثل رواية «صفوان» (17/ 42) ناظرة إلي غصب حقوقهم، و لعلّ له حكما خاصّا، حتّي أنّه لا يجوز إعانتهم علي المباحات أو الامور الراجحة، و علي ما ذكرنا يشمل العنوان لكلّ ظالم، سواء كان أميرا لهم أو لم يكن، مثل قاطعي الطريق و أشباههم، اللهمّ إلّا أن يدّعي انصراف الظلمة إلي الحكّام الظالمين، و لكنّه قابل للمنع و لا أقل من الغاء الخصوصية.

ملخص الكلام و الفتوي:

و قد تحصّل ممّا ذكرنا امور:

1- مقتضي القواعد حرمة الإعانة في الظلم أو ما يوجب تقوية شوكتهم أو عدّه من أعوانهم إذا كان سببا لظلمهم أو لدوامه، أمّا إعانتهم في المباحات فلا.

2- مقتضي القاعدة حرمة المقدّمات القريبة، أمّا البعيدة كسقيّهم أو بيع الطعام لهم، فلا، اللهمّ إلّا في موارد خاصّة تعدّ إعانة عرفا.

3- لا يستفاد من الأدلّة الخاصّة أيضا أزيد ممّا ذكرنا، نعم ظاهر الطائفة الخامسة حرمة

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 367

حبّ بقائهم، و يمكن حملها علي الكراهة الشديدة، أو يقال حبّ استمرار الظلم حرام، كحبّ إشاعة الفاحشة و غيرها لقوله تعالي إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ … «1» أو لاستلزامه الرضا بفعلهم، و قد ورد في الزيارات «لعن اللّه أمّة سمعت بذلك فرضيت به» و سيأتي الكلام فيه مبسوطا.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: حكم حبّ بقائهم و الرضا بأعمالهم.

و ليعلم أنّه يطلق الحبّ بالنسبة إلي الأعمال قبلها غالبا و الرضا بعدها.

و الذي يظهر من رواية صفوان السابقة (17/ 42): «فمن أحبّ بقائهم فهو منهم و من كان منهم ورد النار» و من مرفوعة سهل بن زياد (1/ 44) و ممّا رواه عياض (5/ 44) و ما رواه مسعدة بن صدقة (10/ 45) و غير ذلك أنّ محبّة بقائهم حرام.

و كذا يستفاد من روايات كثيرة، بل غير واحد من الآيات حرمة تولّي الكافرين، و حبّ شيوع الفاحشة في المؤمنين، بل يظهر منها عدّ الراضي بفعل قوم منهم، كما في قضيّة عقر ناقة صالح، بل يظهر من اللعن الوارد في الزيارات علي أمّة سمعت بذلك فرضيت به ذلك أيضا.

و لكن هذا شي ء لا يمكن الاستدلال له بحكم العقل، بخلاف مسألة المعاونة، و لكن ثبت بالشرع

قطعا.

و لعلّ الوجه في الجميع أنّ حبّهم لا ينفك عن حبّ أعمالهم، و حبّ المعصية نوع تجرّ علي اللّه، و كذا الرضا بها، و هما محرّمان بالأدلّة السمعية.

بل انّ حبّ المعصية ذريعة للوصول إليها غالبا، و ان لم تكن من قبيل العلّة لها، و الشارع لم يرتض ذلك. (و هذا كلّه غير نيّة المعصية).

هذا إذا لم ينجرّ إلي بغض أولياء اللّه، و إلّا فهو موجب للكفر كما لا يخفي.

______________________________

(1). سورة النور، الآية 19.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 368

الأمر الثّاني: كلّما كان الظالم أشدّ ظلما كانت معونته أكثر عقوبة، فمن أعان ظالما في أمر بسيط لا يضاهي من أعان قطّاع الطريق، و أشدّ منه من يعين حكّام الجور، و أشدّ من الجميع من يعين غاصبي الولاية الحقّة الإلهية من أهلها.

و علي كلّ حال، فهم مشتركون في الإثم، و لعلّ كونها كبيرة أو صغيرة تتبّع الفعل الذي عاونه فيه، لاشتراكه في الفعل، و قد أطال البحث بعض الأعلام في المكاسب المحرّمة في كونها كبيرة أو صغيرة.

هذا و في بعض كلمات الفقه الماهر صاحب الجواهر بعد ما ذكر كراهة إعانة ظلمة المخالفين و سلاطينهم في الامور المباحة ما نصّه:

«أمّا سلاطين أهل الحقّ، فالظاهر عدم الكراهة في إعانتهم علي المباحات، لكن لا علي وجه يكون من جندهم و أعوانهم، بل لا يبعد عدم الحرمة في حبّ بقائهم خصوصا إذا كان لقصد صحيح من قوّة كلمة أهل الحقّ و عزّهم» «1».

و مراده ظاهر لا سترة عليه، فهو ناظر إلي الأزمنة التي كان بقائهم بقاء للطائفة المحقّة و لم يقدر أهل الحقّ علي تأسيس حكومة عادلة من جميع الجهات، و اللّه العالم.

23- النجش
اشارة

و البحث فيه تارة من حيث حكمه

شرعا، و اخري من جهة صحّة البيع معه، و ثالثة من حيث الخيار علي فرض صحّة البيع.

و قد ذكر له تفسيران:

الأوّل: أن يزيد الرجل من ثمن السلعة و هو لا يريد شرائها، ليسمعه غيره فيزيد.

الثّاني: أن يمدح السلعة بهذا الغرض، كلّ ذلك مع التواطؤ مع البائع أو بدونه، و قد حكي التفسيران عن أرباب اللغة أيضا مضافا إلي الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) و الأصل في معناه كما قيل هو إثارة الصيد من مكان إلي مكان.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 54.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 369

أمّا الأوّل فقد استدلّ علي حرمته بامور:

1- أنّه داخل في عنوان الغشّ الممنوع شرعا، و قد عرفت في محلّه النهي عنه في روايات كثيرة، و مفهومه كما عرفت هناك هو الخيانة و الخدعة، و عدم الخلوص، و هو ضدّ النصح، فيشمل المقام أيضا بلا إشكال.

هذا إذا تحقّق البيع معه، و إلّا فقد أراد الخيانة و لم تحصل، فلا يحرم إلّا من باب التجرّي.

2- شمول أدلّة لا ضرر له، و هو أيضا غير بعيد إذا كانت المعاملة بأزيد من ثمن المثل كما هو ظاهر.

و القول بأنّ المشتري إنّما أقدم عليها بإرادته، ممنوع، بأنّ المقام من قبيل قوّة السبب بالنسبة إلي المباشر لعلمه، و جهل المشتري.

و هذا الدليلان يشملان صورة التواطؤ، بل و صورة عدمه علي الأحوط.

3- ما ورد في الروايات الخاصّة عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و هو روايتان:

الأوّل: ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «الواشمة و الموتشمة و الناجش و المنجوش ملعونون علي لسان محمّد صلّي اللّه عليه

و آله و سلم» «1».

الثاني: و ما رواه الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال:

«و نهي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم» «2».

و الأوّل و ان كان ضعيفا أو مشكوكا بمحمّد بن سنان و الثاني بشعيب بن واقد، إلّا أنّ عمل الأصحاب بهما يوجب انجبار إسنادهما، و ذكر في الجواهر انّهما مؤيّدان بالشهرة، بل الإجماع المحكي، أمّا دلالتهما ظاهرة علي المطلوب، و اشتمال حديث المناهي علي غير المحرّمات لا يمنع من ظهور النهي في الحرمة، فتأمّل.

4- حكم العقل بقبح ذلك و كونه ظلما، و هو غير بعيد مع التواطؤ بكلا التفسيرين.

هذا بالنسبة إلي أصل حكم المسألة.

فتلخّص أنّ النجش بالمعني الأوّل إذا تحقّقت المعاملة بما زاد عن ثمن المثل كان

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 337، الباب 49، من أبواب آداب التجارة، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 338، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 370

حراما، و ان لم تتحقّق لا دليل علي حرمته، و أمّا بالمعني الثاني فإن اشتمل علي كذب كان حراما من هذه الجهة، و كذا إذا وقعت المعاملة الضررية أو المغشوشة، و إلّا لا دليل علي حرمته.

أمّا فساد المعاملة (الذي حكي عن ابن الجنيد) فلا وجه له، لعدم كون النهي التكليفي موجبا للفساد في المعاملات، مضافا إلي كونه نهيا بما هو خارج عن المعاملة كما هو ظاهر.

أمّا الخيار، فاختار بعضهم ثبوته مع النجش مطلقا، و حكي عن القاضي ذلك، و نفاه مطلقا الشيخ قدّس سرّه في المبسوط مع عدم المواطاة، و فصل صاحب الجواهر قدّس سرّه بين صورة الغبن و عدمه.

و يدلّ علي الأوّل كونه

تدليسا، فيثبت فيه خيار التدليس، كما أنّ دليل الثاني أصالة اللزوم و دليل القول الثالث أيضا ظاهر.

و التحقيق أنّه لم يثبت كون التدليس بما هو تدليس موجبا للخيار، و لذا لم يذكر غير واحد من الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) منهم الشيخ الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه في عداد الخيارات الخمسة أو السبعة المشهورة «1».

نعم إذا كان سببا للغبن أو الضرر أو الغفلة عن العيب الموجود ثبت الخيار لهذه العناوين.

بقي هنا فروع:

1- إذا كان المواطاة بين المشتري و غيره بترك الزيادة تلبيسا علي البائع، فان دخل في عنوان الغشّ فهو محكوم بحكمه، و لكن الظاهر أنّ دخوله تحته مشكل غالبا، نعم ربّما يكون مصداقا للإضرار، فيدخل تحت أدلّته، فهو أيضا قليل.

2- ذكر في الجواهر إنّه إذا قال البائع كذبا: «أعطيته في هذه السلعة كذا و صدّقه المشتري فهو بحكم النجش في الحرمة و الخيار مع الغبن و لو كان صادقا فالخيار خاصّة

______________________________

(1). السبعة في المكاسب، و الخمسة في الشرائع.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 371

معه» (انتهي مفاد كلامه) «1» و لعلّ مراده مواطاة البائع مع المشتري بزيادة قيمة السلعة كذبا حتّي يرغب فيها غيره، فالزيادة الكاذبة قد تكون من ناحية المشتري و اخري من ناحية البائع، و كلاهما محكوم بحكم واحد، و ان سمّي أحدهما نجشا دون الآخر.

3- الدعايات الكاذبة أو غير الكاذبة المتداولة اليوم بين أرباب التجارات و الحرف قد تدخل في حكم النجش، فانّه قد يكون فيها إغفال و خدعة و غشّ و تدليس، و اخري تكون بالمواطاة بين البائع و بعض أفراد المشتري بأن يساوم معه بقيمة غالية و يأخذ منه الثمن في أعين الناس، ثمّ يرد عليه خفاء كلّه أو بعضه.

و ثالثة

برجوع البائع إلي المشتري الحقيقي و يبتاع هو أو أعوانه المتاع بأكثر ممّا اشتري حتّي يتوهّم أنّه شي ء غال جدّا، فيروّج بهذه السلعة ترويجا كاذبا فيرجع هو أو غيره إلي البائع فيبتاع غالبا.

و رابعة بشراء المتاع من نوع خاص و جعله في المخازن حتّي تتوفّر الحاجة إليه و يبيعه بأسعار غالية مجحفة.

كلّ ذلك حرام إذا كان فيه إضرار بالمسلمين و خديعة لهم أو مشتملا علي الكذب و قول الزور.

نعم، إذا كانت الدعاية بذكر ما في المتاع من الامتيازات و المنافع و فوائده الواقعية التي توجب مزيد الرغبة فيه و الميل، لم يكن حراما.

24- النميمة

و هي السعي بين شخصين أو قومين و نقل حديث بعض إلي بعض بقصد الإفساد و الشرّ، و حرمتها مجمع عليها بين علماء الإسلام، بل ادّعي ضرورة الدين عليها.

و استدلّ لها مضافا إلي ما ذكر، بآيات من الذكر الحكيم:

منها قوله تعالي: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «2».

______________________________

(1). الجواهر، ج 22، ص 477.

(2). سورة البقرة، الآية 27.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 372

و مثلها في سورة الرعد «1».

و ما قد يقال: إنّها تختصّ بموارد أمر فيها بالوصل، و النمام لم يؤمر بالصلة بين الناس، ممنوع، بأنّ كلّ مسلم مأمور بهذا الأمر و الاعتصام بحبل اللّه و عدم التفرّق.

و يدلّ علي المقصود ذيل الآية أيضا، و هو قوله وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و النمّام مفسد في الأرض، و عدم شمول هذا العنوان له إلّا إذا كان هناك فساد كبير لا يضرّ بالمقصود بعد إمكان إلغاء الخصوصية، فتأمّل.

و استدلّ أيضا كما في الجواهر بقوله تعالي: وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «2».

هذا و لكن الإنصاف

أنّ الفتنة التي هي أكبر من القتل ليست مجرّد الفتنة بين شخصين كما هو ظاهر، فهي أخصّ من المدّعي، و يشهد له صدر الآية و ذيلها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ …

و يدلّ عليه من السنّة روايات كثيرة بما تكون متواترة (رواها الوسائل في الباب 164 من أحكام العشرة) و إليك بعض تلك الروايات:

1- ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «ألا انبئكم بشراركم؟» قالوا بلي يا رسول اللّه! قال: «المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب» «3».

2- ما رواه محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «الجنّة محرّمة علي القتّاتين المشّائين بالنميمة» «4».

3- ما رواه أبو الحسن الاصفهاني عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «شراركم المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، المبتغون للبراء المعايب» «5».

______________________________

(1). سورة الرعد، الآية 25.

(2). سورة البقرة، الآية 217.

(3). وسائل الشيعة، ج 8، ص 616، الباب 164، من أبواب أحكام العشرة، ح 1.

(4). المصدر السابق، ص 617، ح 2.

(5). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 373

4- ما رواه علي بن غالب البصري عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يدخل الجنّة سفّاك الدم، و لا مدمن الخمر، و لا مشّاء بنميمة» «1».

5- ما رواه علي بن جعفر عن أبي الحسن موسي عليه السّلام قال: «حرمت الجنّة علي ثلاثة:

النمّام، و المدمن الخمر، و الديّوث، و هو الفاجر» «2».

و قد مرّ في أبواب السحر أنّ من أكبر السحر النميمة، كما مرّ أنّه منه حكما و تأثيرا، لا موضوعا.

و

يدلّ عليه من العقل أنّها من أظهر مصاديق الظلم، فتتمّ الأدلّة الأربعة علي تحريمها.

هذا و ينطبق عليها كثيرا عناوين محرّمة اخري، كإفشاء سرّ المؤمن أو غيبته، و إغراء الغير به، و غير ذلك، فيشتدّ حرمتها بذلك.

بقي هنا شي ء، و هو أنّها قد تباح بل قد تجب إذا كان لإيقاع الفتنة بين المشركين، و إعزاز المؤمنين و نصرهم عليهم، إلّا أن يقال إنّ المدار علي المؤمن كما في أحكام الغيبة و غيرها، فتدبّر.

25- النّوح بالباطل
اشارة

حكي عن المبسوط و ابن حمزة حرمة النوح مطلقا من غير تقييد، بل ادّعي الأوّل الإجماع عليه، و لكن ظاهر المشهور عدم حرمته كذلك، و التفصيل فيه، لأنّهم ذكروا جواز أخذ الاجرة علي النوح بالحقّ، بل ادّعي العلّامة رحمه اللّه فيما حكي عنه عن المنتهي الإجماع عليه، فعلي هذا يفصل بين النوح الباطل و الحقّ، و المراد من الباطل أعمّ من الكذب و مدح الميّت بأفعاله القبيحة و صفاته المذمومة، و غير ذلك ممّا لا يجوز شرعا.

و أمّا حكم الألحان فيه فسيأتي إن شاء اللّه، و علي كلّ حال فهناك طوائف من الروايات:

الطائفة الاولي: ما يدلّ علي جواز أصل النوح، منها:

1- ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال لي أبي يا جعفر أوقف لي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 8، ص 618، الباب 164، من أبواب أحكام العشرة، ح 7.

(2). المصدر السابق، ح 9.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 374

من مالي كذا و كذا لنوادب تندبني عشر سنين بمني أيّام مني!» «1».

2- ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: مات الوليد بن المغيرة فقالت أمّ سلمة للنبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم: إنّ آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها، و تهيّأت، و كانت من حسنها كأنّها جانّ، و كانت إذا قامت فأرخت شعرها جلّل جسدها و عقدت بطرفيه خلخالها، فندبت ابن عمّها بين يدي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقالت:

أنعي الوليد بن الوليد أبا الوليد فتي العشيرة

حامي الحقيقة ماجد يسمو إلي طلب الوتيرة

قد كان غيثا في السنين و جعفرا غدقا و ميرة

فما عاب رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم ذلك

و لا قال شيئا «2».

3- ما رواه عذافر قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و سئل عن كسب النائحة فقال: «تستحلّه، بضرب إحدي يديها علي الاخري» «3».

لعلّها إشارة إلي ما هو المتداول في ابتداء النياحة من ضرب إحدي اليدين علي الاخري به تستحقّ اجرتها.

4- ما رواه أبو بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس بأجر النائحة التي تنوح علي الميّت» «4».

5- ما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا سئل الصادق عليه السّلام عن أجر النائحة فقال: «لا بأس به قد نيح علي رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم» «5».

الطائفة الثانية: ما دلّ علي تقييد النوح بالصدق أو عدم الهجر، منها:

6- ما روته خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين عليه السّلام في حديث قال سمعت عمّي محمّد بن علي عليه السّلام يقول: إنّما تحتاج المرأة إلي النوح لتسيل دمعتها، و لا ينبغي لها أن تقول

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 88، الباب 17، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 89، الباب 17، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 90، ح 4.

(4). المصدر السابق، ص 90، ح 7.

(5). المصدر السابق، ص 91، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 375

هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح «1».

7- ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال عليه السّلام: لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا «2».

الطائفة الثالثة: و فيها التعبير بالكراهة، منها:

8- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن النوح علي الميّت أ يصلح؟ قال: «يكره» «3».

9- ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر قال: سألته عن النوح؟ فكرهه «4».

10- ما رواه سماعة قال سألته عن كسب المغنية و النائحة فكرهه «5».

الطائفة الرابعة: ما دلّ علي النهي مطلقا منها:

11- ما رواه الحسين بن زيد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث المناهي أنّه نهي عن الرنّة عند المصيبة، و نهي عن النياحة و الاستماع إليها و نهي عن تصفيق الوجه «6».

12- و ما رواه عبد اللّه بن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «أربعة لا تزال في أمّتي إلي يوم القيامة …

و النياحة و أنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب» «7».

الطائفة الخامسة: ما دلّ علي النهي عن الشرط في الثمن منها:

13- ما رواه حنّان بن سدير قال: كانت امرأة معنا في الحي و لها جارية نائحة، فجاءت إلي أبي، فقالت: يا عمّ أنت تعلم أنّ معيشتي من اللّه، ثمّ من هذه الجارية، فاحبّ أن تسأل أبا

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 91، الباب 17، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 91، ح 13.

(4). المصدر السابق، ص 92، ح 14.

(5). المصدر السابق، ص 90، ح 8.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 91، ح 11.

(7). المصدر السابق، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 376

عبد اللّه عن ذلك فان كان حلالا، و إلّا بعتها و أكلت ثمنها حتّي يأتي اللّه بالفرج، فقال لها أبي:

و اللّه لأعظم أبا عبد اللّه أن أسأله عن هذه المسألة قال: فلمّا قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «تشارط؟» فقلت: و اللّه ما أدري تشارط أم لا؟ فقال: «قل لها لا

تشارط فتقبل ما اعطيت» «1».

و هي من أدلّة الجواز إلّا أن يقال ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و طريق الجمع بين هذه الطوائف ظاهرة، و هو تقييد أدلّة الجواز بما إذا لم يكن فيه كذب و لا حجر، و كذلك إطلاق أدلّة الحرمة تقيّد بما إذا كان فيه ذلك، بشهادة ما دلّ علي التفصيل، لكن الروايتين (6/ 17 و 9/ 17) كلتيهما مرسلتان، إلّا أن يقال بانجبارهما بعمل المشهور لذهابهم إلي التفصيل، و هو غير بعيد.

و أيضا يجمع بين ذلك كلّه و ما دلّ علي الكراهة، و هما روايتا علي بن جعفر عليه السّلام، و أوّليهما صحيحة، فيحكم بكراهة النوح مطلقا، إلّا في موارد يتعلّق به غرض أهمّ، كالنياحة علي أولياء اللّه، إلّا أن يقال الكراهة في لسان الروايات ليست بمعناها المصطلح عندنا، بل كثيرا ما تكون بمعني الحرمة، فحينئذ يجمع بينهما و غيرهما علي ما ذكرنا فيما دلّ علي الحرمة.

ثمّ نقول بكراهة اشتراطها الاجرة بمقدار معيّن لصحّة رواية (3/ 17).

فالأقوي هو الحكم بجواز النياحة بالحقّ، لا بالباطل، و لا يبعد كراهتها.

و أمّا من جهة اشتمالها علي الترجيع و أصوات و ألحان فقد عرفت في مبحث الغناء أنّه إن كان صوتا لهويا يناسب مجالس أهل الفسوق و العصيان فهو حرام حتّي لو كان في النياحة بل و القرآن الكريم، و ان لم يكن كذلك فلا حرمة فيه.

و أمّا سماع صوتها للرجال الأجانب فصوت المرأة ليست عورة، نعم إذا كان فيه خضوع و ترقيق و كيفية توجب أن يطمع الذي في قلبه مرض، فهو محرّم من هذه الناحية.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي

طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 376

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 89، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 377

26- الولاية من قبل الجائر
اشارة

و هي من المسائل المهمّة التي يكثر الابتلاء بها، و تمام الكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأوّل: حكمها علي سبيل الإجمال مع أدلّتها

فحرمتها من المسلّمات بين الأصحاب، و ادّعي الإجماع فيه غير واحد، بل ذكر أنّه من الضروريات المستغنية عن ذكر ما يدلّ عليه من الكتاب و السنّة، و كيف كان، فيدلّ عليه مضافا إلي ما مرّ:

أوّلا- الحكم و الولاية حقّ للّه و لرسوله و الأئمّة الميامين من أهله و من نصّبوه لذلك كما ثبت في محلّه، فتصدّي غيره له حرام محرّم، بل هو غاصب، و كذلك كلّ من كان منصوبا من قبله غاصب أو بحكمه، و هذا ظاهر.

ثانيا- الروايات الكثيرة الدالّة علي الحرمة صراحة، أو ظهورا، أو بالملازمة منها ما يلي:

1- ما رواه داود بن زربي قال: أخبرني مولي لعلي بن الحسين عليه السّلام قال: كنت بالكوفة فقدم أبو عبد اللّه عليه السّلام الحيرة فأتيته فقلت: جعلت فداك لو كلّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فأدخل بعض هذه الولايات، فقال: «ما كنت لأفعل» «إلي أن قال» قلت: جعلت فداك ظننت أنّك إنّما كرهت ذلك مخافة أن أجور أو أظلم، و إن كلّ امرأة لي طالق و كلّ مملوك لي حرّ و عليّ و عليّ إن ظلمت أحدا أو جرت عليه و إن لم أعدل. قال: «كيف» قلت؟ فأعدت عليه الأيمان، فرفع رأسه إلي السماء فقال: «تناول السماء أيسر عليك من ذلك» «1».

2- ما رواه حميد: قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: انّي ولّيت عملا فهل لي من ذلك مخرج فقال: «ما أكثر من طلب المخرج من ذلك فعسر عليه»، قلت فما تري؟ قال: «أري أن تتّقي اللّه عزّ و جلّ و لا تعود» «2».

3- ما رواه الحسين بن

زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام في حديث المناهي قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «من تولّي عرافة قوم أتي به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلي عنقه فان

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 136، الباب 45، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 378

قام فيهم بأمر اللّه عزّ و جلّ أطلقه اللّه، و ان كان ظالما هوي به في نار جهنّم و بئس المصير» «1».

و لا يخفي عليك ما في «العرافة» من الإشكال.

4- ما رواه الصدوق رحمه اللّه في عقاب الأعمال بسنده عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في حديث قال: «من أكرم أخاه فإنّما يكرم اللّه عزّ و جلّ … و من تولّي عرافة قوم «و لم يحسن فيهم» حبس علي شفير جهنّم بكلّ يوم ألف سنة و حشر و يده مغلولة إلي عنقه فإن كان قام فيهم بأمر اللّه أطلقها اللّه و إن كان ظالما هوي به في نار جهنّم سبعين خريفا» «2».

5- ما رواه مسعدة بن صدقة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان يعملون لهم و يحبون لهم و يوالونهم قال: «ليس هم من الشيعة و لكنّهم من اولئك. ثمّ قرأ أبو عبد اللّه عليه السّلام هذه الآية لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَليٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ إلي قوله: وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ قال الخنازير علي لسان داود، و القردة علي لسان عيسي كٰانُوا لٰا يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ قال: كانوا يأكلون لحم

الخنزير و يشربون الخمور و يأتون النساء أيّام حيضهنّ، ثمّ احتجّ اللّه علي المؤمنين الموالين للكفّار فقال: تَريٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلي قوله وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ و نهي اللّه عزّ و جلّ أن يوالي المؤمن الكافر إلّا عند التقيّة» «3».

6- ما رواه العياشي في تفسيره عن سليمان الجعفري قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام:

ما تقول في أعمال السلطان؟ فقال: «يا سليمان الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر و النظر إليهم علي العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار» «4».

7- ما رواه علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال:

«إن كنت لا بدّ فاعلا فاتّق أموال الشيعة». قال: فأخبرني علي أنّه كان يجبيها من الشيعة

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 136، الباب 45، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 137، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 138، ح 10.

(4). المصدر السابق، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 379

علانية و يردّها عليهم في السرّ «1».

8- ما رواه زياد بن أبي سلمة قال: دخلت علي أبي الحسن موسي عليه السّلام فقال لي: «يا زياد إنّك لتعمل عمل السلطان؟» قال: قلت: أجل! قال لي: «و لم؟» قلت: أنا رجل لي مروّة و عليّ عيال و ليس وراء ظهري شي ء. فقال لي: «يا زياد! لئن أسقط من حالق فانقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّي لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلّا لما ذا»، قلت:

لا أدري جعلت فداك. قال: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء

دينه. يا زياد إنّ أهون ما يصنع اللّه جلّ و عزّ بمن تولّي لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلي أن يفرغ (اللّه) من حساب الخلائق (الخلق).

يا زياد فان ولّيت شيئا من أعمالهم فأحسن إلي إخوانك فواحدة بواحدة، و اللّه من وراء ذلك، يا زياد! أيّما رجل منكم تولّي لأحد منهم عملا ثمّ ساوي بينكم و بينه فقولوا له أنت منتحل كذّاب، يا زياد! إذا ذكرت مقدرتك علي الناس فاذكر مقدرة اللّه عليك غدا و نفاد ما أتيت إليهم عنهم و بقاء ما أتيت (أبقيت) إليهم عليك» «2».

9- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ذكر عنده رجل من هذه العصابة قد ولي ولاية، فقال: «كيف صنيعه إلي اخوانه؟» قال: قلت ليس عنده خير، قال: «اف يدخلون فيما لا ينبغي لهم و لا يصنعون إلي اخوانهم خيرا!» «3».

10- ما رواه يونس بن عمّار قال: وصفت لأبي عبد اللّه عليه السّلام من يقول بهذا الأمر ممّن يعمل عمل السلطان، فقال: «إذا ولّوكم يدخلون عليكم المرفق و ينفعونكم في حوائجكم؟» قال: قلت: منهم من يفعل «ذلك» و منهم من لا يفعل، قال: «من لم يفعل ذلك منهم فابرءوا منه، برئ اللّه منه!» «4».

11- ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سمعت يقول: «من أحللنا له شيئا أصابه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 140، الباب 46، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

(2). المصدر السابق، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 141، ح 10.

(4). المصدر السابق، ص 142، ح 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 380

من أعمال الظالمين، فهو له حلال و ما حرّمناه من ذلك فهو له حرام»

«1».

و هذه الروايات بين ما دلّ علي حرمة الولاية، و ما دلّ علي حرمة العمل، و ما دلّ علي الحاجة إلي إجازة ولي الأمر عليه السّلام إلي غير ذلك من التعبيرات.

المقام الثاني: هل الحرمة فيها ذاتية؟

ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع أنّ الحرمة فيها ليست ذاتية، لقوله «و تحرم من قبل الجائر إذا لم يؤمن اعتماد ما يحرم» «2».

و لكن صرّح بعضهم بحرمتها ذاتا، و حكي عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه في مصابيحه ميله إلي هذا القول، و أنّها تتضاعف إثما باشتمالها علي المحرّمات «3».

و عن فقه القرآن للراوندي أن تقليد الأمر من قبل الجائر جائز إذا تمكّن من العيال الحقّ لمستحقّه بالإجماع المتردّد «4».

و العمدة في إثبات هذا القول ما هو المعلوم بالأدلّة أنّ الحكومة حقّ للّه و لأوليائه المأمورين من قبله، فغيره غاصب لها غير مستحقّ لشي ء منها، فالتغلّب عليها حرام و ان عدل فيهم، كما أنّ التصدّي للقضاء لمن لم يؤذن له في الشرع حرام، و ان حكم بالحقّ و عدل في الحكم.

و بالجملة، الحكومة و الولاية و القضاء و بيان الفتوي امور محتاجة إلي الإذن منه تعالي أو من أوليائه، فالتصدّي لها بدونه حرام ذاتا (أي مع قطع النظر ممّا يترتّب عليه من الآثار).

و أمّا التغلّب علي امور الناس بغير رضي منهم كما هو الغالب في الحكومات و الولايات حتّي أنّ غيره نادر جدّا، و تصرّفهم في امورهم و دعوتهم إلي التسليم لأمرهم و نهيهم، و جعل العقوبات علي المخالفين لهم فهي محرّمات اخري، و يؤيّد ما ذكرنا ما مرّ في بعض الروايات السابقة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 143، الباب 46، من أبواب ما يكتسب به، ح 15.

(2). نقلا عن الجواهر، ج 22،

ص 156.

(3). المصدر السابق، ص 159.

(4). المصدر السابق، ص 160.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 381

و أمّا من الأدلّة الخاصّة فالحرمة الذاتية بالمعني الذي ذكرنا و إن كان ظاهر رواية تحف العقول- بناء علي كون المفاسد المذكورة فيها من قبيل الحكمة لا العلّة- و لكن دعوي كونها علّة، بل و انصراف عنوان الحكومة إلي ما يتلبّس الحاكم بشي ء من أعماله التي لا تنفكّ عن الحرمة بمكان من الإمكان.

و كذلك غيره ممّا يظهر منه ذلك في بدو النظر لا سيّما ما رواه: ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللّه يوم القيامة خنزيرا» «1».

و روايات 6/ 45 و 7/ 45 و 9/ 46 و 12/ 46.

و لكن حمل جميع ذلك علي ما ينصرف إليه الإطلاق في أمثال المقام من التلبّس بأعمالهم المحرّمة غير بعيد.

و يشهد لهذا التقييد قوله عليه السّلام: واحدة بواحدة، في رواية 9/ 46 و رواية 4/ 45:

و ما رواه في المقنع قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يحبّ آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و هو في ديوان هؤلاء فيقتل تحت رأيتهم فقال: «يحشره اللّه علي نيّته» «2».

و ما رواه زيد الشحّام قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام يقول: «من تولّي أمرا من امور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر في امور الناس كان حقّا علي اللّه عزّ و جلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنّة» «3».

و قوله عليه السّلام: هو بمنزلة الأجير، فيما رواه الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن

رجل مسلم و هو في ديوان هؤلاء و هو يحبّ آل محمّد صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و يخرج مع هؤلاء في بعثهم فيقتل تحت رأيتهم. قال: «يبعثه اللّه علي نيّته». قال: و سألته عن رجل مسكين خدمهم رجاء أن يصيب معهم شيئا فيعينه اللّه به فمات في بعثهم قال: «هو بمنزلة الأجير أنّه إنّما يعطي اللّه العباد علي نيّاتهم» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 130، الباب 42، من أبواب ما يكتسب به، ح 9. و ليعلم أنّ كلمة «سابع» مقلوبة عن كلمة «عبّاس» و كان لأجل التقيّة فالمنظور كتابة الاسم في ديوان بني عبّاس.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 139، الباب 46، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(3). المصدر السابق، ص 140، ح 7.

(4). المصدر السابق، ص 146، الباب 48، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 382

فالعمدة في الحرمة الذاتية ما عرفته من مقتضي الاصول.

و الذي يقتضيه التحقيق في الجمع بين هذه الروايات أنّ تسويد الاسم في ديوانهم إذا كان موجبا لقوّتهم، و كان خاليا عن فائدة للناس و عن اجراء العدالة كان حراما، و كذا العمل معهم أو التصدّي للأمور العامّة من قبلهم.

نعم، إذا عدل في الناس و نظر في امورهم بما يرضاه اللّه من الأعمال جاز ذلك، بل كان مثابا به.

و الحاصل إنّ قبول الولاية و التصدّي لها علي أنحاء:

1- إذا اضطرّ إليه و كان مكرها، و هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء اللّه.

2- إذا اضطرّ الناس إليه و كان كهفا لهم، و هو أيضا كذلك.

3- إذا لم يكن شي ء من ذلك، و لكن لم يأت إلّا بما هو مقتضي العدالة، فالظاهر جوازه لا سيّما

بمقتضي ما ورد في الكتاب العزيز في يوسف عليه السّلام اجْعَلْنِي عَليٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ «1» و ما ورد فيه و في الباب 48 مضافا إلي ما مرّ من روايات الباب 46 مثل 6/ 46 و 7/ 46 و 2/ 48 و 4/ 45 و غيرها.

و يحمل ما دلّ علي الحرمة علي ما إذا اقترنت بالحرام، و في الروايات شواهد جمعت عليه، و علي هذا لا تكون الحرمة ذاتية.

و يمكن الجمع بينه و بين ما دل علي كون الولاية و الحكومة من حقوق اللّه و أوليائه بأنّ الحرام هو فيما إذا أسّس أساس الحكومة، و لكن إذا كانت الحكومة الجائرة موجودة، و لكن لحق بهم مجتنبا أعمالهم، و لم يصدر منه غير الحقّ جاز، أو تحمّل الأخبار المجوّزة علي غير الامور الهامّة.

و بعبارة اخري: هنا ثلاث طوائف من الأخبار: ما يدلّ علي الحرمة، و ما يدلّ علي الجواز، و ما يدلّ علي الترغيب، و الجمع بينها بوجوه ثلاثة:

الأوّل: ما ذهب إليه في الشرائع من الجواز عند عدم ارتكاب ما يحرم، و الاستحباب عند القدرة علي الأمر بالمعروف.

______________________________

(1). سورة يوسف، الآية 54.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 383

الثاني: اختصاص الحرمة بما إذا لم يأمن من الحرام.

الثالث: إنّ الحرمة تختصّ بما إذا كان قبوله بدافع حبّ الرئاسة، أمّا إذا كان قصده الخير، فتجوز، و ان كان لخصوص الحقّ فهو راجح.

و المسألة غير خالية عن الإشكال، و سيأتي تتمّة الكلام في ذلك في المقام الخامس إن شاء اللّه.

المقام الثّالث: ما المراد بالولاية؟

لا شكّ في أنّها تعني قبول الامور السياسيّة المهمّة من الأمارة و شبهها، و أمّا مثل كون الإنسان خادما للوالي أو سائقا أو طبّاخا أو غير ذلك من الامور العادية

غير السياسية فلا يعدّ واليا، و لا يدخل في رواية تحف العقول و لا غيرها ممّا أخذ فيها عنوان الولاية، و لكن قوله «العمل لهم و الكسب معهم» قد يكون عامّا، و كذا كلّ ما عبّر فيه عنوان الإعانة لهم، أو الدخول في أعمال السلطان، و السعي في حوائجهم، مثل رواية 12/ 45 و غيرها، و لا سيّما رواية 9/ 42 التي تعمّ الجميع، نعم الأدلّة العامّة الدالّة علي أنّ تصدّي هذه الامور إنّما تختصّ بالمعصومين عليهم السّلام و من أذنوا له، ممّا يدلّ علي الحرمة الذاتية، لا تدلّ علي حرمة الولاية إلّا فيما عرفت من الامور الهامّة السياسية من الأمارة و شبهها.

المقام الرّابع: هل هناك فرق بين حكّام الجور و غاصبي الخلافة عن أهلها؟

ممّا ذكرنا تعرف الحال في المقام الرابع، و أنّ التصدّي للحكومة و الأمارة بغير إذن منهم حرام علي كلّ حال، و منعهم عن الوصول إلي مقامهم عليهم السّلام كبيرة اخري فوقه، و بالجملة قد تكون الحكومة الجائرة كحكومة بني اميّة و بني العبّاس بعنوان الخلافة عن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ففيه عناوين ثلاث من الكبائر:

1- منع صاحب الحقّ عن حقّه، و هو من أعظم المعاصي.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 384

2- التصدّي لما ليس له و لا يجوز إلّا بإذن أهله.

3- التشريع إذا قصد بها إذن اللّه، كما هو ظاهر هذا العنوان.

و ان قارنتها تصرّفات و مظالم و قضاء جور فهي محرّمات اخري.

المقام الخامس: في مستثنيات الحرمة في المقام
اشارة

استثني غير واحد من الأعلام صورتين من الولاية المحرّمة: صورة القيام بمصالح العباد، و صورة الإكراه.

أمّا الصورة الاولي: القيام بمصالح العباد
اشارة

فقد عرفت آنفا ما عن فقه الراوندي من أنّ الولاية من قبل الجائر جائزة إذا تمكّن معها من إيصال الحقّ لمستحقّه، ثمّ استدلّ له بالإجماع و السنّة الصحيحة، و قوله تعالي اجْعَلْنِي عَليٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ …

و بمثله عبّر في السرائر و النهاية «1» و لكن قال في القواعد: تحرم من قبل الجائر إلّا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر «2».

و ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه أنّه تسوغ الولاية المذكورة لأمرين، أحدهما القيام بمصالح العباد …

و لعلّ التعبيرات الثلاثة تعود إلي شي ء واحد، و ان كان بعضها أعمّ من بعض ظاهرا، و لذا ادّعي شيخنا الأعظم عدم الخلاف فيما عنونه، مع وجود الخلاف ظاهرا نظرا إلي عود الجميع إلي واحد.

ثمّ إنّهم بين من عبّر بالجواز كالعلّامة رحمه اللّه في التذكرة و التحرير، و من عبّر بالاستحباب كما في النهاية و الشرائع و النافع و غيرها، و عن السرائر أنّها واجبة.

______________________________

(1). نقلا عن الجواهر، ج 22، ص 163.

(2). المصدر السابق، ص 160.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 385

و لا بدّ أوّلا من ملاحظة دليل الاستثناء، ثمّ الكلام في ملاكه و عنوانه، ثمّ في حكمه من الجواز و الوجوب و الاستحباب.

فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية): استدلّ له بامور:

1- قاعدة الأهمّ و المهمّ إذا كانت هناك عناوين أهمّ مثل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و شبه ذلك، و لكن هل مجرّد الإحسان إلي الاخوان أو بعض المصالح غير اللازمة كافية في هذا المقام؟ الظاهر عدمه، فلو كانت حرمتها ذاتية يشكل رفعها بهذه الامور.

و

الحاصل أنّ مصالح العباد منها واجبة الحفظ و منها مستحبّة، و المدّعي هو الأعمّ و الدليل أخصّ منه، فتأمّل.

2- ما ورد في قضيّة يوسف: اجْعَلْنِي عَليٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، و الإشكال فيه بأنّه من أحكام الشرائع السابقة مدفوع، أوّلا باستصحابها كما قيل، و ثانيا بأن ذكرها في القرآن من غير إنكار دليل علي جوازها في شرعنا.

و أورد عليه أيضا بأنّ يوسف عليه السّلام كان مستحقّا للسلطنة و إنّما أخذ حقّه.

و فيه: إنّه استدلّ له الإمام الرضا عليه السّلام كما في غير واحد من الروايات (راجع الباب 48 من أبواب ما يكتسب به) و لم يستند إلي كونه صاحب حقّ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ غير واحد منها ناظر إلي مسألة الزهد و الباقي مرسلة، فتأمّل.

3- الأحاديث الخاصّة الواردة في المقام، و قد أشرنا إلي غير واحد منها سابقا، و تضيف إليها هنا أحاديث اخري، منها:

1- ما رواه علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه تبارك و تعالي مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه» «1».

2- و ما رواه الصدوق رحمه اللّه قال: قال الصادق عليه السّلام: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان» «2».

3- و ما رواه في المقنع قال: روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «إنّ للّه مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 139، الباب 46، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 5.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 386

4- و ما رواه مهران بن محمّد بن أبي نصر «بصير» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول:

«ما من جبّار إلّا

و معه مؤمن يدفع اللّه عزّ و جلّ به عن المؤمنين و هو أقلّهم حظّا في الآخرة» «1» (يعني أقلّ المؤمنين حظّا بصحبة الجبّار).

إلي غير ذلك ممّا يدلّ علي هذا المعني.

و روي في المستدرك المجلّد 13 في الباب 39 روايات كثيرة في هذا المعني، أهمّها ما يلي:

1- ما رواه محمّد السياري عن علي بن جعفر عليه السّلام قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام إنّ قوما من مواليك يدخلون في عمل السلطان و لا يؤثرون علي إخوانهم و إن نابت أحدا من مواليك نائبة قاموا. فكتب: أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «2».

2- و ما رواه الحلبي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: يكون الرجل من أصحابنا مع هؤلاء في ديوانهم فيخرجون إلي بعض النواحي فيصيبون غنيمة، قال: «يقتضي منها اخوانه» «3».

3- ما رواه محمّد بن عيسي بن يقطين قال: كتب علي بن يقطين إلي أبي الحسن عليه السّلام في الخروج من عمل السلطان. فأجابه: «إنّي لا أري لك الخروج من عمل السلطان: فانّ للّه عزّ و جلّ بأبواب الجبابرة من يدفع بهم عن أوليائه و هم عتقائه من النار فاتّق اللّه في اخوانك» «4».

4- و ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته من عمل السلطان و الدخول معهم، قال: «لا بأس إذا وصلت اخوانك و عضدت أهل ولايتك» «5».

5- ما رواه الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام أستأذنه في أعمال السلطان، فقال: «لا بأس به ما لم يغيّر حكما و لم يبطل حدّا و كفّارته قضاء حوائج اخوانكم» «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 134، الباب 44، من

أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 130، الباب 39، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(3). المصدر السابق، ص 136، ح 20.

(4). المصدر السابق، ص 130، ح 3.

(5). المصدر السابق، ص 131، ح 4.

(6). المصدر السابق، ص 132، ح 10.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 387

6- و ما رواه صفوان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من كان ذا صلة لأخيه المؤمن عند سلطانه أو تيسير عسير له أعين علي إجازة الصراط يوم تدحض الأقدام» «1».

7- ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال سألته عن عمل السلطان و الدخول معهم فيما هم فيه؟ فقال: «لا بأس إذا وصلت اخوانك وعدت أهل ولايتك» «2».

8- و ما رواه صفوان بن مهران قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من الشيعة، فشكي إليه الحاجة، فقال له: «ما يمنعك من التعرّض للسلطان فتدخل في بعض أعماله؟» فقال: إنّكم حرمتموه علينا، فقال: «خبّرني عن السلطان لنا أو لهم؟» قال: بل لكم. قال: «أهم الداخلون علينا أمن نحن الداخلون عليهم؟» قال: بلي هم الداخلون عليكم قال: «فإنّما هم قوم اضطرّوكم فدخلتم في بعض حقّكم»، فقال: إنّ لهم سيرة و أحكاما. قال عليه السّلام: «أ ليس قد أجري لهم الناس علي ذلك؟» قال: بلي. قال عليه السّلام: «اجروهم عليهم في ديوانهم و إيّاكم و ظلم مؤمن» «3».

هذا، و لكن الروايات في هذا المورد مختلفة جدّا:

طائفة منها: تدلّ علي جوازها إذا كانت دفاعا عن أولياء اللّه، و هي: 1/ 46 و 5/ 46 و 4/ 44 و … التي مرّت عليك.

طائفة اخري: تدلّ علي كفاية مجرّد الإحسان إلي

الاخوان و تفريج الكربة مثل: 3/ 46 و 9/ 46 و 12/ 46 المذكورة.

و طائفة ثالثة: دلّت علي اشتراط العدالة و النظر في امور الناس مثل: 7/ 46 و 6/ 45 و 7/ 45.

و بعضها مجملة مثل: 6/ 46.

و لكن استفادة العموم من مجموعها غير بعيد، و هي لا تساعد الحرمة الذاتية، لعدم رفعها بمجرّد المستحبّات، و لعلّ هذا كاف في إثبات عدم الحرمة الذاتية، و لذا لم يذهب إليها إلّا العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه كما قيل.

______________________________

(1). مستدرك الوسائل، ج 13، ص 132، الباب 39، من أبواب ما يكتسب به، ح 11.

(2). المصدر السابق، ص 137، ح 21.

(3). المصدر السابق، ح 23.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 388

لا يقال: إنّ هذا إذن حكومي منهم عليهم السّلام. لأنّا نقول: لسانها آبية عن ذلك، بل ظاهرها الفتوي، و ليس ببعيد في غير الامور الهامّة، فمثل علي بن يقطين و ابن بزيع يحتاجان إلي الإذن باعتبار ولاياتهما الهامّة، فتأمّل.

و أمّا في عصر الغيبة فعمل بعض الأكابر من الفقهاء مثل البهائي و المجلسي و غيرهما كان علي ذلك لكونهم نوابا منه عليه السّلام.

ثمّ إنّ لسانها بين ما دلّ علي الوجوب، أو الجواز مع الكراهة، أو الاستحباب و يمكن الجمع بينها بما يأتي.

فتلخّص ممّا ذكرنا امور:

1- إنّ قبول الولاية محرّمة إذا استلزم تقوية شوكتهم أو كان مظنّة لفعل محرّم حرام.

2- إذا لم يكن فيه شي ء من ذلك، و كان فيه خدمة لمصالح العباد و إرفاقا بخلقه فانّه جائز، بل قد يكون راجحا إذا لم يكن فيه نيّة غير ذلك.

3- قد يكون واجبا إذا توقّف عليه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو حفظ نظام المسلمين و ردّ كيد أعدائهم

و أعداء أهل البيت عليهم السّلام ممّا هو أقوي من المحرّمات الملازمة له، و لا ينافي ذلك كلّه كون الحكم للّه و لرسوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم و أوليائه عليهم السّلام من بعده، إمّا لأنّهم أذنوا في ذلك، أو لأنّ النهي ورد في تأسيس الحكومة، لا اللحوق بالحكومة المؤسّسة، أو إنّه بالنسبة إلي زمان بسط أيديهم لا أزمنة القبض، و ان كان الأحوط استحبابا عدم التعرّض بدون إذن الفقيه للأمور الهامّة منها، كالأمارة علي البلاد و شبهها.

4- و ان استلزم بعض المحرّمات و كانت فيه خدمة للعباد قد تكون حسناته كفّارة لسيّئاته، و اللّه العالم.

أمّا إجراء الحدود و القضاء و أشباههما فلا تجوز إلّا بإذن أهلها.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد يقع تعارض بين الروايات السابقة الكثيرة الدالّة علي جواز العمل معهم

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 389

إذا كان فيه مصالح العباد و بين ما دلّ علي الحرمة مطلقا مثل (9/ 45 و 10/ 45 و 12/ 45) و نحوه ممّا في معناه و قد مرّت.

و لكن الإنصاف أنّ شيئا من ذلك لا يعارض ما مرّ، بل يمكن الجمع بينها و بينه بحمل ما دلّ علي الحرمة علي ما هو الغالب من كون عمل السلطان و الاقتراب منه ملازما لبعض المحرّمات، و لا أقل من تقوية شوكته و مزيد قوّته مع عدم وجود مصلحة فيه، أو كونها أقلّ من مفاسد الاقتراب و العمل كما لا يخفي.

الأمر الثّاني: إذا توقّف الأمر بالمعروف علي قبولها، فهل يجب أو يستحبّ أو يجوز؟

ظاهر كلام العلّامة رحمه اللّه في القواعد الجواز، فانّه قال: و تحرم من قبل الجائر إلّا مع التمكّن من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

(أي لا تحرم) «1».

و ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع و المحكي عن النهاية و النافع الاستحباب، قال في الشرائع: و لو أمن اعتماد ذلك (أي ما يحرم) و قدر علي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استحبّ «2».

و عن السرائر الوجوب، حكاه في مفتاح الكرامة «3»، و لكن حكي عنه شيخنا الأعظم في مكاسبه الاستحباب «4» مثل ما في النهاية «5» و هذان متعارضان.

و لكن الإنصاف أنّ مقتضي القاعدة بناء علي عدم الحرمة الذاتية وجوبه من باب إطلاق أدلّة وجوب الأمر بالمعروف و وجوب تحصيل مقدّمته بحكم العقل.

هذا و لكن هنا توجيهات لعدم الوجوب:

الأوّل: ما في الكفاية من أنّ الوجوب يتوقّف علي كون وجوبه مطلقا غير مشروط بالقدرة فيجب عليه تحصيلها، و ليس بثابت، و لكنّه ممنوع جدّا، لعدم تقييد أدلّة وجوبه إلّا بالقدرة الفعلية كما في سائر التكاليف، و هي حاصلة، أمّا القدرة العرفية القريبة من الفعل فلا

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 113، نقلا عن القواعد.

(2). المكاسب، ص 56.

(3). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 114.

(4). المكاسب المحرّمة، ص 56.

(5). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 390

دليل عليها أبدا، لا هنا و لا في غير المقام.

اللهمّ إلّا أن يردّ في بعض المقامات دليل خاصّ بالنسبة إليه، كما في الاستطاعة بالنسبة إلي الحجّ كما لا يخفي.

أمّا إن قلنا بالحرمة الذاتية، أو كان قبول الولاية ملازما لبعض المحرّمات و لا أقل من تقوية شوكتهم و مزيد قوّتهم، فلا بدّ من ملاحظة الأهمّ و المهمّ، فلا يمكن الحكم بالوجوب مطلقا، و كذا الاستحباب و الجواز، بل يختلف بإختلاف المقامات، فالحكم بالاستحباب و الجواز مطلقا لا يصحّ علي كلّ حال.

الثّاني: ذكر الشهيد الثاني قدّس

سرّه لتوجيه عدم الوجوب ما حاصله: إنّ وجه عدم الوجوب هو كونه بصورة النائب عن الظالم، و عموم النهي عن الدخول معهم و تسويد الاسم في ديوانهم، فإذا لم تبلغ حدّ المنع فلا أقل من عدم الوجوب «1».

و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ المسألة من قبيل تزاحم المقتضيين، و من المعلوم أنّ الحكم فيه الأخذ بالأهمّ- و ذلك يختلف بإختلاف المقامات- و علي تقدير عدمه يجب الحكم بالتخيير، فالحكم بالاستحباب أو الجواز بقول مطلق ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

الثّالث: ما ذكره المحقّق الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه من تعارض أدلّة الأمر بالمعروف مع أدلّة حرمة الولاية- بناء علي حرمتها الذاتية- بالعموم من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير، و أمّا الاستحباب فيستفاد من ظهور الترغيب في خبر محمّد بن إسماعيل و غيره «2».

و فيه: أوّلا: إنّ المسألة ليست من باب التعارض، بل من باب التزاحم، للعلم بوجود الملاك من الطرفين، و الفرق بينهما معلوم.

و ثانيا: إنّ حكم التعارض بالعموم من وجه هو التساقط لا التخيير.

الرّابع: ما ذكره العلّامة الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلامه من أنّ نفس الولاية قبيحة محرّمة، لأنّها توجب إعلاء كلمة الباطل و تقوية شوكة الظالم، فإذا عارضها قبيح آخر، و هو ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ليس أحدهما أقلّ قبحا من الآخر، فللمكلّف فعلها

______________________________

(1). نقلا عن الجواهر، ج 22، ص 164.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 164.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 391

تحصيلا لهذا، و تركها دفعا لذلك، و الاستحباب يمكن أن يكون لمصلحة لم تبلغ حدّ الإلزام (انتهي ملخّصا) «1».

و فيه: أيضا إنّ التخيير في المتزاحمين فرع عدم وجود الأقوي، و من المعلوم أنّ المقامات مختلفة جدّا، هذا

أوّلا.

و أمّا ثانيا، فما ذكره في توجيه الاستحباب أمر اتّفاقي لا يناسب إطلاق كلامهم.

فالأولي صرف النظر عن التوجيه، و الأخذ بمقتضي القواعد كما عرفت، و الحكم بالوجوب في بعض المقامات.

و لبعض الأعاظم (في المكاسب المحرّمة) هنا كلام آخر، حاصله: إنّه ليس هناك تعارض و لا تزاحم بين أدلّة الولاية و أدلّة الأمر بالمعروف، و ذلك لعدم الإطلاق في الثاني، لأنّ وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إنّما هو لإقامة الفرائض، و لا يشمل ما يوجب سقوط فريضة، أو ارتكاب محرّم، و ذلك لأنّ إيجابها إنّما هو للغير، و ان لم يكن واجبا غيريا، إلّا أنّ مصلحته التوصّل إلي ما ذكر لا لمصلحة ذاتية، و ما وجب لإقامة فريضة لا إطلاق لوجوبه. نعم لو قلنا بأنّ وجوبهما عقلي، فلا يبعد القول بالتزاحم، لكنّه في غاية الإشكال إلّا في العزائم (هذا ملخّص ما ذكره بطوله) «2».

أقول: فيه جهات من النظر.

أوّلا: فانّ إنكار الإطلاق فيها ممنوع بعد ظهورها في الإطلاق، و عدم وفاء ما ذكره لمنعه، لأنّ مثل هذا البيان جار في كثير من موارد التزاحم، فلو تزاحم إطاعة أمر المولي في شي ء مع معصيته في شي ء آخر، أو رعاية حقّ إنسان مع رعاية حقّ إنسان آخر، جري فيه هذا البيان أيضا.

و ان شئت قلت: إن كان المراد إطلاق الأدلّة ذاتا و شأنا مع النظر إلي صورة التزاحم فهو ثابت، و ان كان شموله فعلا مع النظر إلي التزاحم، ففي جميع المقامات غير ثابت، و كذلك يمكن أن يقال بمثل هذا في اجتماع الأمر و النهي، و بالجملة ملاك الأمر بالمعروف موجود

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 57.

(2). المصدر السابق، ص 129.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 392

في

المقام قطعا، لوضوح مقصود الشارع منه و ثبوته في المقام.

ثانيا: بالنقض عليه بما إذا توقّف الأمر بالمعروف في امور كثيرة مهمّة علي ارتكاب معصية صغيرة، فهل يفتي بترك جميعها لهذا، و لا يراعي مسألة الأهمّ و المهمّ هنا؟

ثالثا: ما ذكره من إنكار كونهما عقليين أوّل الكلام، بل هذا أمر دارج بين العقلاء من المنع عن المنكرات و التعدّي علي الحقوق، بل الحكمة في تأسيس الحكومات من بعض الجهات ذلك، لأنّه بهما تأمن المذاهب و تحلّ المكاسب و تقام الفرائض كما في الروايات، و تدور رحي المجتمع، و تنتظم الامور، غاية الأمر أنّ الشارع يوجبهما علي كلّ واحد، و لكن العقلاء كثيرا ما يوجبونهما علي الحكومات و ان كان إيجابهما علي الأفراد في بعض المقامات من باب قبح تركهما أيضا غير نادر، فلا تغفل.

الأمر الثّالث: الدخول في أعمالهم، تارة لا يلازم محرّما غير ما هو الغالب فيه من تقوية شوكتهم، و قد عرفت حكمه، و آخر يستلزم محرّما آخر من التصرّف فيما لا يجوز التصرّف فيه، فالحكم فيه يكون بملاحظة الأهمّ و المهمّ.

و ثالثة يوجب جمع الزكاة و الخراج من غير الشيعة و إيصالها إلي السلطان الجائر، فانّ التولّي لأمورهم كثيرا ما لا ينفك عنه، فقد يقال إنّ سكوت الروايات عن ذلك دليل علي جوازه، مضافا إلي ما دلّت عليه بعض الروايات الخاصّة، و هي روايتا صفوان بن مهران و علي بن يقطين، و قد تقدّما (23/ 39 من المستدرك ج 13 و 8/ 46 من الوسائل ج 12).

هذا و العمدة انّهم علي كلّ حال يعطون زكاتهم لهم و يضعونها في غير مواضعها باختيارهم، فلذا أمروا بالإعادة بعد الإستبصار، فلا يلزم حرام يرجّح علي مسألة التصدّي.

فافهم.

الصورة الثّاني: الاكراه
اشارة

من موارد الاستثناء عن التولّي من قبل الظالمين ما إذا كان مكرها.

و قد عنون البحث بعضهم بعنوان أعمّ يشمل كلّ ضرورة من التقيّة و الاضطرار و الإكراه، و ليس به بأس.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 393

و أصل الحكم في الجملة ممّا لا كلام فيه بينهم، بل ادّعي في الجواهر عدم الخلاف فيه، بل الإجماع بقسميه «1».

و استدلّ له بامور:

1- قوله تعالي: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ- إلي قوله- إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً «2».

لكنّها ظاهرة في الولاية بمعني المحبّة و الصداقة، لا تولّي الامور السياسية و غيرها من قبلهم، اللهمّ إلّا أن يقال بالأولوية، أو الغاء الخصوصية، هذا مضافا إلي أنّه بالنسبة إلي الكافرين، و الكلام هنا في الظالمين!.

كما استدلّ بقوله تعالي: إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ «3» و خروجه عن محلّ البحث أيضا ظاهر.

2- و استدلّ له بحديث الرفع أيضا «4» فانّ المقام مصداق قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «و ما أكرهوا عليه- أو- و ما اضطرّوا إليه».

3- و بأحاديث التقيّة الواردة في الباب 25 من أبواب الأمر بالمعروف مثل:

الأوّل: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقيّة في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل به» «5».

الثّاني: و ما رواه محمّد بن مسلم و زرارة قالا: سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: «التقيّة في كلّ شي ء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له» «6».

و ما رواه يحيي بن سالم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «التقيّة في كلّ ضرورة» «7».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 165.

(2). سورة آل عمران، الآية 28.

(3). سورة النحل، الآية 106.

(4). وسائل الشيعة، ج 11، ص 295، الباب 56، من

أبواب جهاد النفس.

(5). المصدر السابق، ص 468، الباب 25، من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، ح 1.

(6). المصدر السابق، ح 2.

(7). المصدر السابق، ص 469، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 394

إلي غير ذلك، و لكن في شمول عنوان التقيّة لجميع موارد البحث إشكال ظاهر، فانّها عبارة عن إخفاء العقيدة عند الضرورة، نعم مثل إكراه علي بن يقطين و أمثاله كان داخلا في محلّ البحث، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ معني التقيّة بحسب اللغة عامّ، فانّها مصدر من مادّة الوقاية، فيشمل كلّ إكراه، بل و بعض تعريفاتهم ينطبق عليه أيضا مثل ما عن شيخنا الشهيد قدّس سرّه في القواعد:

«التقيّة مجاملة الناس بما يعرفون و ترك ما ينفرون حذرا من غوائلهم» «1». فتأمّل.

هذا و العمدة هي أدلّة الإكراه، و بالنسبة إلي موارد الاضطرار أدلّة الاضطرار، و قوله: «ما من شي ء حرّمه اللّه إلي و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه»، إنّما الكلام في تفاصيلها، و نذكرها طي امور (و منه سبحانه نستمدّ التوفيق) و نقول:

الأمر الأوّل: لا إشكال أنّ الإكراه يرفع الحرمة الذاتية للولاية علي القول بها، كما أنّه يرفع سائر المحرّمات ما عدي الدم، كما سيأتي إن شاء اللّه، و لكن الكلام في أنّ الحرام إذا كان الإضرار بالغير فهل يجوز مطلقا، أو يلاحظ الأهمّ منهما، فبعض المحرّمات جائز قطعا في هذا الحال، و بعضها حرام كإراقة الدماء، و بعضها محلّ الكلام؟

فيه قولان:

الأوّل: عدم ملاحظة الموازنة أصلا، بل يباح بالإكراه الإضرار الكثير في مقابل التهديد بالضرر اليسير، و هو ظاهر كلام الجواهر «2» فلو قال اضربه مائة سوط، و إلّا ضربتك سوطا واحدا جاز!

و صرّح بالإطلاق شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه،

و تبعه غير واحد ممّن تأخّر عنه.

الثّاني: ما ذكر كاشف الغطاء فيما حكي عنه: إنّ الأحوط مراعاة التعادل إن كان الأقوي عدم وجوبه.

و ظاهر كلام المحقّق رحمه اللّه في الشرائع أيضا الجواز مطلقا حيث قال: «إذا أكرهه الجائر علي الولاية جاز له الدخول و العمل بما يأمره مع عدم القدرة علي التفصّي، إلّا في الدماء

______________________________

(1). القواعد و الفوائد، ج 2، قاعدة 208، ص 155.

(2). جواهر الكلام، ج 22، ص 167 و 168.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 395

المحرّمة فانّه لا تقيّة فيها» «1». كما أنّ ظاهر العلّامة رحمه اللّه في القواعد و غيره من الأصحاب أيضا ذلك، و لكن قال في المفتاح ما هذا لفظه: «و يجب عليه علي احتمال قوي تقديم الأهون فالأهون، و قد تلحظ المماثلة و المخالفة فيما يتعلّق به أو ببعض المؤمنين من التفاوت في المراتب الجليلة و في ما دليله قطعي أو ظنّي … لكن الأصحاب أطلقوا» «2».

و علي كلّ حال يستدلّ للقول الأوّل بامور:

1- إطلاق رفع الإكراه.

2- أخبار التقيّة و إنّها في كلّ ما يضطرّ إليه الإنسان مثل (1/ 25 و 2/ 25 و 8/ 25 من أبواب الأمر بالمعروف) التي مرّت عليك.

3- النصوص الخاصّة في المقام التي قد يدعي تواترها و قد نقل جملة منها في الوسائل في الباب 48 و غيره.

4- إطلاق أدلّة الاضطرار و أدلّة نفي الحرج.

و لكن هنا إشكال قوي قد تصدّي شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه لحلّه، و حاصله إنّ أدلّة الإكراه و الاضطرار و ما أشبههما واردة مورد الامتنان، فكيف يجوز المنّة علي شخص بإدخال ضرر كثير علي غيره لدفع ضرر يسير عن نفسه، فانّ هذا خلاف الامتنان علي الامّة، فهي

منصرفة عن محلّ الكلام و ساكتة عنه.

و أجاب قدّس سرّه عنه بكلام طويل حاصله: «إنّ المدار علي توجّه الضرر إلي نفسه أوّلا و بالذات، فلو توجّه الضرر إلي غيره لا يجب تحمّل الضرر و دفعه عنه، و لكن لا يجوز إضراره لدفع الضرر عن نفسه، و المسألة من صغريات مسألة عدم وجوب تحمّل الضرر لدفعه عن الغير، فانّ الضرر بحسب إرادة المكره (بالكسر) توجّه إلي الغير، نعم لو تحمّله أمكن دفعه عنه، و لكن هذا غير واجب و غير مناف للامتنان علي الامّة».

أقول: و هذا ممنوع جدّا، لأنّ الضرر لم يتوجّه إلي الغير إلّا بوساطة المكره (بالفتح) فانّ المفروض أنّه مكره لا مضطرّ، فالفعل فعله و ان كان بالإكراه، و كأنّه قدّس سرّه حسب أنّ المكره

______________________________

(1). جواهر الكلام، ص 165.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 115.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 396

كالآلة (و قد صرّح بهذا التعبير صاحب الجواهر) «1» و لكنّه ليس كذلك قطعا، بل هو خلاف المفروض، فانّ المفروض بقاء القصد مع الإكراه.

إن قلت: إنّ الفعل لا يستند إلي المكره (بالفتح) و إن كان مباشرا لضعفه و قوّة السبب و هو المكره بالكسر (ذكره في بعض كلماته).

قلنا: كلّا، بل ينسب الفعل إليه، و لذا لا يجوز ذلك في الدماء، و يبطل الصوم به، و إنّما لا ينسب إذا كان مضطرّا، و من أشنع ما يلزم هذا القول جواز القاء الأبرياء في السجون طول عمرهم و تعذيبهم بأنواع التعذيب للإكراه في شي ء يسير!

هذا و استدلّ هو قدّس سرّه لما ذكره بدليل نفي الحرج أيضا، فانّ تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير حرجي قطعا ينفي بأدلّته.

و لكن هذا الدليل أيضا كسابقه من أدلّة نفي

الإكراه و الضرر، فانّه مبني علي كون المقام من قبيل تحمّل الضرر لتوجّه الضرر إلي الغير بحسب مقتضيه، و لكن قد عرفت أنّ هذا مبني علي كون المكره كالآلة، و قد عرفت أنّه ليس كذلك و هو ينافي الامتنان.

و إطلاق كلام القوم لعلّه ناظر إلي ما إذا كان الضرر المتوعّد به ضررا كثيرا، و إلّا يبعد التزامهم بما ذكر، و أمّا إطلاق أدلّة التقيّة و أنّه يباح بها كلّ شي ء ما عدي الدم، فالظاهر أنّه في مقام يخاف منه علي النفس، كما كان كذلك غالبا أو في كثير من الأوقات في تلك الأزمنة، لا ما إذا خاف من ذكر كلام غليظ مثلا، أو أخذ مال قليل كما هو ظاهر لمن راجعها.

و ما أبعد بين هذا القول الذي يرخّص كلّ شي ء في مقام الإكراه إلّا الدم، و بين من يقول بعكس هذا القول، و أنّه إذا كان الضرر المتوعّد به دفع مال، يجب علي المكره (بالفتح) دفع أمواله و ترك الإضرار بغيره، لأنّ إعطاء ماله أمر مباح، و أمّا الإضرار بغيره حرام، و ظاهره إطلاق هذا الحكم، يعني يجب عليه تحمّل الضرر الكثير لدفع اليسير عن غيره، فانّ الأوّل حلال، و الثاني حرام «2».

و الظاهر أنّه أيضا غير خال عن الإشكال، و هو صحيح مع قطع أدلّة نفي الضرر، و لكن مع

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 167.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 445.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 397

حكومتها و كونها حكما امتنانيا لا يبعد الحكم بجواز ارتكاب أقلّ الضررين تكليفا، و أمّا الحكم الوضعي منه فسيأتي أن شاء اللّه.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ شيئا من الأدلّة الثلاثة، أعني أدلّة شيخنا الأعظم (دليل نفي

الإكراه و دليل نفي الحرج و إطلاق أدلّة التقيّة) لا تفي بإثبات مراده، فالأقوي رجوع المقام إلي مسألة تعارض الضررين، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ أحكام التعارض- أي تعارض الضررين- من الترجيح و التخيير إنّما هو ثابت فيما إذا كان التعارض بحسب أسباب طبيعية، مثل ما إذا أدخل حيوان رأسه في قدر لا يخرج منه إلّا بكسر أحدهما، و أمّا فيما نحن فيه ليس كذلك، بل المكره (بالفتح) هو الذي يوجب الضرر علي غيره باختياره فلا يترك الاحتياط بتحمّل ما توعّد به و عدم الإضرار بالغير إلّا أن يكون كثيرا جدّا في مقابل شي ء يسير يرد علي المظلوم لا سيّما في الامور المالية، فتدبّر جيّدا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه يجوز التولّي من قبل الظالم عند الإكراه و ترتفع حرمته الذاتية لو قلنا بها، كما يباح غيره من المحرّمات ما عدا إراقة الدماء، بل كلّ ضرر علي مسلم، سواء كان أكثر ممّا توعّد به أو أقل أو مساو علي الأحوط لو لا الأقوي، نعم إذا كان ضرر الغير يسيرا جدّا بالنسبة إلي ما توعّد به لم يبعد عدم جوازه.

بقي شي ء و هو حكم الضمان، و الظاهر أنّه ثابت علي المبني المختار، و لكن يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم عدم الضمان، حيث قال في بعض كلماته الآتية تعليلا للضمان في بعض المقامات ما نصّه: «لعدم الإكراه المانع عن الضمان».

هذا و المسألة مبنية علي كون المكره كالآلة أو كونه ذا قصد في أعماله و ان كان كارها لها، و حيث قد عرفت أنّه ليس كالآلة قطعا و انّ الفعل يسند إليه و لذا لا تجوز له إراقة الدماء، فالأقوي الضمان، و ان كان الضمان لا يستقرّ عليه.

أنوار الفقاهة

- كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 398

الأمر الثاني: ملاك الإكراه المجوّز لارتكاب بعض المحرّمات كما عرفت هو التوعيد بالضرر لما يتعلّق بالإنسان في نفسه، أو ماله، أو عرضه، أو ما يتعلّق به، أمّا بالنسبة إلي الأجانب فلا يتحقّق إكراه، إلّا أن يكون الإنسان بمثابة من قداسة النفس بحيث يتأثّر من تضرّر الغير كما يتأثّر من ضرر نفسه أو أهله و ولده، و حينئذ لا يبعد دخوله في حكمه.

أمّا إذا لم يكن كذلك، و لم يدخل في أدلّه الإكراه، فهل يجوز التولّي هناك بملاك آخر مثل حفظ المؤمنين و أموالهم و …

و الكلام فيه تارة من حيث القواعد، و اخري من حيث الأدلّة الخاصّة..

أمّا الأوّل: فيدور مدار مسألة تزاحم الملاكات و كون ملاك حفظ أعراض المؤمنين و أموالهم أهمّ عند الشارع المقدّس من الولاية المحرّمة و ما يلازمها، و المقامات مختلفة جدّا لا تندرج تحت ضابطة خاصّة، كما هو ظاهر، و ان كان الجواز في كثير منها بهذا الملاك ظاهرا.

و أمّا الثّاني: فالمصرّح به في رواية الإحتجاج جواز التقيّة ازاء حفظ النفس و المال و الجاه و العرض و المذهب بالنسبة إلي نفسه أو غيره، و إليك رواية الاحتجاج:

روي الطبرسي في الإحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «و إنّ إظهارك براءتك منّا عند تقيّتك لا يقدح فينا و لا ينقصنا و لئن تبرّأت منّا ساعة بلسانك و أنت موال لنا بجنانك لتبقي علي نفسك روحها التي بها قوامها، و ما لها الذي به قيامها، و جاهها الذي به تمسّكها، و تصون من عرف بذلك من أوليائنا و اخواننا، فانّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، و تنقطع به عن عمل في الدين و صلاح اخوانك المؤمنين

و إيّاك ثمّ إيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فانّك شائط بدمك و دماء اخوانك، معرّض لنعمتك و نعمتهم للزوال مذلّ لهم في أيدي أعداء دين اللّه و قد أمرك اللّه باعزازهم فانّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك علي اخوانك و نفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا» «1».

هذا و في الباب 28 أيضا روايات اخر في هذا المعني و هي:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 478، الباب 29، من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 399

1- ما رواه عن العسكري عليه السّلام في تفسيره قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «التقيّة من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه و اخوانه عن الفاجرين و قضاء حقوق الاخوان أشرف أعمال المتّقين … » «1».

2- ما رواه العسكري عليه السّلام أيضا في تفسيره قال: و قال الحسن بن علي عليه السّلام: «إنّ التقية يصلح اللّه بها أمّة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فان تركها أهلك أمّة تاركها شريك من أهلكه … » «2».

3- ما رواه عن العسكري عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم « … ألا فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا و معاداة أعدائكم استعمال التقيّة علي أنفسكم و أموالكم و معارفكم و قضاء حقوق اخوانكم … » «3».

بل عطف حقوق الاخوان في روايات هذا الباب علي التقيّة كثيرا دليل بنفسه، أو مشعر بما نحن بصدده.

و الحاصل، إنّ مقتضي هذه الروايات أيضا لا يتجاوز عمّا تقتضيه الاصول و القواعد.

هذا إذا لم يكن المحرّم الإضرار بمسلم أو هتكه لدفاع عن آخر، فانّه لا يجوز قطعا، اللهمّ إلّا في الدماء

أو بعض مراتب الأعراض أو فيما إذا كان التفاوت كثيرا جدّا بحيث يعلم برضي الشارع المقدّس بارتكاب اليسير حذرا من الكثير.

و ممّا هو جدير بالذكر إطلاق كلمات غير واحد من الأصحاب الضرر بالنفس أو المال و شبهه، و هو مؤيّد قوي لما سبق في أصل المسألة، و أنّه لا يجوز الإضرار بالغير في مقام الإكراه إلّا عند الخوف علي النفس، و هذا دليل علي عدم الفرق بين المسألتين، و عدم كون إطلاق كلمات الفقهاء هناك ناظرا إلي ذلك.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 473، الباب 28، من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 475، ح 13.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 400

الأمر الثّالث: هل يعتبر عدم إمكان التفصّي في الإكراه من قبل الجائر بنحو من الأنحاء، أم لا؟ قيل أنّ فيه أقوالا ثلاثة: أحدها الاعتبار، و ثانيها نفيه مطلقا، و ثالثها التفصيل بين الإكراه علي قبول نفس الولاية المحرّمة، فلا يعتبر فيها التفصّي و يجوز قبولها و لو كان له طريق إلي المخلص، و الإكراه علي سائر المحرّمات، فيعتبر العجز عن الخلاص منه.

و الأولي أن يتكلّم في اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه لغة و عرفا علي سبيل عامّ، أعني أعمّ من الولاية و غيرها، ثمّ نتكلّم في الولاية، و انّ لها حرمة ذاتية أو عرضية كي يتّضح حالها.

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ اعتبار العجز عن التفصّي مأخوذ فيه عرفا و لغة، فلو اكره شخص علي شرب الخمر أو ترك واجب مثل إفطار الصوم الواجب، و كان هناك مائع شبهه و علي لونه يقدر علي شربه عوضه، أو كان يمكنه صبّه في جيبه و

إظهار أنّه شربه، أو كان هناك طريق إلي الفرار من هذا المجلس، أو غير ذلك، فلا شكّ أنّه لا يعدّ مكرها علي شرب الخمر و غيره، بل و كذلك إذا أمكنه التكلّم مع المكره و إرشاده أو بذل مال له و النجاة من يده فانّه من قبيل المقدور بالواسطة.

نعم إذا كان بذل المال مجحفا بحاله، أمكن نفيه بأدلّة نفي الضرر، و إلّا فلا، و كذلك إذا كان حرجيا، و هذا كلّه ظاهر.

أمّا الثّاني: أعني الولاية، فلو كان قبول نفسها حراما لحرمتها الذاتية فاعتبار العجز عن التفصّي فيه ظاهر، أمّا لو قلنا بعدم حرمتها ذاتا، فيجوز قبولها حتّي بغير الإكراه فضلا عن إمكان التفصّي و عدمه.

و أمّا المحرّمات الاخر الملازمة لها، فالكلام فيها هو الكلام في مثل الإكراه علي شرب الخمر، أو علي إفطار الصوم الواجب، و منه يظهر حال ما نقل عن علي بن يقطين و أنّه كان يأخذ أموال الشيعة جهرا و يردّها عليهم سرّا، فانّ التفصّي لم يمكن له ابتداء، و لكن كان يمكنه بقاء، فكان واجبا لعدم صدق الإكراه عليه.

و لعلّ ما يتراءي بينهم من الخلاف في ذلك نزاع في اللفظ، و في التعبير عن المطلب لا في نفسه.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 401

بقي هنا شي ء، و هو أنّه لا فرق في إمكان التفصّي، من إعداد المقدّمات من قبل، أو ترك الحضور في مجلس المعصية، أو مجلس الجائر، فانّه واجب لوجوب التخلّص عن الحرام، فيجب مقدّمته، أو بقاء و إدامة كما في فعل علي بن يقطين، و هو ظاهر أيضا، فالواجب ترك الخلطة مع الظلمة إذا لا يأمن إكراههم علي قبولها.

الأمر الرّابع: إنّ قبول الولاية مع الضرر المالي غير المجحف

بحاله هل هو رخصة، أو عزيمة؟ فيجوز تحمّل الضرر و الفرار منه (هكذا عنونه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه).

و الوجه فيه أنّ الضرر اليسير تحمّله لازم علي كلّ حال، من باب وجوب المقدّمة، كشراء ماء الوضوء و شبهه، و مثله في التكاليف كثير، و الضرر المجحف يجوز تحمّله فرارا عن الولاية المحرّمة ذاتا أو بالعرض، كما يجوز عدم تحمّله، و يستقيم الاستدلال له بأنّ الناس مسلّطون علي أموالهم، فيجوز لهم صرفها في طريق النجاة عن الحرام.

نعم، قد يقال: أنّ بذل المال الكثير للجائر قد يوجب تقوية شوكته، فيحرم من ناحية اخري، أو من جهة إعانته علي الإثم، و هو صحيح في محلّه.

لكن قد أجاب عنه في مصباح الفقاهة، أوّلا: بمنع الصغري، لأنّها من قبيل المكوس و الضرائب في مسير الحاج الذي لا إشكال في جوازه (و لعلّه لعدم قصد الإعانة) و ثانيا: بمنع الكبري و هو حرمة الإعانة «1».

قلت: أمّا الكبري فقد عرفت ثبوتها، وفاقا لما يظهر من المشهور، و أمّا الصغري فعدم كونه في بعض الموارد إعانة و إن كان ثابتا، إلّا أنّ قصد الإعانة في بعض الموارد قهري إذا كان شيئا كثيرا (كما عرفت نظيره في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا) فحينئذ يكون من قبيل تزاحم المقتضيين، و حكمه ظاهر و اللّه العالم.

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 179.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 402

الأمر الخامس: قد عرفت استثناء إراقة الدماء ممّا يشرّعه الإكراه، فحتّي لو هدّده بالقتل لو لم يقتل مؤمنا، فانّه لا يجوز ذلك، بلا خلاف فيه بينهم، بل ادّعي في الجواهر الإجماع عليه بقسميه «1».

و قد دلّ عليه غير واحد من الأحاديث الواردة في الباب 31 من

أبواب الأمر بالمعروف و إليك بعضها:

1- ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة» «2».

2- ما رواه أبو حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: « … إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة … » «3».

و وصف الأوّل بالصحّة، و الثاني بالوثاقة.

و العمدة فيها الإجماع مع الروايتين.

هذا و قد حكي عن بعض الأكابر «4» أنّه منع دلالة الروايتين علي المقصود، نظرا إلي أنّ مفادها رفع التقيّة عن الإنسان إذا وقعت نفسه في الخطر و لم تنفع التقيّة في نجاته، و حينئذ يجب عليها إظهار ما يجب إظهاره، لأنّ غايتها و هي حفظ الدم قد انتفت، و هذا أمر وجداني عقلي.

و قد أقرّه علي ذلك في الجملة بعض الأساتذة «5» بالنسبة إلي الرواية الاولي و أنكره بالنسبة إلي الثانية.

و الإنصاف أنّه من عجيب الكلام، فانّ الفاعل في قوله «بلغ» في الرواية الاولي أيضا العمل بالتقيّة كما في بلغت في الثانية (و لا يضرّه التذكير كما هو واضح) و بلوغ التقيّة الدم إنّما هو بكونها سببا لذلك، لا بلوغ الإنسان دمه بسبب آخر.

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 167.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، الباب 31، ص 483، ح 1.

(3). المصدر السابق، ح 2.

(4). و هو المحقّق الإيرواني قدّس سرّه في حاشيته علي المكاسب، ص 48.

(5). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 454.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 403

هذا مضافا إلي أنّ الحكم في المسألة عقلي في الجملة، و كيف يمنّ الشارع علي إنسان بإراقة دم إنسان آخر لحفظ نفسه، أو لحفظ بعض منافعه الاخري، و

قد عرفت فساد القول بأنّ المكره لا إرادة له و انّ الفعل غير منسوب إليه.

بقي هنا فروع:

1- هل المراد من الدم هو زهاق الروح أو يشمل الجرح أيضا، ظاهر الإطلاق هو الأعمّ، و لكن لا ينبغي الشكّ في كون مثل هذا التعبير كناية عن القتل غالبا، كما فهمه صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم و غيرهما (قدّس اللّه أسرارهم) و لو فرض الشكّ كان اللازم الأخذ بالقدر المتيقّن، و هو زهاق الروح.

2- هل يشمل الحكم لكلّ مسلم و لو لم يكن مؤمنا، ظاهر كلمات غير واحد منهم العموم، و لكن يظهر الترديد فيه من جمع آخرين.

و الإنصاف عموم الحكم، لإطلاق الروايات، و توهّم أنّه لا يتصوّر التقيّة بالنسبة إليهم كما تري، فانّ التقيّة قد تكون في مقابل الكفّار كما في قضيّة عمّار.

و كذلك قوله تعالي: لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ … «1».

مضافا إلي ما نعلم من اجراء أحكام الإسلام و منها حقن الدماء في حقّ القائلين بالشهادتين، كما في أحاديث تفسير «الإسلام» و «الإيمان» و يؤيّده مساواة دية المسلمين من جميع الفرق بلا تفاوت بينهم.

نعم النواصب و الخوارج خارجون عن هذا الحكم لخروجهم عن الإسلام.

3- أمّا أهل الذمّة، فيشكل عموم الدليل لهم، كما يظهر من أحكام القصاص و الدّيات، فانّه لا يقاص مسلم بالذمّي إلّا أن يعتاد قتلهم.

4- الظاهر أنّ الحمل بعد ولوج الروح فيه و صيرورته إنسانا كاملا بحكم الإنسان المتولّد، و قد حكموا له بالدّية الكاملة، فتدبّر.

______________________________

(1). سورة آل عمران، الآية 28.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 404

نعم قبل ولوج الروح يشكل إلحاقه كما ذكره كاشف الغطاء فيما حكي عنه «1».

5- لا فرق بين المريض و الصحيح و المسنّ و الصغير كما هو ظاهر،

كلّ ذلك لإطلاق الدليل.

6- لا فرق في الحكم المذكور بين المباشر للقتل و المسبّب له، بعد إسناد الحكم إليه مستقلا أو اشتراكا، أو الإسناد إلي المباشر فقط بعد كون أمره مؤثّرا، فلو قال: مر بقتل فلان و إلّا قتلتك، لا يجوز أمره بالقتل إذا كان مؤثّرا فيه.

7- مستحقّ القتل بالقصاص في حكم محقون الدم بالنسبة إلي غير أولياء الدم، فلا يجوز قتله و إراقة دمه بالإكراه و التقيّة، و أمّا المحكوم بالقتل بحدّ و شبهه فقد ذكر فيه وجهان: الحرمة لإطلاق الأدلّة، و الجواز لانصرافها إلي من يكون محقون الدم لا المأمور باهراق دمه، و قد ذكره في مفتاح الكرامة تحت عنوان أنّه قد يفرّق بين مستحقّ القتل و غيره «2».

و هذا الإشكال سار في حكم القتل متعمّدا من دون إكراه لمن هو مهدور الدم (و لكن كان إهراق دمه بيد الحاكم الشرعي كالزاني المحصن) كما يعلم بمراجعة كلماتهم في أبواب القصاص فراجع «3».

27- هجاء المؤمن
اشارة

اتّفقت كلمات علماء الإسلام فيما حكي عنهم علي حرمة الهجاء في الجملة، و إن وقع الكلام في بعض خصوصياته.

و استدلّ له بالأدلّة الأربعة، أمّا الإجماع فقد عرفت، و إن كان لا يغني في مثل المقام، و لا يعدّ دليلا زائدا علي الأدلّة الاخري.

______________________________

(1). نقله في جواهر الكلام، ج 11، ص 170.

(2). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 116.

(3). و قد ذكر الإشكال في المسألة في الشرط السادس من الشروط المعتبرة في القصاص.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 405

و أمّا من كتاب اللّه فلقوله تعالي: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «1» بناء علي شمول «الهمز» و «اللمز» لكلّ طعن و إيراد عيب، و قد يفرّق بينهما بأنّ «الهمز» هو ذكر العيب بظهر، و

اللمز في وجهك.

أو إنّ الأوّل ذكره بلفظك، و الثاني بإشارتك و حركاتك.

و لكن الإنصاف أنّ بين عنوان الهجاء و العنوانين المذكورين عموما من وجه، لأنّ الهجو قد يكون بإنشاء جملة، و اخري بحكاية عيب، و الأوّل كأن يقول وجهك وجه الحمار و رأسك رأس البقر! أو يقول يا أيّها الفسقة الفجرة قوموا و استقبلوا هذا الرجل، أو يا أرض ابلعيه و يا سماء اقلعيه أو غير ذلك، و الثاني بحكاية عيوبه الجليّة أو الخفيّة بقصد الذمّ، و لعلّ الأوّل أي ما كان بصورة الإنشاء غير داخل في العنوانين.

و منه يعلم حال قوله تعالي: وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً … و كذا قوله أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً «2».

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ أكل اللحم كناية عن إسقاط ماء الوجه، و هو حاصل هنا.

أمّا من السنّة، فبالروايات الكثيرة غاية الكثرة، بل لا يبعد تواترها الدالّة علي حرمة إيذاء المؤمن «3».

و ما دلّ علي حرمة إهانته «4».

و ما دلّ علي تحريم إذلاله و احتقاره «5».

و ما دلّ علي تحريم الاستخفاف به «6».

و ما دلّ علي تحريم تعييره و تأنيبه «7».

و لا ينبغي الشكّ بعد ذلك كلّه في حرمة الهجاء.

______________________________

(1). سورة الهمزة، الآية 1.

(2). سورة الحجرات، الآية 12.

(3). راجع الوسائل، ج 8، ص 587، الباب 145، من أبواب أحكام العشرة.

(4). المصدر السابق، ص 588، الباب 146.

(5). المصدر السابق، ص 590، الباب 147.

(6). المصدر السابق، ص 592، الباب 148.

(7). المصدر السابق، ص 596، الباب 151.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 406

أمّا معني الهجاء فقد وقع الكلام منهم في تفسيره، و أنّه مخالف المدح، أو مع تخصيصه بالشعر، أو لا يختصّ به، و حيث قد عرفت

أنّه لا يدور شي ء من الأدلّة مدار هذا العنوان، فلا يهمّنا هذا البحث، بل الاعتبار بما ورد في عناوين روايات الباب.

نعم ورد هذا العنوان في معاقد بعض الإجماعات، و لكن حال الإجمال في هذه الموارد معلوم، و ان كان الظاهر كون المراد من الهجاء هنا الذمّ و القدح، سواء كان بالشعر و النثر أو غيرهما لوحدة الملاك قطعا.

ثمّ أنّه استثني من ذلك امور:

1- ما إذا توقّف النهي عن المنكر عليه لمعارضة الأهمّ له.

2- ما إذا كان متجاهرا و لا يبالي بما قيل فيه لخروجه عن الأدلّة.

3- إذا كان من المخالفين، فقد ذكر في الجواهر الحاقهم بالمشركين، بل قال: لعلّ هجائهم علي رءوس الأشهاد من أفضل عبادة العبّاد ما لم تمنع التقيّة، و أولي من ذلك جواز غيبتهم، ثمّ ادّعي جريان السيرة عليه، ثمّ قال: فلا غرابة في دعوي تحصيل الإجماع عليه …

بل يمكن دعوي كونه من الضروريات فضلا عن القطعيات!

ثمّ نقل كلام المحقّق الأردبيلي و صاحب الكفاية قدّس سرّهما في باب الغيبة و إنّ الظاهر عموم أدلّة تحريمها لهم، بأنّه لا استبعاد في ذلك كما لا يجوز قتله و أخذ ماله فلا يجوز تناول عرضه.

ثمّ قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: لعلّ صدور ذلك منه لشدّة تقدّسه و ورعه … و انّ مقتضي التقدّس خلاف ذلك! «1».

و غاية ما يمكن أن يستدلّ لما نحن فيه امور:

1- ما ثبت في الروايت و الأدعية و الزيارات من جواز لعنهم و سبّهم.

2- إنّهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم (كما في الباب 29 من أبواب مقدّمة العبادات) «2».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 62.

(2). وسائل الشيعة، ج 1، ص 90.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 407

3- قيام السيرة المستمرّة عليه.

4- إنّ المراد من أدلّة

الحرمة هو خصوص المؤمن القائل بالولاية الذي ثبتت اخوته لا غير …

هذا و لكن يعارض هذه الروايات:

أوّلا: الروايات الكثيرة الدالّة علي جريان حكم الإسلام و الإيمان عليهم، و أنّه بالشهادتين تجري أحكام الإسلام و بهما حقنت الدماء.

و ثانيا: الروايات الكثيرة الدالّة علي العشرة معهم بالمعروف «1».

و كذا ما دلّ علي حضور جماعاتهم و عباداتهم و كسب محبّتهم و غير ذلك.

و الحاصل أنّ المستفاد من جميع ذلك وجوب المعاملة معهم معاملة المسلم، و هذا لا يتناسب مع عدم حرمة عرضهم، و كذلك العشرة معهم بالمعروف لا تتناسب جواز سبّهم و إيذائهم، و لعلّ أحسن طريق للجمع بينهما حمل المجوّزة علي المعاند لأهل بيت النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم الذي ينكر فضلهم أو يغصب حقوقهم أو يسعي في إطفاء نورهم، و المانعة علي القاصرين أو المقصّرين الموالين لهم، و ان لم تبلغ معرفتهم حقّ المعرفة كما نري كثيرا منهم في البلاد الإسلامية.

بقي هنا شي ء، و هو أنّه في مقام النهي عن المنكر و الردّ علي أهل البدع هل يجوز هجوهم بما ليس فيهم و نسبة امور كاذبة إليهم؟

قد يقال بجواز ذلك لما في صحيحة داود بن سرحان من الأمر بذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام..

الخ «2».

و كذلك ما يستفاد من مفهوم رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون و يقذفون من خالفهم فقال: الكفّ عنهم أجمل

ثمّ قال: «يا أبا حمزة و اللّه إنّ

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 470، الباب 26، من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2). المصدر السابق، ص 508، الباب 39، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 408

الناس كلّهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا، ثمّ قال: نحن أصحاب الخمس و قد حرمناه علي جميع الناس ما خلا شيعتنا» «1».

هذا و لكن ذلك لا يخلو عن إشكال.

أمّا أوّلا لحرمة الكذب ذاتا، و لا يجوز التوصّل بالباطل إلي الحقّ، و القول بأنّ الطريق قد يكون منحصرا كما تري، مع خوف انكشاف هذا الخلاف و ما فيه من آثار السوء لأهل الحقّ و وهن مقامهم و تزلزل مكانتهم و اعتبارهم كما لا يخفي.

و ثانيا: الرواية الثانية ضعيفة سندا، مضافا إلي أنّه يشكل الموافقة علي مضمونها، لأنّ الحكم بأنّهم أولاد بغايا بعد كون النكاح الموجود عند كلّ قوم ممضي عند الشرع، و لا أقل من كونهم أولاد شبهة- و إطلاق أولاد البغايا علي ولد الشبهة غير صحيح- مشكل جدّا، إلّا بضرب من التشبيه و المجاز.

و يعارضه ما جاء في الرواية من «أنّ لكلّ أمّة نكاحا يحتجزون به عن الزنا» «2» و غيره ممّا ورد في الباب 71 و 72 من أبواب جهاد النفس.

و أمّا الاولي فالبهت و البهتان- كما يظهر من متون اللغة- في الأصل بمعني الحيرة و التحيّر، و لذا يقال بالأخذ بغتة بالعذاب البهت، قال اللّه تعالي بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ «3» و إطلاقه علي نسبة ما ليس في إنسان إليه من هذا الباب لأنّه يحيّره كما صرّح به أهل اللغة، فكأنّ المراد: احملوا علي أهل البدع من كلّ جانب و اجعلوهم متحيّرين حتّي لا يطمعوا

في الفساد في الإسلام، فتأمّل.

و بالجملة، التوصّل بالبهتان بمعني نسبة ما ليس فيهم إليهم لا سيّما في النسب و الأعراض في هذه المقامات مشكل جدّا، و لذا فسّره شيخنا الأعظم قدّس سرّه في بعض كلماته بأنّه يجوز سوء الظنّ في حقّهم بما لا يجوز في حقّ المؤمن.

مضافا إلي أنّ فتح هذا الباب يوجب فسادا عظيما لأهل الأهواء ينسبون من خالفهم إلي كلّ شي ء، و يحرّفون الكلم عن مواضعه، و يهتكون الأسرار، و يضيّعون الأعراض، و يشوّهون

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 331، الباب 73، من أبواب جهاد النفس، ح 3.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). سورة الأنبياء، الآية 40.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 409

وجه الإسلام كما رأينا في زماننا من بعض من لا حظّ له من تقوي اللّه، أعاذنا اللّه منهم و من شرّهم.

28- هجر المؤمن

و «الهجر» بالضمّ بمعني «الفحش» و «القبيح من القول» و يمكن الاستدلال علي حرمته أيضا بالأدلّة الأربعة، من العقل بأنّه ظلم و إيذاء، و من الآيات بما دلّ علي وجوب اجتناب قول الزور و غيرها من الآيات، و من الإجماع باتّفاق الأصحاب عليه.

و من السنّة بروايات كثيرة غاية الكثرة رواها الوسائل في الباب 71 و 72 و غيرهما من أبواب جهاد النفس، منها:

1- ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من علامات شرك الشيطان الذي لا يشكّ فيه أن يكون فحّاشا لا يبالي ما قال و لا ما قيل فيه» «1».

2- و ما رواه سماعة قال: دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال لي مبتداء: «يا سماعة ما هذا الذي كان بينك و بين جمالك؟ إيّاك أن تكون فحّاشا أو سخّابا «2» أو لعّانا»، فقلت

و اللّه لقد كان ذلك أنّه ظلمني، فقال: «إن كان ظلمك لقد اوتيت عليه، إنّ هذا ليس من فعالي، و لا آمر به شيعتي، استغفر ربّك و لا تعد». قلت: استغفر اللّه و لا أعود «3».

3- و ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ من أشر عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه» «4».

4- و ما رواه حمّاد بن عمرو و أنس بن محمّد عن أبيه جميعا عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام (في وصية النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم لعلي عليه السّلام قال: « … يا علي شرّ الناس من أكرمه الناس اتّقاء فحشه و أذي شرّه … » «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 327، الباب 71، من أبواب جهاد النفس، ح 1.

(2). السخاب بمعني الصيحة و الحرص.

(3). وسائل الشيعة، ج 11، ص 328، الباب 71، من أبواب جهاد النفس، ح 7.

(4). المصدر السابق، ح 8.

(5). المصدر السابق، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 410

5- و ما رواه عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم: «إذا رأيتم الرجل لا يبالي ما قال و لا ما قيل له فهو شرك الشيطان» «1».

و دلالة هذه الأخبار علي المقصود واضحة.

و بالجملة المسألة واضحة لا تحتاج إلي بحث كثير.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 329، الباب 72، من أبواب جهاد النفس، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 411

الحادي عشر- الأفعال الواجبة ممّا يحرم التكسّب به

الأفعال الواجبة علي الإنسان في الجملة

قد اشتهر القول فيها بالحرمة في الجملة، و ان اختلفت

كلمات الخاصّة و العامّة فيها غاية الاختلاف، من ناحية تفاصيلها، و ذكر فيها أقوال كثيرة ربّما أنهاها بعض الأكابر إلي تسعة أقوال، و لكنّها ترجع بالمآل إلي ثلاثة:

1- القول بعدم الجواز مطلقا (و هو نادر).

2- القول بالجواز مطلقا.

3- القول بالتفصيل بين التعبّدي و التوصّلي، أو بين العيني و الكفائي، إلي غير ذلك من التفاصيل التي ذكرت في المقام، و قبل ذكر الأدلّة لا بدّ من تحرير محلّ النزاع، فنقول و من اللّه التوفيق و الهداية:

إنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان هناك عمل واجب فيه فائدة تعود إلي باذل المال بحيث يعدّ بذل المال بازائه عند العقلاء معقولا لا أمرا سفهيا، بل يمكن أن يقال بعدم لزوم عود النفع إليه أيضا، بل المعتبر كونه غير سفهي، فيجوز أن يقول: خذ هذا المال منّي و كن في خدمة فلان أو عمّر دار فلان، أو احمله إلي داره و ان لم يعد نفعه إليه، بل كان مجرّد محبّة منه إليه، و القول ببطلانه بعد عموم أدلّة المعاملات و وجود أمثاله في العرف ممنوع.

نعم، ما قد يقال من أنّ كون المعاملة سفهيّة لا يوجب فسادها ممنوع جدّا، إذا كانت السفهية بمعني عدم بذل مال بازائه في عرف العقلاء و كان من قبيل أكل المال بالباطل.

إذا عرفت هذا فلنعد إلي الأدلّة، فنقول: استدلّ علي الحرمة بامور مختلفة:

1- الإجماع: و اعتمد عليه في الرياض و غيره، و لكن يرد عليه أوّلا: إنّ الإجماع غير

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 412

ثابت إلّا في الجملة، و هو غير كاف في فروع المسألة.

و ثانيا: إنّ التمسّك بالإجماع في هذه المسائل التي يعلم بوجود مدارك اخر غير جائز كما ذكر في محلّه.

2- منافاة

الإجارة لقصد العبادة، و «مخالفة أخذ المال للإخلاص». و قد يجاب عنه:

أوّلا: بأنّ النسبة بين المدّعي و بينه عموم من وجه، لعدم جريانه في الواجب التوصّلي بينما يجري في العبادات المستحبّة أيضا فهو أخصّ من وجه، و أعمّ من وجه.

و ثانيا: بالنقض بالعبادات المستأجرة.

و ثالثا: بالنقض بما يؤتي من العبادات بقصد الامور الدنيوية كصلاة الاستسقاء، و الصلاة لقضاء الحاجة و سعة الرزق و شفاء المريض و غير ذلك.

و رابعا: بأنّ الإجارة لا تنافي قصد القربة بل تؤكّدها.

هذا و الإنصاف أنّ الجواب الأوّل غير كاف، لأنّ غايته التفصيل بين الواجبات التعبّدية و غيرها، و شموله للعبادات المستحبّة لا مانع له، فهو كاف لإثبات بعض الأقوال في المسألة.

و لكن الثاني نقض في محلّه، و ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من الفرق بين العبادات المستأجرة و بين المقام بما حاصله: «إنّ الاجرة إنّما هي علي النيابة أي جعل نفسه نائبا عن الغير في إتيان العمل تقرّبا إلي اللّه، فالاجرة في مقابل النيابة في العمل، و هي أمر توصّلي لا يعتبر فيها التقرّب لا في مقابل أصل العمل» ممنوع بأنّ النيابة غير منفكّة عن نفس العمل خارجا، فهما عنوانان منطبقان علي شي ء واحد و ليست النيابة مجرّدة عن قصدها حتّي يكون الاجرة علي نفس القصد، بل هي العمل الصادر عن هذا القصد.

و ما ذكره شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في بعض كلماته من أنّ التقرّب يقع للباذل دون العامل أيضا مشكل، لأنّ مجرّد النيابة لا يوجب تقرّبا للمنوب عنه إلّا من جهة التسبيب (فتأمّل).

و كذا النقض الثاني في محلّه، و ما أجاب عنه غير واحد من الفرق بين الطلب من اللّه و أخذ الاجرة من الناس، فانّ الأوّل عبادة

في نفسه و قال تعالي: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ «1».

______________________________

(1). سورة غافر، الآية 60.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 413

و قال تعالي: قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لٰا دُعٰاؤُكُمْ «1».

فهو أيضا ممنوع، بأنّا ننقل الكلام في المحرّم علي طلب الغيث من اللّه، فانّ الداعي إليه كثيرا ما يكون أمرا دنيويا محضا، و كذا الدعاء للتزويج و شفاء المريض و سعة الرزق و غيرها منه، فالداعي إلي هذا الطلب من اللّه ليس أمرا قربيّا، بل أمر دنيوي.

فالتفاوت بين المقامين في تعدّد الواسطة و عدمه، و إلّا فكلاهما تنتهيان إلي ما ليس قربيّا، بل قلّما ينفك الإنسان عمّا يرجع إلي نفسه في عباداته إلّا الأوحدي من الناس.

و أمّا «الرابع»: و هو العمدة في الجواب، و هو عدم منافاة أخذ الاجرة لقصد القربة، فيمكن تقريره بأنّ العبادة تنشأ عن قصد القربة، و ان كان الداعي علي هذا الداعي هو أخذ الاجرة، و هذا ليس ببعيد، و لو لا مسألة الداعي علي الداعي لما صحّت العبادات الاستيجارية، بل و لا أي عبادة من العبادات عدا ما شذّ و ندر، لأنّ فيها دواع غير قربية غالبا كما عرفت آنفا، و أمّا ما قد يقال بأنّ أخذ الاجرة يؤكّد داعي القربة به، فهو أمر شعري مخالف للوجدان.

بقي هنا شي ء، و هو أنّ بعض المحشّين ذكروا عدم توقّف أخذ الاجرة علي العمل، بل يستحقّ بنفس العقد، و حينئذ لا يبقي إشكال من هذه الناحية بالنسبة إلي العمل.

و يرد عليه: إنّ الاستحقاق حينئذ متزلزل لحقّ الفسخ علي تقدير عدم العمل (فتأمّل).

3- ما حكي عن كاشف الغطاء قدّس سرّه من أنّ التنافي بين صفة الوجوب

و التملّك ذاتي، لأنّ المملوك المستحقّ للّه لا يملك و لا يمكن تمليكه للغير في مقابل العوض، أيضا بظاهره ممنوع، لعدم كون الوجوب من قبيل التمليك للّه، بل و لا التمليك للغير إذا كان من قبيل تجهيز الميّت و شبهه، نعم هو شبه التمليك، و لكن مجرّد التشابه في بعض الآثار لا يوجب عدم جواز تمليكه للغير، كإجارة نفسه مرّتين لشخصين في زمن واحد.

و التعبير باللام في قوله «للّه علي الناس حجّ البيت» و كذا ما ورد من قوله عليه السّلام: «دين اللّه أحقّ بالقضاء» و هكذا ما ورد في باب النذر و صيغته مضافا إلي اختصاصها ببعض الأبواب، غير ظاهر في الملكية المصطلحة، بل هو دليل علي اختصاصه للّه تعالي.

بيان آخر للمسألة: نعم يمكن بيان التنافي بين الوجوب و أخذه الاجرة بنحو آخر،

______________________________

(1). سورة الفرقان، الآية 77.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 414

حاصله إنّ العرف و العقلاء يرون المنافاة بين أخذ الاجرة و أداء الوظيفة، فلذا لو أدّي الإنسان وظيفته التي هي مأمور بها بحكم القوانين الدارجة، و أراد أخذ الاجرة في مقابله يقال له: هذا من وظيفتك، كيف تطلب عليه أجرا؟

و هذا أمر ظاهر عندهم، يؤاخذون و يلومون من طلب الأجر في مقابل أداء بعض ما عليه من التكاليف العرفية، و الحقوق المتداولة، فهذا أحسن دليل في المقام و مآله إلي كونه من قبيل أكل المال بالباطل (فتأمّل فيه جيّدا).

4- ما في بعض كلمات الشيخ الأعظم قدّس سرّه في بعض شقوق المسألة من أنّ كون الشي ء واجبا مقهورا عليه من قبل الشارع يوجب عدّ أكل المال في مقابله أكلا بالباطل.

و الظاهر رجوعه أيضا إلي ما ذكرنا من ملاحظة المنافاة بين أداء الوظيفة

و أخذ الاجرة، بل لا ينحصر ذلك بكون الإنسان مأمورا من ناحية الشارع المقدّس، بل كلّما كان من وظائف الإنسان الحتمية لا يكون أكل المال في مقابله إلّا باطلا.

5- ما ذكره (قدّس سرّه الشريف) أيضا في بعض كلماته أنّه قد يفهم من أدلّة وجوب الشي ء كونه حقّا لمخلوق يستحقّه علي المكلّفين، فكلّ من أقدم عليه فقد أدّي حقّ ذلك المخلوق، فلا يجوز له أخذ الأجرة.

و الظاهر أنّ مآله أيضا إلي ما ذكرنا، فانّ إنقاذ الغريق المشرف علي الهلاك أو تجهيز الميّت أو غير ذلك ممّا مثّل له داخل فيما عرفت، و إلّا فليس في أدلّة وجوبها ما يغاير سائر الواجبات.

و قبل ذكر نتيجة البحث في المقام لا بدّ من النظر في التفصيل الذي ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه، و حاصل ما ذكره أنّ الواجب علي ثلاثة أقسام:

1- التعييني العيني، فيحرم أخذ الاجرة عليه، تعبّديا كان أو توصّليا، لأنّه أمر مقهور عليه من قبل الشارع المقدّس، فأخذ الاجرة في مقابله أكل للمال بالباطل.

2- الواجب التخييري، فان كان توصليا لا مانع من أخذ الاجرة علي خصوص أحد فردي التخيير، لأنّه غير مقهور عليه و عمله محترم!

و إن كان تعبّديا، فان قلنا بكفاية الإخلاص بالقدر المشترك، فهو كالتوصّلي، و إلّا فيبطل من هذه الناحية.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 415

3- الواجب الكفائي فان كان توصليا فهو أيضا جائز، و إن كان تعبّديا لا يجوز، نعم تجوز النيابة فيه إن كان ممّا يقبل النيابة (انتهي ملخّصا) «1».

هذا و فيه وجوه من النظر:

أمّا أوّلا: فلما عرفت من أنّ مجرّد المقهورية غير كافية، بل العمدة كون الشي ء من وظائف الإنسان شرعا أو عرفا ينافي أخذ الاجرة عليه بحيث يعدّ أكل

المال بازائه أكلا بالباطل.

و ثانيا: فلأنّ الواجب التخييري بعد أن كان موظّفا أو مقهورا- بتعبيره قدّس سرّه- علي أحدهما لا يجوز له أخذ الاجرة عليه إلّا أن يكون فيه مزيد كلفة، مثل نقل الميّت للدفن إلي مكان أبعد، يكون فيه بعض المزايا الشرعية أو العرفية، مثل ما إذا كانت الأرض صلبة، أو يسهل وصول الزوار إلي محلّه أو غير ذلك، و لعلّ مراده أيضا ذلك، و إلّا فمجرّد التخيير مانع قطعا.

و ثالثا: فانّ التقرّب بالقدر المشترك غير ممكن بعد ما كان متّحدا مع الخصوصية خارجا غير منفكّ عنها.

هذا و لكن قد عرفت تصحيح قصد القربة في هذه المقامات من طريق الداعي إلي الداعي.

و رابعا: فلأنّ المحذور في الواجب الكفائي أيضا موجود، فانّ من يؤدّي وظيفته بالصلاة علي الميّت، أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا يجوز له أخذ الاجرة في مقابل أداء الوظيفة، و مجرّد كونه كفائيا لا يوجب تفاوتا في المقصود.

و خامسا: إنّ الواجب الكفائي التعبّدي لا مانع من أخذ الاجرة عليه بلحاظ كونه تعبّديا كما عرفت.

إنّما الإشكال من ناحية نفس الوجوب كما ذكرنا.

و سادسا: ما ذكره في جواز النيابة في هذه المقامات مشكل، بعد كون الإنسان نفسه مأمورا بنفس ذلك الشي ء، و كيف تصحّ النيابة في مقابل أمر يكون نفسه مأمورا به؟!

______________________________

(1). المكاسب الشيخ الأنصاري قدّس سرّه، ص 63.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 416

فتلخّص ممّا ذكرنا امور:

1- طبيعة الوجوب تنافي أخذ الاجرة من الغير بحكم العرف و العقلاء (فيكون مصداقا لأكل المال بالباطل).

2- لا إشكال هنا من ناحية قصد القربة، و لذا لا مانع في العبادات المستحبّة إذا كانت الشرائط فيها مجتمعة.

3- لو كان لبعض أفراد الواجب المخيّر فيها مزيد

كلفة أو خصوصية، يجوز أخذ الاجرة في مقابله، و لا يعدّ أكلا للمال بالباطل، و اتّحاد الخصوصية مع أصل العمل هنا غير مانع، بعد ما عرفت من أنّ العمدة في المقام المنافاة، و هي غير موجودة في المقام.

الكلام في الصناعات الواجبة:

بقي هنا الكلام في الإشكال المشهور في الصناعات التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي، مثل الزراعة و التجارة و أنواع المكاسب الضرورية بدليل وجوب حفظ النظام و كونها مقدّمة له. و هكذا الطب و أشباهه ممّا يتوقّف عليها حفظ النفوس المحترمة، فإذا كانت هذه الصناعات واجبة، فكيف يجوز أخذ الاجرة عليها بعد ما عرفت من حرمة أخذ الاجرة علي الواجبات؟ مع أنّ جواز أخذ الاجرة عليها من البديهيات.

و قد وقع الإعلام هنا في حيص و بيص و أجابوا عنه بوجوه عديدة:

1- ما يدلّ علي استثنائها تعبّدا بالإجماع، أو عقلا لإخلاله بالغرض، و لزوم اختلال النظام لو لم يؤخذ الاجرة عليها.

2- ما يدلّ علي خروجها موضوعا عن محلّ البحث، إمّا لأنّ الممنوع هو أخذ الاجرة علي التعبّدي، و هذه امور توصلية، أو الممنوع هو أخذ الاجرة في الواجبات العينية و الكلام في الكفائية (كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه).

أو في الواجبات النفسية، و هذه واجبة مقدّمة لحفظ النظام.

3- الالتزام بالإشكال في فرض عدم قيام من به الكفاية، و الجواز إذا كان من به الكفاية موجودا.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 417

4- إنّ الواجب هنا مشروط من أوّل أمره بالعوض، فحفظ النظام يتوقّف علي الصناعات التي يؤخذ الاجرة عليها، لا إذا ما لم يؤخذ عليها الأجر كما هو ظاهر.

5- إنّ الغرض هنا معلوم، و هو حفظ النظام، فكما يحصل بالصناعات التبرعية يحصل كذلك بأخذ الاجرة عليها من دون

فرق.

و هنا طرق اخري لغير واحد من أعيان المتأخّرين أو المعاصرين نذكر أهمّها تكميلا لما سبق.

6- إنّ هنا أمرين: «المصدر» و «حاصل المصدر» و الذي يتوقف عليه نظام المجتمع هي فعل الصناعات و الحرف بمعناه المصدري، و الذي يؤخذ الأجر عليها هو هذه الصناعات بمعني الاسم المصدري، فالطبابة أو الحياكة و أمثالهما بما أنّها أفعال صادرة من المكلّفين هي ممّا يتوقف عليه حفظ النظام، و بما أنّ نتيجتها مال، فيؤخذ بازائها المال، و لا ينافي ذلك وحدتهما خارجا و اختلافهما اعتبارا.

نعم في مثال القضاء المعتبر فيه المعني المصدري يشكل الأمر «1».

7- ما يظهر من بعضهم من إنكار وجوب المقدّمة!، بعد العلم بأنّها مطلوبة مقدّمة لحفظ النظام أو الوسوسة في وجوب حفظ النظام و ان كان الإخلال به حراما! «2».

هذا فلنعد إلي تحقيق حال هذه الوجوه فنقول (و منه جلّ شأنه التوفيق و الهداية):

1- التمسّك بالإجماع التعبّدي أو السيرة في هذه المسائل بعيد جدّا، و إن كان الإجماع حقّا و كذا السيرة في الجملة، لدلالة وجوه اخري عليها.

2- كذا إنكار حرمة أخذ الاجرة في التوصليات أو الواجبات الكفائية، لما عرفت من عدم الفرق بينها في دليل الحرمة.

3- إنكار وجوب المقدّمة أيضا كما تري، و لو سلّمناه فدليل الحرمة جار، لأنّ الفعل الذي لا بدّ منه و لو مقدّمة للقيام بالوظائف الواجبة لا يصحّ أخذ الاجرة عليه و يكون أكل المال بازائه أكلا باطلا، و كذا إنكار وجوب حفظ النظام الذي هو من الضروريات و سبب

______________________________

(1). حكي عن المحقّق النائيني قدّس سرّه (المكاسب المحرّمة للإمام الخميني قدّس سرّه، ج 2، ص 204).

(2). المكاسب للإمام، ج 2، ص 204.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 418

تشريع كثير من

الأحكام و يتوقّف عليه جميع أغراض الشارع المقدّس، و كيف يمكن إنكاره مع أنّ كثيرا من قوانين الشرع إنّما شرّعت لحفظه كما صرّح به في روايات بيان علل الشرائع و الأحكام.

4- الالتزام بالإشكال أيضا بعيد في مورد عدم قيام من به الكفاية، لظهور الإجماع و لقيام السيرة القطعية عليه، و كم من صناعات و حرف لا نجد من به الكفاية لها في البلد مع أخذ الاجرة عليها قديما و حديثا كالطب و أشباهه حتّي في عصرنا هذا.

5- و أسوأ من الجميع التفرقة بين المعني المصدري و اسم المصدري، لأنّ نظام المجتمع إنّما يتوقّف علي الحاصل من هذه الصناعات كالبناء و الحياكة و الطب، مضافا إلي أنّ الوحدة الخارجية بينهما كما اعترف به يمنع عن حرمة أحدهما و جواز الآخر، و الاختلاف الاعتباري غير كاف في متعلّقي الأمر و النهي قطعا، و في الحقيقة هذه تدقيقات ليس لها وزنا في موازين العقلاء و أهل العرف، و أشبه شي ء بالتلاعب بالألفاظ.

و الذي ينبغي أن يقال أنّ العمدة من بينها هو ما مرّ من مسألة لزوم نقض الغرض، أو كون الوجوب مشروطا من أوّل الأمر بأخذ العوض، حذرا من اختلال النظام.

و الحاصل، إنّ ملاك الحكم هنا معلوم، و لا يحصل إلّا بأخذ العوض، لعدم وجود محرّك آخر بالنسبة إلي هذه المشاغل غالبا إلّا أخذ الاجرة.

و هنا طريق آخر أحسن من هذا الوجه من بعض الجهات، و هو أنّ هذه الصناعات و العلوم ليست ممّا يحتفظ به النظام، بل الحافظ له هو التعاون في الحياة الاجتماعية.

توضيحه، إنّ في طبيعة الإنسان غريزة الاجتماع، و الظاهر أنّها ناشئة عن امور:

منها كثرة حوائج الإنسان بالنسبة إلي غيره من الحيوانات.

و منها ميله إلي

التنوّع، و شوقه إلي التكامل و الرقي في جميع الامور، و ذلك ناشئ عن قوّة إدراكه، و تنوّع أمياله و غرائزه و فطرياته، فلذا تتكثّر الصنائع و العلوم دائما و تحتاج إلي التخصص في شتّي نواحيها، ثمّ يريد كلّ إنسان أن ينتفع بما في أيدي الآخرين، و لا يمكن ذلك إلّا بالتعاون، و أداء شي ء ممّا يحسنه للوصول إلي ما يحسنه غيره، فالحافظ لنظام المجتمع هو هذا الأمر، لا مجرّد فعل هذه الصنائع، فعلي كلّ واحد الاشتغال ببعض ما يحتاج

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 419

إليه المجتمع الإنساني، ثمّ بذل ما في يده في مقابل ما في أيدي الآخرين.

فالصنائع بذاتها ليست واجبة، بل بما إنّها من مصاديق التعاون الحافظ للنظام، فإذا كان الواجب هو التعاون كان أخذ الاجرة مأخوذا في مفهومه، فلا تندرج المسألة في مسألة أخذ الاجرة علي الواجبات (فتدبّر جيّدا).

نعم لو بلغ الإنسان حدّا من الفهم و الإيمان و الشعور الاجتماعي يكون الداعي الإلهي فيه قويّا يدعوه إلي الإيثار و بذل ما في يده توقّع شي ء من الآخرين، و اشترك جميع الناس في هذا الأمر (كما لعلّه يستفاد من بعض ما يحكي عن قصّة المجتمع الإلهي في عصر المهدي عليه آلاف التحيّة و الثناء) تبدّل «التعاون» «بالإيثار» و كان هو الحافظ للنظام، و ذهبت الاجرة و بقيت المثوبة.

و قد يشعر بما ذكرنا قوله تعالي: نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1».

بعض مستثنيات المسألة:

اختار الفقيه الماهر صاحب الجواهر (قدّس اللّه سرّه) عدم مانعية صفة الوجوب عن أخذ الاجرة مطلقا عدا ما يستفاد من دليله كونه مجانيا، و استراح من مشكلة الصناعات الواجبة كفاية

و بعض النقوض الواردة علي القول بالمنافاة مثل بذل المال للمضطر و أخذ بدله و شبه ذلك، و لكن شيخنا الأعظم قدّس سرّه لمّا رأي المنافاة بينهما تصدّي لدفع هذه النقوض، و هي كثيرة، منها:

1- أخذ الطبيب الاجرة إذا تعيّن عليه العلاج و خرج عن عنوان الواجب الكفائي.

2- أخذ الوصي اجرة مثل عمله مع وجوب العمل بالوصية.

3- جواز أخذ العوض لباذل القوت للمضطر.

4- رجوع الامّ المرضعة بعوض اللبن مع أنّه ممّا لا يعيش الولد إلّا به كما قيل.

فالتزم في الأوّل بالحرمة علي مبناه من منافاة صفة الوجوب العيني مع أخذ العوض.

______________________________

(1). سورة الزخرف، الآية 32.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 420

و في الثاني بخروجه بالأدلّة القطعية و النصوص تعبّدا!

و في الثالث أنّه من مقتضي الضمان بالإتلاف لا المعاوضة.

و في الرابع بأنّه أمّا من قبيل بذل المال للمضطرّ، و إمّا من باب التعبّد لإطلاق قوله تعالي:

فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «1» «2» (انتهي محصّل كلامه قدّس سرّه).

أقول: أمّا بالنسبة إلي أخذ الطبيب الاجرة، فقد عرفت أنّه لا إشكال فيه و ان انحصر العلاج بيده، لما ذكرنا من مسألة نقض الغرض في حفظ النظام و غيره.

أمّا أخذ الوصي اجرة مثل عمله، فالظاهر أنّه من باب الاشتراط الضمني عرفا في عقد الوصية، بعد كون عمل الحرّ محترما.

نعم إذا كان العمل بها لا يشغل وقتا كثيرا منه، فبناء العقلاء علي المجانية، و إلّا فلا، و قد أمضاه الشرع.

و لعلّ أخبار أبواب الوصية أيضا منصرفة عن الصورة الأخيرة، فراجع 3 و 4 و 5 و 9/ 72 من أبواب ما يكتسب به و غير ذلك، بل لعلّ ظاهر الآية وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ

بِالْمَعْرُوفِ «3» ب أيضا ذلك. و أصل الجواز له مشهور عندهم و ان كان المسألة ذات أقوال ثلاثة: من أنّه هل يستحقّ اجرة مثل عمله، أو ما يكفيه بالمعروف، أو أقلّ الأمرين؟ فراجع أحكام الوصية.

و أمّا بذل القوت للمضطرّ، فدليله أيضا ظاهر، لأنّ الواجب في الحقيقة هو حفظ النفس من طريق بذل القوت، و لا يتوقّف ذلك علي كونه مجانا، فأخذ القيمة لا ينافي الوجوب أصلا، و ما ذكره شيخنا الأعظم لازمه عدم الضمان قبل الإتلاف.

و الفرق- بين «الأعمال» و «الأعيان» كما عن المحقّق الميرزا الشيرازي قدّس سرّه و لعلّ كلام الشيخ ناظر إليه- مشكل جدّا، و كذا الحال في أخذ الامّ المرضعة الاجرة علي الرضاع، لأنّ الواجب عليها حفظ نفس الولد و هو غير متوقّف علي البذل مجانا كما هو ظاهر.

______________________________

(1). سورة الطلاق، الآية 6.

(2). المكاسب لشيخنا الأنصاري قدّس سرّه، ص 64.

(3). سورة النساء، الآية 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 421

و أمّا أخذ الاجرة في مقابل «القضاء» فقد عرفت سابقا في مباحث الرشوة أنّه غير جائز، للروايات الخاصّة الواردة فيها، مضافا إلي ما يستفاد من غيرها من رفعة مقام القضاء، و كون أخذ الاجرة مظنّة للوقوع في الجور في الأحكام، و العمدة الروايات الخاصّة.

بقي هنا امور:
الأمر الأوّل: أخذ الاجرة علي المحرمات

لا يجوز أخذ الاجرة علي المحرّمات، لما تبيّن لك من أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، و أنّه أكل للمال بالباطل بعد عدم المالية لها شرعا، مضافا إلي حديث تحف العقول و غيره.

و أمّا أخذ الاجرة علي المباحات و المكروهات فلا مانع منه، إذا اجتمعت فيه سائر شرائط الإجارة من الفائدة المقوّمة لها و غير ذلك.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد،

انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 421

و أمّا علي المستحبّات، فقد فصل شيخنا الأعظم قدّس سرّه فيها بين العبادة و غيرها، فحكم بالفساد في الأوّل لفسادها بعدم القربة بأخذ الاجرة، كما إذا أخذ الاجرة لإعادة صلاته حتّي يصلّي به جماعة، و بالصحّة في الثاني، كما إذا استؤجر لبناء المسجد و غيره.

هذا و الإنصاف صحّة الجميع بعد ما عرفت من تصحيح أخذ الاجرة من طريق الداعي إلي الداعي، فإذا لم تكن العبادة من وظائفه الحتمية، و استؤجر لفعلها فلا مانع منه، إلّا فيما يستفاد من دليله كونه مجّانا كما في الأذان علي احتمال، و هو أيضا من قبيل الوظائف.

الأمر الثّاني: أخذ الاجرة علي العبادات الاستيجارية

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه هنا أنّ العبادات الاستيجارية كلّها داخلة في أخذ الاجرة علي المستحبّات، لأنّ إتيان العبادات عن الغير مستحبّ ذاتا، و يأخذ الاجرة علي فعل هذا المستحبّ، و لكن لمّا كانت العبادات الاستيجارية منوطة بقصد القربة، و هو لا يرخّص أخذ الاجرة حتّي علي المستحبّات العبادية ذكر في تصحيح قصد القربة ما حاصله: إنّ حقيقة النيابة «جعل نفسه بمنزلة الغير و عمل العمل بقصد التقرّب الذي هو تقرّب المنوب عنه بعد فرض النيابة».

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 422

مضافا إلي أنّ هذه النيابة عمل راجح يصحّ فيه قصد القربة أيضا، فيتقرّب النائب بها أيضا إلي اللّه، مضافا إلي المنوب عنه، و لكن كثيرا ما يغفل النائب عن هذا المعني و لا يقصد إلّا تقرّب المنوب عنه لا تقرّبه نفسه بالنيابة عن المؤمن، بل قد لا يعلم هذا الرجحان، و مع ذلك عمله صحيح من حيث تقرّب

المنوب عنه، فإذن لا مانع من أخذ الاجرة علي نيابته بعد عدم كونه مشروطا بقصد القربة، ثمّ أورد علي نفسه بأنّ الواقع في الخارج عمل واحد و هو الصلاة عن الميّت مثلا، و هو بعينه متعلّق الإجارة و النيابة، و ليست النيابة عن الميّت شيئا و الصلاة شيئا آخر، حتّي يكون الأوّل متعلّقا للإجارة، و الثاني موردا للإخلاص.

ثمّ أجاب عنه بما حاصله: «إنّ الموجود في ضمن الصلاة الخارجية فعلان: نيابة صادرة عن الأجير، و صلاة كأنّها صادرة عن المنوب عنه، و هذان مختلفان في آثارهما، فانّه بالعنوان الأوّل ينقسم إلي المباح و الراجح و المرجوح، و بالعنوان الثاني تترتّب عليه الآثار الدنيوية و الاخروية للمنوب عنه، فكما أنّ آثارهما مختلفة كذلك أحكامهما مختلفة» (انتهي محصّل كلامه قدّس سرّه) «1».

هذا و لكن مع ذلك يبقي في كلامه الشريف مواقع للنظر:

أوّلا: التقرب إلي اللّه ليس من الامور الاعتبارية التي تحصل بالإنشاء أو النيّة عن الغير، و لا معني لتقرّب إنسان بعمل غيره، كما إذا قصد حيازة المباحات لغيره (بناء علي جوازها) بل التقرّب إليه تعالي له ملاكات نفسية لا تحصل إلّا بها، فهو من الامور التكوينية الناشئة من مبادئها.

نعم لو كان المنوب عنه هو الباعث للغير علي العمل، بحيث عدّ العمل من أعماله تسبيبا، أمكن قبول التقرّب له بذلك، و لكن هذا المعني غير موجود في موارد استيجار الغير و شبهها عن الميّت غالبا، اللهمّ إلّا أن يقصد المباشر اهداء ثواب عمله إليه، و هذا أمر آخر.

ثانيا: انطباق عنوانين علي عمل واحد لا يجعله عملين: أحدهما صادر بقصد القربة، و الثاني بقصد الاجرة، لأنّ المفروض أنّ الصادر شي ء واحد.

و أمّا مجرّد قصد النيابة الذي هو أمر قلبي

فليس بازائه اجرة قطعا، بل هي بازاء الفعل النيابي الخارجي.

______________________________

(1). المكاسب لشيخنا الأنصاري قدّس سرّه، ص 64 و 65.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 423

ثالثا: إنّ نفس النيابة من الأعمال الراجحة المعلومة بالارتكاز للمتشرّعة جميعا، خواصهم و عوامهم، و يرونها إحسانا للميّت أو الحي، و الإحسان إلي المؤمن من أفضل القربات، فكيف يغفل عن مثل هذا المعني؟

فإذا لا مناصّ إلّا من نفي العبادات الاستيجارية مطلقا علي مبناه، و القول بأنّ ما ورد في مثل الحجّ إنّما تؤخذ الاجرة علي المقدّمات فحسب، إمّا نفس العمل فيقع قريبا بدون قصد الاجرة، أو لا بدّ من قبول عدم منافاة قصد القربة لأخذ الاجرة من طريق الداعي علي الداعي (كما ذكرناه سابقا).

ثمّ اعلم إنّه قد يقال: إنّ القرب المعتبر في العبادة لو كان من الحقائق الواقعية لكان حصوله للمنوب عنه ممتنعا، لكن لا يعتبر ذلك فيها جزما، و أمّا القرب الاعتباري و سقوط الأمر أو سقوط المكلّف به عن عهدته بفعل الغير بمكان من الإمكان، و يستكشف ذلك كلّه من أدلّة النيابة «1».

أقول: لا ينبغي الشكّ أنّ المعتبر في ماهية العبادة هو القرب الحقيقي، بل لم توضع العبادة إلّا لذلك، و إطاعة أوامر اللّه أيضا طريق للوصول إلي هذا المعني، و لا معني للقرب الاعتباري، و ليس القرب من الامور الاعتبارية أو الإنشائية الحاصلة بفعل الغير كما لا يخفي.

و أمّا سقوط الأمر إن كان بسبب قصد إطاعة الأمر، فهذا موجب للقرب حقيقة، أمّا سقوطه بفعل الغير فلا دخل له في القرب، نعم يمكن ذلك من باب اهداء الثواب، و لكن أين ذلك من النيابة؟

و أعجب منه ما ذكره في ذيل كلامه من نفي اعتبار قصد القربه في العبادات

كلّها، و اكتفائه بالإخلاص و كونها للّه تعالي، مع أنّ العبادات لم توضع إلّا لذلك، فانّ غايتها إمّا تكريم اللّه و تعظيمه لحاجة اللّه إليه (تعالي عن ذلك علوا كبيرا) و أمّا لحاجة العبد، و هي تقرّبه نحوه، و لا ثالث لهما، و ما ذكره في ذيل كلامه يعود إلي قصد التقرّب في الواقع.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة للإمام الخميني قدّس سرّه، ج 2، ص 218، (و أضاف في ذيل كلامه: بل اعتبار قصد القربة أو حصول القرب في العبادات غير ظاهر بل لا يعتبر فيها إلّا الإخلاص و كونها للّه تعالي).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 424

و هنا شبهة اخري في مسألة النيابة في العبادات، و هي أنّ النائب لا أمر له حقيقة، و إنّما الأمر متوجّه إلي المنوب عنه، أو يكون في ذمّته، فكيف يمكن انبعاث المنوب عنه بأمر غيره، و تنزيل نفسه منزلة غيره؟ لأنّه لا أثر له في توجّه أمر غيره إليه، بعد عدم تغيير الواقعيات بهذا التنزيل الاعتباري الادّعائي، نعم الأمر متوجّه إليه بادّعائه، و الأمر الادّعائي لا أثر له و لا بعث و انبعاث له.

و يمكن الجواب عن جميع هذه الشبهات بأنّ الأصل في الأوامر و العبادات و ان كان كذلك، إلّا أنّ الشارع تفضّل علي المؤمنين و أجاز لهم بنيابة بعضهم عن البعض في موارد خاصّة، و أجاز ابراء ذمّة المنوب عنه بفعل النائب، و هذا من باب التوسعة في باب الامتثال، كما في أداء الديون المالية الذي يحصل بفعل الغير أيضا، أمّا القرب و ان لم يكن حاصلا للمنوب عنه، إلّا أنّه يتفضّل عليه بشي ء من ثواب العمل، مضافا إلي براءة ذمّته، و ذلك لما دلّ صريحا من

جواز النيابة عن الميّت في الحجّ و غيرها، و ان لم يوص بشي ء و لم يكن بأمره حتّي يعدّ فعلا له تسبيبا مثلما رواه:

1- محمّد بن أبي عمير عن رجاله عن الصادق عليه السّلام في الرجل يموت و عليه صلاة أو صوم قال: «يقضيه أولي الناس به» «1».

2- عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «الصلاة التي دخل وقتها قبل أن يموت الميّت يقضي عنه أولي الناس به» «2».

3- عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الحجّ و الصوم و العتق و فعاله الحسن» «3».

4- العلاء بن رزين في كتابه و هو أحد رجال الصادق عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الحجّ و الصوم و العتق و فعال الخير» «4».

5- البزنطي و كان من رجال الرضا عليه السّلام قال: «يقضي عن الميّت الصوم و الحجّ و العتق و فعله الحسن» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 5، ص 366، الباب 12، من أبواب قضاء الصلاة، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 368، ح 18.

(3). المصدر السابق، ص 369، ح 19.

(4). المصدر السابق، ح 20.

(5). المصدر السابق، ح 21.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 425

6- و قال صاحب الفاخر: ممّا أجمع عليه و صحّ من قول الأئمّة عليهم السّلام قال: «يقضي عن الميّت أعماله الحسنة كلّها» «1».

و كذا الروايات الكثيرة الواردة في أبواب الحجّ، و ظاهر جميع ذلك النيابة لا مجرّد اهداء الثواب.

و في هذا التشريع الإسلامي فوائد جمّة من وجود الصلة و التحابب بين المؤمنين حيّا و ميّتا أوّلا، و انبعاث الناس إلي القربات و الطاعات و لو بسبب حبّهم لأقربائهم و أصدقائهم ثانيا، و لما فيه

من التفضّل الإلهي إلي الأموات أو الأحياء ثالثا.

نعم، هذا حكم علي خلاف القاعدة لا نقول به إلّا فيما ثبت، لما عرفت من أنّ القرب لا يحصل إلّا بمبادئه الخارجية، و ليس من الامور الاعتبارية. فتلخّص من جميع ما ذكرنا صحّة النيابة في العبادات في الجملة، كما أنّه يصحّ الاستيجار فيها كذلك، و لا مانع منه من ناحية قصد القربة (و ان كان لنا بحث في غير الحجّ من ناحية اخري).

و كذا يجوز الاستيجار في المستحبّات مطلقا، عبادة كانت أو غيرها، اللهمّ إلّا أن يثبت من دليله المجانية، و أمّا المباح و المكروه فلا مانع منه، كما أنّ الإجارة علي الحرام و ترك الواجب ممنوع مطلقا، و أمّا المكاسب الواجبة لحفظ النفوس أو النظام فهي خارجة عنها بما عرفت من الدليل.

الأمر الثّالث: أخذ الاجرة علي الواجبات

الحكم في عكس المسألة كالحكم في نفس المسألة، أي كما أنّه لا يجوز أخذ الاجرة علي الواجبات و تمليكها للغير، كذلك لا يجوز صرف ما ملكه للغير في واجب نفسه (و تعرّضهم لمسألة الأجير في الطواف أو الإطافة هنا بهذه المناسبة و إلّا فالمسألة مربوطة ببحث الإجارة).

و حاصل الكلام فيها أنّه قد يكون الإنسان أجيرا للطواف من قبل غيره، و اخري أجيرا لإطافة غيره من الصبي أو المريض و المغمي عليه، و ثالثة يكون أجيرا لحمله في الطواف، و رابعة يكون أجيرا للطواف معه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 5، ص 369، الباب 12، من أبواب قضاء الصلاة، ح 22.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 426

لا إشكال في أنّه في الصورة الاولي لا يجوز أن يقصد الطواف لنفسه، و يستدلّ له بأنّ نفس هذا العمل مطلقا للغير، فلا يجوز أن يقصده لنفسه، و العمدة في ذلك

أنّه لا يجوز الجمع بين النيابة و الأصالة في نيّة واحدة لمنافاتهما بارتكاز المتشرّعة، بل ظهور روايات النيابة، و إلّا لو جاز الجمع بينهما في النيّة أمكن القول بجوازهما.

و أمّا الصورة الثانية و الثالثة فيهما أقوال كثيرة، فمنعهما جماعة كما حكي عن الإسكافي و من تبعه «1».

و أجازهما بعض «2»، و فصل جماعة بينهما، فمنع في الأوّل، و أجاز في الثاني، و فصل رابع بين صورة التبرّع و الجعالة، و صورة الإجارة، فأجاز في الأوّل و منع في الأخير، كما عن المسالك «3»، إلي غير ذلك.

و حيث أنّ المسألة خالية عن نصّ خاص، فلا بدّ من الرجوع فيها إلي القواعد، و هي تقتضي الجواز، لأنّ الإطافة بما أنّها فعل صادر منه، و كذلك الحمل بما أنّه فعل مباشري لا ينافي قصد طواف نفسه.

و إن شئت قلت: إنّ الذي استؤجر عليه هو مطلق الإطافة أو الحمل، سواء كان ذلك في طواف نفسه، أو لا، فالمستأجر عليه كان من أوّل أمره مطلقا من هذه الناحية، و يشتمل الصورتين، فلا وجه للمنع عنه بعد أداء الحقّين و عدم المانع في البين.

و الشاهد علي ذلك أنّه يصحّ الاستيجار علي حمل غيره في خصوص طواف نفسه، أو إطافة الغير فيما يقصده لنفسه، فكما يصحّ ذلك في مورد التصريح به بلا إشكال، يجوز الاستيجار علي الأعمّ بلا إشكال أيضا.

نعم لو كانت الإجارة علي خصوص الفرد غير المقارن بعمل نفسه لم يجز قصد طواف نفسه فيه.

و استدلّ علي المنع مطلقا بأنّ الحركة الخاصّة ملك للغير بمقتضي الإجارة لا يجوز أن يجعلها لنفسه.

______________________________

(1). نقلا عن مصباح الفقاهة، ج 1، ص 477.

(2). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 477.

(3). المسالك، ج 1، ص 97.

أنوار الفقاهة

- كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 427

و قد عرفت الجواب عنه و أنّ الذي هو ملك للغير أعمّ من الحركة المقارنة للطواف نفسه و غير المقارن له.

كما يظهر منه دليل القول بالتفصيل بين الاستيجار علي الحمل، أو الإطافة، و جوابه أنّه لا فرق بينهما بعد كون الاستيجار علي الأعمّ، مضافا إلي أنّ الإطافة أمر صادر منه، و كونها ملكا للغير لا يكون دليلا علي تملّك أسبابه كما هو ظاهر.

كما يظهر بذلك دليل التفصيل المحكي عن المسالك، و هو عدم تمامية الملك للغير في الجعالة و التبرّع، و تماميته في الإجارة.

و فيه مضافا إلي ما عرفت من عمومية مورد الإجارة، أنّه علي فرض الجعالة و إن صحّ طوافه، و لكن كيف يأخذ مال الجعالة بعد ما هو مفروض في كلماتهم من عدم جواز صرف ما هو لغيره لنفسه، و بالعكس؟

هذا و قد وردت روايات كثيرة في باب جواز حمل الإنسان غيره في طواف نفسه و أنّه يجوز لهما، و هي دليل علي المقصود، و إليك بعضها:

1- ما رواه محمّد بن الهيثم التميمي عن أبيه قال: حججت بامرأتي و كانت قد أقعدت بضع عشرة سنة، قال: فلمّا كان في الليل وضعتها في شقّ محمل و حملتها أنا بجانب المحمل و الخادم بالجانب الآخر، قال فطفت بها طواف الفريضة، بين الصفا و المروة و اعتددت به أنا لنفسي، ثمّ لقيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فوصفت له ما صنعته، فقال عليه السّلام: «قد أجزأ عنك» «1».

2- و ما رواه الهيثم بن عروة التميمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: إنّي حملت امرأتي ثمّ طفت بها و كانت مريضة و قلت له: إنّي طفت بها و بالبيت

في طواف الفريضة و بالصفا و المروة و احتسبت بذلك لنفسي فهل يجزيني؟ فقال عليه السّلام: «نعم» «2».

3- و ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة تطوف الصبي و تسعي به هل يجزي ذلك عنها و عن الصبي؟ فقال عليه السّلام: «نعم» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 9، ص 459، الباب 50، من أبواب الطواف، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 460، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 428

4- و ما رواه هيثم التميمي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل كانت معه صاحبة لا تستطيع القيام علي رجلها فحملها زوجها في محمل فطاف بها طواف الفريضة بالبيت و بالصفا و المروة أ يجزيه ذلك الطواف عن نفسه طوافه بها؟ فقال عليه السّلام: «أيّها اللّه ذا» «1».

فمورد هذه الأحاديث و إن لم تكن الإجارة، و لكن يمكن الغاء الخصوصية منها، فراجع و تدبّر.

فلا إشكال من احتساب من استؤجر لإطافة غيره أو حمله في الطواف لنفسه و الاعتداد به.

الأمر الرّابع: أخذ الاجرة علي الآذان

المشهور حرمة أخذ الاجرة علي الأذان، بل عن «الخلاف» و «جامع المقاصد» الإجماع عليه، و عن حاشية الإرشاد نفي الخلاف فيه، و قال في المختلف أنّه مشهور (كما في مفتاح الكرامة) و مع ذلك حكي عن علم الهدي و الكاشاني الكراهة، و قد يسند إلي المعتبر و المبسوط و هو غير ثابت، بل قد يحمل قول علم الهدي علي الارتزاق من بيت المال، فالمخالف الصريح قليل جدّا.

و أمّا بحسب القواعد، فالأصل فيه الجواز إذا كان له نفع عائد إلي الباذل يبذل بازائه المال كأذان الإعلام (و لكن ذكرنا في محلّه أنّه لا دليل علي ثبوت أذان

الإعلام بل الأذان دائما يكون للصلاة التي انعقدت جماعته أو في شرف الانعقاد) أو لصلاة نفسه علي الأقل.

فالأولي أن يمثّل له بأذان الصلاة إذا أوجب سقوطه عن الغير أو كان فيه فائدة الإعلام و ان كان للصلاة، بل كلّ أذان إعلام بهذا المعني.

و المراد من الأصل هنا عمومات الإجارة، و لا يمنع منه اعتبار القربة، كما عرفت، نعم لا يبعد كونه ممّا يستفاد من أدلّته المجانية أو في ارتكاز المتشرّعة و أنّه من الوظائف الشرعية المستحبّة.

و أمّا بحسب الأدلّة الخاصّة، فتدلّ علي الحرمة روايات منها:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 9، ص 460، الباب 50، من أبواب الطواف، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 429

1- ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السّلام قال: آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي … أن قال: «يا علي! إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك، و لا تتخذن مؤذّنا يأخذ علي أذانه أجرا» «1».

2- قال أتي رجل أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين و اللّه إنّي لأحبّك فقال له:

و لكنّي ابغضك! قال: و لم؟! قال: «لأنّك تبغي في الأذان كسبا و تأخذ علي تعليم القرآن أجرا» «2».

3- و ما رواه العلاء بن سيّابة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا يصلّي خلف من يبتغي علي الأذان و الصلاة الأجر و لا تقبل شهادته» «3».

4- و ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا تصلّي خلف من يبغي علي الأذان و الصلاة بالناس أجرا و لا تقبل شهادته» «4».

و بعض هذه الأحاديث صحيحة الإسناد و الباقي مجبور بالعمل، هذا بالإضافة إلي ما ورد في بعض علائم آخر الزمان و انّهم

يأخذون علي الأذان أجرا عندئذ.

فتحصّل من جميع ذلك أنّه لا يجوز أخذ الاجرة علي الأذان مطلقا.

الأمر الخامس: أخذ الاجرة علي الإمامة

و ممّا ذكرنا يظهر حكم مسألة الاستيجار علي الإمامة، فانّها إن كانت في صلاة واجبة، فالظاهر عدم جواز أخذ الاجرة عليها بعد اتّحادها مع الواجب، و أمّا إن كانت في صلاة غير واجبة (كصلاة العيد في عصرنا) أو الصلاة المعادة بناء علي المختار من جوازها، و لو صلّي قبلها جماعة إماما (لكن مرّة واحدة فقط) فهي و ان كانت جائزة بحسب القواعد بعنوان الداعي علي الداعي، و لكن الأولوية بالنسبة إلي الأذان قد تمنعها، و كذا ارتكاز المتشرّعة علي كونه أمرا مجانيا، و لدعوي عدم الخلاف فيه بين الخاصّة، مضافا إلي الروايتين المتقدّمتين (2 و 6/ 32 من أبواب الشهادات).

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 4، ص 666، الباب 38، من أبواب الأذان و الإقامة، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ج 18، ص 278، الباب 32، من أبواب الشهادات، ح 2.

(4). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 430

الأمر السّادس: أخذ الاجرة علي الشهادة
اشارة

يجب تحمّل الشهادة و كذا أدائها، أمّا الأوّل فلقوله تعالي: وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا «1» و سياق الآية شاهد علي أنّ الدعوة لتحمّل الشهادة مضافا إلي تفسيرها به في المصحّحة التي رواها هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ … قال: قبل الشهادة، و قوله: «و من يكتمها فانّه آثم قلبه» قال: بعد الشهادة «2».

و الروايات في ذلك كثيرة فراجع الباب من أبواب الشهادات في الوسائل.

و كذا يجب أداء الشهادة لقوله تعالي: وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «3».

نعم الكتمان لا يصدق إلّا إذا طلب القاضي أو المدّعي، فلو نسيه المدّعي و لم

يطلب منه الشهادة، لا يصدق عليه الكتمان، إلّا أنّ قوله تعالي وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ «4» قد يدلّ علي الأعمّ، و الروايات بهذا الحكم متظافرة «5» و هو إجماعي إجمالا، و ان كان في خصوص المقام الأوّل، أي أخذ الاجرة مشهورا، و خالف فيه بعض، و مال إليه صاحب الجواهر، و الكلام في تفاصيلها في محلّه، و حيث أنّ المختار عدم الفرق بين الواجب العيني، و الكفائي في حرمة أخذ الاجرة، فالحكم بالحرمة هنا ظاهر، نعم بناء علي الفرق بينهما أمكن القول بجوازه، لظهور كلمات الأصحاب في كون الوجوب في كليهما (التحمّل و الأداء) كفائيا، بل ظاهر حكمة الحكم أيضا تقتضي الكفائية، اللهمّ إلّا أن ينقلب إلي العيني بالعرض عند عدم وجود من به الكفاية غيره.

بقي هنا شي ء:

لو احتاج التحمّل أو الأداء إلي قطع مسافة قصيرة أو طويلة، وجب عليه مقدّمة للواجب، و لو احتاج إلي أداء مال، فقد قال في المسالك أنّه لا يجب للضرر، بل قال في الجواهر إنّ

______________________________

(1). سورة البقرة، الآية 282.

(2). وسائل الشيعة، ج 18، ص 225، الباب 1، من أبواب الشهادات، ح 1.

(3). سورة البقرة: الآية 283.

(4). سورة الطلاق، الآية 2.

(5). راجع الباب 2، من أبواب الشهادات، (الوسائل، ج 18، ص 227).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 431

قطع المسافة الطويلة و نحوها من مصاديق العسر و المشقّة.

و لكن الإنصاف إنّ جميع المقدّمات واجبة عليه إلّا أن يكون فيها حرجا شديدا أو ضررا عظيما معتدا به، فيكون داخلا في أدلّتهما (فتدبّر جيّدا).

الأمر السّابع: أخذ الاجرة علي الإفتاء

و ممّا يحرم أخذ الاجرة عليه الإفتاء، ذكره السيّد اليزدي قدّس سرّه في حاشيته علي المكاسب، و استدلّ له بقوله تعالي: قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً «1» (و قد ورد في كلام نوح و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السّلام في سورة الشعراء: وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّٰا عَليٰ رَبِّ الْعٰالَمِينَ «2») و لأنّه واجب مجاني كما يظهر من أخبار وجوب التعليم و التعلّم.

و قد سبقه إلي ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «و يلحق بالقضاء الإفتاء في مسائل الحلال و الحرام و الموضوعات الشرعية، من غير فرق بين الواجبة و المندوبة و المكروهة و المباحة، لما عرفته من عدم سؤال الأجر و كونه من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر» «3».

أقول: أمّا الآية فلعلّ في تبليغ الأنبياء عليهم السّلام خصوصية ليست في غيرهم و الأولوية هنا ممنوعة، و الثاني يختصّ ببيان الواجبات و المحرّمات.

و الأولي أن

يقال: إنّ الإفتاء في جميع الأحكام واجب كفائي، لوجوب حفظ أحكام الدين جميعا، و لآية النفر «4»، و ما دلّ علي وجوب التعليم، و أنّه ما أخذ علي العباد أن يتعلّموا حتّي أخذ علي العلماء أن يعلّموا، و غير ذلك، فيحرم أخذ الاجرة عليه.

الأمر الثّامن: أخذ الاجرة علي تعليم القرآن
اشارة

اختار المشهور كراهيتها، كما في مفتاح الكرامة «5»، و فصل بعضهم بين الاشتراط

______________________________

(1). سورة الأنعام، الآية 90.

(2). سورة الشعراء، الآية 109.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 124.

(4). سورة التوبة، الآية 122.

(5). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 84.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 432

و عدمه، فقال بالكراهة في الأوّل دون الثاني، كما في السرائر و الإيضاح النافع «1». و عن الإستبصار الحرمة مع الشرط و بدونه مكروهة «2»، و وافقه العلّامة رحمه اللّه في موضع من إجارة التذكرة، و لكن صرّح في موضعين آخرين بالكراهة «3»، و ظاهر العلّامة رحمه اللّه في الإرشاد عدم الكراهة أصلا، و صرّح السيّد في الحاشية بالجواز من دون ذكر الكراهة «4».

فالمسألة ذات أقوال أربعة:

و الظاهر أنّ محلّ الكلام في غير الواجب منه، فقد تجب قراءة القرآن في موارد كثيرة، منها:

1- لقراءة الصلاة في الأوّليين تعيّنا و في غيره تخييرا.

2- لتعلّم العقائد و الأحكام إذا توقّف عليها.

3- مقدّمة لاجتهاد المجتهد في أحكام الدين.

4- لحفظه عن اندراسه و بقائه مرّ الدهور و حفظ المعجز و تواتره، فإذا كان واجبا عينيا كان الأمر ظاهر، و إذا كان واجبا كفائيا فعلي المختار من حرمة أخذ الاجرة علي الواجبات مطلقا حتّي الكفائية منها أيضا ظاهر، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد استدلّ للمشهور- و هو الكراهة و عدم الحرمة- بامور:

الأوّل: الأصل، و هي الإباحة.

الثاني: الإجماع المدّعي المنجبر بالشهرة كما في المفتاح، فتأمّل.

الثالث: جواز جعله مهرا بالإجماع.

الرابع: و هو العمدة الروايات الدالّة علي المقصود منها:

1- ما رواه الفضل بن أبي قرّة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: هؤلاء يقولون إنّ كسب المعلّم سحت، فقال: «كذبوا أعداء اللّه إنّما أرادوا أن لا يعلّموا أولادهم القرآن لو أنّ

المعلّم

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 84.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 433

إعطاء رجل دية ولده لكان للمعلّم مباحا» «1». رواه المحمّدون الثلاث في كتبهم.

2- ما رواه الجرّاح المدائني قال: نهي أبو عبد اللّه عليه السّلام عن أجر القارئ الذي لا يقرأ إلّا بأجر مشروط «2».

3- و ما رواه محمّد بن علي بن الحسين قال: «نهي رسول اللّه عن اجرة القارئ الذي لا يقرأ إلّا علي أجر مشروط» «3».

بناء علي انّ مفهوم الأخيرين الجواز بدون الشرط، و لكن الظاهر انّهما أجنبيان عمّا نحن بصدده، لأنّهما بصدد بيان حكم القراءة لا في التعليم، و لا وجه للقياس أو دعوي الغاء الخصوصية.

فالعمدة هي الرواية الاولي المنجبر ضعفها بالشهرة، و الظاهر كفايتها في إثبات المطلوب.

و يستدلّ علي الحرمة بما رواه الصدوق رحمه اللّه مرسلا.

محمّد بن علي بن الحسين قال: و قال علي عليه السّلام: «من أخذ علي تعليم القرآن أجرا كان حظّه يوم القيامة» «4».

و لا يخفي ضعفه بالإرسال لا سيّما في مقابل ما عرفت، و الظاهر أنّه هو مستند المشهور للحكم بالكراهة، جمعا بين الأخبار، بل لا دلالة فيها علي الحرمة كما لا يخفي.

و أمّا رواية الأعشي «5» و خبر الجرّاح المدائني، فحالهما ظاهر لعدم دلالتهما علي مسألة التعليم، بل واردتان في نفس قراءة القرآن.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يجوز أخذ الاجرة علي تعليم القرآن، و لا كراهة فيه ما عدا ما يجب تعليمه و تعلّمه شرعا لحفظ القرآن عن الاندراس، أو لقراءته في الصلاة، أو كشف أحكام الشرع و غيره.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 112، الباب 29، من أبواب ما يكتسب، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 113،

ح 6.

(3). المصدر السابق، ح 7.

(4). المصدر السابق، ح 8.

(5). المصدر السابق، ص 112، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 434

الأمر التّاسع: أخذ الاجرة علي اجراء صيغ العقود

و منها النكاح جائز، بل لم ينقل فيه خلاف عن أحد للأصل، و لعدم كونه من الواجبات.

نعم إذا توقّف نكاح واجب عليه و امتنع صاحبه عن البذل أو لم يكن له مال، وجب من دون اجرة، و يمكن أن يقال بأنّ الاجرة هنا تكون في ذمّة صاحبه إلي أن يؤدّيها، لكن إذا وكّله في ذلك، و بدونه لا تجب في ذمّة صاحبه.

و كذا بالنسبة إلي تعليم صيغ النكاح و غيره من العقود التي تكون من قبيل بيان الأحكام و تعليمها، فانّه لا يجوز أخذ الاجرة عليها كما عرفت.

الأمر العاشر: حكم الارتزاق من بيت المال

و في النهاية تصل النوبة إلي «حكم الارتزاق من بيت المال» فيما لا يجوز أخذ الاجرة عليه من الواجبات و غيرها من الأذان و الإمامة و القضاء و غيرها.

صرّح كثير من الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) بجواز ارتزاق القاضي من بيت المال في غير واحد من الموارد التي يحرم أخذ الاجرة عليه.

لكن ظاهر جماعة عدم اشتراط الفقر فيه، بل حكي التصريح به عن بعض، بينما يظهر من بعض آخر اشتراطه.

بل يلوح من بعض كلمات صاحب الجواهر قدّس سرّه كون عنوان الفقر مأخوذا في مفهوم الارتزاق، و حاصله ببيان منّا:

إنّ من كان مشغولا بسياسة الدين و مصالح المؤمنين عن التكسّب لقوته و قوّة عياله و باقي ضرورياته، فلا بدّ أن يرتزق من يت المال المعدّ لمصالح المسلمين، أمّا من كانت له كفاية فهو غير محتاج إلي ذلك «1».

و في مفتاح الكرامة في بحث الأذان عن المنتهي الإجماع علي جواز الارتزاق، و عن مجمع البرهان لا خلاف فيه، و فرّق جماعة بين الاجرة و الرزق بأنّ الاجرة تقتصر إلي تقدير

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 123.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة

(لمكارم)، ص: 435

العمل و العوض و المدّة و الصيغة، و الرزق ليس كذلك «1».

هذا، و لكن الظاهر أنّ التفاوت بينهما بقصد المعاوضة في الأوّل دون الثاني، و ما ذكر إنّما هو بعض آثاره، بل لو لم تكن هذه الامور و كان بقصد المعاوضة إجمالا، و لكن أخذ اجرة المثل كان داخلا في الاجرة المحرّمة.

و تحقيق الحال في المسألة أن يقال:

أوّلا: أخذ الاجرة حرام، سواء كان مع تقدير العمل و العوض و غير ذلك، أو كان بمجرّد قصد المعاوضة و الاكتفاء باجرة المثل.

ثانيا: إنّ حقيقة الارتزاق و مفهومه العرفي و ان كان الانتفاع منه لدي الحاجة إليه، إلّا أنّ هذه اللفظة غير مأخوذة في لسان دليل شرعي حتّي نرجع إليه في المقام، نعم في كلام أمير المؤمنين علي عليه السّلام في عهده إلي الأشتر ما يقرب منه حيث قال: «و افسح له في البذل ما يزلّ عليّته و تقلّ معه حاجته إلي الناس» «2» و أمّا ما ورد في بعض معقاد الجماعات فحاله معلوم بعد عدم كونه إجماعا تعبّديا.

ثالثا: اللازم ملاحظة الأموال التي تجعل في بيت المال و مصارفها حتّي يتبيّن حال المسألة، فانّه المفتاح الوحيد لحلّ المشكلة، فنقول و من اللّه سبحانه نستمدّ التوفيق:

إنّ ما يرد في بيت المال تارة يكون من الزكوات.

و اخري من الأخماس حقّ السادة.

و ثالثة من سهم الإمام من الخمس.

و رابعة من الأنفال.

و خامسة من الخراج و أراضيها.

أمّا الأوّل، فلا شكّ في اعتبار الفقر فيه لو كان من سهم الفقراء و المساكين، و أمّا إن كان من سهم سبيل اللّه فلا يشترط فيه الفقر، بل كلّ أمر مطلوب للّه و ان كان لنا فيه كلام في محلّه و أنّه لا يبعد

تخصيصه بخصوص أمر الجهاد و ما أشبهه من تبليغ الدين.

______________________________

(1). مفتاح الكرامة، ج 4، ص 95.

(2). نهج البلاغة، 53.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 436

أمّا حقّ السادة من الخمس فكذلك.

أمّا سهم الإمام عليه السّلام منه فقد ذكرنا في محلّه أنّه يصرف فيما هو مهمّة الحكومة الإسلامية و غيرها ممّا فيه رضي الإمام عليه السّلام، و يؤخذ بالقدر المتيقّن عند الشكّ، و لا يشترط فيه الفقر و لا شي ء آخر سوي رضاه.

و كذلك الأنفال، فانّها أيضا منوطة برضاه عليه السّلام و مصالح الحكومة الإسلامية من دون تقييد بالفقر، و لا بالتسوية في العطاء كما ذكر في محلّه.

و أمّا «الخراج» فلمّا كان من الأراضي التي هي ملك لجميع المسلمين فلا بدّ أن تصرف في مصالحهم، و لو زاد يقسم بينهم بالسوية ظاهرا من دون اشتراط الفقر فيه أيضا، فلم يبق من اشتراط الفقر مورد إلّا مسألة الزكاة من سهم الفقراء و المساكين و الخمس للسادة، و التسوية لا تكون إلّا في الخراج، و تمام الكلام في أحكام بيت المال و مصارفه في محلّه المناسب من الفقه إن شاء اللّه، فانّه بحث طويل الذيل كثير المنافع كما لا يخفي.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 437

خاتمة لمّا تمّ الكلام في الأنواع الخمسة من المكاسب المحرّمة بقي هنا مسائل ذكروها في الخاتمة.

اشارة

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 439

المسألة الأولي: بيع المصحف من المؤمن و الكافر
اشارة

أمّا من المؤمن فقد وقع فيه الخلاف بينهم، فالمشهور هو الحرمة، بل حكي عدم الخلاف فيه، و عن جماعة الجواز، و العمدة فيه الروايات المختلفة المتعارضة بظاهرها في المسألة و كيفية الجمع بينها، و مقتضي القواعد الصحّة و دخولها في عمومات العقود، بل ادّعي في الجواهر جريان السيرة القطعية علي الجواز، بل ظهور إطلاق كلامهم في المسألة الآتية من حرمة بيعها من الكافر يشير إلي ذلك.

و هنا طائفتان من الروايات:

الطائفة الاولي: ما دلّ علي التحريم، و هي:

1- ما رواه عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: «إنّ المصاحف لن تشتري، فإذا اشتريت فقل إنّما أشتري منك الورق و ما فيه من الأديم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا» «1».

2- ما رواه سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كتاب اللّه، و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفّتين، و قل أشتري منك هذا بكذا و كذا» «2».

3- ما رواه عثمان بن عيسي قال سألته عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «لا تشتر كلام اللّه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر و قل أشتري هذا منك بكذا و كذا» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 114، الباب 31، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(2). المصدر السابق، ح 2.

(3). المصدر السابق، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 440

4- ما رواه عبد اللّه بن سليمان (عن الصادق عليه السّلام) قال: سألته عن شراء المصاحف. فقال:

«إذا أردت أن تشتري فقل أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا» «1».

5- ما رواه جرّاح المدائني عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام في بيع المصاحف قال: «لا تبع الكتاب و لا تشتره و بع الورق و الأديم و الحديد» «2».

6- ما رواه سماعة بن مهران قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لا تبيعوا المصاحف فانّ بيعها حرام» قلت: فما تقول في شرائها قال: «اشتر منه الدفّتين و الحديد و الغلاف و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب فيكون عليك حراما و علي من باعه حراما» «3».

الطائفة الثانية: ما دلّ علي الجواز أو يشعر به، و هي:
اشارة

1- ما رواه روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن شراء المصاحف و بيعها. فقال: «إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف، قال: فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك، ثمّ أنّهم اشتروا بعد».

قلت: فما تري في ذلك؟ فقال لي: «اشتري أحبّ إليّ من أبيعه»، قلت: فما تري أن أعطي علي كتابته أجرا؟ قال: «لا بأس و لكن هكذا كانوا يصنعون» «4».

2- ما رواه عنبسة الورّاق قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف فان نهيتني لم أبعها، فقال: «أ لست تشتري ورقا و تكتب فيه؟» قلت: بلي و اعالجها. قال: «لا بأس بها» «5».

3- ما رواه أبو بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع المصاحف و شرائها فقال: «إنّما كان يوضع عند القامة و المنبر» قال: «كان بين الحائط و المنبر قيد ممرّ شاة و رجل و هو منحرف فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة و يجي ء آخر فيكتب السورة، كذلك كانوا، ثمّ انّهم اشتروا بعد ذلك». فقلت: فما تري في ذلك؟ قال: اشتريه أحبّ إليّ من أن

أبيعه «6».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 115، الباب 31، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 116، ح 11.

(4). المصدر السابق، ص 115، ح 4، (و قريب منه ح 9، ص 116، مع اتّحاد الراوي).

(5). المصدر السابق، ح 5.

(6). المصدر السابق، ح 8.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 441

4- ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ أمّ عبد اللّه بن الحارث أرادت أن تكتب مصحفا و اشترت ورقا من عندها ودعت رجلا فكتب لها علي غير شرط فأعطته حين فرغ خمسين دينارا و أنّه لم تبع المصاحف إلّا حديثا» «1».

و هناك روايات تدلّ علي جواز كتابته بالأجر مثل:

الأوّل: ما رواه روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و قد مرّ آنفا، و زاد فيه قال: قلت:

ما تري أن أعطي علي كتابته أجرا؟ قال: «لا بأس و لكن هكذا كانوا يصنعون» «2».

الثاني: ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكتب المصحف بالأجر، قال: «لا بأس» «3».

الثالث: ما رواه علي بن جعفر قال: و سألته عن الرجل هل يصلح له أن يكتب المصحف بالأجر؟ قال: «لا بأس» «4».

و أكثر الروايات من الجانبين و ان كانت ضعيفة، و لكن تظافرها يغني عن إسنادها، إنّما الكلام في طريق الجمع بينهما، و قد جمع بينهما في الجواهر بحمل الاولي علي الاستحباب لوجود قرائن فيها و انّ المراد منها عدم مقابلته بالثمن في صورة اللفظ، و عدم مساواته لباقي المبيعات في الابتذال، و أيّده بضرورة الدين علي جواز بيع الكتب الفقهية

و غيرها ممّا تتضمّن الآيات «5».

و اختاره أيضا بعض الأكابر من محشّي المكاسب، و قال إنّ الغاية القصوي من النهي إنّما هو التأدّب و الاحترام لكلام اللّه، فانّ الدنيا و ما فيها لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة، فكيف يمكن أن يقع جزء من ذلك ثمنا للقرآن الذي اشتمل علي جميع ما في العالم و يدور عليه مدار الإسلام! «6».

و اختار شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجها آخر للجمع بينها بعد اختيار قول المشهور في المقام،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 116، الباب 31، من أبواب ما يكتسب به، ح 10.

(2). المصدر السابق، ص 116، ح 9.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 116، الباب 31، من أبواب ما يكتسب به، ح 12.

(4). المصدر السابق، ح 13.

(5). جواهر الكلام، ج 22، ص 128.

(6). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 485.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 442

و هو أنّ الأخبار المجوّزة تدلّ علي أصل الجواز، و لا تدلّ علي كيفية البيع، فيمكن حملها علي بيع الأديم و الحديد و الأوراق و شبهها «1».

و كأنّه رآهما من قبيل المطلق و المقيّد.

هذا و الأقوي هو الجمع الأوّل، و العمدة فيه:

أوّلا: ما في أكثر روايات المجوّزة بل جميعها ما عدا شاذّ منها من قوله «قل اشتري منك الورق … » فانّ هذا التعبير أقوي شاهد علي ما ذكر، فانّ قوله «قل» الخ ليس إلّا قولا لفظيا تأدّبا، و إلّا فلا شكّ أنّ الداعي الجدّي ليس شراء نفس الورق و الجلد و الأديم مجرّدا عن النقوش، لعدم تعلّق الغرض بها، بل الغرض الوحيد هو النقوش أو الأوراق مع وصفها بالنقوش، و هو من قبيل تسمية ثمن القرآن هديّة في أيّامنا، مع أنّ

الداعي الجدّي هو الشراء، لا الإهداء، و هذا القول أمر صوري لاحترام القرآن، فيناسب أن يكون مستحبّا لا واجبا كما لا يخفي.

ثانيا: عدم ذكره في روايات عديدة واردة في محلّ البلوي و الحاجة قرينة اخري علي كونه أمرا صوريا استحبابيا.

ثالثا: إنّ هذه النقوش لا تخلو عن أحد امور:

1- إنّها من الصفات التي لا يقع بازائها جزء من الثمن و إن تفاوتت قيمة الأوراق بسببها، فلا وجه للنهي عن بيعها بعد عدم دخولها في المبيع.

2- إنّها من الأعيان، و لكن تبقي علي ملك البائع، فلازمه الشركة التي لا يقول به أحد.

3- أنّها من الأعيان، و لكن تنتقل إلي المشتري بجزء من الثمن، و هذا ممنوع علي الفرض.

4- إنّها من الأعيان، و لكن تنتقل قهرا و بدون رضاه تبعا، و هو بعيد.

5- إنّها من الأعيان التي لا تدخل في ملك أحد بحكم الشارع المقدّس، و هو عجيب!

فحيث لا يمكن الالتزام بشي ء من هذه الاحتمالات الخمسة، لا بدّ من القول بالجواز حتّي تنحلّ العقدة.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 66 و 67.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 443

و يمكن أن يقال: إنّ انتقال الصفات في أمثال ذلك قهري، لأنّها أمر تبعي لا يبقي علي ملك أحد إلّا بتبع محلّه.

مضافا إلي أنّ هذا الدليل لا يعدّ دليلا قطعيّا، بل يمكن عدّه تأييدا لمسألة مع قطع النظر عمّا ذكرنا، و من هنا تعرف أنّ شراء الورق لا ينفك عن شراء الخطوط تبعا، و لا يكون شراء الخطوط إلّا كذلك، و لكن التأدّب يقتضي ما ذكر من التعبير.

و الحاصل أن خطوط القرآن إمّا أن تكون مستقلّة برأسها، أو لا تكون إلّا تبعا؟ فعلي الأوّل تبقي علي ملك مالكها، و علي الثاني تنتقل

بالتبع، فيكون مصداق الشراء لمصحف، و كلاهما مشكل علي الحرمة، و الحقّ أنّها تبع عرفا، و لا حرمة فيه إنّما اللازم التأدّب في التعبير.

بقي هنا امور:

الأوّل: يظهر من رواية سماعة (11/ 31) عدم جواز شراء الورق أيضا، و هو مع مخالفته لصريح أكثر روايات الباب التي فيها الصحيحة و غيرها إنّه ممّا لا يمكن الالتزام به، فهل يبقي علي ملك مالكه، أو يخرج عن المالية بمجرّد كتابة القرآن عليه؟ كلّ ذلك بعيد و لعلّه لم يقل به أحد.

الثّاني: قد يستدلّ للجواز بالسيرة القطعية علي بيع المصاحف، و لكن إثباته متّصلا إلي زمن المعصومين عليهم السّلام مشكل جدّا، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالروايات السابقة، فتعود إلي التمسّك بالسنّة لا بالسيرة.

الثّالث: إذا اشتمل كتاب علي آيات من القرآن الكريم، و قلنا بحرمة بيع المصحف، فالظاهر جواز بيعه، قلّ أو كثر، ما لم يصدق عليه المصحف، فانّ التعبير بالمصاحف في غير واحد منها (1 و 2 و 6 و 7/ 31) أو كتاب اللّه في غيرها (2/ 31) ظاهر فيما ذكرنا، و أمّا قوله:

«لا تشتر كلام اللّه» في بعضها (3/ 31) «1» الصادق علي الآية و الآيات، فالظاهر أنّ المراد به

______________________________

(1). هذه الروايات أوردناها بلفظها في أوّل هذا المبحث، جواهر الكلام، ج 22، ص 338.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 444

المصحف بقرينة ما في ذيله من شراء الحديد و الجلود.

و قد يستدلّ أيضا برواية سماعة (11/ 31) و ما فيه من النهي قوله: «إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون حراما عليك و علي ما باعه» نظرا إلي أنّ النهي عن شراء الورق شامل لكلّ ورق كتب فيه القرآن «1».

و فيه ما لا يخفي علي

من راجع صدر الحديث، فانّ الكلام يدور مدار بيع المصاحف، و النهي عن شراء الورق مقابل لقوله: اشتر منه الدفتين و الحديد و الغلاف. فراجع.

هذا و قد يستدلّ بالسيرة القطعية علي بيع هذه الكتب و شرائها و لم يستشكل فيه فقيه بل متفقّه، و لكن اتّصالها إلي زمنهم عليهم السّلام أيضا غير ثابت، بل قد يفهم منها جواز بيع بعض القرآن و لو كان مجرّدا عن هذه الكتب لعدم الفرق بينهما، بل قد يستدلّ به علي جواز بيع الكلّ بسبب هذه السيرة، فانّ دليل المنع لم يفرّق بينهما «2».

و لكن فيه أيضا ما لا يخفي، لأنّ السيرة دليل لبّي لا عموم فيها، و الغاء الخصوصية منها أيضا ممنوع، و العمدة ما ذكرنا من أنّ الحرمة علي القول بها تتعلّق علي عنوان المصحف، فلا تشمل غيره حتّي كتب التفسير المشتملة علي جميع القرآن الكريم (فتدبّر جيّدا).

الرّابع: لا مانع من انتقال المصحف بالإرث أو الهبة أو الوقف الخاص أو شبهها إلي غير صاحبه، لعدم الدليل علي المنع في غير البيع و المعاوضات.

بيع المصحف من الكافر:
اشارة

ذكر جماعة من الأعاظم منهم العلّامة رحمه اللّه و من تبعه كما حكي عنهم الحاق المصحف بالعبد المسلم في عدم جواز بيعه من الكافر، و ذكره صاحب الجواهر قدّس سرّه في ذاك المبحث بعينه من غير تعرّض له هنا «3».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 489.

(2). المصدر السابق.

(3). جواهر الكلام، ج 22، ص 338.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 445

و أفتي به المحقّق و الشهيد الثاني قدّس سرّهما في محكي المسالك و الروضة، و كذا كاشف الغطاء.

و استدلّ له تارة بما دلّ علي حرمة بيع المسلم من الكافر لكونه أولي منه، و اخري بما

دلّ علي نفي سبيل الكافر علي المؤمن وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا «1» من باب الأولوية.

و ثالثة: بما دلّ علي أنّ الإسلام يعلو و لا يعلي عليه «2» الذي استدلّ به في مسألة بيع العبد المسلم من الكافر، بل هنا استعلاء علي الإسلام، و رابعة بلزوم تنجيس المصحف غالبا.

و لكن جميع ذلك كما تري لا يتجاوز عن حدّ الإشعار، أو التأييد، فانّ كون العبد المسلم تحت يد الكافر قد يكون سببا لانحرافه عن طريق الحقّ، و ليس كذلك المصحف، و أمّا آية نفي السبيل فدلالتها علي تلك المسألة منظور فيها، فكيف بما نحن فيه؟

فانّ السبيل يمكن أن يكون بمعني الحجّة و البرهان، و إلّا فسلطة الكفّار علي بعض المسلمين أحيانا و قتلهم و أسرهم غير نادر في التاريخ، بل النسبة إلي أئمّة المسلمين أيضا.

و كذا علو الإسلام و عدم علو شي ء عليه المستدلّ به في أبواب موانع الإرث و أنّ الإسلام لا يمنع صاحبه عن إرث أقاربه الكافر، لأنّ الإسلام يزيد خيرا و «يعلو و لا يعلي عليه» فانّ كون مجرّد ملك الكافر علوا غير معلوم في البابين، و النجس غير ملازم لذلك و لو علي القول بنجاسة الكفّار.

و العمدة هنا دليل الإهانة الذي يظهر من بعض كلمات صاحب الجواهر و شيخنا الأعظم، و لكنّه أيضا أخصّ من المدّعي، بل و أعمّ منه من وجه، فقد يحصل بغير التمليك، و قد لا يحصل بالتمليك، فيدور الحكم مداره.

فلو أخذ الكافر مصحفا للتحقيق حول الإسلام لم يكن فيه من هذه الجهة إشكال أصلا، بل قد يجب ذلك من باب إرشاد الجاهل و إتمام الحجّة علي الكافر.

و كذا إذا أخذه للتجارة به تجارة لا تنافي

حرمته، مثل سائر أنواع التجارات، بل قد يكون سببا لنشره في أقصي نقاط العالم، ممّا يوجب مزيد قوّة و شوكة للإسلام و المسلمين، و بثّ

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 141.

(2). وسائل الشيعة، ج 17، ص 376، الباب 1، من أبواب موانع الإرث، ح 11.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 446

دعوتهم و علوّ كلمتهم و إبلاغ رسالتهم.

فالحكم هنا يدور مدار الهتك و الإهانة و لا يشمل غير مواردها.

بقي هنا امور:

1- الظاهر أنّ الاستدامة ملحقة بالحدوث، فلو كان مسلم مالكا لمصحف ثمّ ارتدّ لزم أخذه منه إذا كان فيه هتك لكتاب اللّه، أو كان فيه أحد المحاذير الاخري بناء علي القول بها.

2- الظاهر لحوق حكم الكلّ للأبعاض، لعدم الفرق في حرمة الهتك بين الكلّ و الجزء، فليس الحكم هنا يدور مدار عنوان المصحف الوارد في المسألة السابقة كما لا يخفي علي الخبير.

3- لا فرق بين أنواع الكتابة من العربي و الكوفي و المحفور و البازر، بل لا يبعد إلحاق المصحف المكتوب بالحروف الاخري به، نظير كتابته بالحروف اللاتينية كما هو المتداول بين أهالي تركيا اليوم.

4- أمّا بالنسبة إلي الحاق كتب الحديث و الفقه بكتاب اللّه حتّي في حال عدم اشتمالها علي آيات قرآنية، فعن ثاني المحقّقين أنّها بحكمه، و عن فخر المحقّقين رحمه اللّه جوازه، و عن والده فيه وجهان.

و الإنصاف عدم الفرق علي فرض الهتك، و علي فرض عدمه لا وجه للإلحاق، و كلّ تابع لما عنده من الدليل.

5- ذكر بعضهم إلحاق التربة الحسينية، و تراب المراقد المقدّسة، و قطع الصناديق الشريفة، و ثوب الكعبة، بالمصحف «1».

و لكن اللحوق كما عرفت تابع لعنوان الهتك، لعدم ورود نصّ خاصّ فيها، و هو مختلف بحسب الموارد، فلو اشتري المسلم

أو الكافر شيئا من ثوب الكعبة و جعلها في متحف أو زيّن بها داره كما هو المعمول عندنا في أمثال ذلك، فلا دليل علي الحرمة، بل هو من تعظيم

______________________________

(1). كما حكاه في الجواهر، ج 22، ص 339، عن شرح استاذه.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 447

الشعائر، و أولي منه عدم شمول سائر الأدلّة علي فرض تماميتها.

و العجب أنّه ذكر بيع الأراضي الشريفة و ما يصنع منها من آجر أو غيره و بيع أوراق المصحف بعد ذهاب صورة القرآن من الكفّار، و قال فيه وجهان «1».

مع أنّه لا وجه للحرمة فيها أبدا ما لم ينطبق عليه عنوان محرّم آخر مثل استيلائهم علي أراضي المسلمين تدريجا أو شبه ذلك، فأي وجه في حرمة بيع خزفها منهم؟ و ما الوجه فيه؟

6- إذا اشترط عليه وقفه أو هبته أو علم انتقاله منه بالإرث، و لم يكن هناك ما يوجب محذورا، فالظاهر عدم الحرمة، و نظيره ما ذكروه في باب بيع العبد المسلم علي من ينعتق عليه.

7- قد يقال إنّ بيع كتب فقه الإمامية و ما يختصّ بهم من كتب العقائد من مخالفيهم أيضا داخل في الحكم، و لكن من الواضح إختلاف ذلك بحسب الموارد بعد ما عرفت من الدليل، و أنّه لا محذور فيه غالبا لا سيّما إذا كان سببا لدفع إشكالات المخالفين عن المذهب الحقّ.

8- لو قلنا بالحرمة، فهل يحرم البيع تكليفا، أو يقع باطلا؟

الظاهر أنّه من قبيل بيع السلاح لأعداء الدين، فعلي القول بأنّ الحرمة هناك تكليفية لأنّها تتعلّق بأمر خارج عن البيع، فكذلك هنا، و بعبارة اخري يكون المقام داخلا في القاعدة المعروفة: إنّ النهي في المعاملات لا يوجب الفساد.

و أمّا بيع المصحف لمسلم فان

قلنا بحرمته من ناحية عدم دخول كتاب اللّه في ملك أحد (و لو بحسب نقوشه و خطوطه) فالظاهر البطلان، و أمّا إن قلنا إنّ ذلك للتأدّب في مقابل الكتاب العزيز، فيقوي القول بعدم البطلان.

ثمّ إنّه إذا باعه من كافر فلا بدّ من استعادته منه بشرائه منه و لو بقيمة أكثر، مقدّمة لرفع الانتهاك المفروض.

و لكن تأتي الشبهة في صحّة أصل البيع، اللهمّ إلّا أن يقال بثبوت مثله في بيع السلاح لأعداء الدين، أو بيع العنب ممّن يعمله خمرا، بل يمكن أن يقال بأنّ منافعه الخاصّة هنا

______________________________

(1). كما حكاه في الجواهر، ج 22، ص 339، عن شرح استاذه.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 448

حرام بالنسبة إلي آخره، و أنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه، أو يدخل في حديث تحف العقول «ما يجي ء منه الفساد … » فتأمّل فلا يترك الاحتياط بالقول بالبطلان.

9- لا فرق بين أصناف المسلمين في المسألة الاولي، أعني بيع المصحف، و لا بين أصناف الكفّار في المسألة الأخيرة، أي بيع العبد المسلم، لاتّحاد الدليل في البابين كما لا يخفي.

10- لو قلنا بالحرمة، فقد تكون هناك أغراض أهمّ في البيع من الكفّار كنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، و بثّ حقائق القرآن في أنحاء العالم، و ان لزم منه هتك في بعض الموارد من ناحية الكفّار، لما فيه من المنافع المهمّة، كما هو كذلك في عصرنا هذا، فالكفّار و لا سيّما المسيحيين ينشرون كتبهم في جميع أقطار الأرض بعينها أو بترجمتها، بمئات من اللغات الحيّة العالمية، فعلي المسلمين نشر كتابهم الذي يعلو كلّ كتاب و يفوقه، لما فيه من أغراض أهمّ كما قد يكون ذلك في إعطائه بيد الصبيان تعليما لهم، فعدم

رعاية الاحترام اللازم من قبلهم أحيانا لا يمنع من ذلك إذا كانت فوائده أتمّ.

و من هنا يظهر أنّ ما قد يقال من وجوب حذف أسماء اللّه و الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية و غيرها من الصحف و المجلّات حذرا من هتكها أحيانا، فكرة باطلة و أوهام يجب اجتنابها لما يترتّب علي ذلك من ترك اسم اللّه و نسيانه و ترك بثّ دعوة الإسلام و نسيان الحقّ، و قد كانت الأسماء المقدّسة في عصرهم عليهم السّلام مكتوبة علي الدراهم و الدنانير يأخذها الصغير و الكبير و الكافر و المؤمن و لم يمنعوا عنه لما فيه من ظهور كلمة الحقّ و نشر الإسلام.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 449

المسألة الثّانية: جوائز السلطان (و ما يؤخذ من الظالمين بأيّ عنوان كان)
اشارة

اعلم أنّ الكلام هنا و ان كان في خصوص السلطان الجائر المتغلّب علي بيت مال المسلمين، و لكن كثيرا من الأدلّة تشمل كلّ من كان في ماله محرّم، أو كان مظنّة لذلك، من الظالم و الغاصب و السارق و متولّي الأوقاف و من لا يؤدّي الخمس و الزكاة و آكل الربا، و المطفّفين و الغاشّ في المكسب و أشباههم.

و لكن بعض الأحكام يختصّ بالأوّل، كما أنّ كثيرا من روايات الباب وردت فيه، فالأولي أن نقتفي الأصحاب (رضوان اللّه عليهم) في البحث عن خصوص جوائز السلطان أوّلا بمناسبة هذه الروايات، و كذا ما يعطي من بيت المال مجانا أو في مقابل عمل، ثمّ نتكلّم في حكم غيره، فنقول (و منه جلّ ثناؤه التوفيق و الهداية):

ذكروا هنا صورا أربعة:

1- إذا لم يعلم بوجود الحرام في أمواله لا إجمالا و لا تفصيلا.

2- إذا علم بوجوده فيما وصل إليه بالعلم الإجمالي.

3- إذا علم بوجوده فيما وصل إليه بالعلم التفصيلي.

4- إذا كانت

الجائزة مختلطة بالحرام.

و لبعض هذه الصور أيضا صور اخري، كالصورة الثانية من الشبهة المحصورة و غير المحصورة، و ما هو محلّ الابتلاء و غيره يأتي تفاصيله إن شاء اللّه.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 450

الصورة الاولي: عدم العلم بوجود الحرام في امواله

و ان كانت قليلة جدّا، و لكن حكمها الحلّية عند الأصحاب، و قد ادّعي الإجماع عليه، و علي الصورة الثانية في المصابيح، و في الحدائق و الرياض نفي الخلاف عنه كما حكي عنهم «1».

و يدلّ عليه مضافا إلي ما ذكر امور:

1- الأصل- و قد وقع الكلام في المراد منه بعد كون الأصل في الأموال الحرمة، لعدم العلم بالانتقال إلي الآخذ، و الاستصحاب يقتضي عدمه و المراد منه أحد أمرين:

الأوّل- أصالة الصحّة، و هو جيّد بعد عموم دليلها، و قد ذكرنا في محلّه من كتابنا القواعد، أنّها أعمّ من المسلم و الكافر «2» كما أنّها لا تختصّ بالعقود و ما بحكمها، بل تشمل كلّ فعل يتصور فيه الصحّة و الفساد، كتطهير الثياب و ذبح الحيوان و الصلاة علي الميّت و دفنه و غير ذلك.

و العجب من مصباح الفقاهة حيث خصّها بالعقود و الإيقاعات بعد ما أحرز أهليّة المتصرّف للتصرّف، استنادا إلي أنّ عمدة دليلها هو السيرة، و هي من الأدلّة اللّبية، فيؤخذ بالمقدار المتيقّن منه «3».

و لكن الإنصاف أنّ المراد من السيرة هنا سيرة العقلاء الممضاة من قبل الشارع و هي عامّة، بل و لو لا ذلك لاختلّ نظام معاش المسلمين و معادهم بل نظام حياة كلّ العقلاء كما لا يخفي علي من تدبّر.

الثّاني- «قاعدة اليد» و هي أيضا متينة جيّدة بعد ثبوت شمولها للمقام.

و أمّا احتمال كون المراد منها «أصالة الإباحة» فقد عرفت أنّه لا وجه لها، فالأصل في

الأموال التي في يد الغير الحرمة.

2- الرّوايات الكثيرة الدالّة علي جواز أخذ جوائز السلطان و عمّاله، و النزول عليهم،

______________________________

(1). لاحظ جواهر الكلام، ج 22، ص 170، و الحدائق، ج 18، ص 261، و الرياض، ج 1، ص 509، و مفتاح الكرامة، ج 4، ص 117.

(2). القواعد الفقهية، ج 1، ص 151.

(3). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 493.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 451

و قبول عطائهم، و الأكل منه، بل الحجّ منه (ذكرها صاحب الوسائل في الباب 51 من أبواب ما يكتسب به و سيأتي الكلام فيه مشروحا إن شاء اللّه).

3- «استقرار السيرة القطعية» بأخذ الأموال مجانا أو بالمعاملة ممّن لا يعلم وجود حرام في ماله و من أي شخص كان.

نعم هذا الفرض نادر جدّا في عمّال السلطان كما ذكره شيخنا الأعظم في مكاسبه «1».

نعم، قد يقال باشتراط العلم بوجود أموال محلّلة في ماله استنادا إلي ما رواه محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري أنّه كتب إلي صاحب الزمان عليه السّلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف، مستحلّ لما في يده، لا يرعي عن أخذ ماله، ربّما نزلت في قرية و هو فيها أو أدخل منزله و قد حضر طعامه، فيدعوني إليه، فان لم آكل طعامه عاداني عليه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، و أتصدّق بصدقة، و كم مقدار الصدقة؟ و إن أهدي هذا الوكيل هدية إلي رجل آخر فيدعوني إلي أن أنال منها، و أنا أعلم أنّ الوكيل لا يتورّع عن أخذ ما في يده فهل عليّ فيه شي ء إن أنا نلت منها؟

الجواب: إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه و اقبل برّه، و إلّا

فلا «2».

و فيه ضعف من جهة الإرسال، و من جهة الدلالة حيث أنّ موردها من يعلم بوجود أموال محرّمة كثيرة عنده، فلا يشمل ما نحن فيه.

الصورة الثّانية: العلم بوجود الحرام في أمواله إجمالا

إذا علم إجمالا بوجود محرّم في ماله من دون تعيين بكون المحرّم خصوص هذا المال، لا إجمالا و لا تفصيلا، و ينبغي التكلّم فيها «أوّلا» من ناحية القواعد، ثمّ من ناحية الروايات الخاصّة.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 67.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 160، الباب 51، من أبواب ما يكتسب به، ح 15.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 452

أمّا الأوّل فان كانت شبهة غير محصورة، فحكمها حكم الصورة الاولي، فلا يجب الاحتياط فيها، و ان كان شبهة محصورة، و لكن كان بعض أطرافها خارج عن محلّ الابتلاء، فهو كذلك بناء علي ما هو المعروف و اخترناه في محلّه من عدم تأثير العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محلّ البلوي، لعدم تنجّزه علي كلّ تقدير.

و أمّا إن كانت جميعها محلّ الابتلاء، فالأصل فيه وجوب الاحتياط، و لكن فرض كون جميعها محلّ البلوي نادر جدّا، و ان كان يظهر من بعض كلمات شيخنا الأعظم خلافه «1» و ذلك لأنّ أمواله تحت يده لا يقدر الآخذ علي التصرّف فيها كيف يشاء؟ فهي خارجة عن تصرّفه إلّا ما يعطيه بعنوان الجائزة، نعم لو خيّره في أخذ جائزته من خزانته، فحينئذ تكون جميعها محلّ البلوي، و لكن هذا فرض قلّما يتّفق لأحد كما هو ظاهر، فالحكم بالحلّية في الموارد المتعارفة قوي، هذا من ناحية.

و من ناحية اخري، كيف يدفع احتمال وجود الحرام فيما يأخذه؟ هل يتمّ بأصالة الإباحة؟ و الحال أنّ الأصل في الأموال الحرمة و الفساد و استصحاب عدم النقل إليه؟

أو

قاعدة الصحّة؟ مع العلم بأنّه ممّن لا يبالي بالحلال و الحرام و أمواله مختلطة، بل لعلّ نفسه لا يميّز أحدهما من الآخر، و لو حمل علي الصحّة كان من باب الصدقة، و دعوي عدم اعتبار هذا الشرط عند الأصحاب كما تري.

أو قاعدة اليد؟ مع أنّ يده واقعة علي الحرام و الحلال، بل قد لا يعرف أحدهما من الآخر بحكم اختلاطه، فهل تعتبر اليد دليلا علي الملكية هنا؟ و هل يصحّ أخذ المال المشتبه المخلوط بالحرام من صاحبه الذي لا يعرف أحدهما من الآخر؟ و هل يحكم بملكيته بمقتضي اليد أو أصالة الصحّة؟ و هذا أيضا مشكل جدّا، فمن هنا يقوي الحكم بالحرمة في مفروض المسألة، اللهمّ إلّا إذا لم تكن الأموال مشتبهة عنده و نحتمل إعطاءه من الحلال لبعض الدواعي علي إشكال فيه أيضا.

فاللازم بعد عدم مساعدة القواعد هنا أن نلتمس له دليلا آخر، و هو روايات الباب.

فنقول و منه تعالي نسأل التوفيق و الهداية: إنّ أخبار الباب علي طوائف:

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 67 و 68.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 453

الطائفة الاولي: ما يدلّ علي أخذ الأئمّة عليهم السّلام جوائز الخلفاء و ما وصل إليهم من بيت المال مثل:

1- ما رواه يحيي بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام كانا يقبلان جوائز معاوية «1».

2- ما رواه محمّد بن قيس بن رمانة قال: دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فذكرت له بعض حالي، فقال: «يا جارية هاتي ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار وصلني بها أبو جعفر (أي المنصور) فخذها و تفرّح بها» «2».

3- ما رواه الحسين بن علوان عن جعفر بن محمّد عن

أبيه عليه السّلام أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام كانا يغمضان معاوية و يقعان فيه و يقبلان جوائزه «3».

4- ما رواه الطبرسي في الإحتجاج عن الحسين عليه السّلام إنّه كتب كتابا إلي معاوية و ذكر الكتاب و فيه تقريع عظيم و توبيخ بليغ، فما كتب إليه معاوية بشي ء يسوؤه، و كان يبعث إليه في كلّ سنة الف الف درهم سوي عروض و هدايا من كلّ ضرب «4».

و لكن يمكن حملها علي أخذ حقّهم منه و لو كانت الواسطة في ذلك رج: فاسقا، بل كافرا فانّ بيت المال بأجمعه تحت اختيارهم و حكمهم، بل كثير من وجوهه ملكهم عليهم السّلام و ما يكون للمؤمنين يكون بنظارتهم.

الطائفة الثّانية: ما دلّ علي حكمهم بالجواز لغيرهم مثل:

5- ما رواه أبو ولّاد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تري في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلّا من أعمالهم و أنا أمرّ به، فأنزل عليه فيضيفني و يحسن إليّ، ربّما أمر لي بالدرهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي: «كل و خذ منه فلك المهنّا و عليه الوزر!» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 157، الباب 51، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ص 158، ح 9.

(3). المصدر السابق، ص 159، ح 13.

(4). المصدر السابق، ص 159، ح 14.

(5). المصدر السابق، ص 156، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 454

6- ما رواه أو المغراء قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده فقال: أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم، آخذها، قال: «نعم»، قلت: و أحجّ بها؟ قال: «نعم» «1».

7- ما رواه محمّد بن هشام أو

غيره قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال: «نعم» قلت: و أحجّ منها؟ قال: «نعم و حجّ منها» «2».

8- ما رواه محمّد بن مسلم و زرارة قالا سمعناه عليه السّلام يقول: «جوائز العمّال ليس بها بأس» «3».

9- ما رواه عمر أخو عذافر قال: دفع إليّ إنسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي عبد اللّه عليه السّلام فكانت في جوالقي فلمّا انتهيت إلي الحفيرة، شقّ جوالقي و ذهب بجميع ما فيه و رافقت عامل المدينة بها فقال: أنت الذي شقّ جوالقك فذهب بمتاعك؟ فقلت: نعم قال: إذا قدمنا المدينة فأتنا حتّي نعوّضك، قال: فلمّا انتهيت إلي المدينة دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال: «يا عمر! شقّت زاملتك و ذهب بمتاعك؟» فقلت نعم، فقال: «ما أعطات خير ممّا أخذ منك «إلي أن قال» فأت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك فإنّما هو شي ء دعاك اللّه إليه لم تطلبه منه» «4».

10- ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسي في «نوادره» عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا بأس بجوائز السلطان» «5».

و يمكن حمل هذه أيضا علي وجود حقّ للآخذين في بيت المال كما يشهد له الرواية الآتية.

11- ما رواه أبو بكر الحضرمي قال: دخلت علي أبي عبد اللّه عليه السّلام و عنده إسماعيل ابنه فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال (السمّاك) أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، و يعطيهم ما يعطي الناس؟ ثمّ قال لي: لم تركت عطائك؟» قال: مخافة علي ديني

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 156، الباب 51، من أبواب ما يكتسب به، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 157، ح 3.

(3). المصدر السابق، ص

157، ح 5.

(4). المصدر السابق، ص 158، ح 8.

(5). المصدر السابق، ص 160، ح 16.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 455

قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيبا؟» «1».

و لكن لا يمكن الاستدلال بها علي المطلوب أيضا في غير جوائز السلطان ممّا هو مخلوط بالحرام، و يختصّ بما يكون للآخذ حقّ فيه.

الطائفة الثّالثة: ما يدلّ علي الجواز و ان لم يكن من السلطان بل كان من غير بيت المال، فحينئذ يكون دليلا علي المطلوب، مثل رواية الطبرسي، و لكن قد عرفت ضعف سنده بالإرسال، لأنّ الطبرسي أحمد بن علي بن أبي طالب من أعلام القرن السادس و محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري كان في عصر الغيبة الصغري، فلا يجوز روايته عنه بلا واسطة.

الطائفة الرّابعة: ما قد يستفاد منه عدم الجواز مثل:

12- ما رواه الفضل بن الربيع عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السّلام في حديث أنّ الرشيد بعث إليه بخلع و حملان و مال فقال: «لا حاجة لي بالخلع و الحملان و المال إذا كان فيه حقوق الامّة»، فقلت: ناشدتك باللّه أن لا تردّه فيغتاظ، قال: «اعمل به ما أحببت» «2».

13- و ما رواه عبد اللّه بن الفضل عن أبيه في حديث انّ الرشيد أمر باحضار موسي بن جعفر عليه السّلام يوما فأكرمه و أتي بها بحقّة الغالية ففتحها بيده فغلفه بيده، ثمّ أمر أن يحمل بين يديه خلع و بدرتان دنانير فقال موسي بن جعفر عليه السّلام: «و اللّه لو لا أنّي أري من ازوّجه بها من غراب بني أبي طالب لئلّا ينقطع نسله ما قبلتها أبدا» «3». فهو دليل

علي عدم القبول إلّا في موارد الضرورة.

و ما يدلّ علي الجواز في خصوص مقدار الحقّ الذي أخذوه منه:

14- ما رواه داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: انّي اخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها أو الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه؟ قال: «خذ مثل ذلك و لا تزد عليه» «4».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 157، الباب 51، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 158، ح 10.

(3). المصدر السابق، ص 159، ح 11.

(4). المصدر السابق، ص 157، ح 7.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 456

و لكن رواية الفضل بن الربيع (10/ 51) التي مرّت عليك ظاهرها غير هذه الصورة، بل ما علم بوجود حقوق الامّة فيه.

و رواية عبد اللّه بن الفضل أيضا (11/ 51) لا تدلّ علي الحرمة بل غايتها الكراهة، لأنّ عدم قبول الإمام عليه السّلام له أعمّ من الحرمة، كما هو ظاهر، لا سيّما مع ملاحظة شئونه عليه السّلام مضافا إلي ضعف السند فيهما بالفضل بن الربيع صاحب الرشيد.

و أمّا رواية داود بن رزين (7/ 51) فلعلّها ناظرة إلي ما لم يكن الرجل مستحقّا لأخذ ما في بيت المال و لم يكن هو من مصارفه.

فلا يستفاد من روايات هذه الطائفة الحرمة و ان كان يلوح منها في بدو النظر، فتلخّص ممّا ذكر أنّه لا يستفاد من شي ء منها ما ينافي القاعدة، و قد عرفت دلالتها علي الحرمة إذا كان المال مخلوطا بالحرام.

نعم، إذا كان له حقّ في المال (كما في الجوائز) و كان الاختلاط سببا للشركة، أمكن أخذ حقّه بحكم الإمام عليه السّلام، أو إذا لم يكن سببا للشركة، و

لكن كان من مظانّ الصلح، أمكن أيضا لذلك.

إن قلت: لما ذا لا تعتمد علي قاعدة اليد في المقام؟ و لو كان مجرّد الخلط بالحرام مانعا لوجب اجتناب أموال أكثر الناس للعلم الإجمالي بكثرة الربا و الرشا و الغصب و التطفيف و البخس في المكيال و الميزان و السرقة و الغشّ و ترك الحقوق الواجبة و غير ذلك مع عدم مبالاتهم بها.

هذا بالنسبة إلي كثير ممّن ينتمي إلي الإسلام، و لو كان بالنسبة إلي الكفّار كان الأمر أوضح بعد كون أموالهم مخلوطة بمحرّمات كثيرة.

قلت: لا نقول إنّ مجرّد العلم بوجود الحرام يوجب سقوط اليد عن الدلالة علي الملك، إنّما ذلك إذا كان فيه أمران: «أحدهما» غلبة الحرام علي المال كأموال السرّاق و أشباههم، ممّن يكون شغلهم المعاملات الربوية أو القمار أو بيع الخمور.

و «الثاني»: عدم مبالاته بذلك حتّي في اعطائه هذا الرجل، فلو كان له بعض أموال محلّلة قليلة، و قال بأنّ هذا من صلب المال الحلال، و كان غير متّهم في هذا القول، أمكن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 457

الاعتماد علي يده بعموم قاعدة اليد و عدم الدليل علي الاستثناء هنا.

بقي هنا شي ء، و هو أنّه حكم غير واحد منهم بالكراهة مع الجواز في هذه الصورة، و يمكن الاستدلال به بالأدلّة العامّة الدالّة علي التورّع عن الشبهات و هي كثيرة، ذكرها الأصحاب في مسألة البراءة و الاحتياط، و هي كما تشمل الشبهات الحكمية تشمل الشبهات الموضوعية مثل: أخوك دينك … «1» و مثل: الامور ثلاثة … «2» و الأدلّة الخاصّة الواردة في المسألة مثل ما عرفت آنفا في الطائفة الرابعة من إباء الإمام عليه السّلام من قبول جوائز الخلفاء و عمّالهم حذرا من حقوق

الناس فيها، أو عدم قبوله إلّا لحاجة شديدة لآل أبي طالب و أنّه لو لاها لما أخذها.

مضافا إلي الاعتبار العقلي بكون القلوب مجبولة علي حبّ من أحسن إليها، فالأخذ منهم ربّما يوجب جلب محبّتهم.

إن قلت: هذا الاحتمال- أي احتمال وجود الحرام- موجود في غالب الأموال. قلنا: كلّا، فهناك فرق بين الاحتمالات القويّة و الضعيفة.

هذا و الاستدلال بجميع هذه الروايات قابل للتأمّل، أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ أخذ الجائزة باعتبار استحقاق الآخذ من بيت المال من قبيل أخذ الحقّ، كما يظهر من رواية الحضرمي (6/ 51) المتقدّمة، أمّا علي نحو الإشاعة أو المجهول المردّد الذي لا طريق له إلّا المصالحة.

و أمّا الثاني: فيمكن الجواب عمّا يرتبط بعمل الإمام موسي بن جعفر عليه السّلام بأنّه لا عموم فيه من ناحية الحكم، و لعلّه لموضع الإمام عليه السّلام و كونه دون شأنه، أو كونه موجبا لاشتباه الأمر علي ضعفاء الشيعة و أمثال ذلك، فلا يمكن إلغاء الخصوصية منها، و الاستناد إلي قاعدة الاشتراك كما تري، لأنّها تختصّ بما إذا كانت الأوصاف و الشرائط الدخيلة في الحكم مساوية لا كما في الحاضر و المسافر و غيرهما.

و أمّا نهي بعض الصحابة عن ذلك، فلما عرفت من احتمال عدم حقّ له في بيت المال

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 2، ص 258.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 458

زائدا علي ما كان يأخذه منهم بسبب اختلاطه معهم.

و الاعتبار العقلي مضافا إلي كونه ظنّيا هنا غير عام بالنسبة إلي جميع الموارد كما هو ظاهر، ثمّ انّهم ذكروا في الخروج عن الكراهة امورا:

منها: العناوين الثانوية، مثل التقيّة، و الحاجة الشديدة لنفسه أو لغيره من الشيعة، و هو و ان كان صحيحا في

نفسه، إلّا أنّ باب العناوين الثانوية مفتوح في كلّ شي ء، حتّي المحرّمات مثل أكل الميتة، فهي أمر مفروغ عنه.

و منها: إخراج الخمس منه، و فيه أنّه ليس من المال المخلوط بالحرام حتّي يخرج منه الخمس و يطهر، بل من المال المشتبه، و قد يكون حراما كلّه، فاللازم ممّن يريد الاحتياط المعاملة معه معاملة «مجهول المالك».

و منها: إخبار صاحبه بكونه مباحا حلالا من صلب ماله، و لا بأس به لو كان غير متّهم في إخباره، و قد يكون الإنسان متّهما في أعماله و لا يكون متّهما في أقواله، أو خصوص هذا القول، و هذا التفكيك ليس بعزيز، فيدخل تحت عنوان أدلّة إخبار ذي اليد، و هو ظاهر.

الصورة الثّالثة: العلم بوجود الحرام في أمواله تفصيلا
اشارة

ما إذا علم تفصيلا بأنّ ما أعطاه محرّم بعينه مغصوب، أو شبهه من المحرّمات، و حكمه ظاهر من ناحية أصل الحرمة و لا كلام فيه، إنّما الكلام في فروع كثيرة ترتبط به، منها:

1- عدم جواز أخذه لو علم به قبل ذلك، لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، و كذا يحرم إمساكه لو علم به بعده، بل يجب ردّه إلي مالكه، و هل يجوز أخذه من السلطان الجائر بنيّة الردّ إلي مالكه؟

قد يقال: نعم، لأنّه إحسان يعلم عادة برضي صاحبه به، و لو شكّ في ذلك كما إذا احتمل أنّ صاحبه يريد أخذه بنفسه منه، ليكون دليلا علي ظلمه و حجّة له عليه، أو غير ذلك من أشباهه لم يجز قطعا.

2- «الضمان علي التقدير الأوّل» أعني فيما لا يجوز أخذه، و عدم الضمان فيما يجوز،

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 459

كما إذا أخذه بنيّة الردّ و علم برضا مالكه بذلك، و لو كان جاهلا ثمّ علم به، و

كان من نيّته الردّ في أوّل وقت ممكن، لم يكن ضامنا أيضا، و الدليل عليه أنّه كاليد الأمينة، و إنّ أخذه أوّلا لمصلحة نفسه، و لكنّه في الاستدامة انقلب حاله كان ضامنا حتّي في حال الجهل، لأنّ الجهالة لا ترفع الضمان كما ذكروه في بابه، فهذا داخل في قاعدة عدم ضمان الأمين، سواء كان علي هذه النيّة من أوّل أمره، أو بعد ما علم، حتّي إذا كان عالما، ثمّ تاب و قصد الردّ في أوّل وقت ممكن، و إن كان لا يخلو عن إشكال في هذه الصورة، و قد يتمسّك باستصحاب الضمان في كلتا الصورتين (صورتي الجهل و العلم بلا نيّة الردّ).

و فيه: مضافا إلي تبدّل الموضوع بصيرورة اليد يد أمانة، إنّ الاستصحاب في الشبهات الحكمية غير حجّة عندنا.

3- و منها إنّه قد عرفت وجوب الردّ في أوّل فرصة ممكنة، و يجب عليه الإعلام إلي أن يحصل اليأس منه، و هل المدار فيه علي دوران السنّة كاللقطة؟ الظاهر عدمه، لأنّ روايات اللقطة الواردة في الباب 2 من أبواب اللقطة «1» لا تشمله بظاهرها إلّا بالغاء الخصوصية، و هو مشكل، فالأحوط لو لا الأقوي هو الإعلام إلي حدّ اليأس حتّي لو حصل قبل ذلك (فانّ السنّة تدور مدار عنوان اللقطة و الضالّة و عنوان «إن وجدت شيئا»، و كلّ ذلك أجنبي عن المقام) و تعريف السنّة و ان كان إجماعيا في اللقطة علي ما حكاه في الجواهر و الغنية «2» و يدلّ عليه روايات كثيرة، لكنّها أجنبية عن المقام.

نعم، في رواية حفص بن غياث ما يدلّ علي جريان حكم السنّة فيما أودعه بعض اللصوص و الرواية كما يلي: عن حفص بن غياث قال سألت أبا عبد

اللّه عليه السّلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا و اللصّ مسلم هل يردّ عليه؟ فقال: «لا يردّه، فان أمكنه أن يردّه علي أصحابه فعل، و إلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولا، فان أصاب صاحبها ردّها عليه، و إلّا تصدّق بها، فان جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر و الغرم، فان اختار الأجر فله الأجر، و ان اختار الغرم غرم له و كان الأجر له» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 349.

(2). جواهر الكلام، ج 38، ص 290.

(3). وسائل الشيعة، ج 17، ص 368، الباب 18، من أبواب اللقطة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 460

و من هنا أفتي بعضهم بجريان الحكم فيما نحن بصدده، مثل ما يحكي عن ابن إدريس في السرائر.

و لكن التعدّي من الوديعة إلي مطلق مجهول المالك مشكل، نعم لا يبعد الحاق كلّ ما يؤخذ من الظالم (بنيّة ردّه إلي مالكه) به بالأولوية، و لو لا ضعف سند الرواية بحفص بن غياث، و بعض آخر، أمكن الغاء الخصوصية منه علي احتمال، و لكن ضعفها يمنعها، و جبرها بعمل الأصحاب غير واضح، و لذا أسند العمل بها في الجواهر إلي المحقّق رحمه اللّه و جماعة «1» و لم يعتمد في المسالك علي الرواية، بل قال: «إنّ مضمونه موافق للأصول الشرعية فانّه بعد التعريف يصير مالا مجهول المالك، و قد تقدّم أنّه يجوز الصدقة به عن مالكه، و لا يقدح زيادة التعريف هنا، لأنّه زيادة في الاستظهار و التفحّص عن المالك» «2».

فانّ مضمون هذا الكلام عمله به من باب الاحتياط و لا مانع منه.

و علي كلّ حال اجراء حكم اللقطة علي كلّ

إشكال مجهول المالك مشكل.

و ليعلم أنّ كثيرا من هذه الفروع يجري في غير الجوائز، بل في كلّ مال مجهول مالكه.

4- منها إنّه لو ادّعاه أحد، فهل يردّه إليه، أو يحتاج إلي ذكر الأوصاف أو العلم؟

الظاهر هو الأخير، و ان مال شيخنا الأعظم إلي الأوّل، و ذلك لأصالة اشتغال الذمّة، و كون الدعوي بلا معارض و ان كان كافيا في الحكم بالملك في بعض الموارد، و لكن لا يشمل المقام قطعا ممّا اشتغلت الذمّة بالردّ، كما أنّ ذكر الأوصاف إنّما هو للعلم أو الاطمئنان بمالك العين.

5- منها حكمه بعد اليأس (بل حكم مطلق مجهول المالك) فقد ذكر فيه احتمالات أو أقوال:

فهل يتصدّق به عن المالكه مع الضمان؟

أو هو للإمام عليه السّلام؟

أو لمن وصل بيده؟

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 38، ص 334.

(2). المسالك، ج 2، ص 304- كتاب اللقطة-.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 461

أو يجب حفظه لمالكه دائما؟

أو اعطائه للحاكم ليحفظه كذلك؟

أمّا الأخيران فلا شكّ في أنّ حفظه مع اليأس عن وجدان مالكه لا وجه له، سواء كان بنفسه أو بردّه إلي حاكم الشرع، بل هو مظنّة للتلف بعد لزوم الإيصاء به لما بعد موته.

نعم، هناك بعض ما دلّ علي ذلك مثل:

ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسي بن جعفر عليه السّلام قال: سألته عن اللقطة.. إلي أن قال:

و سألته عن الرجل يصيب درهما أو ثوبا أو دابة كيف يصنع بها؟ قال: «يعرّفها سنة فان لم يعرف حفظها في عرض ماله حتّي يجي ء طالبها فيعطيها إيّاه و ان مات أوصي بها، و هو لها ضامن» «1».

و لكن الظاهر أنّها مخصوصة بما إذا احتمل وجدان صاحبه.

أمّا صيرورته ملكا لمن وصل بيده، فيمكن الاستناد له بصحيحة علي

بن مهزيار قال:

كتب إليه أبو جعفر عليه السّلام و قرأت أنا كتابه إليه في طريق مكّة قال: « … فالغنائم و الفوائد يرحمك اللّه فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر … و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب … » «2».

و لذا يحكي عن غير واحد من المتأخّرين جواز العمل به كالمحقّق الهمداني رحمه اللّه و غيره، و يستدلّ له أيضا بما ورد في باب من وجد لؤلؤة في بطن سمكة و هي:

ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث انّ رجلا عابدا من بني إسرائيل كان محارفا فأخذ غزلا فاشتري به سمكة فوجد في بطنها لؤلؤة، فباعها بعشرين ألف درهم، فجاء سائل فدقّ الباب فقال له الرجل ادخل فقال له خذ أحد الكيسين، فأخذ أحدهما و انطلق فلم يكن بأسرع من أن دقّ السائل الباب فقال له الرجل: ادخل فدخل فوضع الكيس في مكانه ثمّ قال: «كل هنيئا مريئا أنا ملك من ملائكة ربّك إنّما أراد ربّك أن يبلوك فوجدك شاكرا»، ثمّ ذهب «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 370، الباب 20، من أبواب اللقطة، ح 2.

(2). وسائل الشيعة، ج 6، ص 349، الباب 8، من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح 5.

(3). وسائل الشيعة، ج 17، ص 359، الباب 10، من أبواب اللقطة، ح 1، (و في معناه الأحاديث 2 و 3 و 4 من الباب نفسه).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 462

و هي و إن كانت ضعيفة الإسناد من جهات شتّي، و لكنّها متكاثرة معني، و لكن لا دلالة لها علي المطلوب، فانّه من قبيل حيازة المباحات

الأوّلية التي لم يحزها حائز، و احتمال كونها لأناس كما تري.

و كذا ما دلّ علي جواز تملّك من وجد صرّة في بطن حيوان بعد ما ذبحه و أنّه يعرّفه البائع، فان لم يعرفها فهي له، مثل ما رواه عبد اللّه بن جعفر قال: كتبت إلي الرجل عليه السّلام أسأله عن رجل اشتري جزورا أو بقرة للأضاحي فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة، لمن يكون ذلك؟ فوقع عليه السّلام: «عرّفها البائع، فإن لم يكن يعرفها فالشي ء لك رزقك اللّه إيّاه» «1».

و روايته صحيحة الإسناد، و قد حكي الإجماع علي العمل به غير واحد منهم، و لكن يمكن القول بأنّه من مصاديق اللقطة، و أحد أفراد التخيير فيها هو التملّك، و أمّا عدم تقييده بتعريف السنّة، فلعلّه لليأس الحاصل في الحيوان الذي يشتري للأضاحي، و إلّا لا وجه للتملّك مع عدم اليأس.

و أمّا كونه للإمام عليه السّلام، فيدلّ عليه ما رواه داود بن أبي يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رجل: إنّي قد أصبت مالا و انّي قد خفت فيه علي نفسي، و لو أصبت صاحبه دفعته إليه و تخلّصت منه، قال فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه أن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟» قال: إي و اللّه، قال: «فأنا و اللّه، ما له صاحب غيري»، قال: فاستحلفه أن يدفعه إلي من يأمره، قال:

فحلف، فقال: «فاذهب فاقسمه في إخوانك و لك الأمن ممّا خفت منه»، قال: فقسمته بين إخواني «2».

و لكنّه ضعيف السند «أوّلا»، و معارض بالروايات الكثيرة المبيّنة لحكم اللقطة «ثانيا» لأنّه وقع التصريح فيه بخلاف ذلك، و من الواضح ترجيحها عليه (فراجع الباب

2 من أبواب اللقطة).

و أمّا القول الأوّل، و هو المشهور، أعني التصدّق به عن صاحبه، فيمكن الاستدلال له بالقواعد و الروايات الخاصّة:

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 358، الباب 9، من أبواب اللقطة، ح 1، (و في معناه ح 2، من الباب نفسه).

(2). المصدر السابق، ص 357، الباب 7، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 463

أمّا الأوّل فلأصالة الاشتغال، و القدر المتيقّن من براءة الذمّة هو التصدّق به، اللهمّ إلّا أن يقال: إذا دار الأمر بينه و بين أدائه إلي بيت المال و الإمام عليه السّلام فليس معلوما كون التصدّق هو المتيقّن، فتأمّل.

أو يقال: إنّ الأصل إيصاله إلي يد مالكه، فإذا لم يمكن ذلك فإيصال ثوابه هو المقدار الممكن منه، و هذا التوجيه حسن، إلّا أنّه لا يتجاوز عن أن يكون استحسانا و مؤيّدا.

أو يقال: يعلم عادة برضا مالكه بهذه الصدقة مع الضمان كما هو المفروض.

و إن شئت قلت: بعد دوران الأمر بين الامور السابقة، فالصدقة إن لم تكن مقطوعة، فلا أقل أنّها راجحة علي غيرها فيتعيّن عند الدوران.

و أمّا الثاني، فلأخبار كثيرة وردت في خصوص المسألة أو ما يقاربها، و إليك شطر منها:

1- مرسلة السرائر، قال في السرائر: و قد روي أصحابنا أنّه يتصدّق به عنه و يكون ضامنا إذا لم يرض به صاحبه «1».

مع ما هو المعروف منه من عدم الاعتماد علي أخبار الآحاد.

هذا و لكن الإنصاف أنّه يمكن أن يكون إشارة إلي أخبار اللقطة، و هي كثيرة معتبرة مع الغاء الخصوصية منها، و معه لا يمكن الاعتماد علي كونه دليلا مستقلا و رواية خاصّة.

2- رواية حفص بن غياث (في وديعة اللصّ) التي مرّت عليك قريبا «2» مع الغاء الخصوصية عن

موردها، أعني ما أودعه اللصوص، نعم سند الحديث ضعيف، و لكنّه غير قادح بعد ضمّ أخبار المسألة بعضها إلي بعض.

3- ما رواه يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام و أنا حاضر.. إلي أن قال فقال: رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلي منزله، و رحلنا إلي منازلنا، فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا، فأي شي ء نصنع به؟ قال: «تحملونه حتّي تحملوه إلي الكوفة» قال لسنا نعرفه، و لا نعرف بلده، و لا نعرف كيف نصنع؟ قال: «إذا كان كذا فبعه

______________________________

(1). السرائر، كتاب اللقطة نقلا عن ج السادس عشر من سلسلة الينابيع الفقهية ص 209.

(2). وسائل الشيعة، ج 17، ص 368، الباب 18، من أبواب اللقطة، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 464

و تصدّق بثمنه»، قال له: علي من، جعلت فداك؟ قال: «علي أهل الولاية» «1».

لكنّها في معلوم المالك الذي يتعذّر إيصال ماله إليه، اللهمّ إلّا أن تلغي الخصوصية، أو يقال بالأولوية، و ليس ببعيد.

4- ما رواه إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتّي قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: «يسأل عنها أهل المنزل، لعلّهم يعرفونها»، قلت: فان لم يعرفوها قال:

«يتصدّق بها» «2».

و لكن الإنصاف أنّه أشبه شي ء باللقطة أو هو منها نفسها، و الغاء الخصوصية عن اللقطة إلي غيرها لا يخلو من إشكال:

5- ما رواه علي بن أبي حمزة في حديث مشهور قال: كان لي صديق من كتاب بني اميّة فقال لي، استأذن لي علي أبي عبد اللّه عليه السّلام فاستأذنت له، فأذن

له فلمّا أن دخل سلّم و جلس، ثمّ قال جعلت فداك: انّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا، و أغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو لا انّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئا إلّا ما وقع في أيديهم» قال: فقال الفتي: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: «إن قلت لك تفعل؟» قال: افعل، قال له: «فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله و من لم تعرف تصدّقت به و أنا أضمن لك علي اللّه عزّ و جلّ الجنّة»، فأطرق الفتي طويلا ثمّ قال له: لقد فعلت جعلت فداك … «3».

الحديث طويل جليل فيه آثار الإمامة و دلائل الولاية نقلنا منه المقدار المرتبط بالمقام، و دلالتها ظاهرة علي المدّعي.

6- ما رواه علي بن ميمون الصائغ قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عمّا يكنس من التراب،

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 357، الباب 7، من أبواب اللقطة، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 355، الباب 5، ح 3.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 144، الباب 47، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 465

فابيعه فما أصنع به؟ قال: «تصدّق به فامّا لك و أمّا لأهله»، قال: قلت: فإنّ فيه ذهبا و فضّة و حديدا فبأي شي ء أبيعه؟ قال: «بعه بطعام»، قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه منه؟

قال: «نعم» «1».

7- ما رواه هشام بن سالم قال: سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه

عليه السّلام و أنا عنده جالس قال:

إنّه كان لأبي اجير كان يقوم في رحاه، و له عندنا دراهم و ليس له وارث، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«تدفع إلي المساكين»، ثمّ قال رأيك فيها، ثمّ أعاد عليه المسألة فقال له مثل ذلك. فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «تطلب وارثا فان وجدت وارثا و إلّا فهو كسبيل مالك»، ثمّ قال: ما عسي أن يصنع بها، ثمّ قال: «توصي بها فان جاء طالبها و إلّا فهي كسبيل مالك» «2».

لكن يستفاد منه أيضا جواز تملّكه كاللقطة.

8- ما رواه أبو علي بن راشد قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلي جنب ضيعتي بألفي درهم فلمّا ظفرت المال خبرت أنّ الأرض وقف. فقال: «لا يجوز شراء الوقوف و لا تدخل الغلّة في ملكك ادفعها إلي من أوقفت عليه»، قلت: لا أعرف لها ربّا، قال: «تصدّق بغلّتها» «3».

9- ما رواه نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت إلي عبد صالح عليه السّلام لقد وقعت عندي مائتا درهم و أربعة دراهم و أنا صاحب فندق و مات صاحبها، و لم أعرف له ورثة فرأيك في اعلامي حالها و ما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب: «اعمل فيها و أخرجها صدقة قليلا قليلا حتّي يخرج» «4».

و أمّا ما دلّ علي جواز الصدقة في اللقطة و لو بعنوان بعض افراد التخيير فمثل:

10- ما رواه الحسين بن كثير عن أبيه قال: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السّلام عن اللقطة فقال

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 484، الباب 16، من أبواب الصرف ح 1، (و مثله ح 2) و لعلّهما واحد.

(2). وسائل الشيعة، ج 13،

ص 110، الباب 22، من أبواب الدين و القرض، ح 3، (و رواها في ج 17 ص 582، بتفاوت).

(3). وسائل الشيعة، ج 13، ص 303، الباب 6، من أبواب أحكام الوقوف و الصدقات، ح 1.

(4). وسائل الشيعة، ج 17، ص 583، الباب 6، من أبواب ميراث الخنثي، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 466

«يعرفها فان جاء صاحبها دفعها إليه و إلّا حبسها حولا، فان لم يجي ء صاحبها أو من يطلبها تصدّق بها، فان جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها إن شاء اغترمها الذي كانت عنده و كان الأجر له، و ان كره ذلك احتسبها و الأجر له» «1».

11- و ما رواه أبان بن تغلب قال: أصبت يوما ثلاثين دينارا، فسألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، فقال: أين أصبته؟ قال كنت منصرفا إلي منزلي فأصبتها، قال فقال: «صر إلي المكان الذي أصبت فيه فعرفه، فان جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام فأعطه إيّاه و إلّا تصدّق به» «2».

و لكنّه يدلّ علي كفاية ثلاثة أيّام في التعريف، و لعلّه ناظر إلي صورة اليأس بعدها.

12- و ما رواه علي بن جعفر عن أخيه قال: و سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرفها سنة ثمّ يتصدّق بها فيأتي صاحبها ما حال الذي تصدّق بها؟ و لمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ علي صاحبها؟ أو قيمتها؟ قال: «هو ضامن لها و الأجر له إلّا أن يرضي صاحبها فيدعها و الأجر له» «3».

و لعلّها تشمل ما نحن فيه بالأولوية.

و يستفاد من جميع ذلك جواز صدقة مجهول المالك أو تعينها، فهذا هو الأقوي، و لكن بقي هنا امور:

أحدها: مصرف هذه الصدقة، هل هو خصوص الفقراء، أو هو أعمّ كما عن

صاحب الجواهر «4»؟ و لعلّه بعنوان أنّه هبة يقصد القربة لأهل الدين يشترك فيه الغني و الفقير.

ذكر شيخنا الأعظم حصرها بالفقراء استنادا إلي تبادره من عنوان الصدقة «5» و هو كذلك، و قد يستند فيه إلي قوله تعالي: إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ … «6».

و فيه أنّه ناظر إلي خصوص الزكاة و الصدقة الواجبة بالأصل.

و لو شكّ فالقدر المتيقّن بمقتضي القاعدة هو خصوص الفقير لو لا إطلاق الصدقة، و قد عرفت عدم الإطلاق فيها.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 349، الباب 2، من أبواب اللقطة، ح 2.

(2). المصدر السابق، ص 350، ح 7.

(3). المصدر السابق، ص 352، ح 14.

(4). جواهر الكلام، ج 22، ص 178.

(5). المكاسب المحرّمة، ص 71.

(6). سورة التوبة، الآية 60.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 467

و يمكن الاستدلال له أيضا بأنّه لو جاز التصدّق علي كلّ أحد لجاز أخذه لنفسه، فعدم الإذن به دليل علي ما ذكرنا، و كذا بعض ما سبق حيث ذكر التصدّق علي فقراء قرابته.

ثانيها: هل يجوز إعطائها إلي بني هاشم؟ ذكره شيخنا الأعظم من غير اختيار لأحد الطرفين «1».

و تحقيق الكلام في المقام أن يقال:

إنّ الصدقات علي أقسام أربعة:

1- الزكاة.

2- الصدقات المفروضة غيرها كالكفّارات الواجبة بالأصل.

3- الصدقات المفروضة بالعرض، كالنذر و ردّ مجهول المالك بعنوان الصدقة.

4- الصدقات المندوبة.

أمّا الأوّل فإجماع الفريقين قائم علي حرمتها علي بني هاشم، و أمّا الأخيرة فإجماعنا علي جوازها لهم، و قد وقع الخلاف في القسم الثاني و الثالث، فعن جماعة من أكابر القدماء و المتأخّرين كالشيخ و السيّد و المحقّق و العلّامة رحمهما اللّه إلحاق جميع الصدقات الواجبة بالزكاة، بل قد يستظهر من غير واحد منهم الإجماع عليه، و لم يعلم أنّ مرادهم الواجبة بالأصل أو بالعرض أيضا، بينما

يحكي عن جماعة من المتأخّرين كالمحقّق الثاني رحمه اللّه في جامع المقاصد و الشهيد الثاني في المسالك و غيره بل العلّامة رحمه اللّه أيضا في قواعده و غيرهم الجواز، و الاقتصار علي حرمة الزكاة فقط «2».

و يمكن القول بالتفصيل بين القسمين.

و الذي يدلّ علي المنع هو إطلاقات حرمة الصدقة علي بني هاشم، و هي روايات كثيرة (أوردها في الوسائل ج 6 ص 185 في الباب 29 من أبواب المستحقّين للزكاة، و فيها روايات معتبرة فراجع الأحاديث 2 و 3 و 4 من هذا الباب هذا مضافا إلي الحديث 3/ 31).

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 71.

(2). لاحظ جواهر الكلام، ج 15، ص 411- 412.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 468

و لا دليل علي تقييدها إلّا ما يلي:

1- إطلاق الصدقة كثيرا علي الزكاة كما في آية تشريعها و غيرها. و فيه أنّ ذلك غير مانع عن العموم.

2- ما ورد من أنّ اللّه بدّلهم عن تحريم الصدقة بالخمس و ظاهره الزكاة مثل حديث 1/ 30 و 1/ 29 ج 6 من أبواب المستحقّين للزكاة.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 468

و لكنّه لا يتجاوز عن حدّ التأييد.

3- و هو العمدة، ما صرّح فيها بأنّ المراد منه خصوص الزكاة المفروضة، فيكون مقيّدا لما سبق (مثل 4/ 32 من أبواب المستحقّين للزكاة و 5/ 32 و هكذا 3/ 31 بناء علي كون المراد منه الزكاة خاصّة و لكنّه محلّ إشكال).

فلا يبقي إلّا الروايتان الأوليّان، و لكن يمنعنا من الأخذ بهما إشكالهم في

سندهما.

و الذي يسهل الأمر أنّ إطلاق الصدقة علي الكفّارة مشكل، فلا تمنع عنهم.

و لو سلّمنا فالقدر المسلّم من إطلاقات الحرمة تحريم الصدقات الواجبة بالأصل، و أمّا بالعرض فالحاقها بالصدقات المندوبة التي ورد فيها الجواز أولي، و قد دلّت عليه روايات عديدة (رواها في الوسائل في الباب 31 الأحاديث 1 و 3 و في الباب 32 الحديث 8 و استدلّ في بعض الروايات بجريان السيرة علي الانتفاع من مياه طرق مكّة لأهل المدينة و غيرهم مع أنّ عامتها صدقة أي موقوفات أو غيرها، و أنّه لو كان يحرم عليهم لما استطاعوا أن يحجّوا).

و لا أقل من الشكّ في إلحاق هذا القسم، فالأصل الجواز (بمقتضي إطلاقات أدلّة هذه الواجبات).

و من هذا القسم صدقة مجهول المالك، فانّها مندوبة في الأصل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الأقوي جواز هذه الصدقات للهاشميين، و لا دليل علي حرمتها عليهم، و كذا الموقوفات العامّة و الخاصّة في الآبار و المدارس و المساجد، و الخانات، بناء علي كون الوقف نوع صدقة و اللّه العالم.

ثالثها: هل يعتبر فيها إذن الحاكم الشرعي؟ قد يقال باعتباره، إمّا من جهة أنّه القدر

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 469

المتيقّن في براءة الذمّة، أو من جهة الاستناد إلي رواية داود بن أبي يزيد كما مرّ (1/ 7 من اللقطة) هذا إذا كان عينا، و أمّا لو كان دينا كان الأمر أوضح، لأنّ الحاكم ولي الغائب.

و لكن يمكن دفع جميع ذلك بأنّ شيئا منها لا يقاوم ظاهر ما عرفت من إطلاق روايات الباب، فانّها إمّا تدلّ علي إذن عامّ، أو عدم الحاجة هنا إلي الإذن كما هو ظاهرها حتّي في الدين كما لا يخفي، لا سيّما بملاحظة ما رواه هشام

بن سالم (1/ 6 من اللقطة) فراجع.

رابعها: حكم تعذّر الإيصال عند الجهل بالمالك، لا يبعد أن يكون مثل ما سبق، لأنّ الملاك واحد ظاهرا، فلا يمكن حفظه و لا تملّكه، و لا وجه لكونه مال الإمام عليه السّلام، فلا يبقي إلّا الصدقة، مضافا إلي ظهور بعض روايات الصدقة فيه، مثل ما رواه يونس عن الرضا عليه السّلام و قد مرّ «1».

خامسها: لو ظهر المالك بعد ما تصدّق به، فهل هو ضامن له، أو لا، أو فيه تفصيل؟ فيه أقوال عمدتها وجوه ثلاثة:

1- الضمان مطلقا.

2- عدم الضمان كذلك.

3- الفرق بين ما إذا أخذه عدوانا، ثمّ أراد العمل بوظيفته الشرعية، و ما إذا أخذه بحكم الشرع من أوّل الأمر.

اختار شيخنا الأعظم أوّلا التفصيل، ثمّ قال بالضمان مطلقا «2».

و عمدة الدليل علي الضمان «قاعدة الإتلاف»، و لا يرد عليه ما أفاده بعض الأكابر من عدم وجود دليل عام عليه، لما ذكرنا في محلّه من القواعد الفقهية من وجود دليل كاف عليه «3».

و لكن في مقابل ذلك، و هو حكم الشرع بوجوب الصدقة أو جوازها، فانّ لازمه العرفي عدم الضمان لأنّ الإمام ولي الغائب المجهول، فإذا كان التصرّف بإجازته و أمره لم يكن وجه

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 17، ص 357، الباب 7، من ابواب اللقطة، ح 2.

(2). المكاسب المحرّمة، ص 71.

(3). القواعد الفقهية، ج 2، ص 193.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 470

للضمان، نعم، لو صرّح من أوّل أمره بأنّه إنّما يجوز له التصدّق إذا تعهّد ضمانه أمكن ذلك.

ان قلت: ورد التصريح بذلك في رواية حفص بن غياث فيمن أودعه بعض اللصوص، و قد مرّ (1/ 18 من اللقطة ج 7 ص 368) و كذا في مرسلة السرائر.

قلنا:

قد عرفت ضعفها سندا و اختصاصها دلالة بمورد خاصّ ألحقها الإمام عليه السّلام باللقطة، فلا يشمل غيره.

هذا مضافا إلي أنّه في مفروض السؤال كانت يده في أوّل أمره من قبيل اليد العادية، لعدم جواز قبول ودائع اللصوص، اللهمّ إلّا أن يقال أنّه أخذه للردّ إلي صاحبها، و لكنّه بعيد جدّا.

و أمّا مرسلة السرائر فقد عرفت احتمال انطباقها علي روايات اللقطة.

إن قلت: قد ورد في اللقطة الضمان لو ظهر المالك، و لم يقبل الصدقة، لا سيّما في صحيحة علي بن جعفر (14/ 2) فيلحق المقام بها.

قلنا: فرق كثير بين المقامين، لأنّ اللقطة لها أحكام خاصّة، منها جواز تملّكها و لا تجري في المقام، مضافا إلي أنّ اللاقط أخذه باختياره، و لكن مجهول المالك في مفروض المسألة قد لا يكون كذلك، كمن وجده في متاعه بعد ذهاب صاحبه، و بالجملة من البعيد جدّا أمر الشارع بضمان مال المجهول مالكه بعد أمره بإتلافه من طريق الصدقة لمصلحة صاحبه، مع عدم إقدامه علي أخذه عمدا كما إذا اختلط بماله من غير اختياره.

و كذلك إذا كان باختياره و بإذن الشرع و ان كان ذلك أدون منه.

و إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ ظاهر ما عرفت من الأدلّة عدم الفرق بين أن تكون اليد عادية في ابتدائها، أو أمانة بعد ما تحوّلت العادية إلي الأمينة، و كان مأمورا بحكم الشرع بالصدقة.

و التمسّك بالاستصحاب مضافا إلي تبدّل الموضوع لا وجه له في مقابل ظهور أدلّة الصدقة التي هي أدلّة اجتهادية.

فتلخّص أنّ عمدة دليل عدم الضمان أمران:

1- قصور أدلّة الضمان بالإتلاف لمحلّ الكلام فيما كان بحكم الشرع و لمصلحة صاحب المال.

2- ظهور أدلّة الصدقة في عدم الضمان.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 471

هذا

و قد يقال بأنّ التصدّق لو كان موجبا للضمان لزم التسلسل، للزوم التصدّق ببدله أيضا و هكذا، و هذا تخصيص عقلي لأدلّة الضمان «1».

و لكن يمكن الجواب عنه بأنّ الضمان مراعي بظهور المالك و عدم قبوله الصدقة لا مطلقا، كما هو ظاهر الأدلّة، و إلّا كان وجوب الصدقة لغوا من أوّل أمره.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا تصل النوبة إلي حكم موت المالك، أو المتصدّق بعد عدم الضمان لو ظهر المالك و لم يرض بها، و ان كان الأظهر إرث هذا الحق لورثة المالك و لزوم أخذها من تركة المتصدّق لو مات.

فتحصّل ممّا ذكرنا امور:

1- يجب التصدّق بمجهول المالك من قبل صاحبه.

2- يجب التعريف إلي أن ييأس من وجدان مالكه.

3- لو كان يائسا من أوّل أمره يجب التصدّق به.

4- لا يعتبر فيه إذن الحاكم و لو كان أحوط.

5- تعذّر الوصول إلي المالك بحكم الجهل به.

6- لا يضمن بعد ظهور المالك و عدم رضاه بالصدقة، و ان كان الضمان أحوط.

7- للقطة أحكام خاصّة لا تجري في مجهول المالك.

8- لو لم يردّه حتّي تلف أو أتلفه يجب إخراج مثله أو قيمته من تركته كسائر الديون، و لا فرق في شي ء من ذلك بين الظلمة و غيرهم.

9- يجوز إعطاؤه إلي الحاكم الشرعي.

10- تجوز هذه الصدقة للهاشمي و غيره، و كذا الكفّارات.

الصورة الرّابعة: إذا كانت الجائزة مخلوطة بالحرام
اشارة

و قد ذكر فيه وجوه خمسة:

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 525.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 472

ما إذا كان الخلط بنحو يوجب الإشاعة كالخلط بجنسه، كالحنطة بالحنطة أو اللبن باللبن.

و هو بنفسه ينقسم إلي أربع صور، فانّ «المقدار» و «المالك» أمّا يكونان معلومين، فالحكم واضح، و أمّا أن يكونا مجهولين، فحكمه الخمس كما ذكر في

بابه.

و إمّا أن يكون المالك معلوما و المقدار مجهولا، فيصالح مع مالكه.

و إمّا أن يكون المقدار معلوما و المالك مجهولا، ففيه حكم المجهول مالكه من الصدقة.

أمّا الصورة الخامسة و هي الخلط بغير جنسه بحيث لا يوجب الإشاعة كاختلاط بعض غنمه بغنم آخر، فيحكم بالقرعة، أو يباع فيشترك في الثمن.

هذا ما أفاده شيخنا الأعظم في مكاسبه «1».

و لكن فيما أفاده وجوه من النظر، منها:

1- إنّ الحكم بالخمس إنّما هو إذا لم يعلم إجمالا زيادته أو نقصانه من الخمس، أمّا إذا علم إجمالا زيادته من الخمس، فالأحوط كما ذكرنا في محلّه صرف مقدار الخمس فيما ينطبق علي المصرفين (مصرف الخمس و مصرف الصدقة) و يتصدّق بالزائد بإذن الحاكم احتياطا، و أمّا لو علم بكونه أقلّ منه فالظاهر جواز التصدّق بالأقل، و لعلّه إلي ذلك أشار بقوله «علي تفصيل مذكور في باب الخمس» «2».

2- لزوم المصالحة مع المالك فيما كان معلوما و مقداره مجهولا لا دليل عليه، بل اللازم إعطاء القدر المتيقّن، لأنّ المال انتقل إليه من غيره و كان مسبوقا بيده التي هي من أمارات ملكه، إلّا ما ثبت أنّه ملك غيره.

نعم إذا اشتبه بما ليس في يد واحد منهما كان للمصالحة وجه.

3- إنّ الحكم بالمصالحة في المقام و أمثاله ليس حكما الزاميا، بل هذا إذا رضيا به، و إلّا فالحكم الإلزامي في أمثال المقام، إمّا القرعة أو التنصيف، و الأظهر هو الثاني، لأنّه مقتضي سيرة العقلاء، مضافا إلي وروده في بعض الروايات.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص 71.

(2). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 473

4- في الصورة الخامسة، أعني ما لا يوجب الشركة، فالأظهر كما ذكرنا في أبواب الخمس جريان حكم الخمس فيه إذا جهل المقدار

و المالك و اختلطا معا، كما إذا جهل مقدار ماله من هذا القطيع، و ما لغيره؟

و لو علم العدد و لم يعلم المالك، يخرج بالقرعة، و يتصدّق من قبل صاحبه.

كما إنّه إذا كان العكس يتوصّل إلي القرعة، و يعطي إلي مالكه (و لو كان أحدها أزيد قيمة، فلا يبعد التنصيف في الزائد كما ذكرنا في الخمس).

و لو كان معلومين كان الأمر واضحا.

فإذا، لا فرق بين الصورة الخامسة و بين ما سبقها من صور الإشاعة، فيجري فيه ما تقدّم.

بقي هنا شي ء:

إنّ مقتضي القواعد عدم الفرق في الأموال المحرّمة التي لا بدّ فيها من الصدقة إذا لم يعرف مالكها، و أدائها إلي صاحبها إذا عرفه، بين العين الموجودة و بين ما أتلفه و بقي في ذمّته، و كذا لا فرق بين الظلمة و غيرهم، و ان كانت هذه الديون تستغرق أموالهم المحلّلة لو كانت لهم أموال كذلك. و ذلك لأنّ أدلّة الإتلاف و الضمان و أحكام الديون تشملهم من دون أي فرق، و لازمه عدم تعلّق الخمس بأموالهم في بعض الصور، و كذا الاستطاعة للحجّ و عدم إرث ورثتهم ما لم يؤدّوا ديونهم منه.

هذا و لكن حكي في الجواهر عن شرح استاذه (كاشف الغطاء) «انّ ما كان في يده من المظالم و تلف لا يلحقه حكم الديون في التقديم علي الوصايا و المواريث لعدم انصراف الدّين إليه، و ان كان منه، و بقاء عموم الوصيّة و المواريث علي حالها، و السيرة المأخوذة يدا بيد من بدء الإسلام إلي يومنا هذا، فعلي هذا لو أوصي بها بعد التلف أخرجت من الثلث» «1».

و لم يحك مثل هذا الكلام عن غيره، و علي كلّ حال فهو ضعيف جدّا كما ذكره جمع

من الأكابر و المحقّقين.

و أمّا ما استدلّ به علي مراده من الانصراف و السيرة، فيرد علي الأوّل أنّه ممنوع جدّا،

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 179.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 474

لعموم قوله تعالي مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ «1» و كذا سائر العمومات و الإطلاقات، و لا نري أيّ فرق بينه و بين سائر الديون، و لو جاز استثناء الظلمة من هذا الحكم جاز استثناؤهم من سائر الأحكام أيضا.

و أمّا السيرة، فهي و ان كانت كذلك في الجملة، إلّا أنّ من المقطوع كونها سيرة الذين لا يبالون في دينهم، و أمّا المبالون و المتّقون فسيرتهم اجتناب هذه الأموال المحرّمة التي تعلّق بها حقّ الغير.

و العمدة أنّ ورثتهم في الغالب من أشباههم، و هذا هو السرّ في جريان سيرتهم عليه.

و بالجملة لو لم تصدر هذه الفتوي من هذا الفقيه الكبير لم يكن مجال للبحث فيها.

______________________________

(1). سورة النساء، الآية 12.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 475

المسألة الثالثة: في حكم ما يأخذه السلطان من الخراج و الزكاة و المقاسمة
اشارة

المعروف بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه من جماعة أنّ ما يأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة و الخراج و الزكاة يكون مبرئا للذمّة، بل عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه أنّ علي جواز التصرّف فيه إجماع علمائنا، و كفي به و بما ذكره في المسالك شهادة علي ذلك، حيث قال: قد أذن أئمّتنا عليهم السّلام في تناوله و أطبق عليه علماؤنا، و لا نعلم فيه مخالفا «1» و لازمه براءة الذمّة.

و قد حكي عن الشيخ إبراهيم الجبلي المعاصر للمحقّق الكركي تحريمه، حتّي أنّ المحقّق الكركي رحمه اللّه كتب رسالة «قاطعة اللجاج» في ردّه، و المخالف شاذّ «2».

نعم، مقتضي القواعد في بدء الأمر حرمة ذلك، لأنّهم ليسوا

أهلا لذلك، فلا يجوز لهم أخذها، و لا يجوز لنا اعطاؤهم إيّاها، و لو أخذوها قهرا كانت مغصوبة كسائر أموالهم.

هذا و لكن يمكن أن يستدلّ للخروج عن هذه القاعدة بامور:

1- جريان السيرة القطعية عليه من العلماء و العوام في جميع الأعصار و الأمصار في الدولة الاموية و العبّاسية و غيرهم، فقد كانت الأراضي الخراجية في أيدي المؤمنين و غيرهم، و لم يعهد منهم أداء خراجين: خراج إليهم، و خراج إلي أئمّة الحقّ عليهم السّلام و هذا دليل علي امضائهم عليهم السّلام لها، فهو كالفضولي الذي أجاز مالكه أو المتولّي له كما ذكره شيخنا الأعظم «3».

______________________________

(1). المسالك، ج 1، ص 168.

(2). انظر جواهر الكلام، ج 22، ص 181.

(3). المكاسب المحرّمة، ص 75.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 476

فحينئذ يبقي علي الجائر إلّا التبعات التكليفية، لا الوضعية، فما ذهب إليه بعض الأعاظم من عدم ثبوت حكم الضمان عن الغاصب، و إنّ إجازة الأئمّة إنّما هي لتسهيل الأمر علي الشيعة «1» - عجيب، لعدم انفكاكهما كما هو ظاهر.

2- لزوم العسر و الحرج الشديد، بل الضرر أيضا لو اريد الاجتناب عن هذه الأموال و لو اريد إعطاء الزكاة و الخراج مرّتين، مع كون سوق المسلمين مملوءا من هذه الأموال بحيث لم يكن لأحد اجتنابها.

و بالجملة جواز التصرّف في هذه الأموال ثابت قطعا، و لازمه براءة ذمّة صاحبها، و إلّا كان باقيا علي ملكه و كان غصبا لا يجوز التصرّف فيها.

3- الأخبار الكثيرة الواردة في أبواب مختلفة:

منها: ما ورد في باب أخذ جوائز السلطان، و قد رواها الوسائل في الباب 51 من أبواب ما يكتسب به من قبيل:

الأوّل- ما مرّ سابقا عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت علي أبي

عبد اللّه عليه السّلام و عنده إسماعيل ابنه، فقال: «ما يمنع ابن أبي السمال «السمّاك- الشمال» أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس و يعطيهم ما يعطي الناس؟» ثمّ قال لي: لم تركت عطاءك؟

قال: مخافة علي ديني. قال: «ما منع ابن أبي السمال أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم انّ لك في بيت المال نصيبا؟» «2».

فانّه يعلم عادة أنّ الجوائز الكثيرة كانت من الخراج أو شبهه، و لا أقل من إطلاقها، بل العمدة في طريق تحليلها كونها من الخراج، و إلّا احتمال كونها غصبا مانع و كونها من الزكاة أيضا كذلك، لعدم جواز أخذه لكلّ أحد منه فهذا كلّه يدلّ علي حلّ الخراج و لازمه أيضا كونها مبرئا للذمّة.

الثاني- و منها صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو الحسن موسي عليه السّلام: «ما لك لا تدخل مع علي في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيّقا». قال قلت: نعم فإن شئت وسّعت عليّ. قال: «اشتره» «3».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 534.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، ص 157، الباب 51، من أبواب ما يكتسب به، ح 6.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 161، الباب 52، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 477

الثالث- و منها ما رواه معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اشتري من العامل الشي ء، و أنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال: «اشتر منه» «1».

و لكن يحمل علي أنّه لم يعلم كون خصوص هذا ظلما.

الرابع- و منها ما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الرجل ما يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم

انّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، قال فقال: «ما الإبل إلّا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتّي تعرف الحرام بعينه، قيل له: فما تري في مصدّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا، فنقول بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه؟ فقال: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس»، قيل له: فما تري في الحنطة و الشعير يجيئا القاسم، فيقسم لنا حظّنا و يأخذ حظّه فيعزله بكيل، فما تري في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل» «2».

هذا الحديث يدلّ علي حكم الزكوات و غيرها كما لا يخفي فتأمّل.

بل ظاهرها كون الجواز أمرا واضحا في أصل المسألة، و إنّما سأله عليه السّلام عن امور اخر، مثل احتمال اشتماله علي الحرام أو عدم كيلها بعد ذلك.

الخامس- و منها ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول: ظلمني، فقال: «اشتره» «3».

السادس- ما رواه يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل يستأجر الأرض بشي ء معلوم يؤدّي خراجها و يأكل فضلها و منها قوته قال: «لا بأس» «4».

و هذا يدلّ علي جواز الخراج علي النحو المتعارف في ذلك الزمان.

السابع- و ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن أرض يريد رجل أن يتقبّلها فأي وجوه القبالة أحل؟ قال: «يتقبّل الأرض من أربابها بشي ء معلوم إلي سنين

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 161، الباب 52، من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(2). المصدر السابق، ح 5.

(3).

وسائل الشيعة، ج 12، ص 161، الباب 52، من أبواب ما يكتسب به، ح 3.

(4). المصدر السابق، ج 13، ص 213، الباب 18، من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 478

مسمّاة فيعمر و يؤدّي الخراج، فان كان فيها علوج فلا يدخل العلوج «1» في قبالته فانّ ذلك لا يحلّ» «2».

و كيفية دلالتها كسابقتها، فانّها و ان لم تكن بصدد بيان هذا الحكم، إلّا أنّ تعبيرها بالنسبة إلي الخراج دليل علي مفروغية المسألة بالنسبة إلي البراءة لو أدّاه إلي السلطان.

الثامن- و ما رواه أبو بردة بن رجاء قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القوم يدفعون أرضهم إلي رجل فيقولون: كلها و أدّ خراجها قال: «لا بأس به إذا شاءوا أن يأخذوها أخذوها» «3».

التاسع- و ما رواه جميل بن صالح قال: أرادوا بيع تمر عين أبي بن زياد فأردت أن أشتريه فقلت حتّي أستأذن أبا عبد اللّه عليه السّلام فأمرت مصادفا فسأله فقال له: قل له: «فليشتره فإنّه إن لم يشتره اشتراه غيره» «4».

و لكن روي في الحدائق ما رواه المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه المخالف في هذه المسألة رواية عن الكافي تدلّ علي أنّ عين أبي زياد كانت ملكا لأبي عبد اللّه عليه السّلام (و لكن التعبير فيه ب «عين زياد» و لعلّ هذا المقدار من التفاوت لا يضرّ، و فيه تأمّل، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ احتمال اتّحادهما يمنع عن الاستدلال و هو جيّد) «5».

العاشر- و ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الرجال، و بخراج النخل و الآجام و الطير، و هو لا يدري لعلّه لا

يكون من هذا شي ء أبدا، أو يكون، أ يشتريه و في أي زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال: «إذا علمت أنّ من ذلك شيئا واحدا أنّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به» «6».

فأطلق فيه الخراج و هو دليل علي المطلوب.

الحادي عشر- و منها ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث) أنّه سأل عن مزارعة أهل الخراج بالربع و النصف و الثلث، قال: «نعم لا بأس به، قد قبل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم

______________________________

(1). المراد من العلوج بضمّتين الذي هو جمع «عليج» الرجل الضخم القوي و المراد هنا رعايا الأرض الأقوياء.

(2). وسائل الشيعة، ج 13، ص 214، الباب 18، من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة، ح 5.

(3). المصدر السابق، ص 212، الباب 17، ح 3.

(4). المصدر السابق، ج 12، ص 162، الباب 53، من أبواب ما يكتسب به، ح 1.

(5). الحدائق، ج 18، ص 248.

(6). وسائل الشيعة، ج 12، ص 264، الباب 12، من أبواب عقد البيع و شروطه، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 479

خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخبر، و الخبر هو النصف» «1».

و منها الروايات الدالّة علي جواز قبالة الأرض من السلطان من دون ذكر أمر الخراج التي ظاهرها أدائه إلي السلطان لا إلي غيره مثل:

الثاني عشر- الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما تقول في أرض أتقبّلها من السلطان ثمّ اواجرها أكرتي علي أنّ ما أخرج اللّه منها من شي ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حقّ السلطان؟ قال: «لا بأس به كذلك أعامل اكرتي» «2».

الثالث عشر- و ما رواه إسماعيل بن الفضل

الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة، أو بطعام مسمّي، ثمّ آجرها و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر و له في الأرض بعد ذلك فضل، أ يصلح له ذلك؟ قال: «نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك».

قال: و سألته عن الرجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة، أو بطعام معلوم، فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا، بشي ء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان، و لا ينفق شيئا، أو يؤاجر تلك الأرض قطعا علي أن يعطيهم البذر و النفقة فيكون له في ذلك فضل علي إجارته و له تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له: «إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت» «3».

إلي غير ذلك من الروايات.

و تلخّص ممّا ذكرنا أنّ المعاملة مع الجائر في أمر الخراج جائزة، و الدفع إليه مبرئ للذمّة، و هكذا يجوز البيع و الشراء و غيرهما في الأموال الحاصلة من الخراج بلا واسطة، أو بالواسطة.

هذا كلّه في أصل المسألة، و لكن هناك مسائل اخري حول هذه المسألة ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، ص 200، الباب 8، من أحكام المزارعة و المساقاة، ح 8.

(2). المصدر السابق، ص 208، الباب 15، ح 3.

(3). وسائل الشيعة، ج 13، ص 261، الباب 21، من أبواب أحكام الإجارة، ح 3 و 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 480

بقي هنا امور:
اشارة

الأمر الأوّل: هل هذا الحكم أعني المعاملة مع السلطان الجائر معاملة العادل و إعطائه الخراج و الزكوات و

غيرها إليه و إبراء الذمّة بذلك مشروط بحال «التقيّة» و «الضرورة»، أو أنّه مطلق، فيجب دفعه إليه و ان قدر علي منعه منه بغير محذور؟

و بعبارة اخري: إنّ الشارع أمضي سلطنة الجائر علي هذه الامور بحيث لا يجوز منعه منها. و يحرم خيانته و ما أشبه ذلك، لبعض المصالح المتعلّقة بالإسلام و المسلمين، و لو من جهة حفظ النظام قبل قيام الحكومة الحقّة الإلهية، أو أنّه لم يمضها كذلك، بل يكون الدفع إليه من جهة ضرورة الدافع لا ضرورة المجتمع الإسلامي؟

نسب القول الأوّل فيما يظهر عن الحدائق إلي جماعة من الأصحاب «1».

و قد يظهر من بعض عباراتهم ذلك في بدو النظر، مثل ما عن المحقّق الكركي رحمه اللّه في رسالته: «ما زلنا نسمع من كثير ممّن عاصرناهم و لا سيّما الشيخ الأعظم الشيخ علي بن هلال رحمه اللّه أنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته و لا جحوده و لا منعه و لا شي ء منه لأنّ ذلك حقّ واجب عليه» «2».

بل قد يستظهر إجماع الأصحاب علي ذلك، و لكن لا يبعد أن يكون مرادهم ما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه في مكاسبه من أنّه ناظر إلي المنع و الإنكار المطلق، لا منعه من الجائر و إعطائه إلي الحاكم الشرعي أو نائبه إذا لم يكن فيه محذور، و لذا اختار هو جواز المنع في هذه الصورة «3» و كذلك صاحب الحدائق في ذيل كلامه في المسألة «4».

و علي كلّ حال يمكن أن يستدلّ علي هذا القول بأمرين:

«أحدهما» مقتضي القاعدة، لأنّ الأصل عدم جواز إعطائه إلي غير أهله، و القدر المتيقّن من الأدلّة المجوّزة هو ما إذا كان مجبر علي ذلك، أمّا إذا كان مختارا فيه، فيشكل

استفادته من الأدلّة، فهي منصرفة من هذه الصورة لا أقل.

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 242.

(2). المكاسب المحرّمة، ص 74.

(3). المصدر السابق.

(4). الحدائق، ج 18، ص 259.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 481

«ثانيهما» بعض الأدلّة الخاصّة مثل ما يلي:

1- ما رواه عيص بن قاسم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الزكاة قال: «ما أخذوا منكم بنو اميّة فاحتسبوا به، و لا تعطوهم شيئا ما استطعتم، فانّ المال لا يبقي علي هذا أن يزكّيه مرّتين» «1».

و لكنّه في خصوص باب الزكاة، اللهمّ إلّا أن تلغي الخصوصية بقرينة التعليل.

2- ما رواه علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال:

«إن كنت لا بدّ فاعلا فاتّق أموال الشيعة»، قال: فأخبرني علي أنّه كان يجيبها من الشيعة علانية و يردّها عليهم في السرّ «2».

و لكن لا يعلم أنّ المراد منه الأموال المغصوبة أو الخراج و أمثاله.

3- ما رواه زرارة قال اشتري ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة ارزا بثلاثمائة الف، قال: فقلت له ويلك: أو ويحك انظر إلي خمس هذا المال فابعث به إليه و احتبس الباقي فأبي عليّ، قال: فأدّ المال و قدّم هؤلاء، فذهب أمر بني اميّة، قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السّلام فقال مبادرا للجواب: «هو له» فقلت له: إنّه قد أدّاها فعضّ علي اصبعه «3».

و لكن لم يثبت كونه من الخراج، فلعلّه من باب أخذ مال الغاصب و ردّ الخمس إليهم، و يؤيّده ذيله «هو له» و توجيه الخمس بكونه مشتملا علي الحرام كما فعله شيخنا الأعظم قدّس سرّه «4» و ان كان ممكنا إلّا أنّ قوله «هو له» لا يمكن توجيهه علي هذا

المبني.

4- ما رواه سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ أصحاب أبي أتوه فسألوه عمّا يأخذ السلطان فرّق لهم، و أنّه ليعلم أنّ الزكاة لا تحلّ إلّا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري و اللّه لهم، فقلت «له» يا أبه! انّهم إن سمعوا إذا لم يزكّ أحد فقال:

«يا بني حقّ أحبّ اللّه أن يظهره» «5».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، ص 174، الباب 20، من أبواب المستحقّين للزكاة، ح 3.

(2). المصدر السابق، ج 12، ص 140، الباب 46، من أبواب ما يكتسب به، ح 8.

(3). المصدر السابق، ص 161، الباب 52، ح 2.

(4). المكاسب المحرّمة، ص 74.

(5). وسائل الشيعة، ج 6، ص 174، الباب 20، من أبواب المستحقّين للزكاة، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 482

فانّ ظاهره صورة الإجبار، نعم هو أيضا مختصّ بالزكاة و الغاء الخصوصية ممكن فتأمّل.

5- ما رواه أبو اسامة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك إنّ هؤلاء المصدّقين يأتوننا و يأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أ تجزي عنّا؟ قال: «لا إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أو قال ظلموكم أموالكم و إنّما الصدقة لأهلها» «1».

و ظاهرها عدم الجواز مطلقا، و وجه الجمع بينها و بين غيرها هو التفصيل بين صورتي الاختيار و الإكراه.

6- ما رواه البختري عن جعفر عن أبيه أنّ عليا عليه السّلام كان يقول: «اعتد في زكاتك بما أخذ العشّار منك و احفظها عنه ما استطعت» «2».

و هو صريح في حكم الزكاة لا غير إلّا علي ما عرفت من الغاء الخصوصية.

و يمكن هنا القول بالتفصيل بينما إذا توقّف حفظ نظام المسلمين و لو ببعض مراتبه علي وجود بيت مال يصرف في

هذا الأمر إجمالا، و ما إذا كان لهذا الظالم بدل مثله أو أحسن منه، و لا يحتاج إلي هذا. و يشير إليه بعض الإشارة الحديث 2/ 20 من أبواب المستحقّين للزكاة فراجع «3».

ثمّ أنّه هل يجب استئذان الحاكم الشرعي عند إمكانه؟ ظاهر إطلاق الأخبار عدمه و ان كان هو الأحوط.

الأمر الثّاني: الأراضي التي يأخذ السلطان الجائر الخراج عنها علي أقسام:

تارة تكون من الأراضي الخراجية واقعا، و اخري من الأنفال، و ثالثة من الأراضي المغصوبة المعلوم مالكها، و رابعة من المجهول مالكها.

فهل جميع ذلك داخل في محلّ الكلام فيجوز إجراء المعاملات علي الجميع، أم لا؟

ظاهر بعض الأدلّة كظاهر كلمات بعض الأعلام الإطلاق، و لكن الإنصاف انصراف الجميع إلي الأراضي الخراجية الواقعية، لما عرفت من أنّه من قبيل التصرّفات الفضولي التي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، ص 174، الباب 20، من أبواب المستحقّين للزكاة، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 175، ح 8.

(3). وسائل الشيعة، ج 6، ص 173.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 483

أجازها من بيده الأمر، فانّ مصالح المسلمين قد تقضي امضاء تصرّفات الجائر فيما ليس له أهل.

و بالجملة ماهية الحكم هنا ماهية الإجازة، و التنفيذ في حكومة الجور في مصالح المسلمين، و لا أقل من الشكّ، فهذا هو القدر المتيقّن، و غيره لا دليل عليه.

و يدلّ علي ذلك مضافا إلي ما عرفت:

1- ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسي في نوادره عن أبيه قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن شراء الخيانة و السرقة. قال: «إذا عرفت ذلك فلا تشتر إلّا من العمّال» «1».

و هي دليل علي عدم جواز المعاملة مع المغصوب معاملة الحلال.

نعم، في بعض أحاديث هذا الباب ما يدلّ علي خلافه، مثل

ما رواه محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أشتري الطعام فيجي ء من يتظلّم و يقول ظلمني. فقال:

«اشتره» «2».

و يمكن الجمع بينهما بحمل الثانية علي صورة عدم العلم الإجمالي بأنّ ما يأخذه نفس الحرام.

نعم قد مرّ في موثّقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي ما يدلّ علي أخذهم الخراج من الأنفال أو المباحات الأصلية، و إليك نصّها. ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الرجال و بخراج النخل و الآجام و الطير و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبدا أو يكون، أ يشتريه؟ و في أي زمان يشتريه و يتقبّل منه؟ قال: «إذا علمت انّ من ذلك شيئا واحدا أنّه قد أدرك فاشتره و تقبّل به منه» «3» و «4».

و يمكن إلحاقها بالأراضي الخراجية، لأنّها أيضا منوطة بإذن الإمام عليه السّلام دون المغصوبة، و لكن الأمر في المباحات (مثل الطير في الهواء) ليس كذلك فلا بدّ من توجيهه أو ردّ علمه إلي أهله.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 162، ح 6.

(2). المصدر السابق، ص 161، ح 3.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 264، الباب 12، من أبواب عقد البيع، ح 4.

(4). و في بعض طرق ح اضيفت المصايد و السمك (ج 12، ص 264).

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 484

و لم تحرّر هذه المسألة في كلماتهم حقّ التحرير، و الأقوي ما عرفت و اللّه العالم.

الأمر الثّالث: هل الحكم مختصّ بالسلطان بمعناه المعروف الذي يطلب الرئاسة علي الناس بعنوان الخلافة عنه صلّي اللّه عليه و آله و سلم، أو لا بعنوان الخلافة، أو يشمل كلّ متسلّط علي

منطقة و لو علي قرية أو بلد أو صقع كما كان كذلك في الخارجين علي الخلفاء في السابق و كذلك الآن.

و الحاصل إنّ المدّعي للرئاسة علي أقسام ثلاثة: مدّعي الخلافة، و مدّعي السلطنة و المتسلّط علي الأرض، و هل الحكم مختصّ بالمخالف المعتقد لإباحة أخذ الخراج له، أو يشمل الكافر، أو المؤمن غير المعتقد لذلك؟

و المسألة غير منقّحة في كلماتهم أيضا، و لكن لا شكّ أنّ مقتضي القاعدة الاقتصار علي القدر المتيقّن، لأنّ الأصل هنا عدم جواز الخراج و شبهه لغير أهله، خرجنا منه في القدر المعلوم، فيبقي الباقي، و لكن لا يبعد شمول الأدلّة العامّة و الخاصّة السابقة لجميع ما ذكر.

أمّا الدليل العام و هو العسر و الحرج، فانّه حاصل كما لا يخفي، و ما أفاده العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من أنّ الحرج حاصل علي كلّ حال، لاشتمال أموالهم علي المحرّمات غير الخراج «1» فيمكن الجواب عنه بأنّ جميع أموال الجائر ليست محلا للابتلاء حتّي يكون وجود الحرام فيها مانعا.

و أمّا الأدلّة الخاصّة، فبعضها مطلق يشمل الجميع مثل:

1- ما رواه أبو بصير و محمّد بن مسلم جميعا عن أبي جعفر عليه السّلام إنّهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما تري فيها؟ فقال: «كلّ أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك ممّا أخرج اللّه منها الذي قاطعك عليه و ليس علي جميع ما أخرجه اللّه منها العشر إنّما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك» «2».

2- و ما رواه عبيد اللّه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة، و إن شئت أكثر، و ان لم تبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» «3».

______________________________

(1).

المكاسب المحرّمة، ص 72.

(2). وسائل الشيعة، ج 6، ص 129، الباب 7، من أبواب زكاة الغلات، ح 1.

(3). وسائل الشيعة، ج 13، ص 215، الباب 19، من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة، ح 3.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 485

3- و ما رواه إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قرية لأناس من أهل الذمّة لا أدري أصلها لهم أم لا، غير أنّها في أيديهم و عليها خراج، فاعتدي عليهم السلطان، فطلبوا إليّ فأعطوني أرضهم و قريتهم علي أن أكفيهم السلطان بما قلّ أو كثر، ففضل لي بعد ذلك فضل بعد ما قبض السلطان ما قبض، قال: «لا بأس بذلك، لك ما كان من فضل» «1».

4- و ما رواه أبو الربيع قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: في الرجل يأتي أهل قرية و قد اعتدي عليهم السلطان، فضعفوا عن القيام بخراجها و القرية في أيديهم و لا يدري هي لهم أم لغيرهم فيها شي ء فيدفعونها إليه علي أن يؤدّي خراجها فيأخذها منهم، و يؤدّي خراجها و يفضل بعد ذلك شي ء كثير، فقال: «لا بأس بذلك إذا كان الشرط عليهم بذلك» «2».

5- و ما رواه داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الرجل تكون له الأرض عليها خراج معلوم و ربّما زاد و ربّما نقص فيدفعها إلي رجل علي أن يكفيه خراجها و يعطيه مائتي درهم في السنة، قال: «لا بأس» «3».

إلي غير ذلك من الروايات.

و عموميتها بالنسبة إلي المقام الأوّل لو كان محلا للإشكال، فلا أقل أنّها لم تكن محلا للإشكال بالنسبة إلي المقام الثاني، لا سيّما مع ما يحكي عن «هارون» و «المأمون» لاعتقادهما بأنّ

الإمامين الهمامين الكاظم و الرضا عليهما السّلام أحقّ بهذا الأمر منهما و كونهما ظالمين و غاصبين، و لكن الملك عقيم!

هذا مضافا إلي ما عرفت سابقا من أنّ الظاهر كون المقام من باب الفضولي مع لحوق إجازة من بيده الأمر، و حينئذ لا يبقي فرق بين هذه المقامات، و غاية ما يمكن أن يقال إنّ الأحوط كسب إجازة الحاكم الشرعي بالنسبة إلي هذه المقامات أيضا.

نعم، كلمات بعض الأصحاب ظاهرة في خصوص المخالف المعتقد لاستحقاق الأخذ.

مثل ما عن العلّامة رحمه اللّه في المنتهي من قوله «ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 13، ص 212، الباب 17، من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 4.

(3). المصدر السابق، ص 211، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 486

الزكاة» «1» أو تفسير بعضهم الجائر بالمخالف كما في إيضاح النافع أو غير ذلك، و لكن هذه التعبيرات لا تكون إجماعا، بل و لا شهرة، و لا يمكن الركون إليها بعد وضوح الأدلّة في المقام و شمولها أو شمول بعضها، هذا مضافا إلي الإشكال في صغري البحث، فانّ الكافر أو السلطان الجائر من الشيعة قد يعتقد بأنّ هذه الأمور من حقوق بيت المال، لا بدّ من أخذها، سواء كان الآخذ الإمام الحقّ أو السلطان الجائر، كما تراهم يأخذون الحقوق من الأوقاف و يرون ذلك أمرا سائغا لهم، بل يجعلون المشاريع العظيمة لأمر الوقف و يختارون المتولّي لأوقافهم العظيمة و يعملون كلّ ما يعمله الحاكم الشرعي، فإذا كان أمر الوقف كذلك، فأي مانع في غير الوقف؟

الأمر الرّابع: هل للخراج قدر معيّن لا يجوز أن يتجاوز عنه، بحيث لو تجاوز كان حراما للآخذ و لم تجر

عليه الأحكام السابقة، أو المدار علي التراضي بين السلطان و مستعملي الأرض، أو يفصل بين ما إذا كان ابتداء، أو كان بالتراضي و ما كان استدامة، أو كان بما لا يضرّ بحال المستقبل فيه أو غيره؟ وجوه:

الظاهر أنّه لم يرد في كلمات الأصحاب ما يدلّ علي تعيين مقداره، و قد يستدلّ علي الوجه الأوّل بما ورد في مرسلة حمّاد عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السّلام في حديث قال: « … و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يجيها و يقوم عليها، علي ما صالحهم الوالي علي قدر طاقتهم من الحقّ الخراج، النصف أو الثلث أو الثلثين علي قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرّهم … » «2».

و العمدة فيه أنّ هذه الأراضي ملك لعامّة المسلمين، و للوالي التصرّف فيه بما فيه مصلحتهم، فلو تجاوز عن مصالحهم فليس تصرّفه ماضيا، و غاية ما يستفاد من الأدلّة السابقة أنّهم عليهم السّلام أمضوا تصرّفات ولاة الجور فيها لبعض المصالح لا مطلقا، بل بالمقدار الذي يتصرّف فيه أئمّة العدل، و ان هي إلّا كإمضاء تصرّف غير متولّي الوقف في العين الموقوفة.

______________________________

(1). المنتهي (للعلّامة)، كتاب التجارة، ص 1027.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 84، الباب 41، من أبواب جهاد العدو، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 487

فبناء علي ذلك لو قبل الأرض باجرة أقلّ ممّا هو مصلحة المسلمين أشكل أمره، كما إذا قطعه من دون أي اجرة كما كان متداولا بالنسبة إلي حواشيهم في تلك الأيّام لم تحلّ له، إلّا أن يكون الآخذ من أفراد مصارف بيت المال و مستحقّيه، فيأخذها من هذه الجهة كما لا

يخفي، و لعلّه إلي ذلك يشير ذيل مرسلة حمّاد كما لا يخفي.

فما أفاده شيخنا الأعظم قدّس سرّه من «التفصيل بين الابتداء و الاستدامة بأنّ الأوّل يكفي فيه ما تراضي فيه الطرفان قليلا أو كثيرا، و الثاني ما لا يكون مجحفا» «1» لا يخلو عن نظر، لأنّ الوالي العدل (فكيف بالجور) ليس مختارا في هذه الأراضي حتّي يتصرّف فيها كيف يشاء فهي كالموقوفات العامّة يكون التصرّف فيها منوطا بشرط المصلحة و مراعاة الموقوف عليهم، و ليست هي من أملاكه الشخصية يتصرّف فيها كيف يشاء.

الأمر الخامس: إنّ التصرّف في الأراضي الخراجية قد يكون بعنوان المقاسمة أو أداء الخراج، فلا يشترط فيه استحقاق خاصّ، لأنّه كالمستأجر للموقوفة، و اخري يأخذها إقطاعا (مجانا) أو بقيمة زهيدة، أو ما دون اجرة المثل، أو يأخذ نفس الخراج هبة، فهل يكون مستحقّا في جميع هذه الصور؟

الذي يظهر من بعض كلمات المحقّق الكركي رحمه اللّه استظهار الجواز مطلقا من إطلاقات كلمات الأصحاب و روايات الباب، أعني روايات حلّية جوائز السلطان «2».

هذا و لكن الإنصاف أنّه مشكل جدّا، أمّا بحسب القواعد فهي ظاهرة، لأنّه أخذه غير مستحقّه، و القدر المتيقّن من الجواز إمضاء أمر الجائر بما يصحّ للعادل، و ليس له إعطائه غير أهله أو أزيد من استحقاقه كما في أمر عقيل و ما أراده من بيت المال من أخيه أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين) و يشهد له ما رواه الحضرمي، و استند فيها للجواز بأنّ له حقّ في بيت المال.

و إطلاق الأخبار أيضا محمول علي ما إذا كان الآخذ مستحقّا كما هو الغالب بالنسبة إلي الشيعة المحرومين من حقوقهم.

______________________________

(1). المكاسب المحرّمة، ص، 76.

(2). وسائل الشيعة، ج 12، الباب 51، من أبواب ما

يكتسب به، ص 156.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 488

الأمر السّادس: ظهر ممّا ذكرنا أنّ الإقطاع بالنسبة إلي الأراضي الخراجية غير جائز، و هو تخصيص شخص خاصّ شيئا من الأراضي الخراجية، أمّا بأن يملّكه إيّاها، أو يهبه خراجها و يجعله رزقا له، كما كان متداولا في أعصار أئمّة الجور و خلفاء الباطل يعملون ذلك لمن انتسب إليهم، أو أحبّوه، أو كان شريكا لجرائهم، و حافظا لسلطانهم بوجه من الوجوه، و هو المسمّي ب «تيول» (و هي لغة تركية).

و الوجه في ذلك ما عرفت من أنّ الأراضي الخراجية ملك لجميع المسلمين الموجودين و من سيوجد فيما بعد، موقوفة عينها، و تصرّف غلّتها في مصالحهم، حتّي أنّ والي العدل لا يتصرّف فيها إلّا بهذا النحو كما كان دأبهم عليهم السّلام في أموال بيت المال مطلقا كما هو المشهور المعروف من فعل أمير المؤمنين (عليه أفضل صلوات المصلّين).

و أمّا ولاة الجور فغاية ما ثبت في حقّهم إمضاء تصرّفهم فيها (بالنسبة إلي من وصل إليه) بما يجوز بحسب حكم الشرع في حقّ الوالي العادل.

و إليك بعض ما ورد في حكم الأراضي الخراجية و نحو ملكيتها مثل:

1- ما رواه أبو بردة بن رجاء قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تري في شراء أرض الخراج؟ قال: و من يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال:

و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟ ثمّ قال: «لا بأس اشتري حقّه منها، و يحول حقّ المسلمين عليه، و لعلّه يكون أقوي عليها و أملي بخراجهم منه» «1».

2- و ما رواه محمّد بن مسلم و عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سألته عن ذلك

فقال: «لا بأس بشرائها فانّها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم تؤدّي عنها كما يؤدّي عنها» «2».

3- و ما رواه حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: رفع إلي أمير المؤمنين عليه السّلام رجل مسلم اشتري أرضا من أراضي الخراج، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «له ما لنا و عليه ما علينا، مسلما كان أو كافرا، له ما لأهل اللّه و عليه ما عليهم» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 118، الباب 71، من أبواب جهاد العدو، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 119، ح 3.

(3). المصدر السابق، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 489

نعم، لو كان هو من مستحقّي بيت المال، أمكن ذلك في حقّه بمقدار ما يستحقّه، كما يدلّ عليه مضافا إلي مقتضي القاعدة ما رواه إبراهيم بن أبي زياد قال:

4- سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الشراء من أرض الجزية قال: فقال: «اشترها فانّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك» «1».

الأمر السّابع: مالكية الحكومة و حدود تصرفاتها.

قبل أن نتكلّم في الأمر التاسع و العاشر من بيان مصرف الخراج و موضوع الأراضي الخراجية و مصداقها و مالها من الشرائط، لا بأس بأن نتكلّم في حال مالكية الحكومة و أموالها من دون الحقّ و الجور في أعصارنا مع قطع النظر عن الأراضي الخراجية التي لا توجد لها اليوم مصاديق ظاهرة واضحة، أو لا يوجد منها إلّا قليل، فانّ ذلك أهمّ من غيره.

و الكلام هنا في مقامات:

1- مالكية الحكومة، أعني جهتها و عنوانها لا أشخاصها.

2- أموالها المشروعة و غير المشروعة و منابعها المالية.

3- كيفية نفوذ تصرفاتها في هذه الأموال.

المقام الأوّل: مالكية الحكومة

أمّا الاولي، فقد يستشكل في ذلك، نظرا إلي أنّ الملكية و ان

كانت من الامور الاعتبارية بنفسها، إلّا أنّ المالك لا بدّ أن يكون شخصا حقيقيا عاقلا شاعرا فكما لا تتصوّر الملكية بالنسبة إلي الحيوانات و الأشجار و الأحجار فبطريق أولي لا يصحّ الملك للعناوين الاعتبارية، و لم يعهد ذلك في الصور الاول، و إنّما كانت الأموال الموجودة في بيت المال ملكا لجميع المسلمين، أو لفقرائهم، أو لإمام المسلمين.

هذا و لكن يرد عليه: أمّا أوّلا: فلأنّ قيام الأمر الاعتباري بأمر اعتباري آخر لا مانع منه بعد ما كان الاعتبار و الإنشاء خفيف المؤونة، و المدار في الامور الاعتبارية علي كونها مشتملة علي المصالح العقلائية و المنافع الاجتماعية، و ملكية الجهة و العنوان أمر عقلائي

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 119، الباب 71، من أبواب جهاد العدو، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 490

بلا إشكال، بل لعلّ أكثر الأموال الموجودة اليوم علي وجه الأرض أملاك للعناوين، مثل السفن العظيمة و الطائرات و جميع الأسلحة المتطورة و الثروات الضخمة في البنوك و العمارات و الأراضي و غيرها، و لو كان هذا أمرا غير عقلائي لما التزم به جميع العقلاء من جميع أقطار العالم، و لو حكمنا بسلب الملكية عن الحكومات لم يستقرّ حجر علي حجر و لو يوما واحدا.

و ان شئت قلت: الأحكام تؤخذ من الشرع و موضوعاتها من العرف، و ملكية الجهة أمر عرفي واضح ظاهر لكلّ أحد.

و هل الحكومة تتصرّف فيها بعنوان النيابة، و المال مال الشعب، أو هي ملك لها، و رجالها مأمورون بالتصرّف فيها لمصالح الأهمّ؟

فعلي الأوّل المالك الحقيقي هو الشعب، و الحكومة وكيل له، و علي الثاني المالك هي الحكومة، و المصرف هو الشعب، كلّ من المعنيين جائز، و علي كلّ تقدير

تكون ملكا للجهة.

و بعبارة اخري، قد يكون عنوان النيابة هنا من قبيل الواسطة في ثبوت الملكية، و اخري من قبيل الواسطة في العروض.

الظاهر أنّه لا فرق بينهما في الأثر و العمل، لأنّ تصرفاتها بعنوان الحكومة علي كلّ حال لا تصحّ إلّا في مصالح الحكومة التي هي مصالح الشعب بعينها، كما أنّ تصرفاتها بعنوان النيابة كذلك.

و علي كلّ تقدير المالك هو الجهة لا افراد الحكومة، و لا افراد الشعب بأعيانهم، بل بعنوانهم.

و لكن الأظهر بحسب متفاهم العرف و العقلاء هو كون الحكومة مالكا لها، تتصرّف فيها لمصالحهم.

و ممّا يشهد لما ذكرنا من جواز ملك الجهة امور:

1- الموقوفات العامّة علي بعض العناوين، كوقف المدارس علي طلاب علوم الدين أو علي صنف خاص منهم، فانّ المالك هنا أيضا ليس أشخاصهم بأعيانهم، بل بما انّهم مصاديق لهذا العنوان، و أي فرق بينه و بين مالكية عنوان الحكومة، و كلاهما ملك الجهة، و لا

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 491

فرق بين التمليك الموجود في الوقف و الملك الطلق، و هكذا الأمر في المساجد و الخانات و المرابط لو قلنا أنّها ملك لعامّة المسلمين، بخلاف ما إذا قلنا أنّها فك ملك.

نعم الجهة في الموقوفات تحكي عن أمر خارجي كطلبة العلم، و في الحكومة عن أمر اعتباري، و هذا المقدار لا يوجب تفاوتا في المقام بعد كونهما كلاهما ملكا للجهة.

2- هنا أشياء تتوقّف علي المساجد بحيث تعدّ تمليكا للمسجد، و المسجد مالكا لها، بل قد لا يكون ملك المسجد وقفا و يكون من قبيل الملك الطلق كالفرش و الأمتعة التي تشتري للمسجد من غلّة موقوفاته، فانّه مال المسجد و ليس وقفا (فتأمّل جيّدا في الفرق بينهما).

فإذا كان المسجد و شبهه يمكن

أن يكون مالكا لبعض الأشياء مع أنّها ليست بذوات العقول، فكيف لا يمكن ملك «الجهة» مع أنّها عنوان لمن يعقل، و يملك؟!

و الغرض من ذلك كلّه أنّ أمر الملك سهل بين العرف، و العقلاء يعتبرونه في كلّ مورد تترتّب عليه الآثار المعقولة المفيدة، و القول بأنّ أملاك المساجد و شبهها أملاك لعامّة المسلمين، لا المسجد، مخالف لما ارتكب عليه أهل العرف.

3- هناك بعض الروايات الدالّة علي جواز بيع ثوب الكعبة و شرائه و النهي عن اتّخاذه كفنا مثل:

الأوّل: ما رواه مروان بن عبد الملك قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجل اشتري من كسوة الكعبة شيئا فقضي ببعض حاجته و بقي بعضه في يده هل يصلح بيعه؟ قال: «يبيع ما أراد و يهب ما لم يرده، و يستنفع به و يطلب بركته» قلت: أ يكفّن به الميّت؟ قال: «لا» «1».

الثّاني: ما رواه الحسين بن عمارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن رجل اشتري من كسوة البيت شيئا هل يكفّن به الميّت؟ قال: «لا» «2».

الثّالث: ما رواه عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال: سألت أبا الحسن موسي عليه السّلام عن رجل اشتري من كسوة البيت شيئا هل يكفّن فيه الميّت؟ قال: «لا» «3».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 2، ص 752، الباب 22، من أبواب التكفين، الأحاديث 1 و 2 و 3.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 492

و كيف يباع ثوب الكعبة لو لم يكن هناك ملك، فانّه لا بيع إلّا في ملك.

و الظاهر أنّ المالك هنا هو نفس الكعبة، لا المسلمون، بل الكعبة أيضا ليست هي البنيان بعينه، بل العنوان الجامع حتّي إذا جدّد البناء ببعض العلل كان أيضا

مالكا.

الرّابع: أضف إلي ذلك كلّه ارتكاز العقلاء من أمر الملك، فانّه ليس أمرا مخترعا للشرع، بل مأخوذا من بناء العقلاء، و نراهم يعتبرون قسمين من المالك: «الشخص الحقيقي» و «الشخص الحقوقي» فيعتبرون مؤسسة أو مشروعا من المشاريع عنوانا صالحا لأن يكون مالكا من دون أن يملك الأشخاص الموجودون شيئا و إنّما هم بالنسبة إليه كالمتولّي للموقوفة.

إن قلت: هذا أمر مستحدث لم يمضه الشارع.

قلنا: إذا أمضي الشارع العقود كلّها بعنوان قضية حقيقية أمضي ما تبتني عليه هذه العقود بالملازمة، فكما تشمل أدلّة صلاة القصر الأسفار الفضائية و شبهها مع أنّها مصاديق مستحدثة لم تكن من قبل، فكذلك هذه الأفراد من الملكية، بل الإنصاف أنّها ليست مستحدثة لوجود مصاديق لها من قبل كما مرّت الإشارة إليها.

الخامس: ملكية الإمام (عليه آلاف الثناء و التحيّة) بالنسبة إلي سهمه المبارك، بل و بالنسبة إلي الأنفال أيضا، ليس من قبيل ملك الشخص، بل من قبيل ملك الجهة، أعني أنّه مالك لهذه الأموال بعنوان «الإمامة».

و الشاهد علي ذلك مضافا إلي أنّ هذه الأموال العظيمة الشاملة لخمس جميع الغنائم بمعناها الوسيع في جميع أقطار العالم، و بجميع الأنفال مع عدم حاجته عليه السّلام إليها في حياته الشخصية، بل بما أنّه إمام المسلمين و حافظ لكيانهم و منافعهم و جامع لشملهم و سبب لشوكتهم و قدرتهم علي الأعداء، ما ورد في أبواب الأنفال عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث عليه السّلام (الإمام الهادي) انّا نؤتي بالشي ء فيقال: هذا كان لأبي جعفر عليه السّلام (الجواد) عندنا فكيف نصنع؟ فقال: «ما كان لأبي عليه السّلام بسبب الإمامة فهو لي و ما كان غير ذلك فهو ميراث علي كتاب اللّه و سنّة نبيّه»

«1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، ص 374، الباب 2، من أبواب الأنفال، ح 6.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 493

و أبو علي بن راشد و اسمه الحسن و ان لم يصرّح بعضهم في الرجال بوثاقته بل بمدحه، و لكن كونه من وكلائهم من أقوي الأدلّة علي وثاقته كما ذكره المامقاني في رجاله، فتدبّر.

مضافا إلي أنّه قد صرّح الشيخ في رجاله بوثاقته (ذكره في معجم رجال الحديث) «1».

و لكن طريق «الفقيه» إلي الحسن بن راشد لا يخلو من ضعف، كما في جامع الرواة «2».

و أمّا دلالته علي ما نحن بصدده فظاهرة، حيث فرّق بين أمواله الشخصية التي تورث علي ما فرضه اللّه، و أمواله عليه السّلام بعنوان الإمامة.

السّادس: بل الظاهر أنّ ملكية الأراضي الخراجية من قبيل ملك «الجهة» فراجع ما ورد في الباب 71 من أبواب جهاد العدو و إليك بعض منها:

ما رواه أبو بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام كيف تري في شراء أرض الخراج؟

قال: «و من يبيع ذلك هي أرض المسلمين؟» قال قلت: يبيعها الذي هي في يده، قال:

«يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟» ثمّ قال: «لا بأس اشتري حقّه منها و يحول حقّ المسلمين عليه و لعلّه يكون أقوي عليها و أملي بخراجهم منه» «3».

و هذه الرواية تشهد لما ذكر، فانّه لو كانت الأرض بأشخاصهم كانت موروثة علي كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و ليس كذلك قطعا، بل كلّ إنسان إذا كان مصداقا لعنوان المسلم كان مالكا لها و إذا زال هذا العنوان أو مات المعنون به زال ملكه، و هذا هو المراد بملك الجهة، أو أحد معانيه، فتدبّر جيّدا.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ صاحب الملك علي أقسام:

تارة يكون إنسانا

و يكون المالك شخصا حقيقيا.

و اخري: يكون عينا خارجيا مثل الكعبة و المسجد و غيرهما.

و ثالثة عنوانا منطبقا علي أشخاص حقيقيين، فالمالك هو الإنسان، لكن لا بشخصه بل بعنوان الخاص أو العام.

______________________________

(1). معجم رجال الحديث، ج 4، ص 320.

(2). جامع الرواة، ج 1، ص 197.

(3). وسائل الشيعة، ج 11، ص 118، الباب 71، من أبواب جهاد العدو، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 494

و رابعة يكون مجرّد أمر اعتباري و عنوان ذهني، مثل ما تداول في أيّامنا من المالكين الحقوقيين لا الحقيقيين، كالمشارع و المؤسسات المعمولة للنشر و التبليغ، و الاقراض، و غيرها، فالمالك هنا ليس إلّا الأمر الاعتباري.

و الظاهر أنّ الثلاثة الاولي ممّا لا ينبغي الإشكال فيها و ان كان هناك إشكال ففي الأخير، و لكنّه أيضا صحيح قطعا، و له نظائر كثيرة في الشرع و العرف.

و أمّا الحكومة فالظاهر أنّها من قبيل القسم الثالث، و يحتمل كونها من القسم الرابع، و ان كان الثالث أظهر.

كما أنّه يمكن كون أموالها أموالا للشعب و رجال الحكومة نائبون عنهم، أو انّهم أولياء منصوبون من قبل اللّه و امناؤه علي عباده كما في اعتقادنا في حكومة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و الأئمّة الهادين عليهم السّلام.

و علي كلّ حال لا ينبغي الإشكال في أصل مالكية الحكومة، و إنكارها في عصرنا أشبه شي ء بإنكار بعض الامور البديهية و ان ذكر في تصويرها أنحاء مختلفة.

هذا و قد يقال: إنّ مالكية الجهة و ان كانت أمرا مفروغا عنها و كذلك مالكية الحكومة، و لكن ذلك إنّما يصحّ إذا كانت الحكومة صالحة مؤمنة مشروعة كحكومة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم و أوصيائه

المرضيين عليهم السّلام أمّا إذا كانت ظالمة غاشمة فقد أسقط الشارع اعتبارها و أبطل مشروعيتها، و مع ذلك كيف تملك شيئا بعد بطلان اعتبارها؟

و لكن نقول: الحكومة و ان كانت أمرا اعتباريا، و لكنّها ناشئة عن مبادئ تكوينية خارجية عينية، و هي السلطة علي المجتمع و تكلّمها باسم الشعب و المجتمع، و هذا المعني حاصل في الحكومة الصالحة و الظالمة و ليس أمرا يمكن إنكاره، فالحكومة بهذا الاعتبار أمر واقعي، و عنوانها و ان كان أمرا اعتباريا و لكن مبادئه تكوينية خارجية.

و هذا من قبيل عنوان الطلاب أو الحجّاج إذا وقف عليهم شي ء و جعل ملكا محبوسا.

نعم، الشارع المقدّس حرّم الحكومة الجائرة و لم ير لها رخصة في التسلّط علي الناس، و أمّا لو تسلّطت عليهم حكومة ظالمة و كسبت أموالا من طريق التجارات و الصناعات و سائر الطرق المشروعة، فلا دليل علي عدم ملكيتها.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 495

و إن شئت قلت: القدر المسلم هو تحريم الحكم علي الناس بغير إذن من الشارع و عدم إمضاء تصرّفات هذه الحكومة من هذه الجهة، أمّا كونها شخصا حقوقيا تملّك أشياء إذا حصلت عليها من طرق مشروعة، فلم يدلّ عليه دليل بعد قضاء العرف و العقلاء بمصداقه الخارجي و اعتباره الناشي عن مبادئ تكوينية.

المقام الثّاني: منابع أموال الحكومة

اعلم أنّ ما تكتسبه الحكومة علي أنحاء ثلاثة:

1- ما تكتسبه بالمكاسب المحلّلة فتملكه، سواء كانت حكومة جائرة أو عادلة، و هو كثير مثل ما تكتسبه بالتجارة في داخل البلاد و خارجها، و إحداث المصانع، و بناء الطرق و أخذ حقّ العبور منها، و الزراعات في الأراضي المباحة، و إخراج المياه، و إحداث السدود، و استخدام الطائرات، و السكك الحديدية، و الخدمات

المختلفة، كالمدارس و الجامعات و المستشفيات و البرق و البريد و الهاتف و المياه و غير ذلك.

بل ما تأخذه بعنوان العشور (الضرائب) عن الاسناد في مقابل تنظيمها و تسجيلها تسجيلا تامّا من دون إجبارهم علي أخذ هذه السجلات بل و ما تستخرجه من المعادن أيضا، فهذا كلّه حلال.

2- ما تأخذه ظلما و غصبا من حقوق الناس، و هي أيضا كثيرة لا سيّما في الدول التي بنيت علي أساس الظلم و الجور، و هذا حرام مطلقا.

3- ما تأخذه من حقوق بيت المال الذي يحلّ شرعا للوالي العادل و لا يحلّ لغيره كالزكوات و الخراج و أشباهها، و هذه تحلّ لأهلها فقط إلّا إذا كان الجائر مأذونا بإذن خاص لبعض المصالح من ناحية الإمام العادل، أو بعنوان إذن عامّ، كما عرفته في الخراج و غيره في المباحث السابقة مع شرائطه، فحينئذ تكون أموال الحكومة الجائرة مختلطة من الحلال و الحرام.

و الإنصاف إنّ المحلّل منها في أعصارنا كثيرة جدّا بحيث قد يغلب علي الحرام أو

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 496

يساويه، و من هنا يمكن الركون إلي حجيّة أيديهم بناء علي جواز الاعتماد علي يد من غلب علي أموالهم الحلال كما عرفته سابقا.

المقام الثّالث: في نفوذ تصرّفات الحكومات:

و هو أيضا لا يخلو عن وجوه ثلاثة:

1- الحكومة العادلة: المأذونة من قبل اللّه تعالي، و لا إشكال في نفوذ تصرّفاتها، لأنّه تعالي مالك الملوك يؤتي الملك من يشاء و ينزعه ممّن يشاء، و ذلك واضح، و هي حكومة أنبيائه و أوليائه و الأئمّة الهداة، و الفقيه العادل المأذون من قبلهم.

2- الحكومة غير الإلهية التي تكون مبعوثة من قبل الناس و مندوبة عنهم، فلو قلنا بأنّ هذه الأموال أموال شعوبهم، و الحكومة نائب عنهم

أمكن القول بجواز تصرّفاتها و نفوذها في جميع الأموال المحلّلة التي تكون لها من قبلهم.

إن قلت: كيف تكون نائبا عن جميعهم؟ لأنّه أمر غير واقع مطلقا، بل تكون دائما نائبا عن كثير منهم، و هم الذين يوافقونها و ينتخبونها و اجتماع الناس كلّهم علي شخص أو أشخاص معينين غير حاصل عادة، و اجتماع الأكثر غير كاف.

قلنا: الناس في هذه البيئات مجمعون علي أصل، و هو كون المندوب عن الأكثر نافذ الكلمة فيهم جميعا، و اجتماعهم علي هذا الأمر كاف فيما ذكر، و إلّا بقيت هذه الأموال الكثيرة بلا مالك و لم يجز لأحد التصرّف فيها.

هذا كلّه في البيئات غير المسلمة الذين ألزموا أنفسهم بهذا النحو من الحكومة.

3- الحكومة الجائرة في المجتمعات المسلمة و غير المسلمة، و لا سيّما من لا يكون مندوبا عن الناس أيضا، فنفوذ تصرّفاته حتّي في الأموال المحلّلة مشكل، لأنّا لو قلنا أنّ الأموال ملك للناس، فالوالي عليهم هي الحكومة العادلة التي تقوم بأمرهم بحكم اللّه تعالي، و ان قلنا بأنّ الأموال لعنوان الحكومة و جهتها، فمجرّد التغلّب و السيطرة عليها و غصبها لا يثبت هذا العنوان لهم، فتصرّفاتهم فيها محرّمة علي كلّ حال، و لا أقل من الاحتياط بأن

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 497

يكون التصرّف فيها بإذن الفقيه الجامع للشرائط، اللهمّ إلّا أن يحصل له مال من طريق التجارة و الصناعات و الخدمات و غيرها كما مرّ سابقا.

فقد تحصل من جميع ما ذكر في مالكية الحكومة و تصرّفاتها الامور التالية:

1- الحقّ صحّة ملك العنوان و الجهة، سواء انطبق علي أشخاص أو لم ينطبق عليهم، كالمشاريع و المؤسسات المستحدثة التي تكون أمرا اعتباريا و تعدّ «شخصا حقوقيا» في عصرنا.

2- للحكومة

منابع كثيرة محلّلة من الأموال المكتسبة حتّي الحكومات الجائرة، و لها أيضا منابع محرّمة كثيرة، فتكون أموالها كالمخلوط بالحرام، و لكن إذا لم يكن الجميع محلا للابتلاء يمكن الركون إلي قاعدة اليد و دلالتها علي الملك.

3- الظاهر أنّ هذه الأموال أموال للشعب، و الحكومة تعدّ نائبا عنهم أو وليّا عليهم، فتصرّفاتهم بهذا العنوان تكون لهم.

4- تصرّفات الحكومة في المجتمعات غير المسلمة نافذة إذا كانت الحكومة منتخبة من الشعب علي وفق ضوابطهم المرضية لهم.

5- في البلاد الإسلامية لا تصحّ تصرّفات الحكومة الجائرة في ما يتعلّق ببيت مال المسلمين إلّا بإذن الإمام عليه السّلام أو النائب منابه.

6- إذا حصل للحكومة أموال من طريق الحلال من التجارات و غيرها كانت مالكا لها تتصرّف فيها وفقا لما هو المعمول بين العقلاء.

مصرف الخراج:

يظهر من بعض كلمات المحقّق الماهر صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الجهاد أنّ مقتضي السيرة بين العوام و العلماء عدم وجوب صرف ما يتّفق حصوله من حاصل الأراضي الخراجية في يد أحد من الشيعة من الجائر أو غيره في المصالح العامّة، بل له التصرّف فيه بمصالحه الخاصّة، و لكنّه احتياط بلزوم الاستيذان في ذلك من نائب الغيبة إن لم يكن أقوي، ثمّ قال: الظاهر جواز الإذن له مجانا مع حاجة المستأذن «1».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 21، ص 163.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 498

هذا و لكنّه رجع عنه في كتاب المكاسب، و احتاط بصرفها في المصالح العامّة، بل يظهر من صدر كلامه فتواه بذلك، حيث قال: «أمّا مصرف الخراج لو وقع في يد الحاكم فالمتّجه قصره علي المصالح العامّة للمسلمين» «1».

بل و قد يظهر ذلك من بعض كلمات الشيخ في المبسوط، و ذكر المحقّق الكركي رحمه

اللّه في رسالته المعمولة في المسألة ما يظهر منه اسناد ذلك إلي الأصحاب حيث قال: «ذكر أصحابنا في مصرف الخراج أنّ الإمام يجعل منه أرزاق القضاة و الولاة و الحكّام و سائر وجوه الولايات» (انتهي ما حكي عنه) «2».

و العمدة في المسألة ما يستفاد من كيفية تملّك الأراضي الخراجية و من سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم و من بعده من الأئمّة عليهم السّلام عند بسط أيديهم في ذلك.

أمّا الأوّل فقد وقع التصريح في روايات الباب تارة بأنّها ملك لجميع المسلمين لمن هو موجود اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و من لم يخلق بعد كما في الرواية التالية:

ما رواه محمّد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و لمن لا يخلق بعد» فقلت:

الشراء من الدهاقين قال: «لا يصلح إلّا أن تشتري منهم علي أن يصيّرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها». قلت: فان أخذها منه، قال: «يرد عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل» «3».

و مضمونها ممّا لا خلاف فيه بيننا كما قيل.

و في بعضها التعبير بأنّها في ء للمسلمين، مثل ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تشتر من أرض السواد «أراضي أهل السواد» شيئا إلّا من كانت له ذمّة فإنّما هو في ء للمسلمين» «4».

______________________________

(1). جواهر الكلام، ج 22، ص 200.

(2). اللجاج الكركي- نقلا عن الجواهر، ج 22، ص 201.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 274، الباب 21، من أبواب عقد البيع، ح 4.

(4). المصدر السابق، ح 5.

أنوار

الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 499

و في رواية اخري «أنّها أرض للمسلمين» كما في (1/ 71) «1» أوردناها آنفا).

و الظاهر أنّها ملك لعامتهم تصرف منافعها في المصالح العامّة، لا أنّها تقسم بينهم كملك شخصي، لعدم إمكانه أوّلا، و لعدم الدليل عليه و لا أقل من الشكّ في ذلك، و ما يري في نحو الملكية من الخلاف من قول بعضهم بملك رقبة الأرض، و بعضهم بملك ما يرتفع منها من غلّتها، فالظاهر أنّه نزاع لفظي، و انّ مرادنا في الملكية هو الملكية كسائر الأملاك، بل التعبير بخراج المسلمين في بعضها أقوي شاهد علي ما ذكر.

هذا مع أنّ الخراج بهذا العنوان ليس من مخترعات الشرع، بل كان معمولا بين العقلاء من سابق الأيّام، و ليس بمعني خصوص ما يؤخذ من هذه الأراضي الخاصّة، بل كما يظهر من أهل اللغة هو كلّ ما تؤدّيه الرعية إلي الولاة (كما في لسان العرب) و ترادفه كلمة «الضرائب» فهي كلّ ما تأخذه الحكومة من شعبها للصرف في امورها و تنظيم برامجها و إدارة شئونها و تأمين حقوق أعوانها.

و من الواضح أنّ الخراج بهذا المعني لا يصرف إلّا في المصالح العامّة و ليس ملكا للأشخاص.

و أمّا الثاني، أعني السيرة، فالظاهر استقرارها علي صرفها في المصالح العامّة منذ عهد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فما بعد.

نعم، إذا زاد عن المصالح العامّة كأرزاق الغزاة و القضاة و عمّال الحكومة و بناء الطرق و القناطر، و إصلاح البلاد، و إرشاد العباد، و غيرها أمكن تقسيمه بين الناس.

و كذلك إذا كان حفظ المساكين و دفع فقرهم من الشؤون العامّة بحيث إذا لم يصلح أمرهم نشأ فساد في المجتمع كان من المصالح

العامّة و جاز صرف الخراج فيه.

هذا و لكن يظهر من سيرة علي عليه السّلام أنّه كان يقسّم بيت المال بين الناس علي السوية، و كان يقول «لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه» «2» و قصّة أخيه عليه السّلام عقيل معروفة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 118، من أبواب جهاد العدو، ح 1.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 126.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 500

و لكن الإنصاف أنّه يمكن حملها علي ما إذا زاد الخراج أو غيره من وجوه بيت المال عن المصارف العامّة، فحينئذ يجوز تقسيمه بين المسلمين و يكون المال لهم بالسوية.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الخراج لا يصرف إلّا في المصالح العامّة، إلّا أن يكون صرفها في الأشخاص من تلك المصالح، أو زاد عن المصارف اللازمة، فتدبّر جيّدا.

حكم الأراضي الخراجية:
اشارة

و المعروف اعتبار شروط ثلاثة فيها:

1- كونها مفتوحة عنوة أي فتحت بخيل و ركاب، في مقابل ما صالحوا عليها و لم يوجف عليها بخيل و ركاب حيث تختصّ بإمام المسلمين.

2- كون الفتح بإذن الإمام.

3- كونها محياة حال الفتح.

و الكلام فيها حكما و موضوعا يأتي في مقامات:

المقام الأوّل: في اعتبار كون الفتح عنوة:
اشارة

(أي قهرا)، و الأصل في العنوة كما يظهر من لسان العرب، هو الخضوع، ثمّ استعمل في القهر و الغلبة (لعلّه من جهة خضوع العدو عند ذلك).

الظاهر أنّه لا خلاف فيه بحسب الكبري (أي كون الأراضي المفتوحة عنوة من الأراضي الخراجية)، بل قد حكي الإجماع عليه عن الخلاف و التذكرة و المنتهي و الرياض و رسالة قاطعة اللجاج للكركي (قدّس اللّه أسرارهم) و ان حكي عن بعض العامّة اختصاص الغانمين بها.

و يدلّ عليه مضافا إلي ذلك الروايات التالية:

1- ما رواه صفوان بن يحيي و أحمد بن محمّد بن أبي نصر جميعا قالا: ذكرنا له الكوفة و ما وضع عليها من الخراج، و ما سار أهل بيته، فقال: «من أسلم طوعا تركت أرضه في يده

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 501

و أخذ منه العشر ممّا سقي بالسماء و الأنهار، و نصف العشر ممّا كان بالرشا فيما عمّروه منها، و ما لم يعمّروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمّره، و كان للمسلمين و علي المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر، و ليس في أقلّ من خمسة أوسق شي ء من الزكاة، و ما أخذ بالسيف فذلك إلي الإمام يقبله بالذي يري كما صنع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم بخيبر قبل سوادها و بياضها يفي أرضها و نخلها، و الناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض و النخل و

قد قبل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم خيبر قال: و علي المتقبّلين سوي قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم، ثمّ قال: إنّ أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر و انّ مكّة دخلها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم عنوة و كانوا اسراء في يده فأعتقهم و قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1».

2- ما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام الخراج و ما ساربه أهل بيته، فقال: «العشر و نصف العشر علي من أسلم طوعا تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر و نصف العشر فيما عمّر منها، و ما لم يعمّر منها أخذه الوالي فقبله ممّن يعمّره و كان للمسلمين، و ليس فيما كان أقلّ من خمسة أو ساق شي ء، و ما أخذ بالسيف فذلك إلي الإمام يقبله بالذي يري، كما صنع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم بخيبر قبل أرضها و نخلها، و الناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا كان البياض أكثر من السواد، و قد قبل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم خيبر و عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر» «2».

و يدلّ عليه أيضا ما حكي من سيرة النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلم في خيبر الذي هو معروف.

و أمّا من ناحية الصغري، أي طريق ثبوته، فالمدار فيه ما هو المدار في غيره من ثبوته بالعلم و الشياع المفيد له، و بقول شاهدين عدلين، بل و عدل واحد كما هو الحقّ عندنا في الموضوعات.

إنّما الكلام هنا في أمرين: في قبول

الظنّ القوي فيها نظرا إلي أنّ أمر الأراضي من هذه الجهة كأمر الوقف و النسب و السيادة و غيرها لا تثبت بالعلم غالبا، فحيث أنّ باب العلم

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 11، ص 119، الباب 72، من أبواب جهاد العدو، ح 1.

(2). المصدر السابق، ص 120، ح 2.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 502

منسدّ فيها يرجع إلي الظنّ القوي، و الإنصاف أنّ الظنّ المتاخم للعلم و ما يوجب سكون النفس معتبر في جميع المقامات، بل هو علم عرفا و ان كان غيره لا دليل علي اعتباره إلّا في مقامات خاصّة.

هذا و لكن لا تبعد حجيّة مثل الظنّ ببناء العقلاء كما في نظائره من النسب و الموقوفات و غيرها و إلّا لانسدّ بابها.

و أمّا الأمر الآخر، و هو الاعتماد علي استقرار اليد عليها بعنوان أنّها أرض خراجية، أو دعوي ذي اليد كونها كذلك، و استقرار السيرة علي أخذ الخراج منه، فان أوجب ذلك العلم أو الظنّ القوي النازل منزلته فهو، و إلّا يشكل إثبات الحكم بمجرّد السيرة، أو حمل فعل السلطان علي الصحّة، لأنّ فعله مبني علي الفساد من أصله، نعم لا يبعد الاعتماد علي أيدي المؤمنين من أصحاب اليد علي الأرض و حمل تصرّفهم علي الصحّة، و لا يجب التفحّص عنها.

بل الإنصاف إمكان حمل يد السلطان أيضا علي الصحّة، لا لاعتبارها لما قد عرفت أنّه مبني علي الفساد، بل لأنّ الروايات الكثيرة الواردة في أرض الخراج تدلّ علي جواز معاملة أرض الخراج مع ما يؤخذ من السلطان بهذا العنوان، و يجوز تقبّله إمّا بلا واسطة منه، أو من الدهاقين الذين أخذوا منه، و إطلاق هذه الروايات أقوي دليل علي معاملتها معاملة الصحّة، و إلّا من

أين يحصل العلم في هذه الموارد بكونها أرض خراج لو لا اعتبار اليد هنا.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ العمدة في طريق ثبوت كون أرض من الأراضي الخراجية امور:

1- اشتهارها بذلك في البلد و ان كانت الشهرة موجبة للظنّ.

2- قول صاحب اليد سواء كان من الدهاقين أو الجائر المسلّط.

3- أقوال المؤرخّين المعروفين الموجبة للظنّ القوي.

و إن أبيت إلّا عن لزوم تحصيل العلم و اليقين، أو شاهدي عدل، لزم تعطيل أحكام الأراضي الخراجية مطلقا بعد مرور الزمان.

فما عن بعض الفقهاء من أنّه ليس في جميع الأراضي الإسلامية حتّي قطعة واحدة من

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 503

الأراضي يمكن إثبات كونها خراجية بالموازين الثابتة في الفقه «1»، كلام مختلّ، و لازمه تعطيل هذا الحكم مطلقا، و كذا أحكام نسب الهاشميين، بل مطلق النسب، بل الموقوفات أيضا، لا سيّما الموقوفات القديمة، و لعلّ أمثال هذه الوساوس كانت سببا لتعطيل أحكام هذه الأراضي في عصرنا و خلطها بغيرها، و ما أشدّ الفساد الحاصل منه شرعا من جهة اختلاط الحلال و الحرام.

بقي هنا أمران

أحدهما: إنّه لو شككنا في ذلك، و كانت هناك أرض تحتمل كونها خراجية و لكن لم يثبت ذلك بالموازين الشرعية المذكورة آنفا، فلا تخلو عن حالات:

أن لا تكون في يد أحد، فالأصل كونها من الأنفال بحكم أصالة عدم اليد عليها.

أو يعلم بجريان اليد عليها، فان عرف صاحب اليد، فالظاهر أنّها ملكه بحكم اليد، و ان لم يعرف، و دار الأمر بين كونها خراجية، أو ملكا، أو غير ذلك فهي محكومة بعدم كونها خراجية لأصالة العدم، و قد يتوهّم كونها بحكم مجهول المالك، لأنّه لا يعلم أنّ مالكه شخص خاصّ، أو جميع المسلمين، و أصالة العدم من الجانبين متعارضة.

هذا و

يشكل التصدّق بها، و هو حكم مجهول المالك، فالأحوط لو لا الأقوي حفظها و صرف غلّتها فيما ينطبق علي المصرفين.

هذا و لكن الإنصاف جواز التمسّك بعدم الفتح عنوة، فتجري عليها أحكام مجهول المالك الشخصي.

ثانيهما: قد صرّح في كلمات الأصحاب أنّ أراضي السواد من الأراضي المفتوحة عنوة، و هي ملك المسلمين، و قد يقال: إنّ فتح العراق بالعنوة مسلّم بحسب التاريخ، حتّي أنّه لم يكن فيه خلاف بين الفقهاء الأوّلين و كان يؤخذ منها الخراج منذ بداية أمرها «2».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 550.

(2). تحفة الامراء صابي، ص 365، و «زمين در فقه اسلامي» ص 121.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 504

و عن العلّامة رحمه اللّه في «المنتهي» أنّها فتحت في زمن عمر، فأرسل إليها ثلاثة نفر: عمّار بن ياسر علي صلاتهم أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا علي بيت المال، و عثمان بن حنيف علي مساحة الأرض (و أخذ الخراج) … و مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج، و قيل كان قدرها 32 الف و الف جريب، و قيل 36 الف الف، ثمّ ضرب علي كلّ جريب نخل عشرة دراهم، و علي الكرم ثمانية دراهم، و علي جريب الشجر و الرطبة ستّة دراهم، و علي الحنطة أربعة دراهم، و علي الشعير درهمين، ثمّ كتب بذلك إلي عمر فأمضاه «1».

و روي أنّ غلّتها كانت في عهد عمر 160 الف الف درهم، و لمّا أفضي إلي أمير المؤمنين علي عليه السّلام أمضي ذلك، لأنّه لم يمكنه المخالفة و الحكم بما عنده!

فلمّا كان في زمن الحجّاج (و كثر ظلمه و فساده) تنزّلت المعمورة إلي 18 الف الف درهم، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز (و

ظهرت عدالته) رجع إلي 30 الف الف في أوّل سنة، و في الثانية 60 الف الف، و قال لو عشت سنة اخري لرددتها إلي ما كان في أيّام عمر، فمات في تلك السنة «2».

و يدلّ علي كون أرض السواد (أراضي العراق و ما والاها) من أرض الخراج ما يلي:

1- ما رواه أبو الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تشتر من أرض السواد «أراضي أهل السواد» شيئا إلّا من كانت له ذمّة فانّما هو في ء للمسلمين» «3».

2- ما رواه محمّد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم و لمن لم يخلق بعد» «4».

و لكن يظهر من بعض فقهائنا علي قول شاذّ عدم العمل بهاتين الروايتين نظرا إلي ما سيأتي من عدم إذن الإمام عليه السّلام في هذه الحروب، و معه يكون من الأنفال، فلا تجري عليها أحكام الأراضي الخراجية، فتحملان علي التقيّة (فتدبّر جيّدا).

______________________________

(1). الجواهر، ج 21، ص 159.

(2). المصدر السابق، ص 159 و 160.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 274، الباب 21، من أبواب عقد البيع، ح 5.

(4). وسائل الشيعة، ج 17، ص 346، الباب 18، من أبواب إحياء الموات، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 505

و قد اجيب عنه: تارة بوجود إذنهم فيها، و استدلّ له بامور:

1- منها ما أفاده في الكفاية «1» و قاطعة اللجاج «2» من أنّ عمر كان يستشير أمير المؤمنين عليه السّلام في حروبه، و كان لا يصدر إلّا عن رأيه.

2- منها ما عن بعض التواريخ من شركة الحسن عليه السّلام بأمر أبيه عليه السّلام

في بعض الحروب، كمحاربة يزدجرد و وروده عليه السّلام مدينة الرسّ و قم و شهريار و غيرها.

3- منها تولية عمّار بن ياسر بعض العساكر و سلمان المدائن مع العلم بعدم مخالفتهما لأمر علي أمير المؤمنين عليه السّلام، بل الظاهر أنّها كانت بإذنه عليه السّلام.

و لكن الأحسن من هذه الوجوه- التي لم يثبت بعضها أو كلّها بطريق معتبر- ما مرّ من الحديثين، فانّ الجمع بينهما، و بين ما دلّ علي اعتبار إذن الإمام يقتضي ذلك كما هو ظاهر.

و يدلّ عليه أيضا ما رواه في الخصال قال … و أمّا الرابعة يا أخا اليهود! فانّ القائم كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها عن أمري، و يناصرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي … «3».

و هناك طريق آخر لتحليلها و كونها بمنزلة الأراضي الخراجية، و هو أنّ الأئمّة عليهم السّلام و هبوا ذلك للمسلمين إرفاقا لهم، كما حكي عن المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه في الرسالة الخراجية «4».

و الظاهر أنّه لا فرق بين هذا القول و بين ما سبق من الإذن في العمل، و ان كان ظاهر الروايتين كون أرض السواد للمسلمين بحسب طبعها لا لهبتهم عليهم السّلام ذلك.

و هناك إشكال آخر في الأراضي الموجودة في العراق حاليا فانّ من الشرائط علي مذهب المشهور التي ستأتي الإشارة إليها عدم كونها مواتا حال الفتح، و لا يعلم أيّة قطعة كانت محيّاة، و أيّة قطعة كانت مواتا، فيقع الإشكال في كلّ أرض من أراضيها اليوم، و أنّها هل كانت محيّاة عند الفتح أو مواتا كذلك؟ فربّما كانت أرض محيّاة، ثمّ صارت مواتا و بالعكس، فلا يمكن الحكم بكون هذه المشكوكات خراجية لا سيّما أنّ الأصل فيها عدم

______________________________

(1). نقلا عن جواهر الكلام، ج

21، ص 161.

(2). المصدر السابق.

(3). الخصال، ج 2، ص 20، باب السبعة، ح 58.

(4). الرسالة الخراجية، ج 1، ص 17.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 506

الإحياء حال الفتح، و لكن يشكل هذا المعني الأمرين:

الأوّل: العلم الإجمالي بأنّ كثيرا ممّا في أيدي الناس الآن كانت محيّاة حال الفتح لا سيّما ما كان علي حواشي الرافدين دجلة و الفرات فقد كانت عامرة حتّي قبل الإسلام غالبا، و مع هذا العلم الإجمالي و كونها محلا للابتلاء إمّا بالشراء أو بالتصرّف بأنحاء اخر، كيف يمكن الحكم بالعدم في جميعها؟ فتدبّر.

الثّاني: إنّه لو ثبت كون أراضي الخراج في العصر الأوّل 32 إلي 36 مليون جريب، فلازمه كون أكثر هذه الأراضي أو جميعها محيّاة كذلك، و إنّما طرأ عليها الخراب بعده، لأنّ الجريب- كما ذكره في مجمع البحرين- ستّون ذراع في ستّين ذراع، فيعادل الف متر تقريبا، و في بعض كتب اللغة أنّه عشرة آلاف متر، و ان كان لا يعلم أنّه بحسب أعصارنا، أو كان ذلك في الأعصار السابقة، و لكن ظاهر كلام الجميع تفسير ما في الروايات.

و المذكور في الكتب أنّ جميع أرض العراق حوالي 430 الف كيلومتر مربع، و كلّ كيلومتر مربع يعادل مائة هكتار، و مجموعها 43 مليون هكتار، فلو كان كلّ جريب هكتارا، لزم كون عامّة أراضيها عامرة تقريبا مع العلم بأنّه ليس كذلك.

و علي كلّ حال، فالأحوط أداء الخراج من جميع هذه الأراضي إلي حاكم الشرع بعد العلم بعدم مطالبة حكّام الجور في عصرنا، إلّا أن يقال بأنّ العلم الإجمالي فيما هو محلّ الابتلاء غير حاصل لنا، و المسألة تحتاج إلي مزيد تأمّل و تتبّع.

المقام الثّاني: كون الفتح بإذن الإمام

الشرط الثاني في الأراضي الخراجية أن يكون الفتح بإذن

الإمام عليه السّلام: و هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل ادّعي الإجماع عليه، و يحكي عن المستند و بعض آخر عدم اعتباره، و في مصباح الفقاهة اختياره، و استدلّ لاعتباره بمرسلة الوراق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا غزي قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس» «1».

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 6، ص 369، الباب 1، من أبواب الأنفال، ح 16.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 507

و عمومه يشمل الأراضي، فتكون من الأنفال، و الاعتبار أيضا يشهد له، فانّه لو جاز أخذ الغنائم بغير إذنه كانت الغزوات غير المأذونة كثيرة، و حصلت منها مفاسد كثيرة كما لا يخفي، فلذا منع الشارع من تملّكها بدون إذنه عليه السّلام.

هذا و قد استشكل فيها تارة بضعف السند، و اخري بمعارضتها مع ما دلّ علي أنّ الأراضي الخراجية هي ما فتحت عنوة الشاملة للمأذونة و غيرها- مثل حديث 1 و 2/ 72 من أبواب جهاد العدو، و قد أوردناهما آنفا- بالعموم من وجه، فيرجع إلي عموم قوله تعالي:

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ … «1».

و يمكن الجواب عن الأوّل بانجبارها بعمل المشهور و هو ثابت.

و عن الثاني: أوّلا: بأنّ ظاهرها ما إذا كان الفتح بإذن الإمام عليه السّلام لا سيّما مع تشبيهه بأراضي خيبر، فراجع الأحاديث و تدبّرها تجدها شاهد صدق لما ذكرنا، و لا أقل من كون إطلاق المرسلة أقوي.

و ثانيا: الرجوع إلي عموم آية الغنيمة ينافي المقصود، لأنّ ظاهرها كون الخمس للإمام عليه السّلام و الباقي للمقاتلين، مضافا إلي أنّ الروايتين تنفيانه، و قد ذكر في محلّه حجيّة المتعارضين في نفي الثالث مع عدم قول منّا

بملكية الأراضي للمقاتلين ظاهرا.

و قد يستدلّ علي نفي الاشتراط أيضا بالحديث التالي:

ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم فقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قد سار في أهل العراق سيرة، فهم إمام لسائر الأرضين، و قال: «إنّ أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية» «2» ثمّ ذكر الحديث السابق «3».

و الإنصاف أنّها لا دلالة لها إلّا علي كون سائر الأراضي المفتوحة بعد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلم بحكم أراضي السواد، و لعلّ ذلك من إذنهم أو إجازتهم بعد ذلك، و بالجملة لا دلالة لها علي نفي اشتراط الإذن.

______________________________

(1). سورة الأنفال، الآية 41.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 117، الباب 69، من أبواب جهاد العدو، ح 2.

(3). المصدر السابق، ص 116، ح 1.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 508

و الظاهر أنّ البحث في هذه المسألة قليل الجدوي بعد اتّفاق الطرفين ظاهرا علي كون أرض السواد و شبهها من الأراضي الخراجية و انّهم عليهم السّلام أذنوا فيها، فتدبّر جيّدا.

هذا كلّه بحسب الكبري، أمّا الصغري:

فكلّ مورد شكّ في إذن الإمام عليه السّلام فيه، فالأصل عدمه، و ليس هذا من الأصل المثبت بأي معني كان كما قد يتوهّم، فإمّا أن يكون الموضوع مركّبا من «الغزو» و «إذنه عليه السّلام» فلا كلام، و إمّا أن يكون بعنوان الاشتراط و التقييد فكذلك، لأنّ هذا المقدار لا يوجب كونه من قبيل الأصل المثبت، و إلّا كان أصل مورد روايات الاستصحاب من هذا القبيل، لأنّ الصحيحة الاولي منها وردت في الوضوء، و هو من الشرائط، فانّه لا

شكّ في اشتراط الصلاة بالطهارة، فتأمّل جيّدا.

هذا و لكن قد عرفت سابقا ثبوت إذنهم في أرض السواد و مثلها من طرق شتّي، و نضيف إليها أمرين آخرين:

«أحدهما» ما ورد في 2/ 69 و قد سبق ذكرها، و هي رواية معتبرة الإسناد، فهي بضميمة ما دلّ علي اعتبار الإذن تكشف عن ثبوت صغراه.

«ثانيهما»: حمل أفعال المقاتلين علي الصحّة، و لازمه الإذن.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المقاتلين القائلين باعتبار إذن الإمام بينهم كانوا قلّة، و هذا إشكال قوي.

و العمدة ما عرفت من الجمع بين «حكم الأراضي السواد» مع «ما عرفت من دليل اعتبار الإذن».

المقام الثّالث: كونها محيّاة حال الفتح
اشارة

لو كانت هذه الأراضي من الموات، كانت للإمام عليه السّلام خاصّة، و كانت من الأنفال.

و قد اشتهر ذلك بين الأصحاب، بل ادّعي الاتّفاق عليه كما عن التذكرة للعلّامة و الكفاية للسبزواري.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 509

و العمدة في هذا الشرط إطلاقات أدلّة كون الموات للإمام عليه السّلام، فانّ الموات ليست ملكا لأهل الكفر قطعا، فأمّا أن تكون من أراضي الخراج أو من الأنفال، و الأوّل لازمه عدم وجود مصداق لتلك الإطلاقات، لأنّ أراضي المسلمين كانت عامّتها مفتوح عنوة و الثاني هو المطلوب، و لازمه كون الحياة شرطا في أرض الخراج.

هذا مضافا إلي أنّ ظاهر التعبير بالغنيمة، و الأخذ بالسيف أو فتحت عنوة أو شبه ذلك هي الأموال الموجودة في أيديهم من الأراضي المحياة، و شبهها، و أمّا الموات فصدق هذه العناوين عليها ممنوع، و لا أقل من الشكّ في ذلك.

هذا كلّه بحسب الكبري، و أمّا الصغري أعني كون أرض محيّاة حال الفتح أو مواتا، فيثبت بامور عمدتها:

1- الشهرة في المحلّ و لو كانت شهرة ظنّية، لما عرفت من أنّ هذا و

أشباهه مثل النسب و السيادة و الوقف لا طريق لنا إلي إثباتها بالطرق القطعية غالبا، فلذا يكتفي فيها العقلاء بمثل هذا، و إلّا بطلت موضوعاتها بالمرّة.

2- إخبار ذي اليد و لو بعنوان أنّها أرض خراجية، مع عدم العلم بخلافه.

3- تصرّف السلطان و سيطرته عليه بهذا العنوان، فقد عرفت أنّه حجّة لا لحجيّة يده و ان كان غاصبا، بل لما عرفت من أنّ أحكام الأراضي الخراجية ناظرة إلي ما كانت في أيديهم من الأراضي مع الشكّ غالبا في ثبوت الشرائط الثلاث، أو بعضها فيها، فإطلاق تلك الأخبار يدلّ علي حجيّة أيديهم هنا.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: الموات علي أقسام: تارة: كانت مواتا عند الفتح ثمّ صارت محيّاة.

و ثانية: بالعكس، كانت محيّاة عنده ثمّ صارت مواتا.

و ثالثة: أنّها كانت مواتا، ثمّ أحياها بعض ثمّ طرأ عليها الموت.

أمّا الأوّل، فلا كلام أنّها من الأنفال و قد أذنوا في إحيائها و تملّكها.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 510

و أمّا الثالث فالكلام في محلّه في بحث إحياء الموات.

و أمّا الثاني، و هو المهمّ في المقام، فقد يقال بعدم خروجها عن الأراضي الخراجية بطر و الخراب عليها، فهي باقية علي ملك المسلمين، بل قد يقال بعدم الخلاف فيها، و يستدلّ عليه تارة باستصحاب ملكيته السابقة، و اخري باختصاص أدلّة الموات بما لم يجر عليه ملك مسلم، بل كانت مواتا دائما.

و اختار بعض آخر (كبعض أعلام العصر في مصباح الفقاهة) دخولها في حكم الموات تمسكا بإطلاق أدلّتها «1».

و إن شئت قلت: موضوع الملكية المستفادة من قوله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: من أحيا أرضا ميتة فهي له، هو الإحياء حدوثا و بقاء، فإذا زالت الحياة زالت الملكية، و معه لا يجوز

التمسّك باستصحاب حكم المخصّص، لوجود العموم أوّلا، و تبدّل الموضوع ثانيا.

و لازم ذلك خروج ما كان ملكا لأشخاص بعد طرو الخراب عليها مطلقا.

هذا و لكن لا يبعد الذهاب إلي كلام المشهور، نظرا إلي انصراف روايات الباب إلي ما لم تجر عليه يد إنسان، فراجع (4/ 1) من أبواب الأنفال «2» و (8/ 1) و (10/ 1) و لا سيّما التقييد الوارد في بعضها من قوله «كلّ أرض ميتة لا ربّ لها» و كذا قوله: هي القري التي قد خربت و انجلي أهلها، فانّه لو كان مجرّد الخراب كافيا، كان التقييد ب «انجلاء أهلها» الدالّ علي الأعراض الكامل ممّا لا وجه له.

و هكذا التعبير بقوله «باد أهلها» فانّ هلاكهم دليل علي أنّه علي فرض وجودهم لا تلحق بالأنفال و كذا غيرها، و لذا قال في الشرائع «و كلّ أرض جري عليها ملك المسلم فهي له أو لورثته بعده».

و قال في المسالك في شرحه: «و ان خربت فان كان انتقالها بالقهر كالمفتوحة عنوة بالنسبة إلي المسلمين أو بالشراء و العطية و نحوها لم يزل ملكه عنها أيضا إجماعا علي ما نقله في التذكرة عن جميع أهل العلم».

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 550.

(2). وسائل الشيعة، ج 6، ص 364.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 511

و ان أشكل في وجدان هذه العبارة في التذكرة صاحب الجواهر (قدّس سرّه الشريف) و بالجملة اجراء أحكام الموات علي مثل هذه الأرض مشكل جدّا.

الأمر الثّاني: يظهر من عبارات غير واحد منهم أو المشهور أنّ خمس الأراضي الخراجية للإمام عليه السّلام، لأنّها داخلة في عنوان الغنائم التي للّه خمسها و للرسول و لذي القربي و الباقي للمسلمين، و لكنّه مشكل جدّا، بل

الظاهر أنّ آية الغنيمة و رواياتها ناظرة إلي المنقول منها، و الشاهد علي ذلك أنّنا لا نجد في روايات الأرضين علي كثرتها و الواردة في أبواب مختلفة لمسألة الخمس عينا و لا أثرا.

الأمر الثالث: قال في مصباح الفقاهة: إذا أحرزنا كون أرض مفتوحة عنوة بإذن الإمام عليه السّلام و كانت محيّاة حال الفتح فانّه لا يمكن الحكم أيضا بكونها أرض خراج و ملكا للمسلمين مع ثبوت اليد عليها عليه السّلام، لأنّا نحتمل خروجها عن ملكهم بالشراء و نحوه، و علي هذا فلا فائدة لتطويل البحث في المقام، إذ لا يترتّب عليه أثر مهم. انتهي «1».

أقول: هذا فرع جواز شراء تلك الأراضي من الإمام عليه السّلام، أو من ولي الأمر، و لكن هذا أمر غير معروف، بل ظاهر روايات الباب عدم جوازه و كونها كالموقوفة، و قد عرفت تعابير الروايات، و لا حاجة إلي إعادتها.

هل يجوز بيع الأراضي المفتوحة عنوة؟

ثمّ إنّ هنا أمرا آخر ينبغي التعرّض له، و المناسب بحثه في أبواب البيع، و هو أنّ الأراضي المفتوحة عنوة هل يجوز بيعها، أو لا؟

المشهور بينهم عدم جواز بيعها مطلقا، لا مستقلا، و لا تبعا لآثارها، كما حكي عن الشيخ رحمه اللّه في المبسوط و النهاية، و عن المحقّق رحمه اللّه في النافع، و عن العلّامة رحمه اللّه في التذكرة و الإرشاد و القواعد و التحرير و غيره.

و لكن ذهب جمع إلي جواز بيعها تبعا للآثار كما عن السرائر و بعض كلمات الشهيد

______________________________

(1). مصباح الفقاهة، ج 1، ص 550.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 512

الأوّل و الثاني قدّس سرّهما و بعض كتب العلّامة رحمه اللّه.

و هنا قول ثالث، و هو التفصيل بين زماني الحضور و الغيبة، فلا يجوز في الأوّل،

و يجوز في الثاني، بل لعلّ ظاهر كلام الدروس نفوذ البيع و الوقف و غيرها في زمن الغيبة مطلقا.

و أظهر منه ما في الحدائق، بل لعلّه صريح في ذلك، حيث قال بعد اختيار جواز التصرّف في زمن الغيبة ما نصّه: «و حمل ذلك علي كون البيع أوّلا و بالذات إنّما تعلّق بملك البائع» «1».

هذا و العمدة فيه ما عرفت سابقا من التصريح في غير واحد من روايات الباب، و بأنّها ملك لجميع المسلمين، و أنّها موقوفة متروكة في يد من يعمّرها و كيف يجوز بيع ما يكون مشتركا بين الجميع؟! «2».

و كذا ما دلّ علي جواز بيع حقّ الأولوية و أداء خراجها كما يؤدّي غيره، مثل ما رواه محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمّة؟ فقال: «لا بأس بها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّي عنها كما يؤدّون» «3».

و ما رواه محمّد بن شريح قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه، و قال: «إنّما أرض الخراج للمسلمين». فقالوا له: فانّه يشتريها الرجل و عليه خراجها، فقال: «لا بأس، إلّا أن يستحيي من عيب ذلك» «4».

بل كونها أرضا خراجية يؤدّي منها الخراج لا تجتمع مع البيع، كما يدلّ عليه بعض روايات الباب «5».

نعم هنا امور قد توهّم جواز ذلك في زمان الغيبة أو مطلقا:

منها: السيرة علي بناء المساجد فيها أو وقّفها لغيرها أيضا، و لا يجوز ذلك إلّا في ملك، و كذا بيع دور العراق و شرائها.

و فيه: إنّ ذلك نشأ عن اشتباه الحال و الشبهة في تشخيص مصاديقها لما عرفت من

______________________________

(1). الحدائق، ج 18، ص 304.

(2). منها 4 و 5/

21 من أبواب عقد البيع، ج 12، ص 274، من وسائل الشيعة.

(3). وسائل الشيعة، ج 12، ص 275، الباب 21، من أبواب عقد البيع، ح 8 و 9.

(4). المصدر السابق.

(5). وسائل الشيعة، ج 11، ص 118، الباب 71، من أبواب جهاد العدو، ح 1.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، در يك جلد، انتشارات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قم - ايران، اول، 1426 ه ق أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)؛ ص: 513

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 513

الشروط الثلاثة السابقة، أو من عدم المبالات، و إلّا فلا وجه له بعد التصريح في كتب الحديث و الفقه بكونها ملكا لجميع المسلمين، نعم ربّما جاز في مثل المسجد بحكم الإمام عليه السّلام أو نائبه بعد كونه من مصالحهم و كذلك سائر ضروريات المجتمع الإسلامي.

و منها: ما عبّر فيها من الروايات بجواز شراء أرض الخراج، مثل ما جاء في ذيل رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي: … و سألته عن رجل اشتري أرضا من أرض الخراج فبني بها أو لم يبن، ير انّ اناسا من أهل الذمّة نزّلوها، له أن يأخذ منهم اجرة البيوت إذا أدّوا جزية رءوسهم؟ قال: «يشارطهم فما أخذ بعد الشرط فهو حلال» «1».

و كذا رواية محمّد بن شريح (9/ 21) التي مرّت عليك آنفا.

و مثل ما رواه إبراهيم بن أبي زياد قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الشراء من أرض الجزية قال: فقال: «اشترها فانّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك» «2».

و الجمع بينها و بين ما تقدّم هو ما عرفت من لزوم حملها علي شراء حقّهم لا رقبة الأرض كما يطلق الشراء

في عصرنا علي شراء حقّ السرقفلية و يقال اشتري الدكّان.

فراجع و تأمّل، و للكلام صلة تأتي إن شاء اللّه في مباحث البيع فانتظر.

و من المناسب أن نتعرّض لبيان حكم الأنفال، فانّها أشدّ ابتلاء من الأراضي الخراجية التي عرفت قلّة الابتلاء بها ظاهرا في عصرنا (و ان كانت فيها إشكالات قويّة لا بدّ من تنقيح أمرها موضوعا و حكما و الاعتناء بشأنها).

و لكن لمّا ساعدنا التوفيق بحمد اللّه تعالي علي تنقيح «مباحث الأنفال» ذيل كتاب الخمس (و سوف تقدّم إلي الطبع إن شاء اللّه) لم نر حاجة إلي تكرارها هنا، رغم انّنا بحثناها في حلقات الدروس ذيل مسائل المكاسب المحرّمة.

______________________________

(1). وسائل الشيعة، ج 12، ص 275، الباب 21، من أبواب عقد البيع، ح 10.

(2). وسائل الشيعة، ج 11، ص 119، الباب 71، من أبواب جهاد العدو، ح 4.

أنوار الفقاهة - كتاب التجارة (لمكارم)، ص: 514

و بهذا تمّ الكلام في مباحث المكاسب المحرّمة، مع كثير من «المسائل المستحدثة» التي عرفتها في طيّات هذه الأبحاث بتناسب البحوث نسأل اللّه المولي الحكيم أن يتقبّلها بقبول حسن و يجعلها ذخرا لنا ليوم المعاد فانّه حميد مجيد.

اللهمّ لا تسلبنا صالح ما أنعمت به علينا و زدنا من فضلك و مواهبك يا كريم، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

قم المشرّفة يوم ميلاد النّبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم 17/ ربيع الأوّل/ سنة 1414

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.